الفصل الأول
المنظر الأول
«مقصورة من مقاصير البديع (قصر المعتمد بن عباد) في إشبيلية وإلى
يمينها مصلى وفي مؤخرها ستار كبير يحتجب، وقد وقف على بابها جوهر حاجب ابن عباد، ولؤلؤ
ساقيه، ومقلاص مضحكه.»
جوهر
(إلى لؤلؤ)
:
كيف وجدت وجه الملك اليوم يا لؤلؤ؟
لؤلؤ
:
كسنته، يفيض من البشاشةِ والبشر.
جوهر
:
بل أنت واهم يا لؤلؤ! إن وجه الملك تغير في هذه الأيام وبدا
عليه التغضن وأثرت فيه الهموم أثرها الظاهر المبين.
مقلاص
:
كان اللهُ عونَ الملك، إنه ليحمل من هموم المُلك وأكدار السياسة
ما تنوء به الجبال، لعن الله السياسة وقبح الولاية، ولا جعل لي من أشغالها
نصيبًا.
جوهر
(يضرب بيده على حدبة مقلاص)
:
وأيّ نصيب كنت تؤمل من أمور الدولة يا مقلاص حتى سألت الله أن
يحرمك منه؟
مقلاص
(ملتفتًا)
:
دعني من هذيانك يا جوهر وانظر: هذه الأميرةَ أقبلتْ كأنها
البدرُ في الليلة الظلماء، أو كأنها الظبي يتخطر على الحصباء.
(تدخل الأميرة بثينة)
بثينة
:
يا بشراي ما هذا الحظ العظيم، أصدقائي الثلاثة هاهنا، يجمعهم
باب الملك! جوهر حاجب المَلك، ولؤلؤ ساقي الملك، ومقلاص.
مقلاص
(مقاطعًا)
:
مقلاص المهرجُ الساقطُ والمضحكُ الوضيع.
الأميرة بثينة
:
لا تقل هذا يا مقلاص، ولكن قل نديم الملك وصديقُ بنته بثينة.
مقلاص
:
أنا مقلاص المهرجُ صديقك أنت يا أميرة إشبيلية، بل يا ملكة
الأندلس، بل يا شريكة الشمس في عرش الوجود؟!
الأميرة
:
أعرفت الآن مكانك؟
مقلاص
:
عرفته يا سيدتي وإني به لمزهوٌّ فخور.
الأميرة
:
إذن فاعلم أن هذا الحاجب جوهر قد يأذن على الملك لرجال يكره
لقاءهم ويغمه رؤيتهم وسماعهم.
مقلاص
:
أما أنا يا سيدتي فما وقفتُ على باب الملك مرة إلا حَجَبْتُ عنه
الفكر والغمّ.
الأميرة
:
وهذا الساقي يا مقلاص.
مقلاص
:
هذا الساقي يا مولاتي يقبض كل يوم من دماغ الملك شعاعًا، ولولا
أن دماغه الشريف كالشمس التي لا تنفد أشعتها لكان اليوم جمجمة لا عقل فيها
كأكثر هذه الرءوس التي نراها في الطرقات.
الأميرة
:
وأما أنت يا مقلاص فتسقي الملك كلَّ ساعةٍ من رحيق مَزْحك
ودُعابتك ما يملؤه غبطةً وعافية وسرورًا.
جوهر
(مقاطعًا — متداخلًا)
:
لقد استأثرت يا نديم الملك ويا صديق الأميرة.
مقلاص
(مغضبًا)
:
بالرغم من أنفك!
جوهر
:
لقد استأثرت يا مقلاصُ بحديث الأميرة فتنحَّ ساعة واترك لنا
فضلة من الشهد.
جوهر
(للأميرة)
:
مولاتي، سيدتي، بثينة، أية وحشة خلفتِ في القصر يا
مولاتي.
الأميرة
:
أَوَأبدًا تبالغ؟
جوهر
:
كلا يا مولاتي، هي كلمةٌ طافت بالقصر منذ افتقدناك هذا الدهر
الطويل.
الأميرة
:
أتعدُّ الثلاثة الأيام دهرًا يا جوهر؟ ألم أقل لك إنك تبالغ
كثيرًا، لِمَ لَمْ تسألني يا جوهر أين كنت؟
جوهر
:
أعلم أنك كنت في قرطبة يا مولاتي.
الأميرة
(وتبتسم ابتسامة سخر)
:
أجل كنتُ في ملكنا الجديد يا جوهر.
جوهر
:
وكيف وجدته؟
الأميرة
:
العنوانُ قبة، والكتاب حَبة.
جوهر
:
أرجو ألا يكون غرامُ الأميرة بإشبيلية وطنها الغالي ومهدها
الغالي، قد أنساها ذِكر الفضل لقرْطبة دارة الملك الأولى ومهد الفتح والعمران و
…
الأميرة
:
أجل، وسماء الرعود والعواصف، ووكر الفتن والقلاقل. آه من قرطبة
وفجاءاتها يا جوهر، وويلي على أخي الظَّافر من هذه الولاية الحمراءِ التي لم
يقلدها أميرٌ إلا قتل أو عزل؛ عرشٌ يضطرب تحت كلِّ جالس، وتاجٌ لا يستقر على
رأس كلِّ لابس.
مقلاص
:
مَوْلاتي!
الأميرة
:
مقلاص، إشبيلية وأبي وأنت، كانت ذكراكم ملء خاطري في قرطبة، هل
من دُعابةٍ جديدة يا مقلاص تُنسيني ما لقيت من الغم والكدر على تلك العاصمة
الثانية لملكنا السعيد؟
مقلاص
:
لا تقولي هذا يا مولاتي فيغضبَ القرطبيون؛ إنهم لا يقدِّمون على
مدينتهم حاضرة من حواضر الدنيا ولو كانت دمشق أو بغداد، فكيف يرضون أن تكون
الثانية لإشبيلية، وما مدينتنا في زعمهم إلا بلدُ الخلاعِة والمجون.
