الفصل الخامس
المنظر الأول
«في دار الحسن في غرفة حسون، حسون راقد على سريره مريضًا وأبوه أبو
الحسن داخل عليه.»
أبو الحسن
:
قم يا حسون انهض، إن العناية بلغتك مناك، وشفت بعودك للحياة
أباك.
(ينتفض حسون من رقدته جالسًا)
أبو الحسن
:
أوشكُ يا بني أن أهتدي لموضع بثينة، فهل تساعدُني وهل تخف معي
لعلنا نجد الكنز الضائع، ونظفر بالأمنية المنشودة.
حسون
:
ماذا حدث يا أبي؟ ماذا رأيتَ أو سمعتَ حتى امتلأت تفاؤلًا
واستبشارًا؟
أبو الحسن
:
أتذكر يا بني خاتمَ الزُّمرد الذي كانت تطوف علينا به في سوق
الجوهر، سيدة كهلة من وصائف القصر، وهي تبحث عن توأم للفص وتلتمسه فلا
تجده؟
حسون
:
نعم يا أبي، وأذكر أنها كانت تنسب الخاتم للأميرة بثينة، وتصفُ
رغبة الأميرة في الحصول على فص يكون في حجمه وصفاء لونه وسلامته من العيب،
ليكون لها من الجوهرتين قرط عزيز المثال.
أبو الحسن
:
فاعلم إذن يا بني أنني كنت منذ حين في سوق الجوهر، فما راعني
إلا رجل قويُّ من قواد المغاربة قد جعل يطوف على التجار يعرض عليهم حلية،
فأخذتها عيني فإذا هي خاتم الأميرة بفصه، فتريثتُ إلى أن كف المساومون وكان آخر
ثمن بذل في الخاتم ثلاث مائة دينار، وكان التجار يقولون للرجل لو جئتنا بصنو
هذا الحجر لنقدناك فيها الألف أو زدنا. وهنا أومأت إلى الرجل أن يتبعني فتبعني،
فانتبذت به ناحية وقلت له: أنا آخذ الخاتم بالثلاث مئة وأزيدك عليها مئة، إن
أنت أصدقتني الخبر عن مصدره وكيف وصل إليك ومن أي المعادن التقطته؟ فانبسط
الرجل وتهلل وقال: هذه الحلية يا سيدي لجارية من قصر ابن عباد وقعت لي سبية يوم
هجومنا على إشبيلية، فنقلتها إلى داري فلم أجد عليها غير هذه الحلية، وكانت في
يدها فأخذتها، وأما الجارية فلم أجدها مغنمًا بل مغرمًا فإنها سقيمة مستسلمة
للأحزان، طعامها قليل، ونومها غرار، ودمعها لا يرقأ حزنًا على سادتها. ونحن لا
نحب من النساء إلا القويات الصحيحات الأبدان، ولا أكتمك يا سيدي أني بأمر
الجارية تعب وبودي لو تخلصت منها. فقلت له: خذ الآن الأربع مئة دينار مباركًا
لك فيها. واعلم أنني طبيب مولع بالمشاهدة والتجريب، كثير الاعتناء بالمريض
البائس، فلو مضيت بي إلى بيتك لعلني أنظر الجارية فأعرف علتها وأصف لها دواءها
أو أخفف آلامها. فقمنا فمضينا حتى انتهينا إلى داره، وهناك أدخلني على الجارية
المريضة فدنوت منها وقلت لها: عوفيت يا جارية ولا خوف عليك إن شاء الله تعالى.
حسون
:
والنونة يا أبت؟
أبو الحسن
:
رأيتها يا حسون فوجدتها فوق ما كنت تصفُ لي لطفًا وجمالًا.
والتفت إلى القائد البربري فقلت له: أوَتعطيني هذه الصبية أيضًا وأنا أتمها لكَ
خمس مائة؟ فتهلل الرجل وارتاحَ وقال: خذها يا سيدي وأرحني منها وداوها أنت
فعساها تصحُّ على يديك، فنقدته المائة الخامسة وحملتُ الصبية فوق ذراعي وخرجت
بها فركبت جوادي وأركبتها خلفي وانطلقتُ حتى بلغت الدار.
حسون
(صائحًا)
:
وأين هي يا أبت؟ أتراها هي بنونتها؟ ربي اجعلها هي، وأين تركتها
يا أبي؟ وفي أي موضع من الدار؟
(يفتح باب غرفة مجاورة فإذا بثينة من وراء الباب، فيندفع إليها حسون
صائحًا)
حسون
:
بثينة! حبيبتي! أميرتي.
بثينة
:
حسون! أخي! صديقي!
أبو الحسن
(قاطعًا عليهما لذة اللقاء والحديث)
:
الآن وقد جمعتك يا أميرة بصديقك وخادمك حسون، أستأذن في الخروج
إلى بعض شأني ساعة.
بثينة
:
لا يا عم بل ابق، البث، إن وجودك معنا يزيد الموقف بهجة
وطيبًا.
أبو الحسن
:
إن أذنت يا أميرة فإن احتجابي عنكما لن يطول.
حسون
:
بل ابق معنا يا أبي.
أبو الحسن
:
سأعود يا بني، سأرجع.
