كتاب حافظ
يعبِّر هذا الكتاب تعبيرًا يفيض بالصدق والحماس عن تقدير الشاعر «لتوءم روحه» الشرقي حافظ الشيرازي وعرفانه بفضله عليه، كما يعبر في الوقت نفسه عن مفهوم حافظ عن الشعر وتكريس حياته له والأدب بوجه عام. وقد وصف جوته هذا الكتاب في إعلانه عن الديوان الذي سماه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» في صحيفة الصباح لسنة ١٨١٦م التي كان يصدرها ناشر أعماله كوتا بقوله: «ويتبع هذا (أي كتاب المغنِّي أو كتاب الشاعر) كتاب حافظ، وهو مكرس لوصف هذا الرجل العظيم وتقديره وإجلاله.» وفيه كذلك تعبير عن علاقة الشاعر الألماني بالشاعر الفارسي، وتعلقه الحماسي به، وتصويره في صورة الشاعر الذي لا يمكن منافسته أو اللحاق به (ص٢٦٨ من طبعة هامبورج). كما يقول عنه في تعليقاته وبحوثه عن الديوان في فقرة تحت عنوان «كتاب حافظ»: «إذا كان كل الذين يتكلمون العربية واللغات التي من نفس الأسرة يولدون وينشئون شعراء، فيمكننا أن نتصور أن مثل هذه الأمة قد أنجبت شخصيات ممتازة لا حصر لها. ولكن إذا كان مثل هذا الشعب، على مدى خمسة قرون، لا يعترف بالصدارة إلا لسبعة شعراء، فعلينا أن نتقبَّل هذا الحكم باحترام، وإن جاز لنا مع ذلك أن نبحث عن الأسس التي يمكن أن يقوم عليها هذا الامتياز.»
وينبغي أن يحتفظ للديوان المقبل بمهمة حل هذه المعضلة بالقدر الذي يسمح بذلك؛ إذ إن قصر الكلام عن حافظ يجعل الإعجاب به والحب له يزدادان بقدر ما تزداد معرفتنا به. فنحن نجد لديه القريحة الممتازة النادرة، والثقافة الواسعة، وسهولة النظم، والاقتناع الخالص بأنه لا يمكن إرضاء الناس إلا إذا غنَّينا لهم ما يحبون سماعه ويجدونه سهلًا وممتعًا، كما يمكننا بعد ذلك أن نُسمعهم من حين إلى حين شيئًا ثقيلًا وعسيرًا ومؤلمًا ندسه بين أغانينا. وإذا شاء العارفون أن يروا في الأغنية التالية صورة حافظ ويتعرفوا عليه إلى حدٍّ ما، فإن هذه المحاولة ستسعد الشاعر الغربي سعادة خاصة (وهنا تورد الطبعة الأصلية نص قصيدة «إلى حافظ» وهي آخر قصائد هذا الكتاب المُسَمَّى باسمه).
الشعار: كان في نية جوته، عندما جمع قصائد الديوان في الثلاثين من شهر مايو سنة ١٨١٥م، أن يجعله شعارًا للديوان كله، وربما يكون قد استوحاه من الشعار الذي وضعه مترجم ديوان حافظ، وهو فون همَّر، لترجمته للديوان، وأخذه بدوره من الغزل رقم ١٠٩ من حرف الدال وهو: «لم يكشف أحد القناع عن أفكار رائعة كما فعل حافظ، منذ عقصت غدائر الكلم العروس» (عن ترجمة الدكتور بدوي، ٩٦).
(١) لقب
يذكر جوته، في الفقرة التي يعرف فيها بحافظ ضمن تعليقاته وأبحاثه التي تُعين على فهم الديوان، سبب تسمية الشاعر الفارسي بهذا الاسم، وهو حفظه للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وإطلاق لقب «الحافظ» عند المسلمين كنوع من التشريف والتكريم لكل من استظهر القرآن الكريم، وهو لقب بقيَ لشاعرنا بمثابة اسم له، كما قال في ذلك عن نفسه: «لقد حققت كل ما حققته بفضل القرآن» (انظر التعليقات والأبحاث، ترجمة بدوي، ص٤٠٩-٤١٠).