الأميرة
(ضاحكة)
:
وأين قرطبة منا الآن، وأين القرطبيون يا مقلاص، وبيننا وبينهم
سَفرٌ شاق طويل؟ ترى من علمك كل هذا الحرص، ومن أين لك كل هذا الدهاء؟
مقلاص
:
هي الأيَّامُ يا أميرتي، هي الأيام. وهذا السيف ماذا كنتِ
تصنعين به يا مولاتي؟
الأميرة
:
كنتُ أتقي به عوادي الفجاءات.
مقلاص
:
وهذا اللثام؟
الأميرة
:
كنت أذود به عني العيونَ والظنونَ في بلد ضيق الصدر مبلد العقل،
شتان بينه وبين إشبيلية ذات العقل الواسع والصدر الرحيب.
الأميرة
(لجوهر)
:
لقد نسيتُ يا جوهر ذكر واجب كان عليَّ أن أقدمه قبل كل
شيء.
جوهر
:
وما ذاك يا سيِّدتي؟
الأميرة
:
السؤالُ عن الملك.
جوهر
:
هو يا مولاتي بخير، أبدًا يسأل عنك.
الأميرة
:
وأين هو الآن؟
جوهر
:
هو في الصلاة يا سيدتي.
الأميرة
(تطرق في تأثر ثم تقول)
:
يا ويحَ أبي! لقد نظرت إليه وهو في قصر السوسان الضيق الصغير
بقرطبة، فوجدته كئيبًا متململًا كأن تلك السقوفَ المنخفضة لم تكن تليق برأسه
العالي، وكأنَّ تلك الحجرات الضيقة لم تصنع لعينه السامية الطماحة، وكأنما كان
يرى الزهراء أولى بأن تقله، وأجدر بأن تظله. وهناك دنوتُ حتى صرتُ خلفه بحيث
أسمعه ولا يراني، فسمعته يقول وكانَ وحده في الحجرة مطلًّا من نافذة يلقي نظره
على قرطبة.
جوهر
(باهتمام)
:
وماذا كان يقول يا مولاتي؟
الأميرة
:
كان يقول: قرطبة … مُلك جديد أضيف إلى ملك إشبيلية، ما أصغر
المضاف والمضاف إليه. انظر ابن عباد إلى العرش كيف صغر، وإلى الصولجان كيف
قصُر، وإلى الملك كيف اختصر، وتأمل مكان الحكم في قرطبة كيف سد اليوم بالمعتمد،
ومجلس الناصر كيف شغل بابن عباد.
جوهر
:
نحن بانتظار القاضي ابن أدهم يا مولاتي.
مقلاص
(متداخلًا)
:
لعله هذه الكرنبة التي تتدحرج من بعيد منحدرة إلينا.
الأميرة
(مستضحكة لجوهر)
:
استقبل أنت يا جوهر القاضي وأدخله على أبي، فإن قضاة الأندلس لا
يستأذن لهم على ملوكه.
(ثم لمقلاص)
وأنت يا مقلاص، أعرفت أني وجدته؟
مقلاص
:
وما ذاك يا مولاتي ومن هو؟
الأميرة
:
أنسيت يا مقلاص حين تقول لأبي بمسمع مني، إن الزوج الكفء لبثينة
لم يخلق بعد لا في الأندلس ولا في غيره.
مقلاص
:
لا لم أنس يا مولاتي. قلتُ هذا ولا أزال أعيده.
الأميرة
:
إذن فاعلم أن الزوج الذي يصلح لي قد خُلق.
مقلاص
:
ومن ذاك؟ ما اسمه وأين هو الآن؟
الأميرة
:
كل هذا تعلمه بعد حين يا مقلاص، تعال معي الآن، اتبعني ودع جوهر
ولؤلؤ يستقبلان القاضي الجليل.
الأميرة
(إلى جوهر)
:
في حفظ الله يا جوهر.
(إلى لؤلؤ)
في حفظه يا لؤلؤ.
جوهر
(ولؤلؤ معًا)
:
في ذمة الله وكلاءته يا مولاتي.
الأميرة
:
لا تنسيا أن تذكراني عند الملك، وأني رهن إشارته.
(تخرج الأميرة مع مقلاص)
جوهر
:
أشكر الله أن أخر مجيء القاضي.
لؤلؤ
:
كذلك كنتُ أحدّث نفسي، وأخشى على مولاتي في زيها هذا من عين
الشيخ ولسانه.
(يظهر الملك)
الملك
:
هل جاء القاضي ابنُ أدهم يا جوهر؟
جوهر
:
أجل يا مولاي رأيته في ساحة القصر.
لؤلؤ
:
وقد عادت الأميرة من قرطبة يا مولاي.
الملك
:
أوَعادت الآن؟
لؤلؤ
:
أجل يا مولاي.
الملك
:
أهي بخير؟
لؤلؤ
:
بأتم عافية يا مولاي.
الملك
:
إذا انتهى ابن أدهم من زيارته فأتِ بها إليَّ.
لؤلؤ
:
أمرُك يا مولاي.
(يخرج لؤلؤ)
الملك
:
وعليك يا جوهر أن تستقبل ابنَ أدهم وتأتيني في أوفر بشاشة
وتعظيم.
(يخرج جوهر ثم يرجع. يتقدم القاضي ابن أدهم وينادي من باب
الحجرة)
جوهر
(مناديًا من الباب)
:
القاضي ابن أدهم.
القاضي
:
السلام على الملك ورحمة الله وبركاته.
الملك
:
وعليكم السلام أيها القاضي ومقدم الخير، فقد علمتُ أنك كنتَ
نزيل المغرب في الأيام الأخيرة، وكنت به ضيفًا على أمير المسلمين يوسف بن
تاشفين.
القاضي
:
هو ذاك يا مولاي.
الملك
:
فكيف الحوادثُ والأحوالُ هناك؟
القاضي
:
عندي من ذلك الشيءُ الكثير وسأذكره في مجلس تال يأمر به الملك،
ولا أذكر الآن إلا رسالة حملنيها الأمير سيري بن أبي بكر.
الملك
:
وما هي أيها القاضي؟
القاضي
:
أوَيعرف الملكُ الأمير سيري؟
الملك
:
كيف لا أعرفه! هو كافل الدولة المغربية، وكبيرُ وزراء السلطان
وقائدُ جيوشه الأكبر، وما يبتغي مني الأميرُ أيها القاضي؟
القاضي
:
إنه يخطب إليك الأميرة بثينة.
