مقدمة
(عيادة الدكتور صبحي عبد الباقي الأخصائي في الأمراض النفسية، الدكتور صبحي جالس إلى مكتبه، وهو شيخٌ أشيب، جاوز الستين … وهو يكتب إحدى المذكرات الطبية وقد وضع نظارته على عينيه، الباب يدق ويدخل سالم التمرجي وهو أيضًا في الشيخوخة.)
صبحي
(يخلع نظارته ويلتفت إلى التمرجي)
:
فاضل حد برة منتظر يا سالم؟
سالم
:
فاضل لسة نمرة يا دكتور … آخر نمرة.
صبحي
:
يتفضل.
(سالم يخرج ويدع الباب مفتوحًا ليدخل منه بعد لحظةٍ شاب يتقدم في تردُّد واستحياء.)
الشاب
:
مساء الخير يا دكتور!
صبحي
:
مساء الخير … اتفضل!
الشاب
(مترددًا)
:
أنا … أنا …
صبحي
(يشير إلى كرسيٍّ قريب منه)
:
اتفضل استريَّح على الكرسي ده! (الشاب يجلس) أيوه كده كويس … أفندم! … قل لي حالتك بالظبط
… وبكل صراحة.
الشاب
:
أنا … أنا حالتي نفسية.
صبحي
:
بالطبع … لازم تكون الحالة اللي عندك نفسية … لأنك جيت لي باعتباري طبيب نفساني … مش
كده؟
الشاب
:
أيوه.
صبحي
:
وأنا كل اللي أطلبه منك إنك توصف لي حالتك بكل صراحة اعتبرني مش بس طبيب … اعتبرني زي
أبوك.
الشاب
:
أنا … أنا كنت باحب واحدة … ولا أزال أحبها بجنون … كانت خطيبتي …
صبحي
:
وبعدين؟
الشاب
:
وبعدين ظهَر واحد تاني قوي وغني … أخذها مني.
صبحي
(يهز رأسه)
:
فهمت.
الشاب
:
من يومها وأنا مش عايش … ومش عايز أعيش.
صبحي
:
مش عايز تعيش؟!
الشاب
:
فكرت في الانتحار … ولا بد رايح أنتحر في يوم من الأيام إذا استمريت على حالتي دي.
صبحي
:
أنا عاوز أسألك سؤال … أرجوك تجاوبني عليه بكل دقة: «إيه شعورك بالنسبة للشخص ده اللي
أخد
منك خطيبتك؟»
الشاب
:
هو … أحسن مني … أحسن مني في كل شيء … ولذلك هي فضلَته عني.
صبحي
:
شعورك نحوه أنه هو أحسن منك … لأنه غلبك … مفهوم … نفس الشعور اللي بتشعر به بعض الأمم
المغلوبة نحو الأمم الغالبة … مركَّب النقص.
الشاب
:
حالتي يا دكتور إني حاسس … حاسس إني مش قادر أعيش … مش عايز أعيش.
صبحي
:
نتيجة طبيعية للشعور بالهزيمة … ده بالظبط إحساس المغلوب الهارب قدَّام الغالب … عايز
تترك له الميدان … تسيب له الحياة كلها.
الشاب
:
أيوه يا دكتور … حياتي كلها أصبحَت مستحيلة.
صبحي
:
اسمَع يا ابني … حالتك دي مش جديدة … دي حالة بتحصل كل يوم للأفراد وللأمم … وفي كل عصور
التاريخ … القريبة والبعيدة، أضرب لك مثل بشخصين لازم سمعت عنهم … حالتهم تشبه حالتك
تمام …
عنترة … ومجنون ليلى … الاتنين حبوا وانهزموا في الحب … لكن واحد كان قوي … والتاني كان
ضعيف
… عنترة القوي لما رفضوا يجوزوه بنت عمه عبلة اللي بيحبها وعيَّروه بأنه ابن عبد أسود
… عمل
إيه؟ … انصدم وانهزم وهرب من الحياة … وخضع لمركَّب النقص؟ … أبدًا … أبدًا … أبدًا …
قام
يكافح بشجاعةٍ عجيبة أصبحَت مضرب الأمثال، واستطاع بفروسيته وانتصاراته أن يقنع الناس
بأن
اللي قالوا عليه عبد أسود هو بطل الأبطال … أما مجنون ليلى فعمل عكس كده … عمل زي ما
انت عايز
تعمل … وزي ما بتعمل كل فصيلة المرضى بمركَّب النقص والهزيمة … رفض الكفاح … وهرب من
الحياة …
وعاش هايم على وجهه في الصحارَى والقفار لغاية ما مات وقال الناس عليه إنه مجنون … آدي
قدَّامك مثَلين لنفس الحالة تختار تكون عنتر عبلة الصامد المكافح … ولَّا مجنون ليلى
المنهزم
الهارب؟
الشاب
:
مش قادر اختار يا دكتور … مش عايز اختار … مش عايز.
صبحي
:
حاذِر يا ابني إنك تقف من الحياة موقف سلبي!
الشاب
:
الحياة ما بقتش تهمني.
صبحي
(بعنفٍ)
:
ما تقولش الكلام ده … أوعى تقول الكلام ده تاني يا ابني … دا كلام أنا سبَق سمعتُه من
عشرين سنة … من واحد كانت حالته زي حالتك … ظن إنه يفر من الهزيمة ويهرب من الحياة بالسخرية
من الحياة ومن نفسه، ومن كل شيء لكن الحياة حطمته … يا خسارتك يا شاهين يا رَحمي! … كان
محامي
ناجح، وكان زوج مثالي … لكن الصدمة غلبته … حالته الشاذة هي اللي جعلَت مني أنا طبيب
نفساني …
لأني درَستُه كويس … أنا حاحكي لك حكايته بالتفصيل على شان تعرف لأي حد النَّفْس الضعيفة
تُهلك صاحبها، إذا تمكن منها مركَّب النقص والهزيمة … عندك وقت تسمع؟ … لأن دا مرض …
قاتل!
الشاب
:
أيوه … اتفضل.
صبحي
(يحكي وهو يرجع ببصره إلى الماضي)
:
من عشرين سنة كنت أنا مفتش صحة في الأرياف …
(ينطفي النور … ثم يعود النور فيظهر منظر الفصل الأول.)