حوار مع وداد الحاج
– تُلَقَّبون في الأوساط الثقافية بالزبون الدائم لمقص الرقيب كيف تم بناء هذه العلاقة الملتبسة مع الرقابة؟
– الرقيب، ذلك الوحش الوفي والقارئ المواظب لأعمالي، ناقدي المَهْوُوس المنحاز دائمًا ضد كتاباتي، المصاب بجنون العظمة وعقدة النقص في ذات اللحظة، الذي لا يؤمن إلَّا بأفكاره الخاصة عن الدين والأدب، وهو لَمْ يَسْمَع بهما بعد، والذي لديه مَقْدِرة خارقة على وزن الأدب بميزان الدين والأخلاق وقانون النظام العام و«المشروع الحضاري» للسلطة، وكل شيء آخر ما عدا ذائقة الفن.
هذه العلاقة الملتبسة سببها سوء فهم لا أكثر، حيث يظن البعض أنَّ في كتابتي ما يسيء لمشروعاتهم الأيدلوجية، ويخترق خطاباتهم المستقرة، بالطبع لا أقصد ذلك، كل ما أفعله هو أنني أنحاز لمشروعي الإنساني؛ أي أكتب عن طبقتي: أحلامها، آلامها، طموحاتها المذبوحة، وسكينتها أيضًا التي تَذْبَح هي بها الآخر، وحتى لا يَلْتَبِس الأمر مرة أخرى، أقصد بطبقتي المنْسِيِّين في المكان والزمان، الفقراء، المرضى، الشحاذين، صانعات الخمور البلدية، الداعرات، المثليين، المجانين، العسكر المساقين إلى مذابح المعارك للدفاع عن سلطة لا يعرفون عنها خيرًا، المتشردين، أولاد وبنات الحرام، الجنقو العمال الموسميين، الكُتَّاب الفقراء، الطلبة المشاكسين، الأنبياء الكذبة، وقِسْ على ذلك من الخيِّرين والخيِّرات من أبناء وطني، إذن أنا كاتب حسن النية وأخلاقي، بل داعية للسلم والحرية، ولكن الرقيب لا يقرأني إلَّا بعكس ذلك.
عندما صُودِرَت مجموعتي القصصية الأولى: على هامش الأرصفة، كانت قد صَادَرَتْها نفس الجهة التي قامت بطباعتها، وهي وزارة الثقافة في إطار فعالية الخرطوم عاصمة للثقافة العربية! حيث ظنَّ بعض السلطويين أنني أُحَاكِم مشروع العاصمة الثقافية العربية من داخله، وكان ذلك في ٢٠٠٥، ثم حَدَثَتْ معاكَسات هنا وهنالك، ولم يَتِمَّ إعطائي إطلاقًا طوال العقدين من الكتابة المتواصلة «رقم قيد» خاصًّا بالسودان لأي من كتبي، ثم جاءت الطامة الكبرى عندما صادروا روايتي: الجنقو مسامير الأرض، مُدَّعِين أنها تتحدث عن المسكوت عنه، وأنَّ بها ما يخدش الحياء العام، وأنها تخالف قانون المصنفات الأدبية والفنية في المادة ١٥ منه، وقُمْتُ بتقديم شكوى ضد وزارة الثقافة، وهي الأولى من نوعها في السودان، والقضية الآن تنظر في المحاكم.
– مباشرة بعد حصولك على جائزة الطيب صالح للرواية، قُلْتَ إنك تَشْعُر وكأنك مصاب بالغثيان، هل تشعر بعدم جدوى مثل هذا النوع من التكريمات؟
– وما زلت أُحِسُّ به، أشعر بأنني سَعَيْتُ إليها مدفوعًا، حيث إنها تمثل البديل الوحيد لتوصيل الكتاب إلى القارئ، والناقد الجاد في بلد لا توجد فيه مؤسسة ثقافية فعلية رسميَّة واحدة، ومكبل فيه العمل الثقافي بقوانين عفا عنها الزمن، وهي أقرب لقوانين محاكم التفتيش في القرون الغابرة، لقد كُنْتُ وصوليًّا وحقيرًا وأنا أستلم تلك الجائزة وغيرها من الجوائز، حقيقة لم أُحِسَّ بنَيْلي للجائزة أنني أَنْجَزْتُ بذلك شيئًا ذا بال، بل فَضَحْتُ نفسي أكثر، بالطبع، مع كامل احترامي لجائزة الطيب صالح ومركز عبد الكريم مرغني الذي يعمل في صمت وظروف صعبة من أجل الثقافة والإنسان.
