لعنة الكتابة وكتابة اللعنة
كنت في غرفتي، وهي عبارة عن بناية صغيرة من الطين اللبن، وبعض أفرع الأشجار الغليظة والبانبو في مدينتي الصغيرة «خشم القربة»، بنيتها بنفسي بالطوب الذي صنَعْتُه من ذات تراب البيت، في مجرًى مائي قديم قُمْتُ بدفنه وتحويله لاتجاه آخر، على الرغم من تحذير الجميع لي بأن الماء لا يترك مجراه، ولكن لخيبة ظنون الجميع لم يعد إلى مجراه حتى اليوم، مما أكد لأمي فِكْرَتها الأساسية عني عندما داهمتني فيه، وأنا أضع أمامي كومةً كبيرةً من الأوراق، وفي يدي قلم كُوبيا، أدون أشياء لا تنتهي بصورة متواصلة. قالت لي: «يا عبدو»، وهذا هو الاسم المُحبَّب لديها ولديَّ «هل تدري ما تكتب؟» قلت لها: نعم. قالت لي: لا، أنت لا تدري ماذا تكتب؛ لأن ما تكتبه هو ما يمليك إياه الشيطان الذي كان يسكن معنا في البيت بالقَضَارِف وأنت صغير، لقد كان صديقَكَ، هل تذكره؟
وكنت أيضًا أعرف أنَّ كثيرًا من أفراد أسرتي يعتقدون بأن لدي شيطانٌ في بيتي، وأكد خالي جبريل — عليه الرحمة — أنه رآه ينزل ذات صباح باكر من شجرة التمر هندي التي في فناء داري، يلبس جلبابًا أبيض ناصع البياض ويدخل إلى حُجرتي، ورأته ابنة خالتي، وهي عادة ما تستيقظ مُبَكِّرَةً لصناعة كسرة الخبز التي تبيعها لأحد مطاعم القرية. لم أتعرف على ملامحه تمامًا، ولكنه كان عبارة عن كُتلة سوداء تفوح منها رائحة عفنة، وصوته أشبه بالشخير، كان ينظر إليَّ عبر نافذة المطبخ، وعندما صرختُ، هربَ ناحية بيت عبدو الذي لم يكن موجودًا حينها في المدينة إلى اليوم — حيث أنني أسافر كثيرًا في البلدان — أترك بيتي دون حراسة، لا لأن ليس به ما يُسرق غير الكتب، ومخطوطات كتبي التي دونتها في أزمنة لم يكن فيها الحاسوب الآلي مشاعًا للفقراء؛ لكن لأن اللصوص يعرفون أنَّ ببيتي شيطانًا يحرسني، ويؤلف لي الروايات والقصص، ويصيبني بِقَدْر من اللعنة معقول، لا يريدون نيل جزء منها ولو يسير؛ لذا عندما اعْتُقِلْتُ أول مرة في عام ١٩٩٣ قالت لي أمي — عليها الرحمة — مرة أخرى: «يا عبدو خلي الكتابة»، عندما اعْتُقِلْتُ في مرات كثيرة لاحقات، كان يطالبني ضباط الأمن بأن أترك الكتابة «استرح وأرحنا»، في عام ٢٠١٢، عندما أخذني شابٌّ صغير من قوات الأمن الوطني إلى مكتب الاستخبارات بمدينة الدمازين قال لي: «اكتب لنا كل أسماء كتبك وموضوعاتها، وأعطني إياها في ذاكرة إلكترونية، واكتب لي إقرارًا تلتزم فيه بألا تنشر هذه الكتب؛ لأنها ضارة بالمجتمع.» لأنني أطيع رجال الأمن وخاصة العنيفين منهم، الذين يستخدمون جُملًا مباشرة لا لبث فيما تعني، وأعلم أيضًا أنَّ الروائي مخلوق ضارٌّ؛ لأنه يخِل بوضعية السكون الكسول التي يفضلها ولاة الأمر، تلك المحببة للمجتمع.
كتبتُ الإقرار وكسبتُ حريتي، لكن شيطاني اللعين الماكر لم يُرْضِهِ ذلك، حيث وَسْوَسَ في صدري بأن أُحضِر كُتبي التي نشرتها بالقاهرة إلى معرض الكتاب بالخرطوم في نفس العام، كانت اللعنة الكبرى، حيث تعرَّضَتْ حياتي لأول مرة لخطر الفناء الأبدي من خريطة الأحياء، وكدت أنْ أسجِّل حضورًا دائمًا في دفتر الموتى لولا أنني هربتُ للمنفى حيث أقيم الآن، في قرية نائية وسط جبال الألب.
