كتاب الفردوس
١
تذوق١
المسلمُ الحقُّ يتحدث عن الفردوس،
وكأنه كان بنفسك هناك،
ويؤمن بالقرآن في كلِّ الأحوال،
وعلى هذا (الأساس) تقومُ العقيدةُ الطاهرة.
•••
غير أن النبي الذي أُنزِلَ عليه هذا الكتاب،
يشفعُ لزلَّاتنا وعيوبنا هناك،
ويرى، على الرغم من رُعود لَعَناته
أن الشكوكَ كثيرًا ما تُفسد علينا الإيمان.
لهذا يُرسلُ إلينا من أعلى عليين
نموذجًا للشباب٢ يجدد شباب كل شيء
ترفُّ هابطة إلى هنا وتُكبِّل بغير إبطاء،
رقبتي بألطف وأحبِّ الحِبال.٣
•••
أضعها على حِجري، وأضمُّها للفؤاد،
هذه المخلوقة السماوية، ولا أطمعُ في المزيد،
ومِنْ ثَمَّ أؤمن بالفردوس أقوى إيمان،
لأنني أحبُّ أن أقبِّلها بحنانٍ إلى أبد الآبدين.
٢
رجال موعودون
بعد غزوة بدر، تحت سماء مرصَّعةٍ بالنجوم،
محمد يقول:
ليبكِ العدو موتاه (كما يشاء)،
فهم صَرْعى (بلا أملٍ) في الرجوع،
أمَّا إخوتُنا فلا تحزنوا عليهم
لأنهم (أحياء) ينتقلون هناك فوق الأفلاك.
•••
إن الكواكب السبعة أجمعين
قد فتحت بوَّاباتها المعدنية على اتساعها،
وها هم الأحباب المجتبون يطرقون
أبواب الفردوس بجسارة.
•••
ويَلقَون على غير توقع فَرحين مستبشرين،
ألوانًا من النعيم التي ذُقتها في معراجي،
عندما حملني البُراق في غمضة عين
واجتاز بي السموات جميعًا.
•••
أشجار الحكمة المتراصة السامقة كأشجار السرو
وهي تُصوِّب تفاحاتها الذهبيةَ نحو السماء،
وأشجار الحياة التي تنشرُ ظلالها الوارفة،
وتغطي الأرائك المبثوثة بالزهور وأبسطة السندس.
•••
وتهبُّ من الشرق ريحٌ عذبةٌ ذكيةٌ،
تسوق معها أسرابَ البنات السماويات،
وبعينيك تبدأ في التأمُّل والاستمتاع
لأن النظرة وحدها تُشبع كلَّ الإشباع.
هناك يَقفنَ ويسألنكَ ماذا أنجزت؟
خُطَطًا كُبرى؟ أم لعلَّك خُضت معركةً داميةً؟
وهنَّ يعلمن أنك بطل، لأنك إلى هذا المكان جئت،
لكن أيُّ نوعٍ من الأبطال؟ هذا هو الذي يتقصَّينه ويبحثن عنه.
•••
وسرعان ما يكشفن ذلك مِن جراحك،
التي سجَّلت لنفسها آية مجدٍ وفَخار،
فالحظُّ والرفعة كلاهما قد تلاشى،
ولم يبقَ غير الجُرح في سبيل العقيدة والإيمان.
•••
ثم يقتدنك إلى الجواسق والخمائل،
الزاخرة بالأعمدة من الحَجر الملوَّن الوضَّاء،
ويدعينكَ بلطف والكئوس في الأيادي،
لارتشاف العصير النبيل من الأعناب الصافية.
•••
مرحبًا بكَ أيها الشابُّ اليافعُ، يا أكثرَ مِن شاب!
إنهن جميعًا متشابهات في البهاء والصفاء،
فإذا ضممتَ إحداهن لقلبك،
صارت سيدة وجودك وانضمَّت لصفوف الخليلات.
•••
بَيْدَ أنَّ أروعهن جمالًا وكمالًا لا ترضيها
نعمةٌ واحدةٌ من هذه النعم العظيمة،
فتظل تسامركَ بإخلاص، في مَرحٍ وبلا حسد
وهي تعدِّد لك فضائل سائر الفتيات.
وتأخذك إحداهن لمأدبةٍ حافلة
تفنَّنت فيها الأخريات كلٌّ على حدة،
وتفوز بنساء كثيرات وبراحة البال في البيت،
وهو ما يجعلُ الإنسان يستحقُّ أن يحظى بجنة الفردوس.
