عندما غنت فيروز لأمي
عندما أطلق أنبياء الإشعاعات الكاذبة خبر وفاة المغنية فيروز، قَفَزَت جملة واحدة في ذهني، كانت تكمن هنالك عشرات السنين، وهي: «وجهان يبكيان» وكتبتها في صفحتي على الفيسبوك في انتظار من ينفي لي الخبر، نَعَمْ، أن ينفيه وحسب.
قد لا أدري متى هي المرة الأولى التي سَمِعْتُ فيها غناء فيروز، ولكنني أتذكر كل شيء ما عدا التأريخ، كان الراديو الترانزستور الكبير كعادته يقبع في صندوق عجوز من الخشب المُوسْك قرب كرسي الخيزران الكبير الذي يجلس عليه أبي منذ العصر حتى بعد أذان العشاء، بعد أنْ يمر على محطات كثيرة، يتوقف عند محطات إذاعية بعينها، أهمها صوت العرب من القاهرة، وفي هذه المحطة بالذات سَمِعْتُ لأول مرة — وأنا طفلٌ صغيرٌ لم أدخل المدرسة الابتدائية بعد — فيروز تغني:
لم أعرف حينها معنى «وجهان» ولا «يبكيان»، حيث إن الكلمتين غريبتان عن أذني، ولم أسمعهما من قبل، وكانت الكلمة الثانية أقرب لي، حيث إنني سمعت كلمة قريبة منها وهي يبكي، وبكى، وبكاء أيضًا، ولكن «وجهان» لم أسمع بها مطلقًا، حيث إننا في العامية السودانية نستخدم كلمة «وش» لوجه، وليس بالعامية السودانية مُثَنى، إما جمع أو مفرد، وبالتالي «يبكيان» تصبح كلمة غريبة عندي ومبهمة جدًّا، أما «وجهان» فأغرب منها، ولكني على الرغم من ذلك انجذبت للأغنية وأحببتها جدًّا لسببين آخرين قويين، وهما جملة «وأمه مريم»، حيث كُنْتُ أظن أنَّ المغنية تقصد أمي مريم بالذات، بل كنت موقنًا بذلك، أمَّا الطفل فهو أنا، أمَّا المغارة فهي الغار الذي تحكي عنه كثيرًا المُعَلِّمة بالروضة، الذي اختفى فيه الرسول ﷺ من كفار قريش، وباضت عند عتبته الحمامة، وبَنَت العنكبوت بيتها في مدخله، كنت أعرفه جيدًا، والدليل على أنَّ الأغنية كانت لأمي مريم، أنها كانت تترنم بها متابعة السلالم الموسيقية الغريبة للصوت الفيروزي المدهش، في متعة أُحِسُّها إلى اليوم، وهي مشغولة بعمل إحدى الأغراض المنزلية، يعني أنَّ الأمر كان عاديًّا جدًّا، فلا غَرْو والأغنية هي أغنيتها، وابنها الذي هو أنا.
أمَّا الشيء الآخر الذي جذبني للأغنية فهو صوت المغنية، ما كان يهمني من أية طبقة صوتية هو، ولا من هي المغنية، ولا أية معلومة علمية أخرى أو فنية، ولكن ما همني وأعجبني وأمتعني — وأنا في ذلك العمر المبكر — هو أنَّ الصوت كان يبدأ منسابًا ورقيقًا مثل صليل الماء، أو هديل حمامات جارتنا حواء، ثم فجأة وبعد طرقات من الموسيقى حادة وفجائية، يحتد الصوت ويصبح صادمًا وعنيفًا، مثل قرع الطبول أو هذيم الرعود، ثم يعود مرة أخرى ناعمًا رقيقًا وحلوًا، وكنت أحبه كذلك، وكنت كلما أُذِيعَت الأغنية بعد ذلك في راديو أبي أترك اللعب وأجلس في أدب، كما تجلس أمي للصلاة، إلى أن تُرَدِّد فيروز المقطع الذي يخصني وأمي مريم، وأصبحت أميز صوتها من صوت أية مغنية أخرى في صوت العرب من القاهرة، أو المحطات الكثيرة التي كان يتجول عليها مؤشر راديو والدي عليه رحمة الله.
ولكن هنالك شيء آخر ارْتَبَطَ عندي بفيروز، وهو كلمة القُدس، وقد سألت عنها أمي، فقالت لي: إنها تعني «بيت المقدس»، ولم أفهم شيئًا، أضافت أنه المكان الذي حجا إليه جدي حاج قُدُس، عندما تطوع في الجيش العربي في عام ١٩٤٨، ونادى منادي الجهاد، وغنَّت النساء والبُنَيَّات أغنية: فلسطين تناديكم يا رجال العرب، تسلم أياديكم، وغنتها لي، وعندما عاد جدي بعد أنْ حَرَّر فلسطين من أيدي الكفار الذين ما كنت أعرف مَنْ هم، ولكنهم — بلا شك — كانوا يُشْبِهون لي كفار قريش الذين سمعت عنهم كثيرًا، سُمِّي بحاج قُدُس، وكان اسمه في الماضي إبراهيم عندلة، وهذا بالطبع أكَّد لي أكثر أن فيروز تغني لي ولأمي مريم، طالما حَرَّرَ جدي القدس.
وظلت فيروز مغنيتي المفضلة وأنا أَكْبَر يومًا بيوم، وأَتَدَرَّج في مراحل التعليم، ساقني إليها مرة أخرى الشاعر جبران خليل جبران، عبر سكن الليل، والمواكب، وكنت قد قرأت جبران وأنا في المدرسة الابتدائية، اشتريت كتبه من مكتبة القرية الصغيرة، بعد أن تَعَرَّفْت عليه من خلال مجلة الدوحة القطرية، والعربي الكويتية، ومجلة المجلة — أطال الله عمرها.