(ويخرج أبو الحسن.)
حسون
(إلى بثينة)
:
ماذا أقول يا أميرتي؟ وكيف أقول في هذه الساعة التي هي
العمر؟
بثينة
:
انظر حسون كيف جعل الله هذا اللقاء الذي لم يكن في الحسبان،
عوضًا لما فاتنا من نعيم الحياة ومتاعها، حتى كدت أنسى ذلك الملك المنزوع
والسلطان الذاهب، وأسلو القصور وضجتها والدولة وأعراسها.
حسون
:
وأنا أيضًا يا بثينة غفرت هفوات الدهر لهذه الساعة المحسنة
الطيبة، وإن لم أخل ولن أخلو ما عشت من تفجع للوطن العزيز، وتوجع لرزئه
الجليل.
بثينة
(متنهدة بعد انبساط)
:
آه من الدهر ماذا صنع! لطف الله بك يا إشبيلية فيما حل عليك من
قضائه، وجعل وطأة المغاربة خفيفة عليك وعلى جاراتك من حواضر الأندلس.
حسون
(مطرقًا متنهدًا)
:
دهر ببنيه يا بثينة قلب، ودنيا ترتجل العجائب، ومَلِك في السماء
يفعل بعباده على الأرض ما يشاء، ولكن بثينة حبيبتي، أميرتي، أحقٌّ أننا التقينا
في يقظة أم نحن خيالان في رؤيا من الأحلام؟ أتذكرين يا بثينة يوم السوق؟
أتذكرين قرطبة؟ أتذكرين رسالة الضبي؟ لله ما كان أحلاك يومئذٍ وراء
اللثام!
بثينة
:
وأنت يا حسون، لله ما كان أجملك وأكملك، وكأنك يومئذ ملك كنت
تنتقل في السوق فتخرج من مكتبة وتدخل غيرها، وتدع كتابًا وتأخذ كتابًا، والكتب
حلية الشباب النابه، وجمال الفتوة النابغة.
حسون
:
أتذكرين كل ذلك يا بثينة؟
بثينة
:
أجل، كل ما كان من حركاتك وسكناتك يومئذ، ومن عباراتك وإشاراتك
ما يزال مرتسمًا في ذهني لم تمحه الشهور، ولا أحسب الموت يمحوه.
حسون
(يمد يده إلى ذقنها ويقول)
:
بحياتي نونة، كالدرة المكنونة.
بثينة
(في شيء من الغضب)
:
نح يدك يا ابن أبي الحسن، لا تمدها إلى ما لم تملك بعد.
حسون
(في انكسار واستحياء)
:
اغفريها للحب وللشوق يا أميرة. شلت يدي إن كنت أضمرت سوءًا أو
هممت بريبة.
(يدخل أبو الحسن)
حسون
:
أبي، أبي! لم تبطئ يا أبي؟!
أبو الحسن
:
كنت مشغولًا يا بني بتهيئة طعام الأميرة.
بثينة
:
جزاك الله خيرًا يا عم ومد لنا عمرك.
أبو الحسن
(يأخذ مجلسه ويقول)
:
الحمد لله يا ولدي على هذا التلاقي الذي هو من توفيق الأقدار،
فاليوم جمعكما هذا البيت على أثر الكارثة وفي أعقاب النكبة، كما يجمع الشاطئ
الغريقين سالمين بالرمق، من انكسار الفلك ومن ثورة الريح وطغيان الماء، لقد
تعارفتما بالأمس فنشأت بينكما الألفة وأنست الروح الروح، وانعطف القلب على
القلب، وقديمًا يا أميرة صاهرت الملوك والرعية، وأبوك لطف الله به وبنا جميعًا
فيما حل علينا من قضائه وقدره، أسمح من سن هذه السنة، فرفع على عرش إشبيلية
امرأة من رعاياه هي الرميكية خيرة الملكات، وأم العقائل من البنين
والبنات.
بثينة
:
أراك يا عم قد بالغت في مؤاساتي حتى أنكرت يد الدهر وما نالت
منا، وإلا فأين أبي مني اليوم؟ وأين من أبي ملكه؟ وهل نحن اليوم إلا سوقة
نَتَنَصَّف؟!
أبو الحسن
:
هوِّني عليك يا أميرة! إن أباك لم يخلعه قومه ولكن خلعه
المغيرون، فهو في نفوسنا معشر الإشبيليين حاضر الجلالة ماثل المهابة مرتسُم
الكرامة، يومه كأمسه وغده كيومه، وإن اختلف به اليوم والغد وتصرفت به الأيام.
وأنت أيتها الأميرة فما زلت بنت الملك المعتمد ابن عباد، فهل تنزلين إلى
القَبول بابني هذا حسون زوجًا؟
حسون
:
وخادمًا أمينًا.
بثينة
:
هذا كثير من المجاملة والمواساة يا عمُّ، إن حسونًا كفء ويشهد
الله أني أحبه وأجله، وكأني بأبي في غياهب سجنه ينظر إليه كما أنظره، ويشعر
نحوه بمثل ما أشعر، ولكني كما علمت مفجوعة بأب منكوب، وملك معزول، أخذ فغلّ، ثم
سربل الذُّل، وبأم ثكلى وإخوة قتلى، وأخوات أميرات يتعذبن من الخلع، ويتكسبن من
غزل أيديهن.
