الفصل الرابع
«بإحدى مقاصير قصر الزاهي. العبادية والدة الملك ابن عباد مع بثينة.»
العبادية
:
لقد علمتُ يا بثينة ما كان من زيارتك لدار التاجر أبي الحسن وجلوسك
ساعة مع ولده حسون، وأنك كنت في زي الغلام وكان معك لؤلؤ وجوهر.
بثينة
:
ومن خبرك الخبر يا جدَّة؟
العبادية
:
عينٌ من الحب وكلتها بك ترعى خُطاك وتحرسُ حركاتك وسكناتك، وإن كنتُ
عظيمة الثقة بنفسك الأبية العالية، وخُلقك الفاضل الشريف.
بثينة
:
أنت إذن يا جدَّة كالمنصور بن أبي عامر، لك في كل ناد عين، وفي كل
سامر أذن.
العبادية
:
لا بل أنا عجوزٌ يا بثينة، والعجائزُ يتلمسنَ الأخبار، وأنا أرملُ
ملك وأم ملك يتجسس لي من لم أندْبه للتجسس، ويجيئني بالأخبار من لم أزود. ومهما يكن
من الأمر يا بثينة فلا تنسي أننا ما أرخينا لك الحبل إلا ونحن نعلم أنك الفرس
النجيبةُ، التي إذا أُرْخِيَ لها الرَّسَنُ لم يخشَ لها جُماح ولا شُرود.
بثينة
:
جعلني الله عند ظنكم يا جدة. وببغاؤك نادر يا جدة، أنسيته؟
العبادية
:
كيف أنساه يا بثينة، وقد كان لديَّ كريمًا وكان سيد الطير، وكان
أخفها ظلًّا وأبينها حكاية ونقلًا.
بثينة
:
أتذكرين يا جدة كيف أشفقت عليه فلم ترضي أن يُنزع من ريش جناحيه،
كما يصنع الناس بالطير الكريم فيأمنون طيرانه وفراره، وإنما اكتفيت بوضع حلقة صغيرة
من الذهب في رجله اليمنى تمنعه من النهوض وتقيده، وإن كان في الظاهر حرًّا يتنقل في
نواحي القصر.
العبادية
(مندهشة)
:
وماذا أخطر ببغائي نادر على بالك يا بثينة، وماذا تريدين بذكر
الحلقة؟
بثينة
:
أريد أن أقول لك يا جدة، إن حالي كحال المرحوم نادر؛ قيدتموني بجوهر
ولؤلؤ ومقلاص وبالعيون والأرصاد، ثم زعمتم أني حرة طليقة أفعل ما أشاء.
العبادية
(مبتسمة)
:
ولكن لا أظن حلقة الذهب تثقل رجلك يا بثينة، فإني أرى خدم أبيك
الملك لا يقصرون في صحبتك عن خدمة ولا طاعة. على أن كل هذا لا يهمني، إنما يهمني أن
أعلم رأيك في الشاب وكيف وجدته. وهل هو على جانب من الفضل والعقل يتميز به عن
اللدات ويسمو به على الأتراب؟
بثينة
:
أما هذا يا جدة فنعم، حسون فتى جم العلم غزيرُ الأدب عظيم الحظ من
الفنون جميعًا، إلى ما وهب له الله من الشجاعة التي لا يضارعه فيها اليوم إلا أبي
الملك، وإلا شابٌّ كان زين الشباب طاح بالأمس شهيد الكرامة والواجب.
العبادية
:
أو أبدًا تذكرين الظافر يا بثينة، دعيه يا ابنتي في أعراس نعيمة بين
شباب الجنة، خبريني هل في شبان أمراء الديار اليوم من هو الكفء لأميرة الأندلس
وعروسه؟
بثينة
(في حياء)
:
هبي الكفء موجودًا حاضرًا يا جدة أهذا وقت الفكر في زواجي والاهتمام
به، وأنت ترين الحوادث يجد جدّها والأمور تسوء مسايرها. مسكينٌ أبي الملك أصبح لا
يدري من أين يتلقى البلاء. المغاربة وسلطانهم ابن تاشفين يطلعون من البحر، والأسبان
وعاهلهم ألفونس يزحفون من البر، والملك بينهما كالصيد المطارد من جانبيه إن تلفت عن
يمينه قُتِلَ، وإن تلفت عن شماله أُكِلَ، والأندلس في هذه الأثناء كالأسد الواقع في
الحفرة إن سكن لم ينفعه، وإن تحرك لم يرفعه؛ وحدة ممزقة، وكلمة متفرقة، وآمال
بالعدو معلقة.
