سِكةُ البيت
لقد كُنْتُ مرهَقًا مثلكم، لم أستطع أن أميز ما بين التاج والمقصلة، كنْتُ نعسًا فتغافَلْتُ عن سكة البيت، جئْتُ إلى هنا لألتقي بكم، لأَرْسُم بحرًا في أَكُفِّكُم وأُغْرِقَكم فيه، كُنْت شجاعًا كما كُنْتُم وأنت تهربون من الموت إلى اليابسة، غريبًا، عارفًا، نزقًا ومحبوبًا مثل أرنب في مُخَيِّلَة ذئب؛ لذا لا تحرموني نعيم المشنقة، حبْلها نَدِيٌّ مثل كَفِّ أمي، وخشيش نصلها موسيقى عصافير الكروان، مَنْ تذوَّقَ طعمها لن يفارقه، ومن لبس حريرها تشهى فراشها، فهي حيث لا وسط بين الفكرة وبين الفكرة.
هكذا غنى الأستاذ محمود محمد طه، أو يُظنُّ أنه، أو غُنِّي له، أو تغنَّى به البعض، وظَلَّت الحقيقة بينَ بينَ إلى يومنا هذا، الرجل عَلَّمَنَا الطريق إلى الحياة وأخطأَهُ، عَرَّفَنا بالله وتَنَحَّى بقلبه عن الملل وفِكرة الأمس، وقال لي: إذا ضَلَلْتَ فتخير في السبيل أَكْثَرَهَا ظلمة؛ لأنها وَحْدَها تحتاج إلى نور قلبك، وقال لي: أنت لا تعرف مِنْ شأن نَفْسك بِقَدْر ما تَعْرف هي من شأنك، فلا تَتَّبِع سبيلي؛ لأنك سَتَضِلُّ، ولا تَتَّبِعْ سبيل غيري؛ لأنك سَتُضَلِّلُه، ولا تكون نفسك إلَّا بقدْر ما تخشى السقوط في هاوية الجسد، وقال لي: مَنْ سَقَطَ في هاوية الجسد، ثم بكى.
سلام عليك في المكان، وسلام على نخلة!
ظَلَلْنَا نُعِدُّ الشباك والأغنيات إلى الفرائس، شَرِبْنَا لِأَجْلها خمرًا من كرم التشهي والارتباك الحميم، وقلنا لبعض النساء الجميلات إن تَحَاكَيْنَاها، أنْ يَقَعْنَ في لُجة الشَّرَكِ الزنيم، وأنْ ينثرن من أرياش أجنحتهن عاصفة تُخْبِرنا بأن النساء الجميلات قد وَقَعْنَ في المصيدة، وأن الفرائس الآن تنتظر نصل السكاكين وثرثرة الشواء، وقال لي النساء كالعاصفة يجرحن قلبك حيثما خَبُرْنه، ثم يَغْسِلن روحك بالغيث، وقال لي: إذا صِدْتَهُنَّ فاعلم أنت الفريسة.
سلام عليَّ في لجة الانتشاء، وسلام عليها كواحدة من وَرْد الحديقة وماء خطايانا الشفيف، وقال لي: في سكة النهرِ النهرُ، وقال لي: إذا خُيِّرْتَ ما بين هذا وذاك، فاخترني لأنني هذا وذاك، وقال لي: الوطن ليس كالحرب، تَخْسَره أو تَكْسِبه في معركة، ولكنه كالأم لا يمكنك أنْ تفصل لبنها عن لحمك. ثم كاد يقول لي شيئين …
كنت جميلًا وبوجهي خربشة مخالب البلاد الكبيرة، وكلما كَبَرَ أولاد الجيران ابْيَضَّت أسنانهم واسودت وجوههم وأصبحوا كغربان البشارة، إلَّا أنا، كَبَرْت بلا أسنان ووجهي مقدس كقرد التبت، تراه في الليل قصائد شعر، وفي لحظة العشق كقنديل يُضاء ويُطْفَى بقبلة بنت، ورفسة نهد، طنين سرير الحنين القصي، وقال لي: إذا رأيتَ أُصبتَ بداء الذي قد رأيتُ وكُنْتُ حبيسًا له، وإذا خاطبك الجاهلون صِرْتَ منهم.
وقال لي: يا بركة، الليلُ الليل، وقال لي في الليلِ ليلُك.