حسون
:
قد قلت حقًّا يا أميرة، وأنا لا أتخيل الجميع هناك إلا مشغولين
بك فوق منفاهم، يفتشون عن مكانك بعين حيرها الدمع، ويد قصرها العجز، وقدم
أعجزها القيد.
بثينة
:
إذن فأنت ترى أنه ليس من الحق ولا من البر أن أوجد ولا يعلمون
أني وجدتُ، وأن أتزوج ولا يعلمون كيف وبمن تزوجت، وماذا يقولون إذا هم علموا
أني اتخذت من مأتمهم عرسًا؟
ابن حيون
(يدخل ويقول بعد أن رأى بثينة، مندهشًا)
:
سيدتي بثينة هنا؟ الأميرة بخير؟ ما أعظم منتك يا رب!
(ويحاول تقبيل يد الأميرة فتمنعها منه)
بثينة
:
لا تفعل يا عم. أهلًا بك يا ابن حيون، وما أعظم سروري
بلقائك.
أبو الحسن
:
انظر ابن حيون نعمة الله علينا بهذا الكنز الغالي
الثمين.
حسون
:
انظر ابن حيون كيف رد الله عليّ راحتي وروحي، وأعاد لي الحياة
والآمال.
ابن حيون
:
الحمد لله الذي جعلكِ في حفظه وفي ذمته، والذي ردك إلينا سالمة
يا سيدتي، والذي هو قادر على أن يجمعك بأهلكِ كأمس على جاه الأمور، وفي ظل
شاهقة القصور.
بثينة
:
لقد رأينا يا عم كيف تنتقل الأمور، وعرفنا كيف تبدل أهلها
القصور، وأصبحت لا أطمع من دهري إلا بالعيش في ظل الأمن والخمول، وبين قلب يحنو
ونفس تعطف.
ابن حيون
:
طيبي إذن يا سيدتي نفسًا، إن الذي تشتهين قد اجتمع لك، فالأمن
والسكون لا تعدمينهما في جناح من هذه الدار، أو في جنة بعيدة عن الناس من جنات
هذا الإقليم، وإني أشهد أن هذا الفتى يحبك، وأنك ملء قلبه ملء نفسه، فاقرني يا
سيدتي حياتك بحياته تجدي حقيقة السعادة في ظل الحب المشترك الصحيح.
حسون
:
كان هذا حديثنا يا عم قبل حضورك ولكن لم نكن فرغنا منه بعد، وقد
رأت الأميرة برًّا بوالديها وقضاء لحقهما أن يكون زواجنا بعين أبيها وسمعه،
وبقبول أمها ورضاها، وكل زواج رضيه الأبوان وارتاحا إليه سيقت فيه البركة وطافت
به الرحمة.
ابن حيون
:
لقد رأيتم صوابًا، واتفقتم على واجب كان لا بد من قضائه، ولا
أظن هذا المقترح لقي منك اعتراضًا يا أبا الحسن.
أبو الحسن
:
معاذ الله يا ابن حيون، ولكن ألا ترى معي أن حسونًا والأميرة
محتاجان إلى الراحة واسترداد العافية؟
ابن حيون
:
أما هذا فنعم، ولم لا يقضي حسون والأميرة هذا الأسبوع في هذه
الدار، حتى تثوب إليهما القوة والعافية.
حسون
(مقاطعًا)
:
أتأذن لي يا أبي إن رأيت غير رأيك ورأي ابن حيون؟
أبو الحسن
:
تكلم يا بني فأنت حر.
ابن حيون
:
الكلام حر في الأندلس يا حسون فتكلم.
حسون
:
أرى يا أبي أن نسافر من ليلتنا بل من ساعتنا إلى أغمات منفى
الملك.
أبو الحسن
:
نسافر؟ نسافر الساعة؟ وأنت والأميرة على هذه الحال من الضعف
والسقام!
حسون
:
أبي، إني ذكرت الوالدين المنكوبين فخيل إليَّ أنهما على جمر لا
يهدأ من اللوعة، لاحتجاب الأميرة والشك المعذب في مصيرها، وليس ما ذكرتما أنت
وابن حيون من ضعفي وضعف الأميرة وأثر السقم والهم فينا إلا حالًا لا يلبث
الشباب أن يتغلب عليه، فالمروءة تأمرنا جميعًا ألا نؤخر الرحيل ساعة، إذ لا
معنى للإسعاف إذا هو لم يُعَجَّل ولم يأت في أوانه.
ابن حيون
:
هو ذاك.
أبو الحسن
:
نعم الرأي.
الأميرة
:
ليكن كما أشار حسون.
حسون
:
إذن فهلم أبي، هلم ابن حيون، هلمي يا أميرة، الساعة نسافر فنقضي
الواجب.
الأميرة
:
ويقضي الله ما يشاء.
(يدخل الغلمان الخدم صائحين)
الغلمان
:
سيدي أبا الحسن، سيدي حسون، سيدي ابن حيون، خذوا حذركم، أدركوا
الدار.
