الاستهتار برهان السأم
كثيرًا ما تنخدع برؤية بعض الناس يلهون ويستهترون ولسان حالهم يقول: «نعيش اليوم لأننا لا نعرف إذا كنا سنحيا في الغد».
والذي يخدعنا في هؤلاء الناس أننا نعتقد أنهم سعداء قد حلوا مشكلة الوجود واستقروا على أن الأسلوب الأمثل للحياة هو أن نحيا في مسرات متوالية نأكل ونشرب، وغدًا نموت.
ولكننا عندما نتأمل حالهم ونتحدث إليهم نجد أنهم في غمرة من التشاؤم والحزن، قد سئموا الحياة وضاقوا بها إذ لا يجدون أية دلالة لها، وهم كلما شملهم السأم والحزن عمدوا إلى المسرات الرخيصة التي تسري عنهم تفاهة هذه الحياة التي يحيونها، واستهتارهم في الأخلاق وإقبالهم على الشراب أو الطعام إنما يعود كل ذلك إلى عجزهم عن أن يرفعوا أنفسهم إلى المقام الذي يشعرهم بالكرامة والسمو، وإلى عجزهم عن أن يؤدوا عملًا أو يقوموا بنشاط يجعل لحياتهم دلالة.
إن خلو الحياة من الدلالة هو الذي يجعل الشاب يتساءل: لماذا أعيش؟ ومتى سأل هذا السؤال ولم يجد الجواب الشافي فإنه عندئذٍ يستهتر، بل هو قد يرتكب الجرائم الأخلاقية البشعة لأنه لم يعد يجد الدلالة في الاستقامة والشرف، ولا نقول العظمة والمجد.
كيف إذن نوجد الدلالة لحياتنا؟ نوجدها بأن ننشئ، نبني، نشيد. نؤدي من العمل ما نرى نتائجه تنمو أمام أعيننا فنفرح ونحس أن المستقبل جزء من الحاضر؛ لأن هذا العمل سيطرد في نموه في السنين القادمة، أي في هذا المستقبل.
نبني أنفسنا، نبني شخصيتنا، أو نبني غيرنا بالتربية والتثقيف.
وتجري عملية البناء يومًا بعد يوم فتشعرنا بتطورنا وارتقائنا وعندئذ نجد الدلالة وهي:
أنا أحيا لأني أرتقي، ولأن لنفسي امتدادًا في المستقبل يجعلني أتفاءل وأفرح، فلا أحتاج إلى أن أقول: لنأكل ونشرب وغدًا نموت.
إن هذه الكلمات التي تحمل معنى التشاؤم بالمستقبل، ومعنى التفاهة في حياتنا الحاضرة، ومعنى الركود والانحلال، هذه الكلمات لا يمكن أن تخطر بعقل الشاب الذي يجد الدلالة لحياته لأنه يتطور ويرتقي، ولأنه يبني شخصيته.
ومن الأخطاء الفاضحة ظن الكثير من الناس أن الشبان المستهترين أكثر استمتاعًا بحياتهم، وان كانوا أقل انتفاعًا من الشبان الجادين.
ومنشأ هذا الخداع أننا نرى الشاب المستهتر يعيش في اللهو، يسهر ويتبع شهواته الدنيا، وينغمس في التدخين أو السُّكْرِ، ولا يتعب في كسب ولا يؤدي خدمة تحتاج إلى الدرس والجهاد، وهو ضاحك من هموم الدنيا هازئ بالمستقبل لا يبالي بالواجبات الاجتماعية أو الرقي الشخصي.
ونرى أن الشاب الجاد في تعب، يجهد ويعرق ويفكر كثيرًا ويحمل أعباءً من الهموم والاهتمامات، ويضطلع بالمسئوليات المادية والروحية، وهو رزين في حديثه يقتصد في كلماته وابتساماته، ينام ليله ويسعى نهاره في طلب الرزق أو ترقية شخصيته بالدرس.
والمقارنة بين هذين الاثنين توهمنا أن الأول سعيد باستهتاره والثاني شقي بجده، ولكن هذا خطأ فاضح؛ لأن استمتاعات الشاب الجاد تسير على مستوى أعلى من استمتاعات الشاب المستهتر، كما أنها تمتد إلى عشرات السنين في المستقبل في حين تنقطع استمتاعات الشاب المستهتر قبل أن يبلغ الأربعين أو الخمسين.
إن المستهتر يحيا بلا حياة تنتظره في النصف الثاني من عمره، في حين يحيا الجاد حياته كلها إلى يوم وفاته، الأول — أي المستهتر — يقف عند الأربعين أو الخمسين بلا اهتمامات روحية أو ثقافية أو فنية أو اجتماعية، وبلا رسالة، وفي أغلب الأحيان بلا صحة، أما الثاني — أي الجاد — فإنه ربط نفسه منذ العشرين أو قبلها بروابط الارتقاء الشخصي والخدمة الاجتماعية والاستطلاعات الثقافية، فهو شاب يرقص قلبه بطرب الحياة حتى ولو تجاوز المئة من العمر.
وطرب الحياة ليس كأسًا من الخمر أو وجبة لذيذة من الطعام أو صبوة غرامية، لأننا مهما التَذَذْنَا هذه المتع فإننا نعرف أنها زائلة موقوتة وأنها دون ذلك الانتعاش الذهني الذي نحسه من الوقوف على نظرية في الفلسفة أو العلم، أو ذلك الارتياح الجميل الذي يغمرنا حين نؤدي خدمة بارة للمجتمع، أو تلك اللذة الحميمة التي نحس بها حين نجول في أيام الربيع؛ فإن طرب الحياة هنا باقٍ غير زائل، ونحن نستمتع به طوال أعمارنا.
كثيرًا ما أجد رجلًا في العقد السابع أو الثامن من عمره قد تعددت اهتماماته فتوافرت له بذلك استمتاعاته؛ لأنه أخذ حياته منذ شبابه مأخذ الجِد ولم يستهتر، في حين أن أولئك المستهترين أيام شبابهم لا يكادون يبلغون الستين من العمر حتى يحسوا الحيرة وحتى يتساءلوا في عجب: لماذا هم أحياء؟
أيها الشباب استمتع بالجد الباقي ولا تستمع باللهو الزائل.