العبادية
:
إن بنات الملوك إذا بلغن إلى مثل سنك يا بثينة كان الزواج أزكى
بسترهن وأليق بجلالهن، وأما ما ذكرت من إظلام الجو وجهامة الحوادث، فتلك حال اختلفت
علينا بها السنون حتى ألفناها، وقد تصير إلى الأردأ الأسوأ. وقد يبعث الله برياح
اللطف فتعصم السفينة من الصخرة وتقيها كارثة الاصطدام. بثينة بنيتي، أنا الجدة
ولدتِك مرتين. استريحي إليَّ بسرك، وبوحي إليَّ بمكنونه فلن تجدي أرحبَ بسرك ولا
أرحم لك من هذا الصدر. خبريني يا بثينة أتعرفين بين أبناء سروات إشبيلية اليوم فتى
يتوسم فيه الخير ويرجى في أمره الصلاح، ويقول الناس عنه: فلان كفء لبنات الملوك؟
بثينة، لقد مررت باسم حسون مرًّا ولم تصفيه لي، فما شكله؟ وما أوصافه؟
بثينة
:
هو يا جدَّةُ شابٌّ في أواخر العقد الثالث من عمره، رشيقُ القامة في
طول، أسمر اللون فاحم الشعر جعده، ساحر النظرة، إذا تبسم جذب، وإذا تكلم
خلب.
العبادية
(تبتسم)
:
هو إذن فتى جميل يا بثينة؟
بثينة
:
جدًّا وخفيف الظل فوق ذلك.
العبادية
(بعد إطراق)
:
ولكن …
(فأجفلت الفتاة ولاحظت الجدة ذلك)
العبادية
:
لا تغضبي يا بثينة، فليس وراء «ولكن» شيء أقوله يحط من شأن حسون
وينزل به عن مرتبة الفتيان الأمجاد، بل كل ما هناك أن الناس يتحدثون اليوم في همسهم
عن نكبة نزلت بالتاجر أبي الحسن، فذهبت بمعظم ماله.
بثينة
:
وما يعيبه من هذا يا جدة؟! أليس أبو الحسن تاجرًا والتجارة جزر ومد،
وحرمان وجد، ونحس وسعد؟ فكم من تاجر بمنزلة أبي الحسن قد نكب فذهب عنه كل شيء إلى
الخلق، ثم لم تمض مدة من الشهور أو الأعوام حتى سمع الناس وتحدثوا أن التاجر فلانًا
المنكوب تغلب بالخلق على نكبته، فعاد دولابُ تجارته كأمس عظيم الحركة عميم البركة،
ومثل أبي الحسن في خلقه وأمانته وشرف اسمه في الأسواق لا يبعد أن يقوم من هذه
السقطة ورجلاه في عافية.
بثينة
(مصغية ثم قائلة)
:
أسمعت يا جدة؟
العبادية
:
أجل، سمعت تنفسًا.
بثينة
:
ترى من الطارق؟
(يدخل عليهما الملك)
الملك
:
صفحًا يا أم وعذرًا يا بثينة، إذ كدرتُ عليكما الخلوة وقطعت عليكما
الحديث، فوالله ما دفعني إليكما الساعة إلا همُّ سار وشاغل جليل.
العبادية
:
لا بأس عليك يا بني، وعافاك الله أيها الملك. تفضل اجلس.
بثينة
:
خذ مكانك بيننا يا أبت واسترح إلينا من همومك، فها هنا الرحمة قد
بسطت جناحيها: ها هنا الأم والبنت.