حسون
:
ما يزعجكم أيها الغلمان، وماذا حول الدار؟ إني أسمع ضجة، أما
تسمع يا ابن حيون، أما تسمع ضجة يا أبي؟
بثينة
:
حول الدار ضجة.
خادم من الغلمان
:
أولئك جنود المغاربة يا سيدي.
الثلاثة
(بصوت واحد)
:
جنود المغاربة حول الدار!؟
الخادم
:
أجل، أتوا يسألوننا عن بنت الملك هل رأيناها وهل آويناها، وهم
يقولون إنها دخلت الدار منذ ساعة، وإنها طريدة الأمير سيرى بن أبي بكر قائد جيش
الفتح.
حسون
(مغضبًا)
:
بل قل جيش الفضح يا غلام، فقد باء الغادرون بفضيحة
الأبد.
بثينة
:
الآن فهمت يا حسون، الآن أدركت يا عم أن سيرى ابن أبي بكر كان
قد خطبني إلى أبي، وكان رسوله يومئذ القاضي ابن أدهم، فلا أبي أجاب، ولا أنا
قبلت، ولعله تذكرني اليوم فهو يريد أن يأخذني عنوة.
حسون
:
لا والله يا بنت الملك لا تسقط من رأسك شعرة وأنا حي، ساعدي معي
وسيفي بيدي مسلول.
(وبعد إطراق يستأنف ويقول)
حسون
:
لا بأس عليك يا أميرة، ولا علينا يا أبي من طلعة البربر، ولا من
اجتماعهم بنا في هذه الحجرة أو غيرها من الدار، ولا خوف علينا من فتشهم
ونبشهم.
التاجر
:
وكيف يا حسون؟ وماذا اعتزمت أن تصنع لتدفع عنا هذا
البلاء؟
حسون
(بعد فكرة طويلة)
:
اسمع يا أبي، في هذه الغرفة صندوق مملوء من ثياب المغاربة
وأسلحتهم، فاتبعوني، ادخلوا من فوركم فاخلعوا ثيابكم هذه وخذوا من الصندوق ما
شئتم من ثياب المغاربة وتزيوا بزي القوم ثم نخرج فتختلط بهم أو ندعهم وسبيلهم
ونأخذ سبيلًا غيره.
ابن حيون
:
هو لا شك سبيل الفرار.
حسون
(مبتسمًا)
:
هو ذاك يا ابن حيون، السرعة السرعة.
(ثم ملتفتًا إلى الأميرة)
حسون
:
ادخلي يا أميرة، أسرعي، أسرعـي، لا يَضِيعن الوقت، فإن الجنود
في طلبنا.
(يدخل الأربعة الحجرة ثم يخرجون في الزي المغربي ويكون الجنود قد
دخلوا وهم يقولون).
الجنود
(داخل المنزل لبعضهم)
:
فتشوا، انبشوا.
الأربعة
(خارجين قائلين)
:
فتشوا، انبشوا.
(ويكررون ذلك ثم ينسلون من المكان)
المنظر الثاني
«تحت أسوار السجن في أغمات حيث ترى بثينة وحسون وأبو الحسن وابن
حيون على مقربة من حارس السجن».
ابن حيون
:
ها نحن أولاء شارفنا أغمات، وهذه أيها الرفاق هي القلعة التي
شاءت الأقدار أن يسجن فيها الملك العظيم.
حسون
:
يا لعجائب القدر! قرية ظلت القرون الطوال مجهولة مغمورة، أصبحت
اليوم تسافر إليها الظنون من كل مكان، وتشتغلُ ممالك العرب بها وبنزيلها
العظيم، وتشرف الأسماع لمطالع قوافيه، وينتظر الرواة ما يقول فيه الشعراء من
كلمات التوجع ونفثات الحنين!
بثينة
(بعد إطراق واستعبار)
:
يا لقسوة القدر! أهذا قفص الأسد يا ابن حيون؟ أهاهنا منفى
الملائك من عقائل بني عباد؟ تبًّا لك يا ابن تاشفين، ما كان أبخل جاهك على
الكرام، وما كان أكثرك في القيود على الأحرار!
ابن حيون
:
صهٍ أيتها الأميرة، فهذا السجان ينظر إلينا، وقد يُدخل الريبة
في نفسه أن يسمع منك هذا الكلام.
حسون
:
كفكفي الدمع يا بثينة وأقلي الجزع، ولا تنسي أن وراء هذه
الجدران جروحًا من الدهر لم يبق لها بلسم سواك، فكوني المفاجأة الشافية، واطلعي
عليها بابتسامتك الحلوة طلوع العافية.
السجان
:
من الرجال؟ ما تبتغون؟ متى كان حرم السجن موضع وقوف
وهمس؟
حسون
:
نحن أيها السجان طائفة من آل الملكِ السجين وحاشيته، قد هزَّنا
الشوقُ إلى زيارته والسؤال عن أمره، فادخل فاستأذن لنا عليه.
السجان
:
أنسيت أيها الفتى أن هذه القلعة هي من السجون التي يعيرها
السلطان اهتمامه. فلا يدخلها داخل إلا بإذنه، ولا يخرج منها خارج إلا بإذنه،
فهل بأيديكم جواز يبيح لكم زيارة السجين؟
ابن حيون
:
أنت تعلم يا أخي أن مولانا السلطان يعطف على أسيره
الكريم.
