الفصل الثالث
(١) بَيْنَ الجَيْشِ وَأَمِيرِهِ
وَخَشِيَ الأَمِيرُ أَنْ يَتَعرَّضَ جَيْشُهُ لِلْخَطَرِ إذا دَخَلَ هذِهِ المَدِينةَ المَسْحُورَةَ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بها؛ فَأَمَرَ جَيْشَهُ بِالْبَقاءِ خارِجَ المَدِينَةِ حَتَّى يَرْتادَ أَسْواقَها، وَيَتَعَرَّفَ خَباياها وَأَسْرارَها، فَإذا اطْمَأَنَّ عَلَى سَلامَةِ جَيْشِهِ أَذِنَ لَهُ في الدُّخُولِ. وَخَشِيَ أَصْحابُ الأَمير أَنْ يَتَعَرَّضَ أَمِيرُهُمْ لِلْخَطَرِ إذا دَخَلَ هذِهِ المَدِينَةَ المَسْحُورَةَ. وَضاعَفَ مِنْ خَوْفِهِمْ عَلَيْهِ ما شاهَدُوهُ مِنْ مَصارِعِ إخْوانِهِمْ وَقائِدِهِمْ، فَراحُوا يَتَوَسَّلُونَ إلَيْهِ أَنْ يكُفَّ عَنْ مُحاوَلَتِهِ، وَأَنْ يَأذَنَ لَهُمْ — أَوْ لِمَنْ يَخْتارُهُ مِنْهُمْ — في ارْتِيادِ المَدِينَةِ قَبْلَهُ؛ لِيُجَنِّبَهُ الأَخْطارَ. ولكِنَّ الأمِيرَ أَصَرَّ عَلَى رَأْيهِ، وأصَمَّ أُذُنَيْهِ عَنْ رَجائِهمْ، وأبَى إلَّا أنْ يَفْدِيَ جَيْشَهُ بِنَفْسِهِ؛ فَلَمْ يَسَعْهُمْ غَيْرُ الخُضُوعِ لِرَأْيهِ.
(٢) فِي طُرُقاتِ المَدِينَةِ
ومَشَى الأَمِيرُ في طُرُقاتِ المَدِينَةِ بِضْعَ خُطُواتٍ، فَرَأى رَجُلًا واقفًا عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ، ويَمُدُّ يَدَهُ بِالتَّحِيَّةِ في بَشَاشَةٍ ولُطْفٍ؛ فأَسْرَعَ الأمِيرُ إلى تَحِيَّتِهِ، ومَدَّ إلَيْهِ يَدَهُ، فَوَجَدَهُ جامِدًا لا يَتَحَرَّكُ. وتَأَمَّلَهُ فَإِذا هُوَ تِمْثالٌ مِنَ النُّحاسِ.
وَمَشَى الأمِيرُ خُطُواتٍ قَلِيلَةً، فَرَأى جَمَاعَةً يَتَشاجَرُونَ، وقَدْ أَمْسَكَ بَعْضُهُمْ بِتَلابِيبِ رَجُلٍ، فَأَسْرَعَ إلَيهِمْ، لِيُخَلِّصَهُ مِنْهُمْ، فَوَجَدَهُمْ جَميعًا تَماثيلَ جَامِدةً.
ثُمَّ مَشَى في المَدِينَةِ بِضْعَ خُطُوَاتٍ، فَرَأى رَجُلًا واقِفًا في عُرْضِ الطَّرِيقِ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَتأمَّلَهُ، فإذَا هُوَ تِمْثالٌ لا حَرَاكَ بِهِ، فاشْتَدَّ بِالأمِيرِ العَجَبُ، وَاسْتأنَفَ سَيْرَهُ في شَوَارِع المَدِينَةِ، فَرَأى كلَّ مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ عَيْناهُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يَتحَرَّكونَ. وَقابَلَ عَجُوزًا عَلَى رَأْسِها أَثْوَابٌ اشْتَرَتْها مِنْ دُكَّانِ ثَوَّابٍ، فَدنَا مِنْها، وَتَأَمَّلَها، فَلَمْ يَرَ أَمامَهُ غَيْرَ تِمْثالٍ. وَرَأى جَمْهَرَةً مِنْ نِساءٍ وَصِبْيانٍ وَأَطْفالٍ، وَشَبابٍ وكُهُولٍ، وَصَبايَا وَعَجائِزَ لَيْسَ مِنهُمْ مَنْ يَتَحَرَّكُ أوْ يَتكلَّمُ، فَهُمْ تَماثِيلُ لا تُشِيرُ بِطَرْفٍ (بِعَيْنٍ)، ولا تَنْطِقُ بِحَرْفٍ.