– أثارت ثلاثيتك — البلاد الكبير — مِنْ حَوْلِها الكثير من الزوابع التي لم تهدأ بَعْدُ لِحَدِّ الساعة، وقيل: إنها تعرضت للحجز والمنع من التوزيع، هل يعني ذلك أنك أمعنْتَ في القفز على الحواجز وتعدي الخطوط الحمراء؟
– المشكلة في المنفستو الخاص الذي أَتَبَنَّاه، ولم أَحِدْ عنه حتى الآن، لمَن أكتب ولِمَ أكتب، وكيف أكتب؟
– بُعَيْدَ خروجك من مغامرة الثلاثية الأولى، خُضْتَ غِمَار عَمَل آخر، اخترْتَ له اسم «الجنقو مسامير الأرض»، ويبدو أنَّ شبح الرقيب لا زال وَفِيًّا لتَعَامُلِهِ السابق معك رَغْمَ كونها حَظِيَتْ بجائزة مسابقة الطيب صالح.
– رواية الجنقو مسامير الأرض لم تَشْفَع عنها جائزة الطيب صالح، ولا المُحَكَّمِين، ولا القرَّاء، وسوف تظل مصحوبة بلعنات السلطات السودانية إلى أنْ يَمُنَّ لنا الله والشعب بثورة ديمقراطية في زَمَنٍ ما، وتقام المؤسسات الثقافية التي ترعى الحريات، ويأتي وزراء الثقافة الذين يُفَرِّقُون ما بين الأدب والأجندات الحزبية.
محنة الجنقو لا تنفصل عن محنة الشعب السوداني كله.
وتظل الكتابة عندي طَقْس حُرٌّ لا يَعْتَرِف بقيد، ولا سلطة، ولا مصنفات أدبية، ولا قانون نظام عام، الكتابة هي التي تخلق قانونها وأخلاقها ودياناتها السرية، ومشهدها القومي وقارئها أيضًا.
– كيف تَصِفُ لنا تضاريس راهِنِ المشهد الثقافي السوداني؟
– المشهد الثقافي السوداني اليوم ضعيف على مستوى المؤسسات والاهتمام الرسمي، حيث لا توجد مجلات أدبية أو جرائد متخصصة في الثقافة، لا توجد دور عرض قومية أو اهتمام مؤسسي سوى بعض المسابقات هنا وهنالك ما بين وقت وآخر، حسب أمزجة أولي الأمر الذين تنام الثقافة في ذيل مَرَاقِد أولوياتهم، والحق يقال: ليست الثقافة وَحْدَها تبقى هنالك في الذيل، ولكن الصحة والتعليم والخدمة الاجتماعية، ولكن يظل المشهد الثقافي واعدًا بمجهودات المثقفين والكُتَّاب الشخصية والذاتية، يراهن على الأجيال الجديدة في مجالات الإبداع الشتى، التي قامت على أكتاف أسماء كبيرة سبقتها، مثل: بشرى الفاضل، وتابان لولي ينج، السر آناي، إبراهيم إسحق، عيسى الحلو، مبارك الصادق، بثينة خضر مكي، زينب بليل، الطيب صالح، محمود محمد مدني، علي المك، محمد المهدي بشري، عالم عباس، النور عثمان أبكر، الفيتوري، كمال الجزولي، صلاح أحمد إبراهيم، عبد القدوس الختم، نبيل غالي، علي مؤمن، مجذوب عيدروس، محمد المهدي المجذوب، عبد الله شابو، وغيرهم، ويكفي اليوم أن نستعرض بعض الأسماء لتضح صورة المشهد الآن، في مجال الرواية نجد: منصور الصويم، أمير تاج السر، إبراهيم سلوم، حمد الملك، أبكر آدم إسماعيل، محسن خالد، طارق الطيب، جمال محجوب، عباس عبود، محمد جميل، الحسن البكري، محمد الطيب، هشام آدم ومحمد خير وغيرهم.
وفي مجال القصة القصيرة هنالك أحمد أبو حازم، أحمد عوض، استلا قايتانو، رانية مأمون، سارة الجاك، رامية رحمة، جمال طه غلاب، عصام أبو القاسم، فايز حسن العوض، عادل القصاص، يحيى فضل الله، كلتوم فضل الله، م.م.م. عثمان، الهادي راضي، وغيرهم.