السجان
(متهكمًا)
:
كل العطف يا سيدي.
ابن حيون
:
وأنت تعلم أن الملك المعتمد قد رُخص له من أول يوم في استصحاب
من يشاء من خواصه وذوي قرباه.
السجان
:
أعلم هذا أيها السيد.
ابن حيون
:
فكر إذن في الأمر قليلًا، فليس يضرك أن تدخلنا إلى الملك
وتتركنا عنده ساعة، لعلنا نشفى برؤيته وحديثه الشوق والصبابة
(ويلقي للحارس صرة ويقول:)
ومع ذلك فإليك هذه الصرة خذها وبلغنا الأرب.
السجان
(وهو يضع الصرة في كمه)
:
ما هذا أيها السيد؟
ابن حيون
:
هذا قد لمسته بيدك، هذا قد سمعت رنينه بأذنك، هذا يا أخي هو
الذهب مفتاحُ الأبواب كلها إلا باب الجنة.
السجان
:
هذا كثير يا سيدي.
ابن حيون
:
بل هو قليل يا أخي، ولك مثله عند خروجنا من حضرة الملك.
السجان
:
لقد سألتموني أمرًا صعبًا أيها السيد، ومع ذلك … فما في دخولكم
من بأس. تفضلوا يا سادة ادخلوا.
المنظر الثالث
«في سجن أغمات حيث يرى ابن عباد بين أمه وزوجه وسائر أولاده
وحاشيته، وقد شاعت آية البؤس والتعاسة وجوه الجميع، واليوم يوم عيد، وقد جلس ابن عباد
يتلقى تحية العيد وكلهم صامت خاشع».
ابن عباد
(مناجيًا نفسه)
:
فيما مضى كنتَ بالأعيادِ مسرورا
فساءك العيدُ في «أغمات» مأسورا
ترى بنات في الأطمارِ جائعةً
يَغزلنَ للناس، ما يملكن قِطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهنَّ حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدامُ حافية
كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
من عاش بعدك في ملك يسر به
فإنما عاش بالأحلام مغرورًا
الرميكية
(للملك)
:
الأميراتُ بين يديك أيها الملك أتين يهنئنك بالعيد.
الملك
:
يا مرحبًا بهن، ولا مرحبًا بالعيد ولا أهلًا به، عيد! بأية حال
عدت يا عيد! اذهب فأنت على السجين حرام.
الملك
(لنفسه)
:
لكن يا ابن عباد، بعض هذا الجزع، وتجلد رحمة بهذه الحمائم
الموثقة، ورفقًا بهذه الملائكة المسجونة.
الملك
(إلى بناته)
:
العيد يا أخواتِ بثينة، يوم يجمعنا بأختكن.
إحدى الأميرات
:
والعيدُ أيضًا أيها الملك يوم يرد الله عليك ملكك، فتدخل
إشبيلية عليك التاجُ مؤتلقًا.
أميرة أخرى
:
بل العيدُ يا أبي يوم تدخل الأندلس فتنتقل في ربوعه وممالكه،
تنقل الشمس من دار إلى دار.
الملك
:
تقبل الله منكن يا عباديات ورحِمني.
إحدى الأميرات
:
هوّن عليك يا أبي فلم يدم في النعيم والبؤس قوم.
الملك
:
لقد هون الصبرُ الحوادث عندي يا بنتاه، إلا حادثة أصبح القلب
جريحًا لا يقوى على حملها.
الأميرة
:
وما تلك يا أبتي؟
الملك
:
أختك بثينة واحتجابها الذي طال، وانقطاع الأخبار عن
مصيرها.
الرميكية
:
لا تيأس من رحمة الله أيها الملك، وانتظر فرجًا يأتي به فضله
وكرمه، فهذا قلبي يحدثني، وقلما كذبت قلوبُ الأمهات، أن بثينة قد وجدت، وأنها
بخير وأمان.
الملك
(باكيًا متضرعًا)
:
اللهم اسمع من أمتك الرميكية وتقبل منها وأدخل علينا السرور ولو
ساعة، فإن عهدنا به عهد طويل.
(الأميرات يتنصتن)
الرميكية
:
ضجة؟
أميرة
:
حركة!
أخرى
:
نقل أقدام!
الملك
:
انظري يا رميكية من الداخلون! فإن عيني أصبحت لا تحقق
الأشباح.
الرميكية
:
سلم الله عينيك يا مولاي وأقرهما بلقاء بثينة.
(وفي هذه الأثناء يثب مقلاص إلى الباب ويرجع مع القادمين يقبل ثوب
الأميرة بحرارة قائلًا:)
مقلاص
:
سيدتي بثينة! أميرتي، يا طربًا، يا فرحًا!
الملك
:
رب ما أرحمك! ماذا أرى؟ ماذا أسمع؟ ما هذا الطيب الذكي؟ إني أجد
ريح بثينة!