(٣) أَسْواقُ المَدِينَةِ
واستأنَفَ الأمَيرُ سَيْرَهُ، فَوَجدَ أسْواقًا أَرْبَعًا، فَدَخَلَها — وَاحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى — فَوَجَدَ كلَّ مَنْ فِيها مِنْ حَيَوانٍ وناسٍ، تَماثِيلَ مَصْبُوبَةً مِنَ النُّحاسِ.
هذِهِ دَكاكينُ الصُّنَّاعِ والتُّجَّارِ مَفْتُوحَةَ الأَبْوابِ، مَعْرُوضَةَ السِّلَعِ، مَصْفُوفَةَ البَضائِعِ، مُعَلَّقَةَ المَوازِينِ، أَصْحابُها وزائِرُوها تَماثِيلُ لا تَعِي ولا تَنْطِقُ.
هذا حَدَّادٌ فارِعُ الطُّولِ، مفْتُول السَّاعِدَيْنِ، يَفِيضُ نَشاطًا وقُوَّةً، وقَدْ رَفَعَ مِطْرَقَتهُ لِيَهْوِيَ بها عَلَى السِّنْدَان، فَبَقِيَتْ ذِراعُهُ مَمْدُودَةً، ومِطْرَقَتُهُ مُعَلَّقَةً في الفَضاءِ، وأَمامَه صَبِيُّهُ نافِخُ الكِيرِ، جامِدٌ كَمُعَلِّمِه.
وهذا نَجَّارٌ يَشُقُّ لَوْحًا كبِيرًا بِمِنْشارِهِ، وقَدْ بَلَغَ مُنْتَصَفَهُ، ووَقَفَ حَيْثُ هُوَ لا حَرَاكَ بِهِ.
وذَاكَ زَيَّاتٌ نَصَبَ مِيزَانَهُ، وأمامَهُ البَضَائِعُ مِنْ جُبْنٍ وزَيْتُونٍ، وما إلى ذلِكَ، هامِدًا لا يَتَحَرَّكُ. وهذا تَيَّانٌ يَبِيعُ التِّينَ، وتَمَّارٌ يَبِيعُ التَّمْرَ (البَلَحَ) وعَلَى مَقْرَبةٍ مِنْهُما فاكِهانِيٌّ يَبِيعُ الفَاكِهةَ، يَلِيهِ دَقِيقِيٌّ يَبِيعُ الدَّقِيقَ.
ومَشَى خُطُواتٍ قَلِيلَةً فَرَأى جَدَّالًا يَبيعُ الطُّيُورَ، وجَزَّارًا يَبيعُ اللّحْمَ، ورَءَّاسًا يَبيعُ الرُّءُوسَ، وسَمَّانًا يَبِيعُ السَّمْنَ، ودَهَّانًا يَبيعُ الدُّهْنَ، وبَيَّاضًا يَبيعُ البَيْضَ، وجَبَّانًا يَبيعُ الجُبْنَ، وعَسَّالًا يَبيعُ العَسَلَ، وخَبَّازًا يَبِيعُ الخُبْزَ.
ثمَّ سارَ الأمِيرُ إلى سُوقٍ ثانِيَةٍ، فَرَأى دَكاكينَ البَزَّازِينَ والثَّوَّابينَ مَمْلُوءَةً بأنْواعِ الثِّيابِ، مِنَ القُطْنِ والكَتَّانِ، والخَزِّ والحَرِيرِ، والدِّيباجِ المَنْسُوجِ بالذَّهَبِ الأحْمَرِ والفِضَّةِ البَيْضاءِ، ومَا إلَيْها مِنْ مُخْتَلِفِ الثِّيابِ.
ورَأى الفَرَّائينَ يَبِيعُونَ الفِرَاءَ، والوَشَّائينَ يَعْمَلونَ الوَشْيَ، والرَفَّائينَ يَرْفَأُونَ الثِّيابَ، والهَدَّابينَ يَفْتِلُونَ الخَيْطَ، والنَّجَّادِينَ يَخِيطُونَ الفُرُشَ والوَسائِدَ، والكَوَّائينَ يَكْوُون الثِّيابَ، والأبَّارِينَ يَصْنَعُونَ الإبَرَ، والنَّسَّاجِينَ يَنْسُجُونَ الثِّيابَ، والحَذّائينَ يَصْنَعُونَ الأَحْذِيَةَ، وإلى جَانِبِهمْ طائِفةٌ مِنَ الصَّبَّاغِينَ والدَّبَّاغِينَ.
