ذكاء المرأة
هناك حقيقة يجهلها كثيرون مع أنها في وضوح الشمس، وهي أن الذكاء اجتماعي؛ فنحن نربي ذكاءنا بل أخلاقنا بالاجتماع بالناس وما يجلبه العيش معهم من تجاذب في المعاملة والصداقة والخصومة والخدمة والتجارة، أو بكلمة موجزة نحن نتذكى — أو ندرب ذكاءنا الخام الموروث — بالحرفة التي نحترفها وننتج بها سلعه أو نؤدي بها خدمة.
هذا التجاذب، هذا الأخذ والعطاء بيننا وبين المجتمع، يحفزنا علي التفكير والتعبير والعمل والإنشاء، فيحتد ذكاؤنا الموروث بما نتعلم من كلمات ومعانٍ وبما نختبر من أفراح وأحزان وما نصنع من أدوات ووسائل.
ولو أن أحدًا منا وُلِدَ بذكاء موروث نادر ثم أمضى عمره أو السنوات العشر الأولي من عمره وحيدًا لا يختلط بالناس؛ لبقي ذكاؤه خامًا لا قيمة له، فهو يحيا حياة الحيوان قصارى ما يطلبه طعامه وشرابه لا أكثر، ويؤكد غباوته بل بلاهته عندئذٍ أنه يجهل الكلمات؛ لأن الكلمات هي المعاني، وليس هناك كلمات بدون اجتماع بالآخرين، أي ليس هناك تفكير يعلو علي حاجات الطعام والشراب إلَّا إذا كنا نفكر في مجتمع بشري، ولكن الاجتماع درجات؛ ولذلك فالذكاء المدرب درجات أيضًا.
فالفلاح الأمي في حقله وبيته أقل اجتماعًا من ساكن المدينة الذي يختلط أكثر منه — مباشرة ومداورة — بالناس في المكتب أو المتجر أو المصنع ثم في المقهى أو السينما أو الكتَّاب؛ ولذلك يعد ذكاء الثاني مدربًا بينما ذكاء الأول لا يعد كذلك، ولذلك لا نخطئ إذا قلنا إن رجل المدينة أذكى من رجل الريف لأن دائرة اجتماعه أوسع.
وذكاؤنا يزداد دربة، وبصيرتنا تزداد حدة، إذا كنا نجد في الاختلاط بالمجتمع تغيرات وتنوعات، فلا يحيا الطبيب مع أطباء فقط، ولا يخالط المهندس مهندسين فقط، وإنما يختلط هؤلاء مع هؤلاء فيكون التغير داعيًا إلى التنبيه واليقظة.
وبناء على هذا المنطق نقول إن الشاب العربي الذي تجاوز العشرين من عمره، وهو لا يعرف من المجتمع البشري سوي زملائه من الشبان، يعد ناقصًا في ذكائه عن الشاب الأوروبي الذي امتاز بالاختلاط مع الجنس الآخر؛ ذلك لأن الثاني رأي فروقًا بينه وبين زميلاته بعثت فيه الاستطلاع وحدت ذكاءه، كما أن هذا الاختلاط قد عين طرازًا متمدنًا من السلوك، وميزانًا سويًّا من الأخلاق، لا يعرفهما الشاب الذي تعلم مع زملائه من الشبان فقط.
إن الذكاء والأخلاق معًا يحتاجان إلى التعليم المختلط في المراحل التعليمية الثلاث: الابتدائية والثانوية والجامعية، وأي انفصال بين الجنسين في إحدى هذه المراحل أو في جزء منها ينعكس أثره على أخلاق الشاب وأخلاق الفتاة؛ لأن كلًّا منهما يجهل عندئذٍ بمقدار انفصاله طبيعة الجنس، ويجهل وسائل المعاملة المهذبة مع أشخاصه، والزمالة في المدرسة ثم في الجامعة توجِد إحساس المساواة وتمتع كلًّا من الشاب والفتاة بلذة الألفة، وتستنبط من الاثنين الاحترام المتبادل بينهما، فإذا جاء الزواج فإن العشرة بين الزوجين تبنى عندئذ علي معرفة الواحد بالآخر، فلا يكون الاستسلام للأماني التي تخالف الواقع ثم المشاجرات التي تنشأ من العادات الانفصالية التي سبقت الزواج.
إن الزواج اجتماع بين جنسين، وهو يحتاج إلى تدريب اجتماعي يسبقه، ولن يكفل هذا التدريب إلا التعليم المختلط.
وقد ألغينا نحن الحجاب فصارت نساؤنا سافرات يستقبلن الضيوف في البيت ويخرجن إلى المتجر، بل أحيانًا يُؤَدِّينَ أعمالًا حرفية ويختلطن بحكم أعمالهن هذه بالرجال.
لكن لا يزال التعليم في مرحلته الابتدائية والثانوية يفصل بين الجنسين كأننا نؤمن بإلغاء الحجاب بين الكبار وبإبقائه بين الصغار، وهذا خطأ بل خطل؛ لأن الكبير يحتاج إلى التدريب وهو صغير، وكثيرًا ما نجد الشاب الذي يرتعش عندما يجد نفسه مضطرًّا إلى محادثة فتاة؛ لأنه عاش قبل ذلك منفردًا نحو عشرين سنة لم يمارس فيها الاختلاط، وكذلك الشأن في الفتاة التي عاشت منفردة لا تختلط.
ونحن البشر نتألف من رجال ونساء، وهذه طبيعتنا التي لا نستطيع أن ننكرها، فلا بد من أن نعيش حياتنا في مجتمع سوي مختلطين يعرف كل منَّا الآخر منذ ميلاده إلى يوم وفاته، نتعلم معًا في المدرسة ثم في الجامعة، ونعمل معًا في المصنع أو المتجر، ونتدرب طيلة أعمارنا على المعاشرة الزوجية الحسنة.
والشخصية السوية، والشخصية الكاملة، تحتاج في كل من الجنسين إلى التدريب الاجتماعي، والمرأة نصف المجتمع، فلن نحصل على هذا التدريب كاملًا إلا إذا اختلطنا بالمرأة وزاملناها منذ صبانا إلى شيخوختنا.
لهذا السبب يجب أن يكون تعليمنا في جميع مراحله مختلطًا، ويجب على الآباء أن يلحوا في المطالبة بهذا الاختلاط لتربية أبنائهم وبناتهم.