•••
فلتنعم روحُك إذن بهذا السلام،
لأنك لن تستطيع أن تبدِّله بغيره،
فأمثال هؤلاء الفتيات لن يصبْنَك بالسأم،
ومثل هذه الخمور لن تُثير نشوةَ السُّكْر.
•••
وهكذا نكون قد ذكرْنا ما تيسَّر ذكره،
مما يزهو به المسلم المباركُ السعيد،
ويكون فردوس الرجال، أبطال العقيدة،
قد أُعدَّ بهذه الصورة بالعُدَّة الكاملة.
٣
صفوة النساء
لا يصحُّ أن يضيعَ شيءٌ على النساء،
فالإخلاص الطاهر خليقٌ بالأمل والرجاء،
لكننا لا نعرف إلا أربعًا منهن،
قد وصلن إلى جنة الفردوس.
•••
أمَّا الأولى فهي زليخا، شمس الأرض،
التي تُيِّم فؤادها بيوسف حُبًّا واشتهاءً،
وها هي ذي الآن قد صارت بهجة الفردوس،
تسْطع فيه زينة للزهد والعزوف والعَفاف.
•••
ثم تأتي المباركة من الجميع،
التي ولدتِ المُخلِّص للكافرين،
ولما اكتشفت الغدرَ، رأت في حزنٍ مريرٍ
ابنها (الحبيبُ) ضائعًا على الصليب.
•••
وكذلك زوجة محمد التي أفاضت عليه الحنان٤
وأعانته على تحقيق أروع الأمجاد،
وأوصت في حياتها بألا يكون
إلا ربٌّ واحد وزوجة واحدة.
•••
ثم تأتي فاطمة الزهراء،
الابنة الطاهرة والزوجة المصون،
ذات الروح النقية كملائكة السماء،
في جسمٍ من عسلٍ ذهبيٍّ مكنون.
•••
هؤلاء هن اللواتي نجدهن هناك،
وكلُّ من لهجَ بالحمد والثناء ورفعَ من ذكر النساء،
استحقَّ هناك في خالد الجِنان
أن يطوف مبتهجًا بصحبة هؤلاء (النسوة المصطفيات).
٤
سماح
الحورية
:
أنا اليوم أتولَّى الحراسة
على باب الفردوس،
لا أدري ما أصنع،
فأنت تبدو لي مريبًا.
•••
هل تجمعك قرابة
بأصحابنا المسلمين
وهل أرسلكَ جهادُك
أو فضلُك للفردوس؟
•••
أتعدُّ نفسَك من أولئك الأبطال؟
إذن فأرني جراحَك،
التي تشهد على أمجادك
وسوف أسمح لك بالدخول.
الشاعر
:
كُفِّي عن هذا السخف!
ودعيني أدخل:
فلقد عشتُ حياة إنسان؛
أي كنت واحدًا من المجاهدين.
ثبتي فيَّ نظراتك الحِداد!
وانفذي بها في هذا الصدر،
انظري الجراح (التي حفرها) اللؤمُ والخداع،
وانظري اللذَّة والبهجة (التي خلَّفتها) جِراحُ الحب.
•••
مع هذا غنَّيتُ بصدق وإيمان:
لتبقى حبيبتي على الإخلاص والوفاء،
ويبقى العالم، مهما يدُر به المَدار،
غنيًّا بالحب والحمد والعِرفان.
•••
عملت باجتهادٍ مع الصفوة النابهين،
حتى نِلتُ الأملَ المأمول،
فسطع اسمي كشُعلات الحبِّ
المتوقِّدة في أجمل القلوب.
•••
لا! لن تختاري رجلًا قليلَ الشان،
أعطني يدك! حتى أستطيع على مرِّ الأيام
أن أُحصي على أناملك الرقيقة
عددَ الدهورِ والآباد.
٥
رنين
الحورية
:
هناك في الخارج،
حيث كلَّمتُك لأول مرة،
كنتُ كثيرًا ما أتولَّى الحراسةَ على الباب،
كما يقضي بذلك واجبُ الطاعة والامتثال.
عندها سمعت حفيفًا غريبًا،
وخليطًا من أصوات ومقاطع متداخلةً،
تطالبُ بالدخول،
لكن لم يُرني أحدٌ وجهه،
وأخذت الأصواتُ تخفُتُ شيئًا فشيئًا،
بَيْدَ أنها كانت ترن رنينَ أغانيك،
هذا هو الذي أتذكره الآن.