الملك
:
ألشخصه يخطبها أم لواحد من أولاده، فهم فيما أعلم كثر، وأصغرهم
فيما أذكر يوافق ميلاده ميلاد بثينة!
القاضي
:
بل يخطبها لنفسه أيها الملك.
الملك
:
إن هذا عجيب أيها القاضي، وما كان جوابك؟
القاضي
:
قلت له إن الملك ابنَ عبادَ يذهب ببنته بثينة كلَّ مذهب، ولا
أظن قلبه يطاوعه على تزويجها في الغربة وإخراجها إلى بلاد بعيدة.
الملك
:
أحسنت أيها القاضي؛ فما هذا زواجًا، إنْ هذا إلا قبرٌ أخطُّهُ
بيدي لبثينة، على أنني مُحضر إليك بثينة لتحدثها وتسمع منها.
الملك
(إلى جوهر)
:
جوهر، جئنا بالأميرة يا جوهر.
(يختفي جوهر لحظة ثم يعود بالأميرة)
الأميرة
:
أبي!
الملك
:
بنيتي!
الأميرة
:
أطلبتني يا أبي؟
الملك
:
تعالي بثينة حيي عمك القاضي ابنَ أدهم.
الأميرة
:
السلام عليك يا مولانا القاضي ورحمة الله وبركاته.
القاضي
:
وعليكِ السلام يا بنتَ أكرم الملوك. تعالي خذي مجلسَكِ بين
أبيكِ وعمكِ.
الملك
:
مع من عدتِ من قرطبة؟
الأميرة
:
مع لثامي وجوادي.
الملك
:
وكيف وجدت قرطبة؟
الأميرة
:
وجدتُ طرقاتها تموج بالفقهاءِ يعرفهم الناظر بزيهم، فذكرتُ
عندئذ شُهْرةَ هذا البلد بالفتنةِ والتشغيب وجرأة أهله على أمرائهم وحكامهم،
وأشفقتُ منه على أخي الظافر، وإن كنتُ واثقة بحزمه وعزمه.
القاضي
:
ومن أنبأك أيتها الأميرة أن الفتنة والشغب يجيئان من ناحية
الفقهاء؟
الأميرة
:
لم يبق سرًّا يا سيدي القاضي أن الفقهاء يُعلقون سعادة الأندلس
وخلاصه بإلقائِه في أحضان جيرانه سلاطين المغرب.
القاضي
:
وأنتِ يا بنتَ ملوكِ المسلمين، أما تجدين ما يطلبه الفقهاءُ في
قرطبة أجدى على الأندلس من بقائه على الحال التي هو فيها مشرفًا على التلف
والضياع؟
الأميرة
:
لا يا سيدي القاضي، ليس في الحق أن يَغتصبَ جماعة من المسلمين
أوطانَ جماعة غيرهم من المسلمين، فإن الوطنَ هو كالبيت في قداسته، وكالضيعة في
حرمتها.
الملك
(متدخلًا في الحديث)
:
لقد بعثت يا بثينة في طلبك لغير هذا الشأن، وفي أمر ذي بال،
وإني أترك للقاضي التحدُّثَ معك فيه.
الأميرة
(ملتفتة إلى القاضي)
:
تكلَّمْ يا عمُّ فكلي إصغاء.
القاضي
:
لقد خطبك إلى أبيك رجل من عظماء الإسلام في هذا الوقت، هو
الأمير سيرى بن أبي بكر وزير الدولة المغربية.
الأميرة
:
أفارغ هو أم مشغول يا سيدي القاضي.
القاضي
(في حيرة)
:
بل له من الأزواج ثلاث وستكونين الرابعة، وستكونين المدللة
الممهدَة من بين أزواجه.
الأميرة
(في غضب)
:
إنك يا سيدي القاضي تدعوني إلى خطة لا أنا مضطرة فأحمل نفسي
الكارهة على قبولها، ولا الأمير ابن أبي بكر معطل البيت من الربة الصالحة
فيتشبث بها ويصر عليها، بل تلك خطة لم أجد أبويَّ عليها، ولم آلف رؤية مثلها في
حياة أسرتي؛ فهذا أبي جعلني الله فداءه لم يتخذ على أمي ضرة ولم يكسر قلبها
بالشريكة في قلبه، فجاءت بنا أولاد أعيان، نجتمع في جناح الأبوة ولا نفترق في
عاطفة الأمومة، ولو شاء أبي لكان له كنظرائه الملوك والأمراء نساء كثير، ولكان
له منهن بنو العلات تحسبهم إخوة وهم أنصاف إخوة، من كل دجاجة بيضة، ومن كل شاة
حمل.
القاضي
(متلطفًا)
:
شهد الله لقد أحسنت يا بنتي، ولكن مصلحة الملك أنسيتها، ونصرة
الوالد أغَفَلتِ عنها، وسلامة الأندلس أأهْمَلتِ شأنها؟
الأميرة
:
لا يا سيدي القاضي، كل ذلك في المحل الأول من نفسي واهتمامي،
ولكننا مختلفان في النظر، فأنت ترى أن الأندلس لا ينهض من كبوته إلا إذا مدّ
السلطان إليه يده، وأنا أتخيلها يد الذئب يمدّها إلى الحمل. وأنت يا سيدي
القاضي قد أخذك اليأس في أمر الأندلس، وأنا كلي رجاء، ولا أستبعد أن تتهيأ لأبي
وهو كهف الأندلس وملاذه الفرصة، لجمع الكلمة وضرب الإفرنج ضربة تريح العرب منهم
السنين الطوال. وأنت تعلم أن تاريخ الأندلس مفعم بالفجاءات السعيدة من هذا
الطراز.
القاضي
:
يُريد الله بكم اليسرَ ولا يُريد بكم العسر، ولقد رددتُ عنك
أيتها الأميرة وعن أبيك الملك، وأحسب أني أحسنتُ الرد.
الملك
:
كل الإحسان أيها القاضي.
القاضي
:
الآن لم يبق لي إلا أن أنصرف.