(الملك يضع جبينه على كتف بثينة باكيًا)
بثينة
(باكية)
:
هون عليك يا أبتِ، وتجملْ أيها الملك فقبلك لم تبك الآساد، ولا
اشتكت الأطواد، ولا ضاقَ البحر عن الأعاصير الشداد. تحدثْ إلينا يا أبت ولا تيأس من
روح الله. وعليك بهذه الجدَّة الشفيقة والأم البرَّة فائتمنها على سرك.
الملك
:
الملك ألفونس منذ سقطت طليطلة وقضاها الله له، أصبح لا يعرفُ لي
منزلةً ولا يألوني تحقيرًا وإهانة، ويطلب المال باستكلاب وشره، والبلاد باستطالة
ولؤم، ومن عجيب أمره أنه يغضبُ من جهة فيصخب ويهدّد، ويلين من أخرى فيلومني على
الاستغاثة بيوسف بن تاشفين واستنجاد جنوده، ويدعي الطاغية أنه أوفى لي منه عهدًا
وذمة، وأصفى صداقة ومودة، وأنني إن حالفت سلطان المغرب كانت محالفة الذئب للحمل،
وأن بربر المغرب إذا دخلوا الأندلس طغوا في البلاد وهدموا بنيان الحضارة فيها، ومن
نكد الدنيا أن تصدق فينا نبوءة هذا الناصح الغاش، فقد طمع ضيفنا ابن تاشفين في
مُلكنا وسلطاننا، وتطلعت نفسه إلى خيراتنا وأرزاقنا، واستنصرناه على ألفونس فإذا
نحن الآن نخشى منه بطش النصير، وإذا إشبيلية قد تضمنت مني ومنه العجب؛ النمر في قصر
هناك وراء الضفة يجتمع به أعدائي وأعداء الأندلس من أبنائه الأندلسيين وصغار العقول
من الفقهاء ومن يلتف عليهم، وهؤلاء يحسنون له البقاء في الأندلس واغتنام الفرصة
لضمه إلى سلطته، ويقيمون عنده الحجج على فساد ملوك الطوائف ويحملونني الهدف الأول.
وهنا في هذا القصر أسد مقلم الأظفار مغلوبٌ على العرين وحيد من الأنصارِ والأعوان.
الحاجب
:
شيخ يدعى ابنَ حيون بالباب يا مولاي.
بثينة
:
أدخله يا أبي وبالغ في إكرامه، فقد سلف للرجل إحسانٌ إلينا لا ينبغي
لنا أن ننساه أبد الدهر.
الملك
:
أدخله أيها الحاجب.
(يخرج الحاجب من الباب)
الملك
:
خبريني يا بثينة ما إحسان ابن حيون إلينا؟
بثينة
:
لقد حدَّثني من لا أشك في صدق روايته، أن هذا الرجل صلى على أخي
الظافر وبكاه وألقى عليه رداءه.
(يدخل ابن حيون فتسدل العبادية وبثينة كلتاهما على وجهها القناع)
ابن حيون
:
السلام على الملك ورحمة الله.
الملك
:
وعليكم السلام أيها الولي الشفيق الحميم.
ابن حيون
:
لو أذن لي الملك في خلوة (وقد رأى السيدتين).
الملك
:
لا تخش شيئًا يا ابن حيون، فهذه العبادية أمي وهذه بثينة بنتي،
فحديثك لن يُساق إلا إليَّ وسرّك لن يجاوز أذني.
ابن حيون
:
أيها الملك نحن اليوم أخوف ما كنا على هذه الأوطان، وفي مثل ما نحن
فيه تجب على الأمةِ النصيحةُ للملك، وقد انتهى إلى أذنيَّ من بعض الفقهاء
والمختلفين إلى ضيفك هذا يوسف بن تاشفين، أنه أصبح يرى نفسه أحقَّ بهذا الملك منك.
وقد رأيتُ رأيًا فإن أذن الملك رفعته إليه.
