الفصل الثاني
(١) فاتِحُ المَدِينَةِ
فَلَمَّا رَأَى الأَمِيرُ «إقْبالٌ» مَصارِعَ أَتْباعِهِ، وَهَلاكَ قائِدِ جَيْشِهِ، أَمَرَ أَصْحابَهُ أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ مُحاوَلَتِهِمْ، وَقالَ لَهُمْ: «ما لِهذا الأَمْر غَيْرِي.»
فارْتاعَ أَصْحابُ الأَميرِ وَجَزِعُوا، وَتَفَزَّعُوا مِمَّا سَمِعُوا، وَتَوَسَّلُوا إلَيْهِ ضارِعِينِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ هذهِ المُخاطَرَةِ، وَقالُوا لَهُ مُسْتَعْطِفِينَ: «تَرَفَّقْ بِنا أَيُّها الأَميرُ، فِإنَّ حَياتَنا رَهْنٌ بِحَياتِكَ، وَلا سَبِيلَ لَنا إلَى البَقاءِ بَعْدَكَ، فَأَنْتَ دَلِيلُنا وَرائِدُنا، وَهادِينا وَمُرْشِدُنا.»
فَقالَ الأَميرُ: «لَقَدْ عَزمْتُ عَلَى أَنْ أُدْرِكَ هذهِ الغايَةَ أَوْ أَهْلِكَ دُونَها، وَلَنْ يُثْنِيَني عَنْ بُلُوغِها شَيءٌ إِنْ شاءِ اللهُ.»
فَلَمَّا رَأَوْا إِصْرارَ الأَميرِ عَلَى عَزْمِهِ، وَعَجْزَهُمْ عَنْ مُقاوَمَةِ إرادَتِهِ، كَفُّوا عَنْ إِلْحافِهِمْ، واتَّجَهُوا إلَى اللهِ بِدُعائِهِمْ وَرَجائِهِم.
وَارْتَقَى الأَميرُ دَرَجاتِ السُّلَّمِ العالِي حَتى بَلَغَ ذِرْوَتَهُ. وَما كادَ يَسْتَقِرُّ عَلَى سُورِ المَدينَةِ حَتى اسْتَخَفَّهُ الفَرَحُ، فَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ إعْجابًا، وَشَخَصَ بِبَصَرِه إلَى الفِضاءِ مُتَأَمِّلًا، فَجَزِعَ أَصْحابُهُ مِمَّا رَأوْا، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ أَمِيرَهُمْ سَيَلْحَقُ بِمَنْ سَبَقَهُ مِنَ الْهالِكِينَ، وَحَسِبُوا أَنَّهُ قاذِفٌ بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْلَى السُّورِ الشَّاهِقِ، فَتَعالى صُراخُهُمْ، وَانْطَلَقُوا يَصِيحُونَ مَذْعُورينَ: «رُحْماكَ اللَّهُمَّ رُحْماكَ! تَرَفَّقْ بِنا أَيُّها الأَميرُ، وَلا تُلْقِ بِنَفْسِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَنُصْبِحَ بَعْدَكَ مِنَ الْهالِكِينَ.»
وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ، وَتَغَلَّبَتِ الْحِكْمَةُ عَلَى الطَّيْشِ، وانْتَصَرَ الْعَقْلُ عَلَى السِّحْرِ، فَجَلَسَ الأَميرُ ساعَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ نَهَضَ وَقَالَ لِأَصْحابهِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فِي لَهْجَةِ الْواثِقِ الثابِتِ العَزْمِ: «لا تَخافُوا عَلَيَّ، وَلا تَهِنْ عَزَائمُكُمْ أَيُّها الرِّفاقُ، وَلَنْ تَرَوْا إِلَّا ما يَسُرُّكُمْ إنْ شاءَ اللهُ. لَقَدْ صَرَفَ اللهُ عَنِّي كَيْدَ الشَّيْطانِ وَمَكْرَهُ.»
وَجَلَسَ الأَميرُ قَلِيلًا يُفَكِّرُ فِي فَتْحِ أَبْوابِ المَدينَةِ، ثُمَّ نَهضَ قائِمًا.