الجانب الآخر من لعنة الكتابة كان عاطفيًّا، ربما لشيطاني ابن مدينة القَضَارِف الذي تعرفه أمي دورًا كبيرًا، هنا أستطيع أنْ أقول: إنها شيطانتي؛ لأنها أظهرت عداوة للمرأة ومقتًا حامضًا مستخدمة شيطنة الجن، ومَكر النساء الذي ذُكر في بعض الكُتب السماوية وألْمَحَ إليه السيد بُوذا نفسه ذات صفاء لتلامذته، الدليل على ذلك أنني عازب الآن، بيتي يخلو تمامًا من تلك المخلوقة الرقيقة؛ ذات الصوت الحنون التي تَرْبِت على كتفك في الصباح الباكر طابعةً قبلةً دافئةً على خدِّك المُعشوشِب بالشعر الرمادي، أو على شفتيك الجافَّتَيْن نتيجة لعطشٍ أصابك في حلم ليلة الأمس الصحراوي، أو كوابيسك الكثيرة التي تتواصل نومةً بعد نومة، بأنك تُشوى في مِقلاةٍ بالجحيم مثل ديك رومي ليلة عيد الميلاد، تقريبًا كل النساء اللائي عشقتهن — وهنَّ كثيرات بالطبع — وكل النساء اللائي عَشِقْنَني — وعددهن مُقَدَّرٌ ومعقول — اللاتي تزوجْتُهُنَّ وطَلَّقْنَني — وهنَّ لسن كثيرات كما يتبادر على ذهن البعض، حتى الصديقات المُقَرَّبَات وغير المقربات، مثل سلمى، ومي، وعلوية، وسُونيا، وماريا، وسلوى وغيرهن — اتَّفَقْنَ على جملة واحدة قُلْنَها لي في أوقات شتَّى بطرائق مختلفة وأساليب عدة، وفقًا لِلُغَاتِهِنَّ الأم وطريقة نُطْقِهِنَّ للكلمات، وسَعَة خيالهن، ونوع العلاقة التي تربطني بهن: «أنت عندك حبيبة واحدة، وهي الكتابة، ولا قلب لك ولا تعرف كيف تحب»، كُنَّ يغادرنني غيْرَ مأسوف عليَّ، وحيدًا مصابًا بِلَعْنَتِي، أو مع شيطانتي، أو بنت إبليسي التي وهبتني مجدًا أدبيًّا، ولعنة طازجة مباركة بلا نساء، ومطاردة دائمة من قبل السُّلْطات، وحسدًا وغيرة من جانب الكثيرين، ووحدة لا حدود لها.
الكتابةُ ملعونةٌ ولاعنة، وهي مُضِرَّة بالمجتمع؛ لأنها رِجْس مِنْ عَمَل الشيطان، هي محاولة منه يائسة لتدوين ذاكرة الانحراف البشري؛ لذا يصطاد هذا الجِنِّي من البشر أصحاب الخيال الثر، وأَغْلَبُهم من ضِعاف الإيمان الذين يعانون مِنْ وَهَن الذاكرة مصحوبًا باختلال التوازن النفسي، حيث يحاولون معالَجة ذلك عن طريق فِعْل التدوين، وخَلْق الأكاذيب السردية البالغة الغرابة، كثير منهم مُلْحِدون! بعضهم تَنْبِذه مجتمعاته الخيرة المؤمنة، وترمي به في الفيافي والمنافي البعيدة، ثم تعود في وقت ما آسفةً، وتُتَوِّجُهم بما تشاء من الألقاب المُدهشة، هذا إذا نَجَوْا من الذبح الرحيم، في الغالب يحدث ذلك بعد قَتْلهم بالإهمال أو المُدَى، إنَّ المجتمع يخاف من كل الكُتَّاب والكُتُب، حتى تلك المقدسة؛ لذا كانوا يقتلون الأنبياء خوفًا من اللعنة التي قد تَجُرُّهم إليها زُبُرُهُم، ورحمة بالأنبياء أنفسهم، أمَّا المؤلف المحظوظ هو المؤلف الذي لم يكتب كتابه بعد، الذي لم يُعْلِن عن لعنته، إلَّا أنه يظل مثل القنبلة اليدوية، يمكنك أنْ تحتفظ بها في بيئتك طالما لم تَنْزع فتيلتها، أمَّا إذا فعلت، فعليك أنْ ترمي بها بعيدًا وتلقي بنفسك على الأرض محتضنًا التُّراب بكامل جسدك، مُخفيًا أذنيك تحت كفتيك الباردتين، صارخًا بأعلى ما أوتيت من صوتٍ كما في أفلام الحرب.