الشاعر
:
يا حبي الأبدي!
ما أرقَّ مشاعرك وأنت تتذكرين حبيبك!
مهما اختلفت الأنغام التي تتردد.
في هواء الأرض وبالطريقة التي تلائمها،
فهي بأجمعها تنشدُ الصُّعودَ إلى أعلى،
أكثرُها يخمد هناك في الأسفل ولا يكاد يُحصى،
والباقي يطير بأجنحة الروح إلى السموات العُلا
مثل البُراق المُجنَّح الذي ركبه النبي،
وهناك ترِنُّ كأنغام الناي
أمام الباب.
•••
إذا تصادف وسمعت رفيقاتُك شيئًا كهذا،
فليتكرَّمن بالانتباه إليه،
ولتتفضَّلنَ بتقوية الصدى
ليترددَ من جديد أثناء هبوطه إلى أسفل،
وليعلمنَ كذلك عن يقين
أنه في كل حالٍ من الأحوال
حين يأتي الشاعر ويجود بعطاياه،
فإنها تعُمُّ بخيرها الجميع
كما تعود بالخير على كلِّ العالمين.
•••
ليتكرَّمن كذلك مشكوراتٍ بمكافأته،
وليُحسنَّ إليه وهُنَّ راضيات،
فيسمحن له بالإقامة معهن،
وكلُّ الطيبين يرضَون بالقليل.
•••
أمَّا أنتِ يا من كُنتِ من نصيبي،
فلن أحرمك من السلام الأبدي،
عليكِ (الآن) أن تتخلِّي عن الحراسة
وتكلِّفي بها أختًا (أخرى) خليَّةَ البال.
٦
الشاعر
:
إنك حبَّك وقُبلتك يسحراني!
وأنا لا أميل للتطفل على الأسرار،
لكن خبِّريني، هل قُدِّر لك من قبل أن تشاركي
في الحياة على الأرض؟
فلقد خُيِّلَ إليَّ مرات عديدة،
أنك كنت فيما سبق تُسمين زليخا.
الحورية
:
نحن خُلقنا مباشرةً من العناصر،
من الماء، والنار، والتراب، والهواء،
وأي عطرٍ أرضي،
مُنافٍ تمام لطبيعتنا.
ونحن لا نهبط أبدًا إليكم،
ولكن عندما تأتون إلينا لتنعموا وتستريحوا،
نجد من الأعمال ما يكفي ليشغلنا.
•••
فعندما حضر المؤمنون،
— الذين أوصى النبيُّ بهم خيرًا —
واستقرَّ بها المقام في الفردوس،
عاملناهم، كما أُمرنا،
بمنتهى اللطف والحُنو والرقة،
وبشكل لم تعهده الملائكةُ نفسها مِنَّا.
•••
غير أنَّ الأوَّل والثاني، والثالث،
كان لكلٍّ منهم في الحياة الدنيا خليلة،
ومع أن أولئك الخليلات، بالقياس إلينا، مخلوقات بشعة،
إلا أننا كُنَّا في نظرهم أقلَّ شأنًا،
كُنَّا (في الواقع) جذَّابات، وذكيَّات مرِحات،
لكنَّ المسلمين أرادوا الهبوطَ (للأرض) مرةً أخرى.
مثلُ هذا التصرف كان مُجافيًا لطبيعتنا،
نحن بنات السماء، وذوات الأصل الرفيع،
لذلك ثارت ثائرتُنا وتمرَّدْنا
وقلَّبْنا الأمرَ من جميع الجهات،
ولما كان النبي يطوف بالسموات
حرصنا أن نتتبعَ أثرَه،
وعندَ عودته لم يفُتْه ذلك،
فتوقف البُراق المُجنَّح.
•••
هُنالك وجدناه في وسطنا!
وبصوت جادٍّ ودود، كما هي عادةُ الأنبياء،
زوَّدنا باختصار بتعليماته،
لكننا كُنَّا في غاية السُّخط والضِّيق،
لأننا رأينا أن تحقيقَ أغراضه،
يقتضي مِنَّا أن نُغيِّر كلَّ شيء،
ويفرض علينا أن نفكِّر كما تُفكِّرون
وأن نكونَ شبيهات بحبيباتكم.
•••
وفقَدْنا اغترارنا بأنفسنا.
وحكَّت الحوريات خلف آذانهن،
لكننا رأينا أن حياةَ الخلود
تفرض علينا التسليمَ بكلِّ شيء
وهكذا يرى كُلٌّ مِنَّا ما سبقَ أن رآه،
ويحدثُ له ما قد حدثَ مِن قبل.
