للمطر القروي
لا، بل ما يُشبه ضَفِيرة شَعر مِنْ أجلي وحدي، ومن أجلي جاء المطر القَرَوي حزينًا، على كفيه بقايا نُعَاس ورسْم حناء قديم، رماد فلوات الصيف الماضي، جاء المطر القروي يُفَتِّش عني في بحري، في الشجرة، على أسفلت طريق الثورة بالشنقيطي، في أَتِني على مقهى منسي، خَلْف الكافتيريا في أبي جنزير، وفي الحافلة الباردة إلى أم درمان مَشَيْنَا، تقاوَلْنا، فتشابهَتْ علينا الطرقات والمستشفى، بائع الفاكهة العجوز والبقال على الأسفلت وكل صفوف الناس … سألنا عن هذا وعن هذا، عن ذكرى الهندي غاندي، كنا اثنين ورابعنا عينان، في تلك الليلة يقول الراديو: مات على إثر رصاصات الأعداء جنود شتى …
تَعَرَّفْنا على سبعين … كان السبعون سبايا جيش المهدي، أكبرهم جدي — أحد الميِّتِين القتلى بحربة «شَنْقَا شَنْقَا» — يَكْفر جدي — وأنا أيضًا — بالمهدي وخليفته، بعثمان دقنة وسناجك الترك المبيوعين، يَكْره تجار الرق الجلابة، يُحارِب ضِمْن صفوف الجان مع الشيطان، الأشجار، القنطور، الأفيال والعبيد: المهدي …
وأنا وحدي يا حبي، أُحَمِّل عينيك قنابل من طين أسود وصلصال لايوق، أحشو بالدم وبالطين فمي، وأقاتل حتى الموت … لا أشكو أو أصرخ، أتبين وجْهَك في الغابات وزرائب الأقنان، وأتعرف على صوتك من بَيْن ملايين الثكلى.
مَنْ مِنَّا أكثر ترياقًا؟
مَنْ منا أكثر أشواقًا؟
مَنْ منا أكثر ليمونًا وجروفًا وطحينًا؟
أَتَبَيَّنُ قيْدك أيضًا مِنْ سِجْن إلى سِجْن إلى أخشاب المشنقة السنطية البلهاء … أتبين قيدك درويشًا درويشًا، وأُغَازِلكِ وتبتسمين من تحت رداء الجوخ المثقوب الأسود … أتبينُ قُبْح جمال النادل والكمساري والمطر القروي، يُفَتِّش عني، وراء النهد المسموم أَدُسُّ عناويني، رقم الهاتف الجوال، تَذاكر العودة إلى النهر وتميمة أمي المجلوة بعصارة لبن العُشر، يفتش عني المطر القروي، رعد قبيلة الحبش، هضاب كرن وعبد القادر الجيلاني، ولا يُجدي فيَّ قول القائل، أو إيمان الكافر، ولا وطوطة جريح الحرب.
هناك تنامين على وَجَع، لا تستيقظ أسماك الرغبة في جعبته، ولا مطر يغسل فضيحته، ولا غاردنيا.
فراشات العالَم كله لا يمْكِنها خَلْق زهرة، ولا تستطيع قُبلة — مهما كانت دافئة وحقيقية وعميقة — استخدم العاشق فيها كل بساتين القلب، آيات الطير، كتاب طوق الحمامة، الكماسترا والروض العطر، لا تستطيع أنْ توقظ شفةً أنامها الموت … قولي للمطر القروي: كيف بعثْتَه؟!