الملك
:
وماذا رأيتَ أديبَ الأندلس؟
ابن حيون
:
أعلم أيها الملك أن هذا الضيف الذي نصرتَه ونصرَك، وحالفته وحالفك،
وقاتلت معه قتالًا يبقى حديثَ الدهر وهو أهل لأن يغدركَ، وفي غدرِك ضياعُ الأندلس
جميعًا ووقوعه في قبضته البربرية الغاشمة، وقديمًا كان هذا سلوكه مع غير واحد من
أمراء المغرب فنزع منهم ملكهم وسلطانهم وشردهم في الصحاري والقفار، فلا تفوتنك يا
مولاي خُطة الحزم والعزم في أمر هذا النمر ذي العمامِة والمسبحة.
الملك
:
وماذا تنصح لي أن أصنع؟
ابن حيون
:
ألا توطئ الأرقم سريرك، وأن تقطعَ السيف قبل أن يقطعك، وأن تقبض من
فورك على ضيفك هذا فتسجنه ولا تطلقه حتى يأمر جنوده بمغادرة الأندلس برّه وبحره، ثم
يُحرس أسطولك البحر من كل سفينة مغربية تجري فيه، فإذا تم لك ذلك أخذت على ابن
تاشفين الأقسام ألا يعود إلى الأندلس بعدها أبدًا. وخذ منه الرهائن فإن نفس الرجل
أعزُّ عليه من ملك الأندلس والمغرب مجتمعين، وله أعداءٌ ببلاده يخشى تحركهم
وانتقاضهم، ويخاف أن ينتهزوا الفرصة للاستيلاء على مُلكه.
العبادية
:
أيها المتكلم المحسن والناصح الصادق، لم يخف عليّ مكان مشورتك،
ولكنها خطة أولها لؤم وآخرها شؤم، فإن الملك أكرمُ وأعظم من أن يغدر ضيفه أو يخون
جاره أو أن يحفر الحفرة لمن أقال عثرته.
الملك
(لابن حيون وقد رآه يضطرب)
:
لا تُرع أيها الرجل الصادق، فقد كنا حين نبئنا بوصولك نخوض في هذا
الحديث، وكان رأيي كرأيك أما ابنتي بثينة فلم تكن أبدت رأيها بعد.
بثينة
:
مولاي، كلا الصوتين نبرةُ حق، وصيحة صدق، إلا أنني أميل إلى الأخذ
برأي الأديب ابن حيون.
الملك
:
بورك فيك يا عقيلة الأندلس! مثل هذا السمو في الرأي وهذا الحرص على
حقيقة الملك لا يستغربان من بنات الملوك المنشآت بين أعباء الدولة ومهام
السلطان.
العبادية
(معترضة)
:
ونحنُ بناتِ الشعب ألا يقام لرأينا وزن يا مولاي.
الملك
(مبتسمًا)
:
أنتنَّ تلدن الأجسام الصحيحة والقلوب الجريئة وتحسن تدبير البيوت،
ولكن لا تصلحن لسياسة الممالك.
الملك
(لابن حيون)
:
لو تيقنتُ يا ابن حيون أن جمهورَ شبان الأندلس يشاطرونك أنت وبثينة
الرأي لما تأخرتُ ساعة عن العمل بما تشيران به عليَّ.
(يدخل مقلاص)
الملك
:
كيف قضيت ليلتك عند ضيفنا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين؟
مقلاص
:
كانت ليلتي يا مولاي، ونحن كما تعلم في آذار/مارس في إبان القمر،
طويلة مظلمة باردة، لم أضحك فيها السلطان مرة ولكن بكيتُ مرارًا، ولم أجلب له
السرور ولكن جلبت لنفسي الغم.
الملك
(متعجبًا)
:
ما هذا الخبر يا مقلاص؟
مقلاص
:
وجدتُ يا مولاي بحضرة أمير للمسلمين لا يفهم كلام العرب، وعند رأسه
ترجمان من كتابه يفسر له كل ما نقوله يا معشر العرب في مجلسه، ويشرح لكل منا ما
يشرّفه به السلطان من الخِطاب.
الملك
:
ثم ماذا؟
مقلاص
:
رأيتُ يا مولاي ملوك الأندلس وقوفًا بباب السلطان متنافسين في
إذنه.