نحنُ الشقراوات، ونحنُ السمراوات،
ولنا أهواء، ولن نزوات،
بل أحيانًا لا يخلو الأمر من الشطحات،
ويتخيل كلُّ واحد منهم أنه في بيته،
ونحن نقابل هذا بسرور وسعادة؛
إذ يحسب كلٌّ منهم أن الأمر كما يتصور.
•••
أمَّا أنت فيبدو أن مِزاجك حرٌّ،
وأنا أبدو في نظرك من حوريَّات الجنة،
إنك تُقدِّرُ شأن النظرة وتعرف قيمة القُبلة،
حتى ولو لم أكن أنا زليخا،
ولأنها كانت ساحرة الفتنة والرِّقة،
فقد كانت تشبهني ولا تفترق عني شعرة.
الشاعر
:
أنت تَعْشَينَ بصري ببهاء نورك السماوي،
وسواءٌ أكان ذلك وهمًا أم حقيقة،
فإن إعجابي بك يفوقُ إعجابي برفيقاتك.
ولحرصِك على عدم التقصير في أداء واجبك،
واهتمامك بالفوز بإعجاب شاعر ألماني،
فإني أسمعك يا حورية تتكلمين بشعرٍ موزون ومُقفًّى.
الحورية
:
أجل، انظمْ أنت أيضًا وقفِّ على هواك،
ودع روحك تتدفقُ بالشِّعر كما تشاء!
إننا نحن أهل الفردوس نميل
للكلمة والفعل النابع من إحساس طاهر.
والحيوانات، كما تعلم، لا تُستثنى من هذا
إن هي أظهرت الطاعة وأثبتت الإخلاص.
والحورية لا تحتمل الكلمات الفظَّة،
فنحن نشعر بما يصدر عن القلب،
وكل ما ينبثق من نبعٍ حي،
يحقُّ له أن يجريَ في الفردوس.
٧
الحورية
:
ها أنت تلمس إصبعي من جديد.
أتعرف إذن، كم من الدهور والآباد
عشنا مع بعضنا متحابِّين؟
الشاعر
:
كلا! ولا أريد كذلك أن أعرف.
هذه المُتعُ المتنوعة المتجددة،
وهذه القُبلات الطاهرة أبدًا كقبلات العروس!
ما دامت كل لحظة تهز كياني تجعله يرتجف،
فلماذا أسأل كم دامت من الوقت؟
الحورية
:
إنك تغيب عني مرة أخرى (وتنشغلُ بأفكارك)،
ألاحظُ هذا جَيِّدًا، بغير حاجة إلى عَدٍّ أو قياس.
لم تتردد عن التجوال في الكون
وخاطرتَ بنفسك في الأعماق الإلهية،
فلتكن الآن حاضرًا بجوار حبيبتك الغالية.
ألم تفرغْ من نظْم أغنيتك؟
كيف كان رنينُها هناك أمامَ الباب؟
كيف ترِنُّ الآن؟ لا أريد أن ألحَّ عليكَ أكثر من هذا.
غنِّني أشعارَكِ التي قُلتَها في زليخا:
لأنك لن تصنع خيرًا من هذا في الفردوس.
٨
حيوانات مرضيٌّ عنها
بُشِّرتْ كذلك أربعة حيوانات،
بدخول جنات الفردوس،
هناك تعيشُ أبد السنين
مع الأولياء والصالحين.
•••
يتقدَّمُهم (في الترتيب) حِمار،
يثبُ بخطواتٍ نشطة،
فقد ركب على ظهره يسوع
وهو يدخل مدينة الأنبياء.
•••
ثم يأتي ذئبٌ مُتهيِّب،
أمَره محمدٌ رسولُ الله،
دع هذه الشاةَ للمسكين،
وابحث عن أخرى عند أحد الأغنياء.
•••
ويهز ذيله في مرحٍ لطيف،
كلبٌ صغيرٌ مع صاحبه الأمين،
شارك أهل الكهف السبعة
نومهم (العميق) بحبٍّ وإخلاص.
•••
وها هي ذي هِرَّة أبي هريرة
تموءُ حولَ سيِّدها وتلاطفه؛
إذ سيبقى حيوانًا مقدَّسًا على الدوام
ذلك الذي مسح عليه (بيده) أفضل الأنام.