الملك
:
مشيعًا بحفظ الله ورعايته.
(ينصرف القاضي ويشيعه الملك)
الملك
(للقاضي)
:
كيف تجد بثينة يا ابنَ أدهم؟
القاضي
:
بورك لك فيها، وبورك للأندلس في عقيلته، إني أجدُها روحَ
الوالد، وأرى عليها طبعة الزمن وحضارة الجيل.
(يعود الملك ومعه مقلاص بعد أن يودع القاضي)
الملك
:
أعلمتَ يا مقلاص! أسمعتَ أن سيري بن أبي بكر يخطب إليَّ
بثينة؟
مقلاص
(ملتفتًا إلى بثينة بصوت خافت)
:
أهذا الذي وجدته يا سيدتي؟ إني لا أهنيك بتيس المغرب.
الأميرة
:
لا يا مقلاص، إن الذي وجدتُه هو غزال الأندلس لا تيس
المغرب.
الملك
:
خبريني يا بثينة ماذا وجدت في قرطبة؟
الأميرة
:
حال من القذارة تتنزه عن مثله إشبيلية.
الملك
:
هذا من توالي الفتنة والاضطراب على الناس، حتى شُغِلوا عن تنظيف
مدينتهم التي كانت المثال المحتذى بين المدن نظافة ونظامًا، ثم ماذا؟
الأميرة
:
راعتني قصورها المهجورة والموحشة كأنها الأطلال.
الملك
:
هذا من انقراض الوارثين أو ضيق نعمتهم عن سكنى الدور الواسعة،
وصغر أقدارهم عن نزول المنازل الرفيعة.
(يظهر على بثينة التأثر والاهتمام)
الملك
:
ماذا غمك يا بثينة؟
الأميرة
:
تذكرتُ يا أبي قصورنا فجزعت، وقلتُ: الزاهي ترى ما نصيبه،
والتاج ماذا غدًا يصيبه، والبديعُ ما يكون مصيره، والمؤنس هل توحش
مقاصيره؟
الملك
:
بنيتي؟ خلي عنك هذه الهواجس، ولا تحملي على الشباب العبوس والهم
فإنه لم يخلق لهما. اصرفي الشباب إلى الضحك والغبطة فإنهما طبيعته وديدنه. ألا
نعود لحديث قرطبة؟ خبريني كيف وجدت أسواقها؟
الأميرة
:
وجدتها دون أسواق إشبيلية حركة ونشاطًا، إلا سوق الكتب فلا أحسب
بغداد أقامت مثلها. دخلتها يا أبي فلبثتُ فيها ساعة أتأمل ما يقع في جوانبها،
وأشهد النداء على نفائس الكتب وذخائر المخطوطات وهي في أيدي الناس، يقلبونها في
اعتناء وإشفاق كأنها كرائم الحجارة في أسواق الجوهر.
الملك
:
وهل كنت تهتمين بكتاب هناك؟
الأميرة
:
أجل يا أبي، نودي على رسالة المنجم الضبي التي سماها: هل القمر
مسكون؟ وكنتُ سمعت بها وكنت أريد إحرازها فسرني الظفر بها، وكان بالقرب مني فتى
حسنُ الهيئة ظريف الثياب وهو لا شك من بني البيوتات، وكان ينازعني الرغبة في
الرسالة، فلم يزل يزيد فيها وأنا أحرجه فأزيد حتى بلغها إلى خمسمائة دينار،
فقبضتُ يدي فرجع إليه المنادي فأخذَ المال وناوله الرسالة.
الملك
:
لا أظن حِرص الشاب على الرسالة إلا للمباهاة، ولكي يقال عنده
خزانة حوت كل ثمين ونادر حتى رسالة المنجم الضبي، فإن الشهرة في قرطبة من قديم
الزمان أن يتنافس الناس في اتخاذ الخزائن للكتب، حتى الذين لا علم لهم بما
فيها.
الأميرة
:
ظلمت يا أبي غريمي الشاب؛ فقد كنتُ ألحظ عليه الحرص على الرسالة
والسعي لإحرازها حتى ما بقي في نفسي شك أن الفتى من أهل المعرفة
والاطلاع.
الملك
:
وكيف هو يا بثينة؟ وما شكله؟ وما صفته؟
الأميرة
:
شاب يناهز الثلاثين، جميل، وقور، يشبهك يا أبي أو كأنه أخي
الظافر، وما كان أعظم أدَبه ومروءته فإنه حين غلبني على الرسالة بادر فقال:
أيها الفتى الملثم، إن كان اعتناؤك بهذه الرسالة شديدًا كما رأيتُ فعرِّفني
بموضع إقامتك، وأنا أستصنع منها نسخة وأبعث بها إليك. فشكرتُ واعتذرتُ بكثرة
أسفاري في الأندلس، فانطلق شديد الفرح بما نال. وكان جواده بانتظاره فاعتلاه،
فوالله يا أبي ما رأيت قط بعدَك وبعد أخي الظافر أرشق وثوبًا على جواد، ولا
أحسن قيامًا في صهوة من غريمي الشاب.
الملك
(مبتسمًا وهو يضع يده على كتفها)
:
أخشى يا بثينة أن يكون غريمك الشاب أعرف بتصيد القلوب منه
باعتلاء الجياد.
مقلاص
:
الآن عرفته، هو فتى السوق هو فتى الرسالة.
(يدخل لؤلؤ ويقول)
لؤلؤ
:
الجماعة يتواردون على مجلس الشراب أيها الملك، فانظر ماذا تأمر؟
بثينة
:
وأنا أيضًا ذاهبة لبعض شأني إن أذنت.
الملك
:
في كلاءة الله يا بثينة.
(تخرج بثينة)
المنظر الثاني
«ترفع الستارة الخلفية عن مجلس شراب إلى جانبه ستر مسدل وفي وسطه
مائدة حولها الملك وجماعة من حاشيته، وتطل هذه المنظرة على الوادي الكبير حيث للملك
زورق»
الملك
:
ما عندكَ من الشراب لأصحابنا يا لؤلؤ؟
لؤلؤ
:
خمورُ مالقة وزبيب إشبيلية.
