المثقفون السودانيون والمصنفات الأدبية والفنية
الجدل الدائر في الأوساط الأدبية في السودان في هذه الأيام نتيجة لرفض لجنة النصوص إجازة أعمال قصائد لشعراء سودانيين كبار، لهم تجارب في الكتابة ثرة وطويلة، أثار أشجان قضايا الحريات، وأَوْضح أن المثقفين ما استفادوا من إشكالات سابقة، وأنهم يُلدَغون من ذات الجُحر مرارًا وتكرارًا، في الحقيقة إنهم يَلْدَغون بعضهم البعض.
في نظرة سريعة لملف الكتب المحظورة في السودان، الذي بدأ فعليًّا بالعام ٢٠٠٥، نجد أنَّ القائمة شملت عناوين في مجالات مختلفة، منها الثقافي والسياسي والاقتصادي، وهي قائمة يصعب الإحاطة بها.
توالت قائمة المُصَادَرَات لتشمل الكتاب السياسي «الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء، خيوط الظلام» للكاتب المحبوب عبد السلام، ولم تَسْلَم حتى الكتب العلمية، فقد صادرَتْ السلطات كتاب «مشروع الجزيرة وجريمة قانون سنة ٢٠٠٥» للكاتب الصديق عبد الهادي أبو عشرة.
في العام ٢٠١١ حَظَرَتْ السلطات ١٧ كتابًا لدار عزة السودانية، كان يُفْتَرض أن تكون ضمن معرض الخرطوم الدولي للكتاب، منها «مراجعات إسلامية» للدكتور حيدر إبراهيم، وتم حظر كتب الأستاذ محمود محمد طه، بجانب عنوانين أجنبيين، وكل كتب الشيعة.
في ضوء تجربتي الحزينة مع المصنفات الأدبية والفنية، يمكن تلمس الطرائق الغريبة التي يَتِمُّ بها الحظر، قامت وزارة الثقافة متمثلة في الخرطوم عاصمة للثقافة العربية بطبع ونشر مجموعتي القصصية الموسومة ﺑ «على هامش الأرصفة»، ثم قامت ذات وزراة الثقافة بعد أيام قلائل مِنْ نَشْر المجموعة بمصادرتها وجَمْعِها وإخفائها إلى يومنا هذا، على الرغم من أنَّ اللجنة التي أُنْشِئَتْ للفصل بالأمر برئاسة المرحوم الأستاذ عون الشريف قاسم، كان لها رأيٌ إيجابيٌّ من خلال التقرير الذي كتبه المرحوم، حيث إنه أَكَّد جودة العمل الأدبي المُقَدَّم إليها، ولكن في حوار شفاهي لي مع وزير الثقافة في ذلك الزمان، أكد لي أن سبب مصادرة مجموعتي القصصية هو «لغتها الخادشة للحياء العام»، وعندما ذكَّرته بقصيدة له شهيرة تخدش الحياءَيْن: العامَّ والخاصَّ معًا، تَبَيَّن له وللحاضرين أنَّ سبب المصادرة كان شيئًا آخر لا علاقة له باللغة أو الأدب.
والموقف الآخر هو مصادرة رواية الجنقو مسامير الأرض في ٢٠١٠، بعد أنْ نالت جائزة الطيب صالح من مركز عبد الكريم مرغني، وظَلَّت إدارة المصنفات تماطل في الأسباب الداعية لحجبها من التوزيع بعد أن تمت طباعتها في مصر، إلى أن فتح الله عليهم بخطاب إشكالي يحدد أنَّ سبب المنع هو مخالفة «الرواية» — وليس الكاتب — للمادة ١٥ من قانون المصنفات الأدبية والفنية، ثم عندما عُرِضَت القضية في المحاكم، وأَظْهَرَتْ مجريات الأمور أن ذلك ليس سببًا دستوريًّا أو منطقيًّا، أَفْرَجَت المصنفات عن اللائحة السرية للمحكمين الذين أَوْلَتْ إليهم أَمْر البت في مصير رواية الجنقو وأعمال أدبية أخرى لكُتَّاب وكاتبات سودانيات، منهم نصَّان للقاصة والصحفية أزاهر كمال عليها الرحمة، كان الأمر أقل ما يُقال عنه: إنه أكبر فضيحة ثقافية في تاريخ السودان، ولو أنَّ القائمة كان بها بعض الأبرياء الذين وَرَدَتْ أسماؤهم نتيجة لالتباسات غير مبررة، لكن الموضوع كان مفجعًا وأصاب الساحة الثقافية في مقتل، وأيقظ السؤال القديم الجديد: جدلية المثقف والسُّلْطة.
ثم شكَّل الأمر شبه إجماع ثقافي بأن قانون المصنفات المذكور قانون لا أهمية له، وأنَّ الأصل هو حرية الكتابة والنشر والتعبير، وأن القانون الجنائي السوداني يكفي بأن يتولى الفصل في القضايا التي تنجم عن سوء استخدام المبدعين للحرية المُعطاة لهم؛ أي في حالة أنْ يبدو أنَّ العمل الفني قد أساء إلى شخص ما — حقيقي أم اعتباري — ويستعين المُعتدى عليه بسلطة القانون للفصل في القضية، التي فيها المُتهم بريء ما لم تثبت إدانته، ولا يتم ذلك بأسلوب محاكم التفتيش وتَخَيُّل الإساءات، كما هو الحال.
والقضية المُثارة اليوم في الأوساط الأدبية فيما يَخُصُّ رَفْض لجنة النصوص إجازة أعمال شعرية لشعراء سودانيين كبار، هي تجربة، ويبدو أنَّ المثقفين السودانيين سوف لا يستفيدون منها كثيرًا، وستمر كما مَرَّتْ سابِقتُها دون دروس مستفادة، ولكن الغريب في هذه المرة هو أنَّ أحد الذين رَفَضَت اللجنة إجازة أعمالهم الفنية، كان في يوم ما هو رئيس لجنة المصنفات الفنية والأدبية، وهو نفسه قام برفض أعمال كثيرة وأْدًا بيديه، والآن يُسقى من ذات الكأس بمرارة تأباها نفسه كثيرًا، ونراه يَحْتَجُّ الآن، ليس ضد القانون ولا ضد مُصَادَرة الحريات، ولكنه يتحدث عن صياغة اللجان وتشكيلها؛ أي أنه قد يؤسس لمصادرةِ وَكَبْتِ الحريات بصورة تَضْمَن مرور أعماله هو في الأساس، ولا يَهُمُّ الآخرون! والأحرى به أنْ ينتبه إلى أنَّ موضوع الحريات لا يتجزأ، وأنه يجب استئصال الآلة من أصلها بدلًا من ترميمها وطلاء وجهها العابس القبيح بألوان ضاحكة، فقد أصْبَحَت المصنفات مثل آلة العقاب في قصة فرانز كافكا، التي تأكل الجلادين أنفسهم، هل يحتاج المثقَّف لهذا النوع من التناقض لكي يعيش، بأن يُصْبح وفقًا لموقعه كمبدع داعية للحريات، وأنْ يكون هو ذات الآلة التي تقتلع حريات الآخرين؟ أليس ذلك نوع من الشزوفرينا؟