الرميكية
:
بشراك يا قلب هذه فلذتك ردت إليك،
(وملتفتة إلى الملك)
سيدي، ملكي، انظر كيف استجاب الله لنا، هذه بثينة مقبلة.
الملك
:
أجل أيتها الملكة، أقبلت الدنيا وعاد الزمان.
إحدى الأميرات
:
بثينة! أختي! ما أعظم إحسانك يا رب!
الملك
:
بنيتي، بنـيتي، تعالي املئي ذراعي كما كنت تختبئين فيهما طفلة
صغيرة.
(تنطرح بثينة على صدر والدها)
بثينة
:
أبي، سيدي، ملكي، لا بأس عليك يا ملك العرب.
الملك
:
ولا عليك يا ابنتي، ثقي بالله وأملي وجهه الكريم.
بثينة
:
الصبر منك تعلمناه يا ملك الصابرين.
الملك
:
والجدة يا بثينة أنسيتها؟ أما بك إليها شوق؟ أما لها منك
قبلة؟
بثينة
(وتقوم لجدتها)
:
جدّتي، سيدتي، ملكتي، شهد الله ما خلا القلب منك ساعةً، وما
وجدتُ في مضيق فذكرتك إلا انقلب فضاءً، ولا أظن الله سبحانه وتعالى أنقذني من
البلاء، وردني إلى أسرتي ورد أسرتي إليَّ إلا ببركة رضاك، أطال الله عمرك يا
جدة.
(ثم ترتمي في أحضان العبادية جدتها، وهي محاطة بأخواتها الأميرات
تقبلهن ويقبلنها حتى أطردت اللوعة وأخذها أبواها بينهما، وانتظمت من الأسرة الملكية
حلقة. وهناك أقبل الملك على ابنته بالحديث فقال:)
الملك
:
خبريني كيف اختطفت يا بثينة وما حديث اختفائك؟ حدّثينيه ليطمئن
قلبي، فقد كان احتجابك في غليان الفتنة، وعند احتدام الفتن يُزال المصونُ ويهون
العزيز وتقع الفجاءات.
بثينة
:
ولكن الله سلم يا أكرم الآباء.
الملك
:
حدثينا إذن حديثك يا بثينة.
بثينة
:
حديثي يا أبت عجيبٌ، مخزن سار، مُبْكٍ مضحك، حافل بعجائب القدر
ومدهشات القضاء.
الأميرات
:
حدثينا إياهُ يا أختُ أسرعي.
الرميكية
:
قصي علينا يا بنتاه قصتك.
الملك
:
خبريني يا بثينة.
بثينة
:
نظرت إليك يا أبي يومَ هجوم المغاربة على إشبيلية، فرأيتك تقاتل
وحيدًا قليل العون والمساعد، وكأن إشبيلية تحتك العرين، وكأنك الأسد يحمي عرينه
شِبرًا شبرًا، فقلت في نفسي: علام تعلمت الضرب بالسيف، وعلام كنت أركض جيادَ
الخيل في سهول الأندلس وحزونه، إذا أنا لم أقض حقّ وطني، ولم أحم ظهر أبي في
هذا اليوم العصيب؟ ثم جعلتُ على وجهي لثامًا وتقلدت سيفًا وامتطيت جوادًا وخرجت
من القصر فلحقت بك، فلم أزل أقاتل بجانبك وأحامي عنك حتى امتدت إليَّ يد من
حديد فاقتلعتني من سرجي، فأُغْمِي عليَّ، ثم انتبهت فإذا أنا في دار رجل من
قواد المغرب.
الملك
(مغضبًا)
:
وماذا لقيت من المغربي الخشن؟
بثينة
:
لم ألق إلا خيرًا يا أبي، فقد كان الرجل دينًا وتقيًّا، أخذ ما
عليَّ من الحلي.
الملك
:
يا له من دَيِّن تقي.
بثينة
:
وتركني، فلبثت في داره أيامًا طريحة الفراش لا أذوق طعامًا ولا
أطعم رقادًا، إلا ما كان من سكرات الحمى، إلى أن سخرت له العناية هذا الشيخ
الجليل
(وتشير إلى أبي الحسن)
فلم أدر كيف نقلت إلى داره، وهي لا تقل رفعة عن قديم دورنا، ولا
تقصر بشاشة نعمة عن زائل قصورنا.
الملك
(في قلق وغضب، مشيرًا إلى حسون)
:
هذا الشابُّ من يكون يا بثينة؟
بثينة
:
هذا حسون ابن هذا الشيخ الجليل، التاجر أبي الحسن، وله عندنا
أياد يذكُرها مثلك في الكرام، فقد قاتل الثوار في قرطبة مع أخي الظافر رحمة
الله عليه، وأبلى في وقعة الزلاقة بلاءً كان له خطره وأثره في ذلك الفتح
المبين.
ابن حيون
(متدخلًا في الحديث)
:
وقد جُرح حسون يومئذ جرحًا بليغًا فحمل إلى داره، فما بلغها حتى
بعث إليك أيها الملك بالصاعقة، ذلك الجوادُ الأشقر، فركبته والوطيسُ حام والحرب
مجنونة، فكان ميمون الناصية، من صوته نصرت، وفي ركابه غلبت وظهرت.