الملك
:
وماذا هيأتَ لهم من نقل وطعام؟
لؤلؤ
:
الجوز واللوز من وادي الطلح.
الملك
(يرفع عقيرته ويغني)
:
الجوز اللوزُ. يا رب الفوز.
أحد الحاضرين
(إلى جاره)
:
هذا لحنُ الملك الذي يحبه ويهتف به حتى في الحمام.
مقلاص
:
ولحني أيها الملك، أتسمعه؟
الملك
:
قل، هات يا مقلاص.
مقلاص
(يغني)
:
الجوز اللوز بوادي الحوز١.
الملك
:
مرحى! مرحى!
الحاضرون
(جميعًا)
:
مرحى! مرحى!
الملك
(لمقلاص)
:
تعالَ قِفْ خلفي يا مقلاص وقم عند رأسي.
مقلاص
:
ها أنا قائم عند رأسك الشريف، هل أفليه؟
الملك
:
تأدبْ يا وَقَاح، القمل لا يوجدُ في رءوس الملوك.
مقلاص
:
ما أدري يا مولاي، ولكني أعلم أن القملَ يوجد في لبدة الأسد،
وأنت أسد الأندلس الذي يعنو له الملوك.
الملك
:
لله ما أَمَرَّ لسانَك وما أحلاه! فهو كمشرط الجراح الماهر،
جمَع مرارةَ القطع وحلاوة الشفاء.
الملك
(إلى لؤلؤ)
:
ثم ماذا يا لؤلؤ؟
لؤلؤ
:
كلُّ ما لذَّ وطاب من السمك، بعضه مجلوب من بحر الزقاق وبعض من
صيد الوادي الكبير.
الملك
(يغني)
:
الجوزُ اللوزُ يا رب الفوز.
الملك
(إلى وزيره ابن سعيد)
:
ماذا يقولون في المدينة يا ابنَ سعيد؟
الوزير
:
لا حديثَ اليومَ لأهل إشبيلية إلا تلك النكبة التي حلت بأبي
الحسن التاجر.
الملك
:
واهًا لأبي الحسن وويح الأندلس! ما أعظم مصيبته في تاجره العامل
الموفق الأمين!
الملك
(إلى ابن سعيد)
:
وكيف وقعت الكارثة يا ابن سعيد؟
الوزير
:
كانت لأبي الحسن التاجر في لجج البحار ثلاثُ بوارج، وهي:
الزُّهرة، والثريا، والجوزاء. خرجت الزهرة إلى الإسكندرية تحمل إليها مقدارًا
عظيمًا من الزيت الإشبيلي، فأخذها عاصفٌ فغرقَتْ في الطريق. وأقلعت الثريا بعد
ذلك بأيام مشحونة بالمتاجر المتنوعة إلى ثغور الأندلس، فصادفها أسطولٌ للفرنجة
كان يتجوّل على الشواطئ فأخذها مَغنمًا باردًا. وكانت الجوزاء قد سبقت أختيها
إلى عرض البحر تقصد سواحل المغرب محملة بالشيء الكثير من مصنوعات الأندلس
ومتاجره، فشبت فيها النار فأعيا إطفاؤها فسقطت شعلة في الماء.
الملك
:
ويح لأبي الحسن، ويح!
الوزير
:
إن أبا الحسن أيها الملك شيخ كبير قد فرغ من الدنيا وفرغت
الدنيا منه، فمصيبته أقصر عمرًا وأهونُ وقعًا من مصيبة ابنه الواحد وولده
النابه الشاب حسون.
الملك
:
قد ذكر لي اسمه وسمعتُ الثناء عليه من كثير من الناس.
الوزير
:
وإنه لكما نعتوه أيها الملك وفوق ما نعتوه: شابٌّ جميل وقور
جريء، وافرُ القسط من العلم والأدب، تعلم لغة الأسبان حتى أجادها حديثًا
وكتابة، يجري بها لسانه كما يجري بها قلمه.
الملك
:
إن شابًّا هذا شأنه وهذه همته في الحياة لا يتركُ نبوغه سدى،
ولا يوكل إلى اليأس القاتل، بل يجملُ بنا أن نأخذ بيده فنهون عليه عثرة أبيه
البريء.
الجماعة
(يتهامسون)
:
ما هذا الستر؟
آخر
(همسًا)
:
ترى ماذا يخفي هذا الستر؟
ثالث
(همسًا)
:
ماذا خبأ الملك وراءه؟
الملك
:
فيم تتهامسون؟ لعلكم تذكرون الستر. اشربوا الآن ما بدا لكم
واطربوا، وأما الستر فستعلمون نبأه بعد حين.
لقد وزعت عليكم من أيام وفد النصارى من نبلاء الأسبان فماذا
صنعتم بهم، وكيف أنصبتكم؟
الملك (ملتفتًا إلى وزيره داني)
الوزير داني
:
كانت حصتي يا مولاي أطيب الحصص، فضيفي شابٌّ نبيل طروبٌ لطيفُ
الأذن، مولع بالقيثارة لا يضعها من يده، وله عليها ضربٌ يأخذ بالألباب.
الملك
(مبتسمًا: يسأل آخر من الجلساء)
:
وأنت يا ابن الصائغ كيف ضيفك؟
ابن الصائغ
:
أنا أقل الإخوان حظًّا أيها الملك، فضيفي رجل كهل قسيس يقطع
الليل بالصلاة وقراءة الإنجيل.
الملك
:
بل لعلك أعظم الجماعة حظًّا ولا تدري.
ثالث من الجلساء
(مخاطبًا الملك)
:
أما أنا أيها الملك فقد ابتليتُ برجل شيخ شريب خمر لا يُرويه في
اليوم دن ولا دنان، فإذا كان قبل كل طعام قدمتُ له زبيبى إشبيلية، فأقبل يعبه
عبًّا كما يقع الظمآن على الماء الزلال. وقد شرب من خمر مالقة في ثلاث ليال
أقامها عندي ما يكفيني أنا شهرًا، وأنا الذي يعرف الملك ولعي بالخمر المالقي.
