ما بين الرواية وقرينتها
الناظر إلى الروايات المنشورة في هذه الأيام في السودان، وكثير من الدول العربية، يلاحِظ أنَّ هنالك خَلْطًا كبيرًا بين ما هو سَرْد فني، يمكن تصنيفه كعمل أدبي ثم تجنيسه كرواية، وبين ما هو ليس سوي تَسْجِيل لثرثرة يومية أي «مؤانسة».
وهذا يثير سؤالًا قديمًا حديثًا عن علاقة الواقع بالعمل الفني، فالواقع في طبيعته المعطاة ليس فنِّيًّا؛ أي أنه ليس سرديًّا جماليًّا في كل تَمَظْهُراته، من ناحية الصورة ومن ناحية الحكاية، واللون والصوت وما إلى ذلك، لا نقول: إنَّ تَمَظْهُرات الطبيعة حولنا ليست جميلة، ولكنها لا تُصْبِح عملًا فنيًّا، ولكن هذه الصورة وهذا اللون والصوت والحكاية — والزمن أيضًا — أدوات في يد الفنان، إنسانًا كان أم حيوانًا، أو حتى الطبيعة نفسها من ريح ومطر ومَوْج وبركان، بوعْيٍ وبغير وعي، لتتحول إلى عَمَل فني بديع، يتحمل القراءات المتعددة بعدد المُتَلَقِّين، بل حتى بالنسبة للمتلقي الفرد تتجدد القراءة بعدد مرات التلقي، وتُحْدِث متعة في النفس، وأسئلة، وهذا عين الجمال.
بذلك تصبح الرواية هي فن سرد الحكاية وليست الحكايةَ ذاتها، واللوحة هي أيضًا صورة الشيء كما عَكَسَه الفنان وليس الشيءَ ذاته، إنَّ صورة الإنسان أو الحيوان، أو المنظر الطبيعي هو ليس عملًا فنيًّا، ولكنه يبقى كذلك بعد أنْ يَعْمَل عليه الفنان بأدواته، وهذا من البدهي والمعروف.
أقرأ في العادة كل الروايات التي أحصل عليها من المكتبة، لروائيين شباب أو كبار، وأحبذ الأعمال الصادرة حديثًا، وأهتم أكثر بالكتابات السودانية الحديثة والأسماء الجديدة في الرواية بالذات، ولاحظْتُ أنَّ بعض الأعمال جميلة وجيدة، ولكن البعض بالرغم من أنها كُتِبَتْ في زمن به موركامي، بابا كويلو، وماركيز، وباموك، وقبل مئات السنين كان هنالك الكبير دي سيرفانتس، في وَقْت بلغت فيه الرواية شأوًا بعيدًا من ناحية التقنيات السردية والجمالية، إلَّا أنَّ الكثيرين يحاوِلون أنْ يبدءوا من الصفر، ويُنْتِجوا حكايات يومية بذات أدواتِ سَرْدِها الشفهية، فتصيب الروايةُ القارئ بالنعاس الشديد، كما تفعل الأحاجي التي نشأت لتنويم الأطفال، ويمكن تسميتُها أشباحًا، أو قرائن للرواية، سألتُ أحدهم ذات مرة: لِمَ لا تقرأ ما كُتِب أو يُكتب حتى تكون مواكبًا؟ قال: إنه يريد أنْ يكون أصيلًا، وألَّا يتأثر بأحد!
يُعْجَب بعض القصاصين بالنكتة، ومع أنَّ للنكتة أدواتها وطبيعتها، ويقوم بكتابتها في شكل قصة قصيرة، البعض قد تستهويه حكاية سَمِعَها في مَحْفِل ما، حكاية مدهشة، ويقوم بكتابتها كما هي، فتصبح قرين تلك، والبعض قد تَسْتَمِيله الأسطورة، أو الحادثة التاريخية، أو السيرة الشعبية، أو السيرة الغريبة لأحد الأشخاص، الذين سَمِعَ عنهم أو عايَشَهم، وكل ذلك ليس سوى سرديات الطبيعة اليومية، والرواية هي عمل الخيال، أقصد أنها ابنة الخيال المُدَلَّلة، مثارًا هذا الخيال في أحيان كثيرة بذلك اليومي سابق الذكر، وإذا ظلَّ الخيال بعيدًا عن العمل الروائي، ولم يَعْمَل فيه بنِسَب متفاوتة، سيبقى العمل المكتوب إمَّا تاريخًا — نكتة أو تسجيلًا لأسطورة، سيرة ذاتية — أو غيره؛ أي أنه يحاكي الطبيعة، أقصد أنْ يقوم الفنان بما تقوم به الكاميرا، أو أداة التسجيل الإلكترونية، وفي الواقع هي أكثر براعة منه وأكثر دقة، ولا يكفي أنْ يكون هنالك راوٍ؛ لكي يصبح العمل رواية فنية.
وهذا الخطأ وَقَعَتْ فيه كثير من الروايات التي كُتِبَتْ على عَجَل؛ لتؤرخ لثورات الربيع العربي التي لم تكتمل إلى الآن، فكان أكثرها عبارة عن تسجيل لثرثرة الثوار، أو الحوادث التي وَقَعَتْ لهم وبهم أو عليهم، والتغيرات الفعلية على أرض الواقع، في الحقيقة كان هَمُّ البعض إدراك سوق الثورات لا أكثر، هذا السوق مُرْبح وكبير، حيث حَدَّثني صديقي المترجم البلجيكي بروفسير اجزافيه لوفان، أنَّ كثيرًا من دور النشر الفرنسية المتخصصة في الترجمة من العربية، لا تَقْبَل نَشْر الأعمال المترجَمة هذه الأيام ما لم تكن عن الربيع العربي، وبعض المترجمين الأوروبيين أيضًا يُفَضِّلون أنْ يكون العمل الروائي عن الربيع العربي، والكُتَّاب العرب يَعُون ذلك جيدًا، فهذا هو مزاج القارئ الأوروبي الآن، أو ما يُحِب أنْ يقرأه من أعمال عربية.
لست من الذين يَفْرِضون شكلًا مُعَيَّنًا للرواية، ولا تعريفًا مُحَدَّدًا لها، مع حرية التجريب لأقصى حد، ولكن يظل الحكم هو القارئ المتذوق للعمل الفني، وعلى الكاتب أنْ يختار جنس الكتاب، أنْ يكتب عليه رواية أو شعرًا أو ما شاء، هذا شأنه وله مُطْلَق الحرية في ذلك، والقارئ في ظل سوق الكتاب المفتوح، حيث تتوفر كل الأسماء الصغيرة والكبيرة، وكل العناوين الحديثة والقديمة، سيختار العمل الذي استطاع أنْ يُنَافِس وأنْ يبقى؛ أي العمل المُلْتَزِم بالشروط الفنية التي تَجْعل منه شيئًا ذا قيمة يُدْرِكها القارئ، وهذه الشروط في تَغَيُّر وتحَوُّل دائمَيْن، ولا أظن أنَّ القارئ يجامِل أحدًا.