٩
أعلى والأعلى
لأننا نعلمُ مثل هذه الأشياء،
فلا يُنزِل بنا أحدٌ عقابَه،
ولتفسير هذا كله،
عليكم أن تُسائلوا أعمق أعماقكم.
•••
بهذا يمكنكم أن تفهموا
أن الإنسان إذا عاش راضيًا
سيطيبُ له أن يرى ذاته
وقد نجت هناك (في الأعالي) وهنا (في الدنيا).
•••
وذاتي الحبيبة كانت بحاجةٍ
إلى ألوانٍ من الراحة والمتاع،
والأفراح التي ارتشفتها ها هنا،
سأظلُّ أتمناها إلى الأبد.
•••
هكذا تُمتعُنا الحدائق الجميلة،
والزهور والثمار والأطفال الحِسان،
وكلُّ ما أعجبنا ها هنا،
لن يكون إعجابُ الروح المتجدد الشباب به أقل.
•••
كذلك أتمنى أن أجمع كل الأصحاب،
شبابًا وشيوخًا في شخصٍ واحد،
وكم سيطيبُ لي أن يتلعثموا
بكلماتِ الفردوس باللغة الألمانية.
•••
بَيْدَ أننا نستمع الآن للهجاتٍ
يدور بها الغَزَل بين الإنسان والملاك،
(كما نستمع) للنحو المضمر،
الذي يُعرَبُ به الخشخاش والورد.
•••
وعسى أن يلذَّ للناس في المستقبل
أن يتحدثوا (بلغةِ) النظرات،
وأن يرتفعوا إلى النشوة السماوية
بغير أنغامٍ ولا أصوات.
•••
والحق أن الصوت والنغم يتحرران
بطبيعة الحال من الكلمات،
ويتأكد إحساس المنعَّمين،
بأن (وجودهم) بغير نهاية.
•••
فإذا ما تهيأ للحواسِّ الخمس
(كل ما تشتهيه) في الفردوس،
فلا شك في أنني سأكتسب
حِسًّا واحدًا يُغنيني عنها.
•••
— وهكذا أراني أنفُذُ الآن،
أخفُّ مما كنت، في الدوائر الأبدية
التي تَسري فيها كلمة الله
بصورةٍ خالصةٍ حية.
•••
وبشوقٍ حارٍّ لا يعوقه عائق
نتابع الصعودَ بغير نهاية،
حتى نتملَّى بالحبِّ الخالد
فنذوب فيه ونتلاشى.
١٠
أهل الكهف السبعة
ستةٌ من أصحاب الحُظوة في البلاط
يهربون من غضب الإمبراطور،
الذي جعل الناس تعبده كإله،
وإن لم يكن فيه شيءٌ من طبيعة الإله،
ذلك أن ذبابة واحدة
تمنعه من أن يهنأ بطعامه.
•••
وخَدَمه يهشُّون الذبابة
بمراوحهم دون فائدة
فهي تَطِنُّ حول رأسه، تلسعه وتحوم،
وتطير وتُثيرُ الاضطراب (في الجالسين) إلى المأدبة،
ثم ترجع وتُعاودُ الطنين
كأنما هي رسولٌ من إله الذباب (المعروف) بسماجته وشماتته.
•••
«ماذا؟» هكذا يقول الفتيةُ لأنفسهم،
«هل يُعقل أن تنغِّص الإلهَ ذبابةٌ صغيرة؟
وهل يشرب الإله ويأكل
كما نفعل نحن؟
كلَّا، إن الواحد الذي خلق الشمس والقمر،
ورفع فوق رءوسنا قُبَّة السماء المرصَّعة بالنجوم،
هو الإله القدير، فلنهرب!»
ويئوي أحد الرعاة الفِتية
ذوي الأحذية الخفيفة والزينة اللطيفة
•••
ويُخفيهم ويُخفي نفسه في كهفٍ صخريٍّ
ويصرُّ كلب الراعي على البقاء معهم،
طردوه، وانكسرت قدمه
لكنه ظلَّ ملازمًا لسادته
وانضم لرفاقه الأعزاء
في المخبأ وفي النوم.
•••
والحاكم الذي ولُّوا فرارًا منه،
تملَّكه الغضب وفكَّر في عقابهم،
استبعد السيف كما استبعد النار،
وسدَّ عليهم باب الكهف
بجدارٍ من الحجارة والجير.
أمَّا الفتية فيطول نومهم،
ويقف الملاك٥ الذي يرعاهم.
