قلبك منفاك الأعظم
المنفى هو المكان الذي يخلو من ذكرياتك الخاصة، كل الذي يُقَدِّمه لك هو ما لم تَرْغَبْ به في بيتك، ولا تخدعنك تلك الحرية المُدَّعاة، إنها محض كذبات مطلية بالثلج، وفي أحسن حالاتها مجرد مساحيق غبية، تعرفها بالوشم المرسوم بخديها الخشنين، ببقايا ما تَرَكَ العشاق السكرانين من قبلات بصقاء على فمها.
بالتأكيد أنا أكذب، أكذب مثل حرباء ضئيلة الحجم تتسلقني، تتلون بحلمي؛ أقصد بأفكاري التي لم أستطع أنْ أُعَبِّر عنها وأنا في بلدي:
أغنية حيرى، ما غنتها فيروز، أو شرحبيل، أفكاري الحامضة الطازجة، كُنْت أيضًا سأكذب مرة أخرى: المنفى يا حبيبتي هو كل مكان غير الوطن، والوطن ببساطة هو المكان الذي تتشهاك نساؤه، ويَقُلْنَ لك بِلُغَة قريتك إنهن يَعْرِفْن كل أسرارك، المنفى إذَن هو المكان الذي لا يَعْرِف فيه الآخرون أسرارك، وتبدو أكثر غموضًا كلما أَمْعَنْت في الوضوح. إذَن الوطن هو كل مكان أنت فيه الآن؛ لأن عفونة فضائحك قد سبَقَتْكَ إليه.
كل ما خبرته يصبح في سقط المتاع، كل شيء؛ أقصد كل شيء، لا أدري حتى ذكريات طفولتك تأتي إليك الآن بيضاء، تلونها بالريح العنيفة، تصب عليها زيت الكحل الأسود والأمطار، تشويها في شمس لا تشرق إلَّا ليلًا، تستدعي شياطين أيامك الماضيات أيقونة أيقونة، يتبولون في أنفك، تتمشى بها وعليها، تزني فيها، تقول: إنَّ الله هنا أيضًا، ولا يسعفك الله، تستدعي طبول قبيلتك الكبرى، جدك الخاص برَمرَجِيَّلْ، أحفادك غربان الفضاء الشاسع، تقرأ في أذن الأشياء دائرة إبليس مشوهة بدم الحلاج، لا يسعفك الحلاج، والمنفي يمضي، يُهَرْوِل ما بين المنفى والمنفي، تغمر خيشومك أغبرة العدو، تمائم جدتك: أيها السحرة، يا آبائي السحرة، شياطين أمتي الهائمون في الغابات، يا طبول أحبتي، أقصد أني أنده ربًّا نوبيًّا قديمًا قتلَتْهُ لعنتي قبل أنْ أولد بمليون عام ونيف: «أَبَادْ أَمَاكْ».
المنفى لا يعني في كل الأحوال المنفى، قلبك منفاك الأعظم.