الملك
(مفكرًا مهتمًّا)
:
الصاعقة؟ فرس الباز بن الأشهب لصِّ الأندلس؟
ابن حيون
:
أجل أيها الملك، وقد كان تحتك في وقعة الدهر بين الفرنجة
والمسلمين، وكان رابع فرس قدم لك يومئذ وأنت كلما هلك تحتك فرس ركبت
غيره.
العبادية
:
أعرفتَ محدثَك هذا يا مولاي؟
الملك
:
كيف أجهله أو أنساه، هذا ابن حيون الذي زارنا في إشبيلية ونصح
لنا فلم نسمع منه، فالحمد لله الذي جمعنا به حتى نستأنف شكر إحسانه.
ابن حيون
:
أطال الله بقاءك يا مولاي وأعانك على هذه الشدة، وردك إلى ديارك
ورد ديارك إليك.
الملك
:
وأنتَ يا حسون، فقد ذُكر لي بلاؤك، ووُصِفْتَ عندي كثيرًا
بمحاسن الصفات ومكارم الأخلاق.
حسون
:
مدّ الله حياتك يا مولاي، وظُلِّلْت برعايته وأمانه.
بثينة
:
ائذن لي يا أبي أن أعترف في مجلسك بأني كنت في بعض أيام تنكري
أجتمع بهذا الشاب النبيل، فلا أجد إلا أدبًا حسنًا، وعلمًا جمًّا وخلقًا
فاضلًا، وشمائل قد لا توجد في أبناء الملوك.
الملك
:
أتذكرين يا بثينة كيف كنتُ معك ضد القاضي ابن أدهم، حين جاء
يخطبك للأمير سيرى بن أبي بكر؟
بثينة
:
أذكر ذلك يا أبي ولا أنسى لك فضلك ما حييت.
الملك
:
اعلمي إذن يا بنية أن الأوان قد آن، وأن الإسلام لا دير فيه ولا
رهبانية، وأن السجن قد يحتمله الطفل وقد يطيقه الكهل، ولكنه يرهق الشباب
ويزهقه، فلن نرضى لك أن تشاطرينا هذا المنزل الخشن وهذه العيشة الجافية، وإن
قلبي ليحدثني بأن ألفة روحية قد انعقدت بينك وبين هذا الشاب النبيل.
حسون
(متدخلًا)
:
أيأذن لي الملك إن عرضت أن قوله الكريم إنما يُعرب عما أكن
لسيدتي الأميرة من الحب والإجلال، وإني أجد أقصى التشريف وغاية السعادة أن يأذن
لي الملك في أن أخطب سيدتي بثينة إليه.
الملك
(ملتفتًا إلى بثينة)
:
وأنت ماذا تقولين يا بثينة؟
(الأميرة تغضي حياء وتسكت)
الملك
:
منَ الصمت كلام.
الملك
(إلى أبي الحسن)
:
وأنت يا أبا الحسن ماذا ترى؟
أبو الحسن
:
ما يرى الملك أفضل، فيما شئت فمرنا يا مولاي.
الملك
(إلى الرميكية)
:
والملكة ما رأيها؟
الملكة
:
قد أمرت يا مولاي بما فيه الخيرُ، جعله الله زواجًا مقرونًا
بالسعادة واليمن.
ابن حيون
:
أيأذنُ الملك لي أنا الآخر بالكلام؟
الملك
:
تكلم يا ابن حيون. فقد عرفت مودتك وإخلاصك، وتبينت نُصحك
واهتمامك، ولو لم يكن من إحسانك إليَّ وإلى أسرتي إلا تجشم هذه الرحلة من
إشبيلية إلى أغمات، لكفى في باب المروءة والوفاء.
ابن حيون
:
لا شكر على واجب يا مولاي، وقد طوقتني الساعة منة لا ينزعها من
عُنقي الموتُ، بما رسمتَ من بناء هذا الفتى الماجد الباسل بهذه الأميرة التي لم
يلد الملوكُ أجمل ولا أكمل منها، والآن بقي لي ملتمسٌ أرجو أن يجيبني الملك
إليه.
الملك
:
اقترح يا ابن حيون تجد ملبيًّا مجيبًا فيما تبلغه قدرة ملك
مخلوع.
(يخرج ابن حيون جرابًا كان قد شده على وسطه ثم يفتحه وينثره عند
قدمي الملك فتنتثر اللآلئ واليواقيت).
الملكة
:
جواهر!
الأميرات
:
لآلئ! يواقيت!
مقلاص
:
يا لك من كنز ثمين غال.
الملك
(وهو ينحني على الكنز)
:
ومن أين لك يا ابن حيون كلُّ هذا المال؟ فمثل هذا الكنز لا يكون
إلا ذخيرة ملك وابن ملوك.
ابن حيون
:
هو كما تقول يا مولاي. فهذا الكنز كان لملك ووارث ملوك فساقته
العناية إليَّ، واليوم قد هلك أصحابه وبادوا فأصبح لي وحدي أتصرف به كيف أشاء،
وبالأمس قومت هذه الجواهر بما يقرب من ألف ألـف دينار، وأنا مقسم هذا المال
ثلاثة أقسام: ثلث تأخذه أنت يا مولاي فتستعين به على ما أنت فيه من الشدَّة،
وثلث يأخذه حسون وزوجته فيعيشان به رغدًا، والثلث الثالث يكون لي ولأبي الحسن
التاجر هذا،
(مشيرًا إلى أبي الحسن)
نؤسسُ به تجارتنا ونعقد بيننا شركة نتحدى بها تجارات الفرنجة في
الأندلس.