الملك
(ملتفتًا إلى زائره قائلًا)
:
أسمعت يا ابن حيون؟ أعرفت؟ ثم ماذا يا مقلاص؟
مقلاص
:
ورأيتُ ثمَّ فقهاء الأندلس بعمائمهم المكبرة وجببهم الموسعة يتمسحون
بالأعتاب.
الملك
:
أسمعتَ يا ابن حيون! أعرفت؟
ثم ماذا يا مقلاص؟ قل لنا كيف وجدت السلطان؟
ثم ماذا يا مقلاص؟ قل لنا كيف وجدت السلطان؟
مقلاص
:
بوق عليه طيلسان، وبُومة في يدها صولجان.
الملك
:
وماذا قال لك حين وقعت عينه عليك؟
مقلاص
:
أُدْخِلْتُ إليه يا مولاي فحققني من رأسي لقدمي ثم قال لي: أأنت
الرجل الذي عمله إضحاك الملك ابن عباد وتلهية أسرته؟
الملك
:
فما كان جوابك؟
مقلاص
:
قلت له: أجل أيها السلطان، أنا نديمُ الملك وسميره.
الملك
:
فماذا قال لك؟
مقلاص
:
قال لي إذن فأضحكنا نحن أيضًا، عَجّل أضحكنا.
الملك
:
فماذا صنعت؟
مقلاص
:
دخلني خجلٌ شديد، ووقفت ساعة أنظر في ثيابي، ولم يفتح الله عليَّ
بشيء يضحك منه ضيفك الكريم، فهممت بأن أقبض على السلطان بكلتا يدي وأقذف به من
النافذة.
الملك
:
وماذا منعك يا مقلاص؟
مقلاص
:
سيفه المعروض على حجره، والزبانية القائمون عند رأسه وبجانبه كأنهم
العفاريت، إلا أن السلطان لحظ حرج موقفي فأشار بإخراجي، فحضر من رجاله من صرفني في
وقاحة وإذلال، فخرجت وأنا لا أدري فيم طلبني الرجل، وأحمد الله على أن لم يجعلني في
خدمة سلطان مثله له وجه كوجه الأسد، لا يعرفُ التبسم ولا البشاشة.
(مقلاص يريد أن ينقذ الملك من تأثره)
مقلاص
:
لقد وجدت ضالتي يا مولاي.
الملك
:
وما ضالتك التي وجدت؟ وقد عدت تهذي يا مقلاص؟
مقلاص
:
لا يا مولاي، ألا تذكر أنني كنت من الإعجاب بجمال الأميرة بثينة
وكمالها وسمو منزلتها بين عقائل الشرق والغرب، بحيث لا أعتقد أن بين فتيان الدنيا
من هو أهل لأن يخطبها إليك.
الملك
(مبتسمًا)
:
والآن هل وجدته يا مقلاص؟ ومن ترى يكون؟
مقلاص
:
فتى جريء جميل رأيته يوم الزلاقة يحمي ظهرك هو وحريز وابنُ لاطون،
فظل سحابة نهاره معلنًا بالسيف دونك حاميًا لحوذتك، حتى لقي البطلان حريز وابن
لاطون حتفيهما وحُمِلَ هو إلى داره مُثخنًا بالجراح.
الملك
:
ومن الفتى يا مقلاص؟
مقلاص
:
هو يا مولاي أجملُ فتيان الأندلس وأشجعهم، وهو الآن طريح الفراش ما
يزال يشكو من جراحِه.
الملك
:
ومن يكون؟ وما اسمه؟
مقلاص
:
هو حسون ابن التاجر أبي الحسن.
ابن حيون
:
لقد صدق فتاك يا مولاي، فإني كنتُ عند حسون الليلة البارحة أعودُه
وقد أفاق من جراحه وقص عليَّ حديث بلائه يوم الزلاقة حين اشتدَّ القتال بينك وبين
الإفرنج، فأخبرني أنه رأى يومئذ جوادك وقد ضعف وخار من شدة الجراح، فقدم لك الصاعقة
أمير الجياد، ركبته وكان تحت الباز بن الأشهب لص الأندلس فخرّ عنه قتيلًا.