الملك
:
وأنت يا لؤلؤ كيف ضيفك وما حاله؟
لؤلؤ
:
إنه شاب يا مولاي خفيف الظل والروح، مولع بالرقص، وأنا أتلقى
عليه كل ليلة دروسًا في الرقص الأسباني حتى كدت أحسنه.
الملك
:
وأنت يا مقلاص، كيف ضيفك وماذا يصنع معك؟
مقلاص
:
ضيفي يا مولاي رجلٌ كهل بادن ضخمُ الجثة كالخنزير المتدلي البطن
من تراكب الشحم واللحم. إذا جاء في البيت وراح ارتجت الجدران واهتز ما على
الرفوف من آنية، وإذا نام خرج الغطيط والنخير من حلقه ومن أنفه ومن كل موضع
فيه، ولو نام في جبانة لأيقظ غطيطه الأموات.
الملك
:
وكيف طعامه يا مقلاص، وما أحبُّ الألوان إليه؟
مقلاص
:
هو يا مولاي مجنون المعدة بالإوز، له كل صباح على الريق إوزة،
وغداؤه إوزة، وعشاؤه …
الحضور
(جميعًا)
:
إوزة.
الملك
(ملتفتًا لوزيره داني)
:
وما عندك أنت يا داني مما يقولون في المدينة؟
داني
:
يتهامسون في المدينة بأن الفتنة قد تحركت شياطينها في قرطبة،
وأن القادرَ صاحب طُليطلة يسعى لأخذها من ولدك الأمير الظافر، وأنه يستعين في
دسه وكيده وتدميره بالبطل حريز وصاحبه ابن لاطون.
الملك
:
الولاياتُ يا داني كخلايا النحل، فيها العسل وفيها الأسل، وأنا
واثقٌ بحزم الظافر وعزمه، والله يفعل بعد ذلك ما يشاء، إن ضيوفكم النبلاء أيها
الأصحاب سيكونون هنا بعد ساعةٍ.
الملك
(إلى جوهر)
:
وأنت يا جوهر انظر أين الجنديان؟
جوهر
:
بالباب يا مولاي.
الملك
:
أدخلهما.
جوهر
:
يدخل الجنديان.
الملك
(إلى الجنديين)
:
أين الكلب؟ أجئتما به؟
الجنديان
:
هو بالباب يا مولاي يرسف في قيوده.
الملك
:
أدخلاه.
(يدخل ابن شاليب اليهودي يجر قيوده)
ابن شاليب
:
التحية والإجلال للملك.
الملك
:
تحية لا نتقبلها من رجل شتمنا بالأمس بمسمع من رجالنا
وأعواننا.
ابن شاليب
:
معاذ الله أيها الملك، ما شتمتُ ولا تهجمتُ ولا نسيت أني نزيل
هذه المملكة، يجب عليَّ لصاحبها التوقير والإكبار.
الملك
:
بل أنت تكذب يا ابن شاليب.
ابن شاليب
:
على رسلك أيها الملك، أنسيت أن ورائي ملكًا عظيمًا يسأل عن
أمري، وأنا سفيرهُ عندك ورسوله إليك، وقد يغضب لي إن أنت نلتني بسوء.
الملك
:
فإن كان السفير وقاحًا قليل الأدب؟
ابن شاليب
:
هذا كثير أيها الملك، فاجعل للإهانة حدًّا ولا تنس لي مكاني.
الملك
:
ستعلم مكانك بعد قليل.
(إلى ابن وهب)
الملك
:
أعد يا ابن وهب على هذا الكلب ما لهث به حين عرضت عليه مال
الجزية.
ابن وهب
:
لقد همَّ مولاي برد المال معتلًّا بسوء العيار ونقصان الإتاوة
عن السنة الماضية، وقال بلغ سيدك أنه لا يحول الحول حتى آتي فآخذ عينيه.
ابن شاليب
:
هذا كذب واختلاق.
الملك
:
بل أنت الكذاب، فما أنا بالملك الذي يكذب عليه وزراؤه وأعوانه،
وما شرفُ الأندلس وجلاله إلا عدلُ قضاته وقلة شاهد الزور فيه.
ابن شاليب
(يمرغ خديه على البساط ويقول)
:
ألا تعفو أيها الملك الكريم، فهم يقولون إن العفو شيمتكم معشر
العرب.
الملك
:
إلا ما مس الشرف والكرامة.
ابن شاليب
:
أتقتلني أيها الملك من أجل كلمة سبق بها لساني، وأعماني الغضب
فلم أزنها ولم أقدر عواقبها؟
الملك
:
عجبًا يا وزير ألفونس! أنت تزن القناطير المقنطرة من الذهب
والفضة فلا يفلت من حسابك بُرادة مثقال، ثم لا تحسن أن تزن كلمة تخرج من
فيك!
ابن شاليب
:
اعْفُ عني واستبقني أيها الملك، وأنا أشتري منك حياتي بوزن جسمي
ذهبًا.
الملك
:
لا والله ولا بثقله لآلئ ويواقيت، وأنا أعلم أن وراءك ملكًا
عظيمًا هو عبد المال، أما أنا يا ابن شاليب فعبد الله.
الملك
(للجنديين)
:
أيها الجنديان خذا هذا المجرم فأمضيا أمري فيه.
(الجنديان ينقضان على ابن شاليب فيأخذانه إلى ما وراء الستر
المسدل)
الحاجب
(يدخل)
:
نبلاءُ الأسبان بالباب يا مولاي.
الملك
:
يدخلون.
كبير النبلاء
:
التحياتُ للملك.
الملك
:
مرحبًا بضيوفنا النبلاء. تفضلوا وخذوا مجلسكم واطرحوا
الكلفة.
كبير النبلاء
:
شكرًا يا مولاي، هذه الحفاوة بالضيف لا تستغرب من ملكِ العربِ
الكريم.
الملك
:
تعال اجلس بجانبي أيها النبيل.
(يجلس كبير الأسبان حيث أشار الملك. يطوف لؤلؤ على القادمين بالشراب
والنقل.)
لؤلؤ
:
ماذا تشتهي من الشراب؟
كبير الأسبان
:
ما دمنا في إشبيلية يا فتى الملك، فإني لا أقدم على زبيبها
الصافي المعطر شيئًا.