(٢) الْجَوارِي الْعَشْرُ
أَيُّها الصَّدِيقُ الصَّغيرُ، أَتَعْرِفُ ماذا رَأَى الأَميرُ حِينَ وَقَفَ عَلَى سُورِ المَدينَةِ؟
لَقَدْ شَهِدَ ما لَمْ يَشْهَدْهُ إنْسانٌ، وَرَأَى أَعْجَبَ ما وَقَعَتْ عَلَيْهِ عَيْنانِ، وسَمِعَ أَغْرَبَ ما سَمِعَتْهُ أُذُنانِ: رَأَى عَشْرَ جَوارٍ، كأَنَّهُنَّ الأَقْمارُ، يُشِرْنَ بِأَيْدِيهِنَّ إلَيْهِ، وَينادِينَهُ قائِلاتٍ: «تعال إلَينا أيُّها الأَميرُ العَظِيمُ!»
وخُيِّلَ إليْهِ أَنَّ تَحْتَهُ بَحْرًا مِنَ الماءِ دانِيًا مِنْهُ (قَرِيبًا)، فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ كَما فَعَلَ مَنْ سَبَقَهُ، فَرَأى أَصْحابَهُ صَرْعَى، فَثابَ إلَيْهِ رُشْدُهُ، وَأَدْرَكَ أنَّ ما يَراهُ خِداعُ ساحِرٍ، فاسْتَمْسَكَ، وَاعْتَصمَ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ يُلْقِ بِنَفْسِهِ.
وَهكَذا رَدَّ اللهُ عَنْهُ كَيْدَ الشَّيْطانِ وَفِتْنَتهُ، وَتَجَلَّى لَهُ أَنَّ ما رآهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَكِيدَةً دَبَّرَها ساحِرٌ بارِعٌ، لِيَرُدَّ عَنِ الْمَدِينَةِ كلَّ مَنْ يُحَاوِلُ اقْتِحامَها، وَيَرُومُ الوُصُولَ إِلَيْها. وَهكذا رُفِعَتِ الغِشاوَةُ عَنْ عَيْنَيْهِ، وَتَكَشَّفَ لَهُ هَوْلُ ما كانَ مُقْدِمًا عَلَيْهِ. وَزالَ عَنْهُ كَيْدُ الكَائِدِينَ، وَحَمِدَ اللهَ — سُبْحانَهُ — عَلَى ما أَنارَ لَهُ مِنْ طَرِيق، وَيَسَّرَ لَهُ مِنْ رُشْدٍ وَتَوْفِيقٍ؛ فَقَدْ شاءَتْ رَحْمَتُه بالأمِيرِ أَنْ يُبَصِّرَهُ بِمَوْقِعِ الخَطَرِ، فَاعْتَبَرَ بِمَصْرَعِ أَصْحابِهِ. وَالسَّعِيُد مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ وُعِظَ بِنَفْسِهِ!
(٣) الطِّلَّسْمُ
مَرْحَبًا بِكَ أَيُّها الأمِيرُ العَظِيمُ. مَرْحَبًا بِكَ يا مُخَلِّصَ مَدِينَةِ النُّحاسِ، وَواهِبَ الحُرِّيَّةِ لِمَنْ فِيها مِنَ النَّاسِ.
تَأَمَّلِ الزُّنْبُرُكَ الَّذِي تَراهُ فِي صَدْرِ الفارِسِ، وِأَدِرْهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ دَوْرَةً، ثُمَّ افْرُكِ المِسْمارَ اللَّولَبِيَّ الَّذِي بِجانِبِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً.