- س٢١-٢٢: إشارة إلى ثوب القديسة فيرونيكا أو منديلها الذي مسحت به العرق عن وجه السيد المسيح أثناء صعوده الجبل الذي صُلب عليه فانطبعت صورة وجهه عليه. وقد تذكر جوته هذه الحكاية أيضًا في القسم الثالث من سيرة حياته «شعر وحقيقة» عندما كان يتكلم عن مشروعه القديم الذي خطط له في ١٧٧٤م لكتابة مسرحية بعنوان اليهودي الأبدي، ولكن المشروع لم يتم.
- س٢٤: الخالصة هنا بمعنى الصافية من أدران المادة، والمتعالية على الوجود الأرضي.
- س٢٥: يؤكد الشاعر هنا وجه الشبه والقرابة الحميمة التي تجمعه بالشاعر الفارسي، فهو إذا لم يكن قد حفظ الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل) عن ظهر قلب، فقد أحبها وقرأها بعناية وانطبعت في نفسه منذ صباه، واستشهد بالكثير من آياتهما كما جرت عادة البروتستنت الأتقياء، وذلك على الرغم مما لقيه من الجحود والاستهزاء من جانب المجدفين والمنكرين للعقيدة — كبعض أصحاب النزعات التنويرية والعقلانية المتطرفة في عصره أو بعض المتطرفين في الاعتقاد والإيمان — مثل صديقه لافاتر (١٧٤١–١٨٠١م) الذي دبَّ الخلاف معه فيما بعد، أو بعض المتشددين والمتزمتين من رجال الكنيسة الذين كانوا يحلو لهم التشكُّك في صدق إيمانه وينكرون عليه إعجابه بالإسلام والمسلمين.
(٢) اتهام
تُواصل هذه القصيدة طرح السؤال الذي طرحته القصيدة السابقة عن العلاقة بين الشعر والدين، كما ترتبط بالقصائد الثلاث التالية لها، وهي تعبر على العموم عن زعم المتشددين بأن الشعر لا يلتزم بمبادئ الشريعة وأصول الدين الصحيح.
- س١١: القفار أو القفر هنا بمعنى الخواء أو العدم، وقد وردت الكلمة الأصلية أيضًا Öde في إحدى القصائد المتأخرة التي جعل عنوانها «كلمات أصلية أورفية» وهي قصيدة الحب (إيروس) البيت الثامن عشر: إنه لا يتأخر! فهو يندفع هابطًا من السماء، حيث حلق إليها فرارًا من القفر القديم (طبعة هامبورج، المجلد الأوَّل، ص٣٦٠).
- سطر ٢٢: ميرزا هو الاسم الذي يُطلق على عدد من شعراء الفرس الذين لم يقصد جوته واحدًا منهم بعينه، وكلمة ميرزا اختصار لكلمتَي أميرزاده أي ابن أمير، وقد استوحى جوته مطلع القصيدة (من س١٥-١) وروحها العامة من الآيات الكريمة في سورة الشعراء: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (الشعراء، الآيات من ٢٢١–٢٢٦). وقد ذكر الآيات الكريمة مترجم حافظ، وهو يوسف فون همر، في الجزء الثالث من «كنوز الشرق»، ص٢٥٥.