أحد الحاشية
(في أذن جاره)
:
انظر السكير يا أخي كيف تجاهل خمر مالقة، وكيف نسي أنه أنفد
ذخيرتي منها في ثلاث ليال أقامها عندي.
(ضجة وشراب وأحاديث همس)
الملك
(إلى لؤلؤ)
:
دلنا يا لؤلؤ على ضيفك الرقاص.
لؤلؤ
(يشير إلى أحدهم)
:
هو هذا النبيل يا مولاي.
الملك
(إلى الأسباني)
:
إن فتاي لؤلؤ أيها النبيل مغتبط بما تعلم عليك من أصول
الرقص.
الأسباني
:
وأنا يا مولاي ما رأيتُ أسرع خاطرًا، ولا أرشق حركات، ولا أحسن
حفظًا لما يلقى عليه في فنون الرقص من صاحبي لؤلؤ.
الملك
:
إن مطربي هذا ابنُ حزم يحسن الضرب على القيثارة، وقد تعلم في
صغره الكثير من ألحانكم ونغمات رقصكم.
الملك
(إلى لؤلؤ)
:
فليرقص لؤلؤ على إيقاعه.
الملك
(إلى الأسباني)
:
وأنت ترسم له أيها النبيل النغمة التي تصلح للرقصة.
(لؤلؤ وصاحبه الأسباني يرقصان، ويعزف لهما ابن حزم ويصفق لهما
الملك والجماعة، ثم يجلس الثلاثة بين الاستحسان والإعجاب.)
الملك
(في جد إلى جليسه الأسباني)
:
أيها الضيف النبيل، أمرٌ يشغل بالي ويهتمُّ به أصحابي وينتظرون
حكمي فيه، وقد رأيتُ أن أنتهز فرصة الأنس بحضوركم لأسيرَ على ضوءِ رأيك في
تصريفه.
النبيل الأسباني
:
ليس أحبّ إليَّ أيها الملك، ولا أزيدَ في شرفي من مشورة خالصة
نافعة ألقيها إلى جلالتك.
الملك
:
إذن فاعلم أيها الضيف النبيل أن أحد جيراننا الملوك أوفد إليَّ
رسولًا في مهمة معلومة، فنسي الرسول مكاني حتى سبني بمسمع من رجالي وأوعد
وتهدَّد، فما الذي يقضي به عُرفكم على رجل هذا فعله؟
النبيل الأسباني
:
مثل هذا جزاؤه القتل يا مولاي.
الملك
(إلى النبلاء)
:
أسمعتم يا معشر النبلاء؟
النبلاء
:
سمعنا أيها الملك وقد أفتى كبيرنا وهو العدل والصواب.
الملك
:
إذن فانظروا.
الملك
(ثم لأحد الجند)
:
أيها الجندي ارفع الستر.
(يرفع الستر عن جثة ابن شاليب جثة هامدة معلقة على عود.)
الجماعة
(صائحين)
:
ابن شاليب.
الملك
:
هذا صاحبكم ابن شاليب قد رماني أنا ووزيري هذا ابن وهب بتزوير
العيار والغش في الميزان، وقال لرجالي وأعواني: بلغوا سيدكم أنني آت في العام
القابل فآخذ عينيه من رأسه.
أحد الجماعة
(مستنكرًا)
:
وما ذنبنا نحن أيها الملك حتى عاقبتنا بهذا المنظر؟
الملك
:
لقد ترددت بين أن أقتله بأعينكم وبين أن أعرضه عليكم وهو كما
ترون جثة بلا روح، ولكني وجدت في الرأي الثاني تخفيفًا على ضيوفي فعملت
به.
(ثم ينهض الملك علامة الإذن في الانصراف، ويختلط بهم وهو
يشيعهم).
الملك
:
انقلوا أيها النبلاء إلى الملك ألفونس ما سمعتم، وصفوا له ما
رأيتم، وتحدثوا به في طول بلادكم وعرضها؛ ليعلم الناس هناك أن الأسد العربي لا
يُشتم في عرينه، وأنه لو غلب على غابته حتى لم يبق له منها إلا قاب شبر من
الأرض لما استطاعت قوى الإنس والجن أن تنفذ إلى كرامته من قاب هذا الشبر.
(ينسل النبلاء الأسبان من المنظرة وهم يجرون سيقانهم جرًّا من
الرعب).
الملك
(إلى حاشيته)
:
الآن يا نبلاء العرب نطوي هذا البساط، ويبقى هذان الجنديان حتى
إذا خلت منا المنظرة رفعا الستر عن جثة ابن شاليب، ليعلم أهل إشبيلية كيف يحل
العقاب بمن يجترئ على شرفِ أميرهم الذي هو شرفهم الرفيع.
المنظر الثالث
«الملك نشوان ومعه مضحكه مقلاص يدنو من زورق على الوادي الكبير
فيثب فيه ويقول»
الملك
:
انظر يا مقلاص إلى هذا الزورق ما ألطفه، صدق القول: كل صغير
لطيف.
مقلاص
:
إلا وظيفتي في قصرك فإنها لا لطيفة ولا شريفة، وإن هذا الزورق
قد ينقلب فيأخذ شكل النعش، ولن يكون النعشُ لطيفًا أبدًا.
الملك
:
هبه انقلب يا مقلاص فصار نعشًا، أليس النعشُ مركبَ كل حي وإن
طالتْ سلامته؟
مقلاص
:
أما أنا فيعفيني الملك.
الملك
:
لا يا مقلاص لا أعفيك، ولا أحسبك تدعني أسير في لجة النهر وحدي
وأنا كما تراني نشوان.
مقلاص
:
وإن كان ولا بد أيها الملك فإني أقترح …
الملك
:
وما تقترح؟
مقلاص
:
أن أكون أنا المجدِّفَ وحدي.
الملك
:
ولماذا؟
مقلاص
:
الأمر بيِّن؛ التيار مجنون، والسكر مجنون، وأنت سلطان وكل سلطان
مجنون. وهذا الزورق خشبة لا عقل لها فهو أيضًا مجنون، وإني أربأ بحياتي أيها
الملك أن أجمع عليها مجانين أربعة.