ثُمّ انْتَقَلَ الأَمِيرُ إلى سوقٍ ثالِثَةٍ، فَرَأى جَمَاعَةً مِنَ الصُّيَّاغِ وتُجَّارِ اللُّؤْلُؤِ وأَمامَهُمْ نَفائِسُ الأَحْجارِ الكَرِيمَةِ كالْياقُوتِ والزُّمُرُّدِ والمَرْجانِ (صِغارِ اللُّؤْلُؤِ)، وكُلُّهُمْ — بَيْنَ وَاقِفٍ وجالِسٍ — ساكِنٌ لا يَتَحَرَّكُ ولا يَنْطِقُ.
وَرَأى الزَّجَّاجينَ يَصْنَعونَ الزُّجاجَ، والخَزَّافِينَ يَبيعُونَ الخَزَفَ، والفَخَّارِينَ يَصْنَعُونَ أَوَانِيَ الفَخَّارِ، والجَلَّائِينَ يَجْلُونَ الآِنيَةَ، والعَوَّاجينَ يَبيعُونَ العاجَ، والسَّكَّاكينَ يَعْرِضُونَ السَّكاكينَ، والشَّعَّابِينَ يُصْلِحُونَ ما تَصَدَّعَ مِنَ الأَوَانِي.
وَمَشَى خُطُوَاتٍ قَلِيلَةً فَرَأى صَيْدليًّا يَبيعُ الأدْوِيَةَ، وَإلى جِوَارِهِ مُجَبِّرًا يَجْبُرُ العِظامَ المَكْسُورَةَ. وَانْتهَى بِهِ المَطافُ إلى السُّوقِ الرَّابِعَةِ حَيْثُ وَجَدَ النَّخَّاسِينَ يَبيعُونَ الدَّوابَّ: فَهذَا مَعَّازٌ يصْحَبُ مَعِيزَهُ، وذَاكَ كلَّابٌ مَعَهُ كِلابُهُ، ومِنْ بَعْدِهما شائِيٌّ يَصْحَبُ شَاءَهُ ونِعاجَه.
وما زالَ الأَمِيرُ يَنْتقِلُ مِنْ سُوقٍ إلى سُوقٍ، ومِنْ طَرِيقٍ إلى طَرِيقٍ، فَلا يَرَى إلا رَوَائِعَ مِنَ التَّماثيلِ النُّحاسِيَّةِ، حَيوانيَّةً وإنْسانيَّةً.
(٤) حَيْرَةُ الأمِيرِ
شَدَّ ما أدْهَشَهُ وحَيَّرَ عَقْلَهُ أَلَّا يَرَى في المَدِينَةِ كُلِّها أَحَدًا مِنَ الأَحْياءِ! وا عَجَبًا! أَلَيْسَ فِيها مَنْ يَنْطِقُ أوْ يُجِيبُ!
يا لَغَرابَةِ ما يَشْهَدُ! حتَّى الكِلابُ والقِطَطَةُ وَسائِرُ الطُّيُورِ والحَيَوَانِ كُلُّها تَماثِيلُ هامِدَةٌ مِنَ النُّحاسِ، فاقِدَةٌ الحَياةَ! يا لَهَوْلِ ما تَرَاهُ عَيْناهُ! أَكُلُّ ما فِي المَدِينَةِ تَماثيلُ لا حَرَكةَ بِها ولا حِسَّ، لا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ جَنَباتِهَا نَفَسٌ؟!
تُرَى: أَيُّ ساحِرٍ غَضِبَ عَلَى هذِهِ المَدِينَةِ فَسَلَّطَ نِقْمَتهُ عَلَى أَهْلِيها، وَمَسَخَ ساكِنيها؛ فَحَوَّلَ أَجْسادَ مَنْ فِيها مِنْ حَيَوَانٍ وناسٍ، تَماثِيلَ مُبْدَعَةً مِنَ النُّحاسِ، تُخَيِّلُ لِرَائيها أنَّها تَنْبِضُ بِالْحَياةِ. ولكِنَّ أَصْحابَها لا يَتَحَرَّكُونَ ولا يَتَكلَّمُونَ، يُسائِلُهُمْ فَلا يُجِيُبونَ، ويُحاوِرُهُمْ فَلا يَنْطِقُونَ.