أبو الحسن
:
الله أكبر! أنت والله هو المغربي الذي دخل على داري، وما كنت
يومئذ إلا متنكرًا محسنًا للتنكر، فأسوت جرحي وحفظت عليَّ داري واستنقذتني من
عوادي البؤس والفاقة، والآن تردُّ عليَّ تجارتي وتشاطرني كرائم مالك، فبأي لسان
أؤدي شكر إحسانك!
ابن حيون
:
بل اشكر الله يا أخي، فإني لم أعنك بمالي ولكن أعنتك بماله، ولا
أجدني صنعتُ يومئذ إلا واجبًا ولا قضيت إلا دينًا عليَّ للصداقة القديمة وللود
الصحيح.
الملك
:
ولكن ما عساي أصنع يا ابن حيون بهذه الثروة، وأنا كما تراني …
صيد في قيد، وأسد في صفد، وحي في قبر، ودنيا في شبر؛ إنها لَهِبَة مشكورة وإن
كانت هي والحرمان سواء.
ابن حيون
:
لقد أراح الله بالك من هذه الناحية يا مولاي، وأذهب عنك الحزن …
ألا يسرُّك يا مولاي أن تنتقل من هذه القلعة المظلمة الرطبة إلى منزل بظاهر
المدينة جديد البناء، حسن الأثاث، تحيط به الأشجار من كل جانب، فتنزله وقد
طَرَحَت هذه القيود فتستقبل الراحة والحرية، وتتمتع بالعزلة التي هام بها
العقلاء في كل زمان؟
الملك
:
ومن لي بهذا الذي تصف يا ابن حيون؟
ابن حيون
:
بل هو أمرٌ قد تم يا مولاي، فقد فرغ من شرائه وتأثيثه وتهيئته
لنزولك به في أهلك وعيالك، وأما النقلة فغدًا أو بعد غد إن شاء الله.
الملك
:
وابن تاشفين؟!
ابن حيون
:
هو الذي أمر أن يكون كلُّ ذلك، وقد تذكر كلمتك المشهورة التي
سارت مثلًا في فم الأندلس، إذ سئلت أي المفزعين أحبُّ إليك: ملك الأسبان أم
سلطان المغرب؟ فأجبت: «رعي الجمال ولا رعي الخنازير!» فأمر أن يُحْمَل إليك في
المنزل بعيران من نجائب إبله لترعاهما له في خميلة الدار الجديدة.
الملك
(في إطراق)
:
الآن تذكرت. لقد سئلت مرة في مجلس الحكم إن كان لا بد لي أن
أخضع لسلطان أو أدينَ لملك بالطاعة، فأي الملكين أفضل وأي السلطانين أختار:
سلطان المغرب أم ملك الأسبان؟ فأجبتُ: «أرعى الجمال عند أمير المسلمين، ولا
أرعى الخنازير لملك الأسبان» وأظن أن عبارتي هذه نقلت يومذاك إلى ابن تاشفين
فأعجبته ووجدها شريفة.
بثينة
:
ولكن المكافأة كانت غير شريفة يا أبي.
الملك
:
تريدين يا بثينة أن تقولي إن مروءة السلطان لم تزد على أن جعلني
راعيًا لجماله، بعد ما سلب نعمتي واغتصب مُلكي ونفاني أنا وأسرتي في
أغمات.
الرميكية
:
هذا جهد الرجل في المروءة يا مولاي، وهذه غاية كرمه، فلا تكلفه
فوق قدرة باعه، ولا تسأله ما ليس في طباعه.
الملك
(لابن حيون)
:
ولكن قل لي يا ابن حيون، من أخذ لنا هذا التافه القليل من ذلك
السلطان الشحيح؟ ومن ذا الذي اجتهد لنا وصنع كل هذا، حتى غير رأي السلطان،
وصرفه عن العنف إلى اللطف؟
بثينة
:
هو لا شك ابن حيون يا مولاي.
ابن حيون
:
ما اجتهدتُ ولا صنعت شيئًا ولكن المال صنع.
(ويشير إلى الجواهر)
الملك
:
سنذكر لك هذه الهمة الكبرى يا ابن حيون.
بثينة
:
وتلك الهمة الصغرى أتذكرها للسلطان يا مولاي؟ فقد تسمح فنقلك من
هذه القلعة إلى دار غيرها في أغمات.
الملك
(ويبتسم ابتسامة تهكم)
:
أعيشُ فيها حرًّا طليقًا بين أربعة جدران، وأرعى له فيها
الجمال.
بثينة
:
أنت الذي رعيت لله في إشبيلية قومًا شيدوا حضارة الإسلام،
وشعبًا عزيزًا كريمًا طالما ناضل دون عرينه، وصبر على عداوة الفرنجة وتألبهم
عليه القرون الطوال.