الملك
(مندهشًا)
:
أَوَكان الباز بن الأشهب بجانبي يقاتل معي أعداء البلاد؟!
ابن حيون
:
نعم يا مولاي، ويقول حسون إنه أبلى يومئذ بلاءً عظيمًا.
الملك
:
يا الله! أيكون اللصوص أوفى للأندلس من أمرائه وفقهائه، وأبذل
للأرواح دون لوائه، وأين حسون الآن؟
ابن حيون
:
هو كما ذكرت يا مولاي ما يزال طريح الفراش، ولكن لا خطر على
حياته.
الملك
:
الآن تذهب أنت ومقلاص فتنوبان عني في عيادته والسؤال عن أمره،
وإبلاغه تحيتي وشكري وما أُعدُّ له من جليل المكافأة.
بثينة
:
وأنا أيضًا أبلغ حسونًا تحيتي وشكري يا سيدي ابن حيون، وأرجو أن
يعلم أن أخت الظافر لم تنسه ساعة، وأنها قد جمعت له هذه الأزهار بيدها فاحملها
إليه، وقل له لو كنت الملك لبعثت له بالغار في الأزهار، وبالصولجان مع
الريحان.
(وفي هذه الأثناء يدخل جوهر)
جوهر
:
مولاي لقد وقع ما كنا نحاذر وحل بإشبيلية البلاء.
المعتمد
:
البلاء! تريد أن الصديق قد انقلب وأن الحليف قد عاد حربًا. هذا ما
خفت أن يكون وقد كان.
(يدخل لؤلؤ)
لؤلؤ
:
أغث أيها الملك المدينة، أدركها فقد خلفتها وجنود السلطان يتدافعون
فيها كالسيل بعدما اشتد ضغطهم على باب الفرج، وأقاموا ساعة يدفعونه حتى ناءت به
الكثرةُ فانفتح فنفذوا منه إلى كل مكان، فاخرج يا مولاي فقاتل حتى تستنقذ الوطن أو
تموت دونه، وإلا فالنجاء النجاء.
الملك
(مغضبًا)
:
تدعون يا شابُّ للفرار! هيهاتَ هيهات! الأسد لا يهرب ولا يخاف
الموت.
(ملتفتًا إلى جوهر)
خبرني يا جوهر أين كان فتيان إشبيلية؟ وأين هم الآن؟
جوهر
:
قبع الفتيان في البيوت يا مولاي، إلاَّ مائة أو ما دون المائة شهدوا
معك يوم الزلاقة وتعلموا منك الكرَّ والإقدام، واليوم قد لبسوا السلاح وخرجوا
يلاقون الموت وهم بانتظارك ليجعلوك اللواء الذي تسيل نفوسهم عليه.
الملك
:
يا بشراي! مائةُ شاب وطنوا النفس على الموت، أما والله لو صدقت يا
جوهر لكان لي من مائة قلب مجتمعة مؤتلفةٍ متواصية بالحق وبالموت قوة أرمي بها في
العباب فيمحى، وأقذفُ على الجبال فتزول. البدارَ البدارَ يا جوهر، امض لوقتك فضع
بيدك السرجَ على الصاعقة والقني به على الباب.
جوهر (بصوت عال)
:
أبشري إشبيلية، هذا الليث قد تحرك لنصرةِ العرين.
الملك
:
في ذمة الله وفي حفظه يا بنات المعتمد.
بثينة
:
في درع من وقاية يا أبي، فإني أراك أخذت سيفك ونسيت درعك.
(المعتمد وهو منطلق والسيف مسلول في يده ولا درع عليه)
الملك
:
إن يسلب القومُ العدا
مُلكي وتسلمني الجموع
فالقلبُ بين ضلوعه
لم تسلم القلبَ الضلوع
قد رمتُ يوم نزالهم
ألا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القميـ
ـص على الحشا شيء دَفوع
ما سرتُ قط إلى القتا
ل وكان من أملي الرجوع
شيمُ الألى أنا منهم
والأصل تتبعهُ الفروع