الحب الأفلاطوني
على الرغم من أن أفلاطون — أستاذ أرسطو طاليس — كان مفكرًا عميقًا وإنسانًا عظيمًا، فإنه أوقع الفلاسفة الإغريقية الناشئة في هوة بقيت فيها أكثر من ألفي سنة؛ ذلك أنه زعم أن « الفكرة» تسبق المادة، وأن هذا الكون له جوهر من الأفكار يعبر عنه مظهر من المواد، فوراء الدنيا الملموسة فكرة الدنيا، ووراء الجبل فكرة الجبل … وهلم جرًّا.
وقد عطلت هذه «النظرية» التفكير البشري المثمر قرونًا طويلة؛ لأنها حملت الباحثين على أن يستهينوا بمظهر المادة كما هي في جرمها وثقلها وكثافتها؛ اعتقادًا بأن هذه الخواص لا قيمة لها إزاء الفكرة الأفلاطونية الكامنة فيها.
وقد نبذ العلم في عصرنا هذه «النظرية» واعتمد على درس الخواص المحسوسة للمادة وبذلك تمكن من التحرر من هذه الغلطة التي وقع فيها أفلاطون.
ولكن على الرغم من هذه الغلطة الفادحة التي وقع فيها أفلاطون فإن القارئ لأفكاره وآرائه في «المادية» وهي التي يعتقد بعضنا بأن كلمة «أدب» العربية صيغت على غرارها، هذه الأفكار والآراء هي دنيا عظيمة من ثراء الفكر وخصوبة التأمل ومعاني الخير والإنسانية.
ومن هذه الأفكار والآراء ما نسميه «الحب الأفلاطوني».
ونحن نزعم أننا عندما نقول أن حب هذا الشاب لهذه الفتاه «أفلاطوني» إنما نعني أنه بعيد عن أن يكون اشتهاءً جنسيًّا، أو نزعم أنه ود اجتماعي أكثر منه حبًّا غراميًّا، ولكن الحقيقة أن أفلاطون لم يستثنِ العلاقة الحميمة بين اثنين من معنى الحب، ولكنه توسع في هذا المعنى إلى أن جعل لهذه الكلمة دلالة اجتماعية بل إنسانية، بل أستطيع أن أقول إنه جعل لها دلالات أخرى تصل بين الإنسان والطبيعة، وبينه وبين الحيوانات والنباتات، بل أكاد أقول إن أفلاطون حين توسع في معاني هذه الكلمة كاد يقول بالتطور وبأننا نحن البشر جزء متمم للطبيعة، وأننا أعضاء في عالم الحيوان والنبات لنا فيها جميعها قرابة، ولست أعني أنه عرف نظرية التطور، وإنما أعني أنه كان علي إحساس نفسي أو «صوفي» بها، وقد أحبه الصوفيون كثيرًا لهذا السبب، ونزعة الحب العام الذي أشادوا به كثيرًا تعود إلى أفلاطون.
يفهم أفلاطون من كلمة الحب أنه ذلك الإحساس الإنساني الذي يجعلنا ننشد سعادة الغير عندما ننشد سعادتنا نحن، وأنه — أي الحب — هو إحساس التوافق بيننا وبين جميع الكائنات، فنحن حين نحب الجبل والنهر، والفرس والكلب، والشجر والعشب، نمتلئ فضيلة وسعادة معًا وننأى عن الرزيلة والتعس.
ويزيد أفلاطون فيقول: إن الحب لا ينفصل من الطيبة والجمال، وإنه يولد الجمال في الجسم والنفس، وإن الحب يسعى لأن يتعلق بما هو طيب وما هو جميل … وعندما يدرك الإنسان هذه الحقيقة فإنه يصبح محبًّا للأشكال الجميلة، ثم يرتقي من ذلك إلى أن يعرف أن الجمال في العقل أكبر شرفًا من الجمال في الصورة الخارجية … وينتهي إلى تأمل الجمال في ذاته.
وإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة فإنه سيجد أن طبيعة الجمال رائعة دائمة لا تزيد ولا تنقص ولا تفسد.
ثم ينتهي إلى أن الجمال لا يتعلق بشيء ما، لا بالسماء ولا بالأرض وإنما هو شيء مطلق قائم بذاته يحتوي نفسه ولا يحتوي غيره.
ونحن نجد في هذه التعابير — التي مضى عليها أكثر من ألفي سنة تتقلب من مترجم إلى مترجم — فكرة عامة عمَّا أراد أفلاطون؛ فإنه قصد إلى أن يقول إنه إذا غمرتنا عاطفة الحب للأشياء والناس فإننا نجد كل شيء جميلًا، وعندئذ نكون سعداء.
فالحب والجمال والسعادة سلسلة نحتاج إلى حلقاتها الثلاث، ولكن أولها الحب، وقد تلاقت جميع الفرق الصوفية في جميع الأديان شرقًا وغربًا علي هذه الكلمات مع أولوية الحب، كما أن رجال المسيحية قد وجدوا في أفلاطون الفيلسوف الذي يؤيدهم في دعوة الحب.
واعتقاد أفلاطون أن الحب أساس الإحساس بالجمال والسعادة لا يمكن أن يجد معارضًا؛ فإن الشاب الذي يحب فتاة يجد فيها أسمى الجمال كما يجد في معاشرته إياها السعادة القصوى، وكذلك الأم التي تحب طفلها لا تعتقد أن هناك من يفوقه جمالًا بين الأطفال، وأنها لن تجد مثل السعادة التي تلاقيها معه باحتضان غيره.
وعبرتنا من كل هذا الذي ذكرنا عن أفلاطون وإكباره لشأن الحب في حياة الإنسان: هو أننا نستطيع أن نجد السعادة والجمال إذا نحن احببنا الطبيعة وكائناتها والإنسان والمجتمع؛ فإن هذا الحب سيحملنا علي أن ننشد الجمال في كل هذه الأشياء ثم نحس السعادة حين نجده فيما نطلب، بل نزيد علي ذلك بأن الحب العام ضروري للفهم الإنساني، ولن نفهم ونحن نبغض، ولن نتوسع في المعارف ونحن نكره.
فالحب الأفلاطوني ليس عاطفة سطحية كما هو الاعتقاد السائد، وإنما هو الحب العام للإنسان والحيوان والنبات والطبيعة، هو الحب الذي يربطنا بالكون والمجتمع، هو السعادة والجمال.