(٣) فتوى
أصدر هذه الفتوى أبو السعود أفندي (١٤٩٠–١٥٧٤م) المفتي الأكبر في عهد السلطان سليمان الأوَّل بالآستانة، حين رُفعت إليه شكوى في حق حافظ، بعدم قراءة شعره، فأفتى أبو السعود بضرورة تمييز الذوق الصحيح بين الأبيات الواردة في أشعار حافظ، لتبين كلمات الحق من حِكَم واثقة ونكت فائقة، والجزافات الخارجة عن نطاق الشريعة الشريفة، وعدم حسبان السم الزعاف ترياقًا، وهذه الفتوى ترجمها فون همر إلى الألمانية في مقدمة ترجمته لديوان حافظ، ونقل جوته مضمونها نقلًا شاعريًّا أمينًا (انظر تفصيل ذلك في شرح بدوي للقصيدة، ص٩٩-١٠٠ من ترجمته) ويبدو أن شاعرنا رحب بهذه الفتوى وتوقع منها الخير لديوانه؛ إذ إنها تنصح القراء بتحكيم حاستهم النقدية فيه، والتنبه إلى أن الكلمات ليست في ذاتها مصدر الضرر، بل أفعال الناس التي يتحملون وحدهم المسئولة عنها.
(٤) الألماني يقدم الشكر
تتصل هذه القصيدة بالقصيدة السابقة اتصالًا وثيقًا، وتؤكد ما جاء فيها من ضرورة النظر إلى العمل الشعري ككل والحكم عليه من زاوية المشاعر والأفعال التي ينطوي عليها، وكأن الشاعر يأمل — كما سبق القول — أن تُطبَّق الفتوى على قصائد ديوانه، وأن يتوخَّى الناس العدل، والإنصاف في الحكم عليها ويعذروا الشاعر إذا حاد أحيانًا عن جادة الصواب من وجهة نظر الشريعة وعلمائها، وذلك بسبب إقباله على الحياة الخصبة التي تتيح له التحليق والانطلاق، فالحياة الحقة هي «البراءة الخالدة للفعل.»
(٥) فتوى
هذه فتوى تركية — كما جاء في عنوانها الأصلي تمييزًا لها من الفتوى الفارسية السابقة — وقد عرفها جوته من الترجمة الألمانية (التي قام بها هاوسلويتنر لكتاب توديريني «أدب الترك» وصدرت في مدينة كونجسبرج سنة ١٧٩٠م، ج١، ص٢٠٧) وهي تنطوي — إذا جاز هذا القول — على حكمة «سليمانية»؛ إذ تحرم على الرجل العادي أن يفكر أو يعبر كما يفعل الشاعر مصري، ولكنها تحلل ذلك للشاعر نفسه؛ لأن شعره هبة من الله، وهو حر ومسئول مباشرة أمامه سبحانه عن طريقة استخدامه لها. ومِنْ ثَمَّ يرفض المفتي — بإشارته إلى عذاب النار — مضمون القصائد في ذاتها، سواء بالنسبة لنفسه أو للآخرين، ولكنه يسمح «لمصري» أن يكتب كما يشاء. وبهذا الاعتراف باستقلال الفن وكرامته وحريته تختتم القصائد الخمس الأولى التي دارت حول العلاقة بين الشعر والشاعر من الناحية، والتدين الصحيح ورجال الدين من ناحية أخرى، ومصري (الذي عاش من حوالي ١٦١٧م إلى ١٦٩٩م هو مؤسس إحدى الطوائف الصوفية التي اتُّهمت بإثارة الفتن والضلال).
