ما لم أقله للسيد
لقد أَخَذَكَ الشيطان بعيدًا عنَّا، أو أخَذَنَا عنكَ بعيدًا، فبدأت — كما قال الفيتوري: «مثل سارية تغرق في الرمال»، وسوف لا نفتقدك؛ لأنك نحتَّك عميقًا في المكان، وستبقى هنا إنْ شئت أم لم تشأ، ولكنني أجريتُ محاورة طازجة مع من قال لي إنه الشيطان، وانتهينا إلى الآتي: إنَّ كل ما يتعلق بك وبالرموز — ونقصد بالرمز بقايا ذكريات الحضارات البائدات — لا دَخل له فيما يحدث في الأرض الآن، وإنَّ ذلك ليس سوى تشوهات في الخلق قام بها نفر عُرفوا مؤخرًا بالبشر — تفاصيل ذلك لدى الصديق عبد الله ديدان، سأوافيك برقم بيته لاحقًا.
ثانيًا: لم يكن للشيطان أيضًا دَخْلٌ، أو بالأحرى إنه لم يتدخل بعد في مسألة تخصك أنت بالذات — لم نُسَمِّ ذلك لعنتك — فلقد قال لي صراحة: «لو عَلِمْتُ أنَّ السجود يُنْجِيني لسَجَدْتُ.»
طبعًا انتحل تلك الفقرة من طاسين شيخي الحلاج، وأضاف: أنا لا أسجد إذا سجدْتُ لغير الله.
أمَّا الأمر الأهم من ذلك: هو السؤال الذي فاجَأَني به الشيطان وهو يحملق في عينيَّ، وبفمه ابتسامةٌ شاسعة، لها رائحة أشبه بطعم العرديب، ولم أَرَهُ رغم ذلك جادًّا أكثر مما هو الآن: من أنا؟
قلت له: أنت أنت.
قال لي — وهو يتمطى، فتقع القبعة الصغيرة البيضاء عن رأسه؛ ليظهر فراغ شاسع لا حدود له، فراغٌ مُرْعِب ومُرْبِك، فلم يكن تحت القبعة غيرها، تَحَرَّكَتْ عيناه الكبيرتان تمسحان وجهي، وتعبرانه إلى ما لا نهاية، وفَضَّلْت أنْ أساعده في وضع القبعة في مكانها؛ حتى أَجِدَه وأدرك ضالتي فيه، ولكنه كان الأسرعَ مني على الرغم من أنه كان طاعنًا في السن، ويبدو مُرْهَقًا من ثِقل الأزمان عليه، وَضَعَهَا، سألني: ماذا رأيتَ؟
قلت له: الفراغ.
ابتسم وهو يستعير من الفيتوري بيتًا آخر: «الغافل من ظنَّ الأشياء هي الأشياء».
سألته دون تفكير: أتعرف الفيتوري؟
ابتسم، كانت أسنانه بيضاء وجميلة ومنتظمة، وبشاربه الأبيض يحلق ما يُشبه الوردة كلما ابتسم، في الحقيقة كانت هذه هي المرة الأولى التي يبتسم فيها، نعم ابتسم بعد ذلك مرتين، أجابني: لا، من هو الفيتوري؟ أنا لا أعرف غير الله.
وتخطينا هذا الإشكال أيضًا، وإشكالين آخَرَيْن صغيرَيْن، تخطينا إشكالًا آخر، ثم صلينا معًا — ليس الفجر وليس العصر، وليست هي صلاة النقطة، وليس الصبح ولا المغرب، ليس العشاء أو الظهر، وليست صلاة جنازتنا.
صلينا معًا في الوقت وفي المكان، أيضًا سَقَطَتْ قبعته مرة أخرى وهو ينهض، فبدا رأسه مرعبًا وشاسعًا ولا نهاية له، ولكن عيناه الشرستان تلاحقان الأشياء ووجهي بظفر جارح التقطها، قال لي: ماذا رأيت؟
قلت له: «الغافل من ظنَّ الأشياء هي الأشياء» ألم تُعَلِّمْني ذلك.
قال: لا عِلْم لي.
قُلْتُ له: لم أرَ غير الفراغ.
إذَن يا صديقي: ماذا بعد؟
ما حَمَلْتَه لما لا يَحْتَمِل، ما شَيَّدْتَه لمن لا يَسْكن، ما قَوَّلْته لمن لا قَوْل له ولا لسان، ما أَطْعَمْتَه إلى من ليس بذي بطن وعاطفة وجوارح، لما صَلَّيْتَه وأركعته لمن لا مواقيتَ له ولا هُدًى، لما أنكحته لمن هو بلا فَرْج، لمن؟
إذ قال لي الشيطان: يا بركة ساكن، اسمع عني كل شيء، وأنكرني بكل شيء، وإذا عَبَدْتَني عبدتُكَ، وإذا كَفَرْتَ بي فإنما أنت تكفر بك، إذا رأيت في الشمس شيئًا غير القمر، فإنك لم ترَ الشمس ولم ترَ القمر، وكانت السماء مسحبة، ولم يكن الوقت ليلًا ولم يكن نهارًا، ما كنا لننتظر القيامة لنعرف الحقيقة، وما كنا لنتوق للموت لِنَصْحُوَ، وما كنا لنتأمل الجُرح لنعرف وقاحة المُدية، وما كنا لنستنشق الدم، أو نبارك المبولة، لنتحرى ديمومة الجسد، ولكن في سِعة الفراغ مقبرة تكفي للجهل والمعرفة، سرير وثير للصحو والنسيان، جرار الأغنيات الطيبات وموسيقى نهاياتنا، سننشدنا بأناملنا، وصرصور العقل الذكي: السقوط في الهاوية يعني أن تدرك اللاقاع، والنهاية قد تحدث دون معانقة غرار صلب، الهواء الطازج يذبح كما السكين.
دعنا نبدأ من أول القول: ليس كل ما يقود إلى مكان ما، هو طريق، وليس كل ما لا يقود إلى مكان ما، هو غير الطريق، من قال لك: إنَّ الشيطان لا يلبس لباس الشيء؟ ومن قال لي: ما لم يلبس لباس الشيء هو ليس بشيطان؟
ما لم أقله للسيد: إنه عندما سقطت قبعته رأيت في فراغ جمجمته جميع الأشياء، أظنني لم أرَ سواي.