ليس من طليق بيننا
لسْتُ هنا السجين الوحيد في قوقعة الحديد الباردة، لست وحدي مَنْ دَخَلَها وأغلق سُدتها بمؤخرة متحجرة، لست وحدي في السجن، أنا أصرخ الآن، أو أغني بهنيق خشن، كما يهمس أير في آذان أتانكم الفاجرات.
لست هنا في السجن وحدي، كلنا هنا، أقصد تلك الطيور التي تحلق عاليًا في السماء، مُعْلِنة ملكيتها لكل ما هو ليس ملكًا لي؛ الحدأة والغربان وعصافير ود ابرق، ضوء الشمس المتبختر المتعالي، الذي ادعى بالأمس أنه الأكثر حُرِّية، سمعته وهو يقول ذلك لله، كعادتي قلت له دون تفكير: أنت كاذب ومُدَّعٍ.
لست وحدي في سجنكم، أنا سجَّانكم، وحوائط المبنى القديمة المصنوعة من خوفكم، وأنتم أيضًا هنا دخلتموه بكامل إرادتكم الحرة، بكامل المصائر المشترِكة بيني وبينكم، بكامل ظنونكم المطمئنة، ظنونكم الحسنة التي لها عبق أزهار الياسمين، لست السجين الوحيد هنا، لست ذلك الرجل الذي تظنون، الطائع الطيب الحزين المريب، لست من يقنع بالمكان تعويضًا عن الألم، أتطلع دائمًا لصحبتكم، لمَحبتكم، لجنونكم، أحتاج لكم في الغرفة الأخرى، في حجز انفرادي يخصكم، حبس ألذُّ ما يُوصف به أنه الأكثر بغضًا مِنَّا جميعًا، والمقصود هنا صراحة: السجن، أنتم، وأنا.
ليس السجن خطيئتي متمثلة في مكان، فَلَمْ أرسمه في مخيلة الأشجار، قد أعني شجيرات الصيف العجفاء، لم أطعمه لأسماك صغيرة تسبح في بحيرات روحي منذ قوت ليس بالقصير، لم أنهقه في آذان أطفال المدارس الأبرياء المشاغبين، بل لم أسمع به مطلقًا قبل أنْ أَدْخُله وأجدكم تقبعون بجوفه في طمأنينة الحوت الأزرق، البناءون، المهندسون، الداعرات، الحراس، قائد الجوقة الموسيقية، أنتم وأنا، جميعًا كنا ننتظر قدومي، ننتظر أنْ نَنْعَم برفقتي! لا أتحمل فكرة أنَّ الله قد أوصى نبيًّا تائهًا — أشبه بالسيد المعمدان — أنَّ بالسجن توجد تلك الحرية المزعومة، وأنه خبأها هنالك بعيدًا عن أظافر الشيطان، صديق الإنسانية اللئيم، وأنَّ الله هو الذي قال للبحر انطلق، وللسحابة أنْ تقبع في السهل مثل أرنب حجري عجوز تشعل شهية كلاب الصيد، لست هنا وحدي، لست السجين الذي يحمل الرقم ٦٦، أو الرقم ٢٠ مرسومًا بالدم، والوحدة ذلك الحبر السري السحري، وكل الذين حاولوا أنْ يعطوني تلك الصورة البغيضة المجنونة كانوا من الضالين، وهنا أستطيع أنْ أذكر بعضهم بالاسم: عصام عبد الحفيظ، النقر، صفية إسحق، نبراس جبريل، إيناس الطيب، عبد الله ديدان، الطيب المشرف، ماريا بيتر ومنى شوربجي، لكن لا يحق لي أنْ أخُصَّ بالذكر سوى رجل واحد ظلَّ يطارد فضائحنا بصبر وحب، ويصنع مستقبلنا على حساب سمعته وراحته، صديقنا الذي عُرِف فيما بعد — وذَكَرَتْه بعض الكتب السماوية والأرضية — باسم: إبليس، كان ينظر إلينا عبر ثقوب التهوية التي نَبَتَتْ بدقة بين حجارة السجن، يتشمم فُسَاءنا المبارك، وعندما يخلو فضاء الحجرات من الأوكسجين فإنه يكح بقوة عبر تلك الثقوب الرحيمة، واهبًا إيانًا نسيمًا وإيحاءً تامًّا بالهواء النقي، وكنا — وما زلنا — نشعر بطيبة عينيه وهما تلمعان خلف الحجارة القاسية، في لمعانهما نَجِدُ عزاءً كثيرًا، ولو أنها ليست مدرسة الصبر الوحيدة التي لم نَدْخلها بَعْدُ.
لست وحدي هنا، كلنا سجناء، ليس من طليق بيننا، ليس من امرأة أو رجل انفك من ذاكرة الحبل وأسر الحديد، أثرهما نديًّا وحارقًا وبه طعم الدم والماء.
لست وحدي في سجنكم الذي أحبه أكثر، وأبغض البقاء فيه إلى نهاية هذا اليوم الطويل! أريد أنْ ألتقط له صورًا من الخارج، وأُطْلِقها عبر صفحتي في الفيس بوك لتَرَوْهَا، أو أرسلها عبر الوسائط المحمولة على أَكُفِّ الأثير إليكم في زنازينكم الرطبة، إلى شبكيات أعينكم مباشَرة، وأعلم أنها سوف لا تعجبكم، ولكنكم ستحتفظون بها إلى حين أنْ تَنْبُتَ شارة الحرية في قلب أحدكم فتهلكون.
أرسمه بالفحم والطبشور.
يظل الخارج داخلًا على الدوام.
وليس من طليق بيننا.
ليس من حر بيننا.
كل من ادَّعَوْا ذلك أُحْبِطُوا في آخر المطاف، عندما أَخْبَرَهم إبليس بحقيقة الأمر، وقال لهم بملئ أفواههم: الخارجُ داخل، كما تلبسون جلبابًا على عجل، ولا تميزون ما بين وَجْهَيْه، الخارج داخل، ليس من طليق بيننا، من له تلك الأجنحة الكاذبة التي يمكنها التحليق عاليًا، بعيدًا عن هنا، ذلك البغيض، وليس أيضًا من بيننا غيرنا للأسف.