(٤) مَفاتِيحُ المَدِينَةِ
فَتَعَجَّبَ الأمِيرُ مِمَّا رَأَى. وَما إِنْ أَتَمَّ قِراءَةَ وَصِيَّةِ الطِّلَّسْمِ حتَّى انْفتَحَ أَمامَهُ بابٌ صَغِيرٌ فِي الْحالِ، سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ خافِتٌ، فَدَخَلَ مِنْهُ سالِكًا دِهْلِيزًا طَوِيلًا. انْتَهى بِهِ إلَى سُلَّمٍ نُحاسِيٍّ صَغِيرِ الدَّرَجِ، فَهَبَطَ مِنْهُ بِضْعَ دَرَكاتٍ، فَرَأى رُدْهَةً اصْطَفَّتْ فِيها الأرائكُ، يَجْلِسُ عَليْها حُرَّاسٌ، أَشِدَّاءُ أَقْوِياءُ كامِلو العَتادِ، في أَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ المُرْهَفَةُ، والقِسِيُّ المُوَتَّرَةُ، وَالسِّهامُ المُفَوَّقَةُ، فابْتَدَأَهُمْ بِالتَّحِيَّةِ والسَّلامِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيهِ أَحَدٌ، فَحَسِبَهُمْ نائِمِينَ، وقالَ في نَفْسِهِ: «لَعلَّ مَفاتِيحَ المَدِينَةِ عِنْدَ هؤُلاءِ.»
ثُمَّ أَدارَ لِحاظَهُ، فَرَأَى رَجُلًا مَهِيبَ الطَّلْعَةِ، رائعَ السَّمْتِ، بادِيَ الفُتُوَّةِ، شَدِيدَ البَأْسِ وَالقُوَّةِ، وَهُوَ عَلَى أَرِيكَةٍ عالِيَةٍ، فَقالَ الأَمِيرُ: «لَعلَّ هذا صاحِبُ مَفاتِيحِ المَدِينَةِ.» وَحَيَّاهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ.
وحانَتْ مِنْهُ الْتِفاتَةٌ، فَرَأَى عَلَى قيدِ (مَسافَةِ) خُطُواتٍ مِنْهُ أَرِيكَةً عَلَيْها رَجُلٌ قاعِدٌ، وَفِي ذِراعِهِ سِلْسِلَةٌ مِنَ النُّحاسِ الأَصْفَرِ، فِيها أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِفْتاحًا، فَعَرَفَ أَنَّهُ بَوَّابُ المَدِينَةِ، فَدَنا مِنْهُ الأَميرُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثانِيَةً وَثالِثَةً، فَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِهِ وَقالَ مُتَعَجِّبًا: «ما بالي لا أَسْمَعُ مِنْ أَحَدٍ رَدَّ تَحِيَّتِي! أَنائِمٌ أَنْتَ كَأَصْحابِكَ أَمْ أَصَمُّ؟» فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يتَحَرَّكْ، فَتأَمّلَهُ الأَمِيرُ فاحِصًا؛ فَإذا هُوَ تِمثْالٌ منَ النُّحاسِ لا حَراكَ بِهِ.
فَقالَ الأَمِيرُ: «هذا أَعْجَبُ ما رَأَيْتُ. إنَّهُ تِمْثالٌ رائِعُ الصُّنْعِ، لإِنْسانٍ يَنْبِضُ بِالْحَياةِ، وَلا يُعْوِزُهُ غَيْرُ النُّطْقِ. وَما أَظُنُّ أَصْحابَهُ إِلَّا كَذلِكَ.»
ثُمَّ أَخَذَ المفاتِيحَ مُيَمِّمًا بابَ المَدِينةِ، وَفتَحَ الأَقْفالَ، وَرفَعَ المَزالِيجَ، وَأَزاحَ المَتارِيسَ، وَجَذَبَ البابَ جَذْبةً قَوِيَّة، فانْفَتَحَ فِي جَلَبةٍ وَقَعْقَعةٍ.
فَفَرِحَ جُنُودُهُ بِنَجاحِهِ، وَتَعالَتْ صَيْحاتُ الإعْجابِ والإكْبارِ، والفَرَحِ والاسْتِبْشارِ، بِما ظَفِرَ بِهِ الأَميرُ مِنْ فَوْزٍ كَبِيرٍ، حامِدِين اللهَ عَلَى نَجاحِ مَسْعاهُ.