مانديلا
وَجَّهْت لبعض الأصدقاء النمساويين سؤالًا مباشرًا جدًّا: ما رأيك في المناضل نلسون مانديلا؟
قال: ما فعله كان أشبه بالمعجزة؛ لأنه استطاع في وقت قصير جدًّا إنهاء سلطة مركزية قوية عنصرية عنيفة لها مئات السنوات، وأظن ذلك كان عملًا خارقًا للعادة.
لقد ظلَّ الرجل حيًّا، وفاعلًا في الحياة اليومية بالنسبة للكثيرين من أبناء جيلنا في السودان، حيث وجدناه منذ ميلادنا حبيسًا في السجن، ولكن صوته القوي وحِكَمَه المتفائلة تجوب شوارع وأزقة بلداتنا الصغيرات، وتتسكع في أروقة المدارس، وظلَّ هنالك طوال الوقت وإلى اليوم، وكم تَكَرَّم المعلمون علينا في المدارس بأقواله، مثل: «الحُرية لا يمكن أنْ تُعطى على جرعات، فالمرء إمَّا أنْ يكون حُرًّا أو لا يكون حرًّا»، و«الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلَّا مرة واحدة»، وكم خلطنا بين شخصيته وشخصية عنترة بن شداد العبسي، الذي كان أيضًا محبوبًا في تلك السنوات اليانعات من عمرنا، وكان بطلًا شعبيًّا وأحد مُثُلِنا العليا، وألعاب الصبا وحكايات الجدات الطاعنات، في الحقيقة كان الشارع السوداني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يَعِجُّ ويَضِجُّ بالأسماء الإفريقية الكبيرة، زعماء تحرير، أبطال وطنيون وقوميون ومغنون، من الرعيل الأول والثاني، مثل جمال عبد الناصر، سياد بري، منقستو هيلا مريام، هيلا سلاسي، تفري بانتي، جُومو كنياتا، مريم ماكبا، المغنيتان الصوماليتان مريم وزهرة، ديزموند توتو، كوامي نكروما، سيمورا ميشيل، جوشوان كومو، أم كلثوم، أحمد بن بيلا، أحمد سيكتوري، عبد الرشيد شيرماكي، جومو كنياتا، والرهيب أيدي أمين، ولكن صورة مانديلا كانت الطاغية على الجميع، وكانت حِكَمُه وحكايات نضاله، ومقاومته وأقواله تتسرب من الزنازين والسجون المظلمة، من ريفونيا إلى جزيرة روبن، إلى سجن بولسمور، إلى سجن فيكتور فيرستر، وتنتقل عبر الصحافة، خلال زملائه المناضلين بحزب المؤتمر في أنشطتهم عبْر العالَم، ومُغني الروك، الشعر الثوري، السنما المتجولة، الإذاعات العالمية، والاحتجاجات الشعبية في كثير من دول العالم الحُر، مذكرات الإنسانيين الناشطين في مجالات حقوق الإنسان، وتضيف إليها المخيلةُ الشعبيةُ الإفريقية وَسَعَهَا، ومن ثَمَّ تتشكل صورة البطل، بل الأسطورة الحية، صورة الرجل الذي قَهَر السجن والسجان والعنصرية البغيضة، وظلَّ بسيطًا وعاديًّا، وعلى حسب قوله: «مجرد رجل».
ماذا تَعَلَّمْنا من نلسون مانديلا؟ ماذا تَعَلَّم الحكام الوطنيون في كثير من دول إفريقيا من سيرة حياة مانديلا؟ ماذا تَعَلَّمَتْ منه شعوب العالم؟ ماذا لم نتعلم منه؟ وتظل هذه الأسئلة ومثيلاتها تحوم في فراغِ فَشَل المشروعات الوطنية والقومية للشعوب، وخاصة الإفريقية والعربية، وهي ذاتها التي تُؤَسَّس، — إمَّا لمحن قادمة كما في السودان وبعض دول الربيع العربي، ما عدا مصر — في حركة رجعية نحو التفكيك، وٍإمَّا أنْ تُستَلْهَم من أجل نهضة الشعوب، فاليوم تصبح سيرة مانديلا بُعبعًا مرعِبًا، وكابوسًا يقلق مضاجع كثير من الحكومات الوطنية التي تخاف من شعوبها النزعة للحرية، أنْ تسلك طرائقه في النضال الدءوب المتفائل الذي حتمًا ينتهي بالنصر: «ولم يَدُرْ في خَلَدِي قَطُّ أنني لن أخرج من السجن يومًا من الأيام، وكنت أعلم أنه سيجيء اليوم الذي أسير فيه رجلًا حُرًّا تحت أشعة الشمسِ والعشبُ تحت قدمي، فإنني أصلًا إنسان متفائل، وجزء من هذا التفاؤل أنْ يُبقِي الإنسان جزءًا من رأسه في اتجاه الشمس، وأنْ يحرِّك قدميه إلى الأمام، وكانت هناك لحظات عديدة مظلمة اخْتَبَرْت فيها ثقتي بالإنسان بقوة، ولكنني لم أترك نفسي لليأس أبدًا، فقد كان ذلك يعني الهزيمةَ والموت.»