استثمروا في المستقبل، فإن المستقبل يدوم طويلًا
دعونا نبدأ مباشرة بالسؤال التالي: هل يحق لأي شخص أنْ يَحْظُر، أو يوصي بحَظْر كتاب أو عمل فني، لأسباب أخلاقية أو سياسيَّة أو شخصيَّة أو فنيَّة؟
وهنا لا نتحدث عن إبداء الرأي والنقد مهما كان جارحًا أو شخصيًّا، ولا نتحدث عن لجان القراءة والتقييم بدور النشر، ولا نتحدث عن النشر الخاص والحكومي، فمن حق أي ناشر كان أنْ يستعين بمن يراه من الأشخاص مناسبًا؛ لاستشارتهم في القبول بنشر كتاب مُحَدَّد أو عَدَم نَشْره وفقًا لرؤاه الأيديولوجية — العقائدية — والفنية والربحية أيضًا، لا أظن أنْ يختلف في ذلك خَصْمان.
السؤال الآخر: هل هنالك شخص — مهما بَلَغَ من العلم والمعرفة في فن من الفنون — يستطيع أنْ يُبْدِيَ رأيًا نهائيًّا وقاطعًا في مسألة إبداعية، ويصبح المرجِعَ الوحيدَ والنهائيَّ، بل يُصْدر حُكْمًا نافذًا في الموضوع الفني المحدَّد؟ وذلك دون الرجوع والحوار، ومشاركة الرأي مع صاحب العمل الفني، والآخرين المتخصصين في ذات المجال، وجمهرة القراء والمشاهِدِين، والمستمعين الحاليين والمحتمَلِين للعمل الفني؟
وربما قد أسأل أيضًا سؤالًا غبيًّا آخر: لِمَ يَظُنُّ الذين يَحْظُرون الأعمال الفنية أنه يجب أنْ تبقى تقاريرهم سِرِّيَّة — سرهم في بئر، وهم يجهرون بآرائهم الأخرى علنًا، وفي كل وسائل الاتصال الجماهيرية؟
- (١)
أنني لا أعترف جملة وتفصيلًا بما يُسَمَّى بالمواصفات الفنية والأدبية، ولا أحترم قانونها إطلاقًا، ولا أرى أية ضرورة أو فائدة تُرْجى منه، بالتالي مِنْ حَقِّ الفنان أنْ يَعْمَل في فَنِّه، ومن الحقوق المدنية للآخر إذا رأى أنَّ هذا العمل يسيء إليه أنْ يَرْفع شكوى ضد منتجه، ويقوم بالفصل فيها القانون الجنائي السوداني.
- (٢)
إنَّ مَنْ يُجِيز نَشْر عمل فنيٍّ مِثْلُه مثل من يسمح بحَظْره؛ لأن الحق في الإجازة هو الوجه الآخر للحق في الحظر.
- (٣)
أنني سوف لا أتعامل مع أية مؤسسة ثقافية اجتماعية، أو مؤسسة بها أفراد يصادرون حرية الكتابة والكُتَّاب لأية أسباب كانت، ومن هنا أقدم استقالتي من كل المؤسسات الثقافية داخل السودان التي انتميت إليها، طالما كان بها أفراد يتعاملون مع المصنفات، ويقومون بِدَوْرِ أدواتِ القمع الثقافي والإنساني، مثلهم تمامًا مَنْ يَحْمل آلة الموت في دارفور، وليس كُلُّ مَنْ يَقْتُل يستخدِم مِدفعًا.
- (٤)
أظنني بالشجاعة الكافية التي تجعلني أعتذر لموظفي إدارة المصنفات الفنية والأدبية، حيث ظننت أنهم يقومون بحظر الكتب بأنفسهم دون دراية وخبرة، عرفت الآن أنهم استعانوا ويستعينون بمثقفين وكُتَّاب، كان يُرجى منهم أنهم يؤمنون بحرية التعبير، وحرية النشر، وبالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وبالإنسان، أعتذر لهم كأشخاصٍ موظفين شرفاء، يعملون تحت مظلة قانون ظالم، ولا خيار لديهم، يؤدون وظائفهم كما يأمرهم القانون، ولقد قاموا بأداء عَمَلِهم على أكمل وجه.
- (٥)
«قالت الشجرة للشجرة التي يعمل فيها الحطاب قطعًا: يدُ الفأس منا.»
- (٦)
أنا لا أتحدث عن «الجنقو مسامير الأرض»، فهي ليست سوى واحدة من مئات الأعمال الفنية، التي أحيلَ بينها وبين أنْ تصل للقارئ.
- (٧)
البيان الذي أَصْدَرَهُ اتحاد الكُتَّاب السودانيين في نسخة جريدة الأحداث اليوم الجمعة ١٥ / ٧ لم يكن كافيًا، فلقد نَظَرَ للقضية من جانب واحد، وترك الجانب الأهم، وهو سؤال حرية الكتابة، وربما يُفهَم منه بذلك أنه لا يُجَرِّم الشخص الذي يقوم بالتعاون مع المصنفات الفنية تحت قانونها الحالي أو غيره، وأنه يحمي أعضاءه وغيرهم من المثقفين الذين يتعاونون معها، لا أكثر (هذا ليس مكتوبًا في البيان، وضد لائحة الاتحاد).
- (٨)
ليس بإمكان أحد أنْ يحظر كتابًا في هذا العصر النزق، الذي يخرج على سلطان السلاطين وفرعنة الفراعنة، ولا تستطيع أنْ تَطُولَه أسيافُهم، ويمد لسانه المبرقع إليهم في سخرية تكنولوجية، لا قِبَل لهم بشيطانيتها، أقول لإخواني المثقفين: استثمروا في المستقبل، السُّلطة الزمنية زائلة، وما ترونه اليوم حرامًا وضعيفًا ومبتذلًا، فإنكم قد لا تعرفون كيف يراه الغد.