وفي الشعر: نجد من أسماء هذا الجيل نجلاء عثمان التوم، الصادق الرضي، بابكر الوسيلة، عاطف خيري، عصام عيسى رجب، محمد الصادق، نصار الحاج، محمد مدني، رانية محجوب، محفوظ بشري، مأمون التلب، قرنق توماس، مارول مارول، أحمد النشادر، إشراقة مصطفى، خالد حسن، إيمان آدم وآخرين.
وفي النقد: يمكن أنْ نذكر بعض الأسماء الجادة، مثل هاشم مرغني، صلاح عوض الله، إبراهيم عابدين، أحمد الصادق، معاوية البلال، محمد الربيع محمد صالح، محمد جيلاني، وفاء طه، لمياء شمت.
معترفًا بانحيازي لجيل التسعينيات، الذين استفادوا من تجارب مَنْ سبقوهم، وبنَوْا على ما تَحَصَّلُوا عليه مِنْ تَوَاصُل إنساني ومعلوماتي في عصر ثورة الاتصالات وخاصة الإنترنت، واحتَكُّوا جيدًا بكُتَّابٍ مِنْ جيلهم وأجيال سَبَقَتْهُم في الوطن العربي وخارجه، وساعد المهجر أيضًا في أن تُرْفَد الرواية بكُتَّاب شباب لهم ثقافة هجين، بالتالي اتَّسَمَتْ كتاباتهم بما هو مهجري وسوداني، بما هو عالَمِيٌّ ومحلي، وبما هو شخصي وعامٌّ.
– هواجس الكتابة لدى الكاتب السوداني عمومًا ولدى بركة ساكن على وجه الخصوص.
– يتباين الكُتَّاب السودانيون في تلك كثيرًا، حسب مدارسهم الفنية والأدبية، ومنطلقاتهم الأيدلوجية ورؤيتهم للأدب، فالبعض يرى أنَّ الكتابة يجب ألَّا تتناول قضايا الواقع السوداني، مثل الحروب التي استمرَّتْ منذ استقلال السودان إلى اليوم، الصراع المر في دارفور، الحريات الشخصية، قضايا الهوية، بل يجب عليها أنْ تُحَلِّق عاليًا في مجاهل اللغة الجميلة الشاعرية، وعوالم الحب ودواخل الإنسان، وهم كثرة، ولهم الحق في ذلك.
والبعض يرى غير ذلك — وأنا واحد من ذلك البعض — وهم قلة، حيث إن مشروعي هو الإنسان في كل حالاته: في فَرَحِه وأحزانه، في تَقْوَاه وضلالاته، في جنونه ووعْيه، وبالتالي أهتم بقضايا المجتمع، أتعامل مع الواقع مُطَوِّعًا كل أعمالي وخبراتي الكتابية لذلك، فهاجسي الآن هو حرب دارفور ومعاناة التشريد والموت والفقر والجهل التي يعيشها الناس هنالك، كلما رأيت جندًا يتوجهون لدارفور، كلما أرسل الصينيون طائرات وناقلات عسكرية للسلطة، كلما رأيت قاطرات تحمل دبابات ومدافع لدارفور، كلما شممت رائحة بندقية، كلما رأيت مسئولًا يُكَبِّر ممجدًا الحرب، كلما احتفل حربيون بانتصاراتهم، بكى قلبي، وانجرحت أحبار الكتابة، وانحاز قلمي للواقع.
– مدى اطلاعكم على التجارب الإبداعية في الجزائر؟
– جزء مما تتلمذنا عليه كان من تلك الكتابات الجميلة لجزائريين، ويعجبني بصورة خاصة رشيد بوجدرة، وقرأته منذ وقت بعيد، وظللت أقرأه إلى اليوم، بالتأكيد قرأنا الطاهر وطار، وواسيني الأعرج الذي أُعْجِبْتُ بعالمه الجميل ولغته المدهشة، قرأنا لكثيرين آخرين عبر الشاشة العنكبوتية وموقع «المحلاج» للغرباوي، ولدي صداقات مع بعض المبدعين الجزائريين، مثل سهيلة بورزق صاحبة موقع «فوبيا»، ولقد نُشِرَتْ لي ضِمْنُ كُتَّاب سودانيين آخرين ثَلَاثُ قصص في ببلوغرافيا القصة السودانية بعنوان «غابة صغيرة»، وكانت قد صَدَرَتْ ضمن فعاليات الجزائر عاصمة للثقافة العربية، أعدها الشاعر نصار الحاج.