الملك
(مستضحكًا)
:
لا يكون إلا ما اقترحتَ يا مقلاص، تعال اركب وجدف وحدك واترك لي
أنا الدفة.
مقلاص
:
أما هذا فنعم. وإني أرجو أن تكون دفة هذا المركب الصغير أحسن
مصيرًا في يديك من دفة المملكة.
الملك
(مستضحكًا)
:
تعال ثب، هات يدك.
(مقلاص ينزل إلى الزورق ويأخذ المجدافين).
الملك
:
انظر يا مقلاص وراءك، إني أرى قاربًا يندفع نحونا مسرعًا كأنه
حوت مطارد مذعور.
مقلاص
:
هو ذا قد دنا منا يا مولاي، فأحسن مسك الدفة واجتنب الصدمة،
وأنا أزوده عنا بمجدافي هذا وأضربه ضربة تقذف به إلى الشاطئ الآخر من
النهر.
الملك
:
إياك أن تفعل بل ائسره، فلا بد لنا أن نؤدب هذا الشاب المغرور،
فإني أرى الملاح فتى كريم الهيئة فهو لا شك من أبناء أعيان إشبيلية.
(يصطدم الزورقان ويظهر مقلاص ارتباكًا وجبنًا، فيقبض الملك على
الزورق المهاجم بيد قوية ويقول لمقلاص)
الملك
:
اقذف الآن به إن استطعت إلى الشاطئ الآخر من النهر.
(ثم يلتفت إلى الشاب الملاح ويقول:)
مكانك أيها الغلام الوقاح، ما هذه الجرأة على التيار وعلى شبابك
هذا الغض النضير! وما غرك بالملك حتى قربت عودك من عوده تريد أن تأخذ عليه
الطريق.
الملاح
:
مولاي إن الرعية يهفون، وإن الملوك يعفون، وزورقي إنما اندفع
بقوة التيار القاهر فوافق مرور مركبك المحروس، فكان ما كان مما أعتذر للملك
منه.
الملك
(بصوت منخفض)
:
ويح أُذني ماذا تسمع؟ هذا الصوت أعرفه؟
(ثم يلتفت إلى الملاح قائلًا)
قد عرفت أيها الفتى من نحن، فعرفنا بنفسك.
(يرفع الملاح قناعه)
الملك
(صائحًا)
:
بثينة!
الأميرة
(الملاح)
:
أجل أيها الملك ابنتك وأمتك بثينة.
الملك
:
عجبًا! أأنتِ هنا بين العبب والتيار، وعلى هذا العود الذي يشفق
أبوك من ركوبه، وأبوك من تعلمين أشجع العرب قلبًا؟
الأميرة
:
ولم لا تكون ابنة الملك شجاعة القلب مثله! إن الأسد لا يلد إلا
اللبؤة.
الملك
(يهدأ غضبه)
:
ومن أين مجيئكِ الساعة يا بثينة؟
الأميرة
:
من الموضع الذي أحبه كما أحبُّ الحجرة التي ولدتُ فيها، ومن
ناحية السرحة التي أحِنُّ لها كحنيني للمقاصير التي ضمتني طفلة ممهدة، ومن بقعة
مباركة، وقفت السعادة بك في ظلها على أمي الرميكية فرأيتها فأجبتها أول وهلة.
ولم تكن إلا غسالة مغمورة فتزوجتها فرفعتها أعلى ذرى الشرف، ومن هذا الزواج
الموفق السعيد ولدتُ أنا لأب قصر الأبناء عن بِره، وملك جل عن النظراء
والأمثال. أليس ذلك المكان الذي هو مهد حبكما الأول من حقه أن يُحَنَّ إليه
أحيانًا، بل من حقه أن يُحج آنًا فآنًا!
الملك
(متأثرًا)
:
بنفسي وروحي أنت يا بثينة! لقد عظمت المهدَ وقضيتِ الحقَّ،
والآن ألا ترجعين إلى القصر بسلام، فلا أحسب القصر إلا قائمًا لغيبتك على ساق،
حتى لكأني بأمك تسأل عن أمرك، وبجدتك أشغلُ وأشدُّ قلقًا.
الأميرة
:
لقد كنت يا مولاي في طريقي إلى القصر، لولا هذا الاتفاق السعيد
الذي صدم عودي بعودك، والآن إذ أمرت فإني أنطلق في سبيلي، وأستودعك الله يا
مولاي.
الملك
:
اذهبي يا بنيتي في كلاءة الله، وإياك والمجازفة فيما تفعلين،
فإن الحياة أعز وأنفس من أن تُعرَّض للتهلكة، وأنهاك عن الخروج بعد اليوم إلا
مصحوبة بلؤلؤ أو جوهر، فإنهما لا يألوانك خدمة وحراسة.
الأميرة
:
لا يكون يا مولاي إلا كما أشرت.
(تندفع بثينة بالزورق وتغادر الملك، وقد أطرق مليًّا إلى أن بدا
لمقلاص أن ينبهه من هذه السنة).
مقلاص
:
مولاي إن الشط قريب، وإن الأرض أصلح مجلسًا لمثل ما أنت فيه من
الهم والتفكير.
الملك
:
كيف رأيتَ بثينة، وكيف وجدت جرأتها يا مقلاص؟
مقلاص
:
تلك اللبؤة من هذا الأسد يا مولاي.
الملك
:
ما كل جريء فطن، وهذه الفتاة جمعت الحجا والشجاعة. إنها تعلم
أنني رجل رقيق القلب مجيب العاطفة، وتعلم كذلك أن شيئًا من النفور قد دخلني نحو
أمها منذ حينٍ؛ فانظر كيف تحيلت حتى ذكرتني العهدَ القديم، فو الله ما أنا
الساعة بأقلَّ حبًّا للرميكية ولا عطفًا عليها مني منذ عشرين سنة. جدف يا مقلاص
جدِّف. سبحانك اللهم، جعلت الولد سفير المودة والرحمة بين الوالدين.
(يندفع الزورق)
الملك
(يغني)
:
الجوزُ اللوز، يا رب الفوز.
مقلاص
(يجيب)
:
الجوزُ اللوز، بوادي الحوز.