أمَّا عرش الله ويصف حالهم
لقد حرصتُ على تقليبهم
ذات اليمين وذات الشمال،
لكيلا يؤذي بخار العفن
أعضاءهم الجميلة الشابة.
في الصخور فتحتُ شقوقًا
لتنفذ منها الشمس في صعودها وهبوطها
وتجدِّدُ النضارة في الخدود الشابة.
وهكذا ينامون مُنعَّمين مُباركين.
كذلك يرقد الكلب الصغير مستغرقًا في نومه العذب
باسطًا رأسه على قدميه اللتين تمَّ شفاؤهما.
•••
وتفرُّ السنون وتأتي السنون،
ويستيقظ الفتية من نومهم،
ويسقط الجدار الذي تآكل
بفعل الزمن
ويقول يمليخا الجميل،
وهو أكثر الفتية عِلمًا وخبرة،
بعد أن وجد الراعي خائفًا مُترددًا:
«سأذهب بنفسي وآتيكم بالطعام،
وأخاطر بحياتي وبالعملة الذهبية.»
•••
وكانت أفيسوس منذ سنوات عديدة
قد دخلت في ديانة عيسى
(عليه السلام).
•••
وانطلق سرعًا في سيره فوجد أسوار البوَّابات
والبرج وكل شيء قد تغيَّر
لكنه توجَّه لأقرب دكان خبَّاز
ليحصل على الخبز بأقصى سرعة.
هتف الخبَّاز: أيها الوغد!
هل عثرت يا فتى على كنز؟
العملة الذهبية تفضحك فأعطني
نِصفها لكي يتمَّ التفاهم.
وقع شجار بينهما، وأمام الملك
عُرضت القضية، والملك بدوره
طالب بنصيبه كما فعل الخبَّاز.
•••
هنالك بدأت (خيوطُ) المعجزة
تتكشَّف بمائة علامةٍ وعلامة.
ففي القصر الذي بناه بنفسه
عرَفَ كيف يُثبتُ حقه.
لأن عمودًا عثر عليه
هدى لكنوز نُقشَت عليه أسماءٌ معروفة.
وسرعان ما تجمَّعت حشودٌ
من الناس لإثبات أنسابها.
وسطع اسم يمليخا في عُنفوان شبابه
كأبعد جد وأول جد
وأخذ يَسمعُهُم يتحدَّثون عن أجدادهم
فيذكرون ابنه وأحفاده.
أحاطت به جموعُ أحفاد أحفاده،
وهم عشيرته من الرجال الشجعان،
ليكرموه، وهو أصغرُهم سنًّا، ويحتفوا به.
وتوالتِ العلامات، واحدة بعد أخرى
لتُقيم الحُجَّة وتؤكد الدليل،
وهكذا أثبتَ لنفسه ولأهله
حقيقةَ شخصيته.
•••
ثم رجع للكهف مرةً أخرى
في صُحبة الشَّعب والملك
لم يعد المختار في الحقيقة
لا إلى الملك ولا إلى الشعب
لأن السبعةَ الذين اعتكفوا
عن العالم من زمنٍ طويل
— وكانا في الواقع مع الكلب ثمانية —
نقلتهم قدرةُ جبريل الخفية،
بمشيئة الرحمن وعونه،
إلى جنة الفردوس،
وبدا الكهفُ مسدودًا بالجدار.
١١
طابت ليلتكم
نامي الآن،
يا أشعاري المحتشدة في الديوان،
على صدر الشعب،
ولينشر جبريل بفضل الله وفضله
سحابةَ مِسك
فوق الجسد المكدود المُتعَب،
كي يمضي الشاعرُ وهو مُعافًى،
مَرحٌ — كالعَهد به — وودود،
فيشق الصخر
وينفذ منه إلى الفردوس ويصحب،
وهو سعيدٌ مُنشرح القلب،
أبطال الموكب
من كل زمانٍ
وهو يجوب الكونَ ويرعاه الربُّ،
هنالك يزكو الحسنُ المتجدد أبدًا
في كل مكان،
وبه تسعدُ كلُّ الناس وتَطْرَب،
ويحق لقطمير، الكلَب الطيب،
أن يتبوَّأَ مع سادته
جنَّات الخُلد
(ويهنأ بنعيم الحب).
١
أي تمهيد للكتاب كله بما يشبه تجربة مذاقه.
٢
يقصد حبيبة (قلبه).
٣
الحِبال هنا كناية عن غدائر شَعرها.
٤
هي السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها التي لم يتزوج غيرها
طوال حياتها.
٥
هو جبريل (عليه السلام).