(٦) بغير حدود
تُعد هذه القصيدة — بعد كل الأبيات السابقة التي وجهها الشاعر إلى حافظ — بداية اللقاء الحقيقي مع توءم روحه الفارسي. والموضوعات العديدة والألوان الزاهية التي تزخر بها تعبر عن شعر حافظ نفسه بما فيه من زخرفة وانسكاب وسيولة وتتابع دوري أو دائري (من س٦-١) وتعدد للأغراض التي يتناولها (من ٧–١٢) ثم تأتي الفرحة والتهليل للقاء بين الشاعرين «التوءم» (من س٨–١٣) والوعود التي يبشر بها الشاعر الغربي نفسه من هذا اللقاء: فهو ينتقل الآن من أسلوبه الشعري الكلاسي المحدد كالخط صعودًا وهبوطًا إلى أسلوب آخر تتسم به أعماله المتأخرة في الكهولة والشيخوخة، وهو الانسياب في دوائر متداخلة بلا بداية ولا نهاية محددة (س٤) والانعكاس المتبادل للموضوعات المختلفة أحدها على الآخر، كأنها مَرايا متداخلة في حوار متواصل بين الصور والأشكال، بغير التزام بالتشكيل الصارم والتطور المنطقي للأفكار والوحدة المكتملة (راجع القصيدة رقم ١٣ من كتاب المغنِّي وهي الغوص في مياه الفرات، والسباحة هنا وهناك، في هذا العنصر السيال) وهكذا تتولد أغنية «جديدة» من هذا اللقاء الفريد، ويتجدد معها شباب الشاعر الكهل وشباب شعره، لا سيَّما بعد أن يجرب تجربة الحب ﻟ (مريانة فيلليمر) التي تُخرجه من شتاء الحكمة الباردة إلى ربيع الأمل القصير العمر، هنا تصبح الأغنية الجديدة التي تردد أنغامًا جديدة هي نفسها أغنية قديمة؛ لأن صاحبها «يستروح نسيم الآباء» (س٤ من قصيدة هجرة أولى قصائد كتاب المغنِّي) بعد «هجرته» الروحية إلى «الشرق الطاهر».
(٧) محاكاة
إن الإعجاب بحافظ والاقتراب منه ومنه شعره، لا يعني على الإطلاق أن يقلد الشاعر الغربي صنعته الشكلية المقيدة بالأوزان والقوافي، بل يعني أن يحاكيه محاكاة حرة يتأثر فيها بروحه كما تأثر بروح الشرق بوجه عام مع بقائه «هو نفسه» وحرصه على أن «يصبح ذاته»، والواقع أن جوته قد رفض تقليد ما سماه بالصنعة الميتة أو الشكل الميت (س١٧) ورأى أن تلك القيود الشكلية ليست إلا أقنعة جوفاء (س١٦) سرعان ما تتقزز منها النفس لأنها بلا معنًى ولا دم (وإن كان ذلك — ربما على سبيل اللعب الذي نصادفه كثيرًا في الديوان! — لم يمنعه من تقليد «الغزَل» الفارسي وتكرار القافية في عدد قليل جِدًّا من القصائد التي سنشير إليها في حينها) — والمهم أنه لم يسمح لشعر حافظ ولا غيره من شعراء الفرس والعرب أن يغريه بتقليده والتقيد به تقيدًا يعصب عينيه عن حقيقته وحقيقة شعره — كما فعل الشاعر المستشرق ركرت والشاعر الرومانسي بلاتن اللذان سبق الحديث عنهما — وربما يكون جوته قد تعرض بعض الوقت للتأثير الطاغي للشعر الشرقي وشعر حافظ بوجه خاص، وربما أحس بأنه يفترسه ويضغط عليه إلى حد الاختناق، ولذلك لجأ (كما يقول الناقد الكبير ماكس كوميريل في كتابه أفكار عن قصائد، فرانكفورت، ١٩٤٣م، ص٢٥٦) — إلى الاستعارة المخيفة عن حريق موسكو في شهر سبتمبر ١٨١٢م للتعبير عن العاصفة التي كادت أن تجرفه والشرارة التي كادت أن تحرقه لو استسلم لتقليد الصنعة الشرقية، ومع ذلك، فإن هذه القصيدة نفسها لا تخلو هي والقصيدة السابقة من محاولة الشاعر الاقتراب من شكل «الغزل» الفارسي، كما أن عنوانها نفسه يكرر كلمة المحاكاة، ويبدو أن هذه الحيرة إلى حد التمزق بين ضرورة التقليد وحرية المحاكاة الخلاقة قد عذبت الشاعر أثناء استعداده للدخول في عالم الشرق، قبل أن يتخلص منها بالرجوع إلى ذاتيته الشعرية والوجودية الحقة. وليس مصادفة أن نجده يسجل في يومياته بتاريخ ٧ / ١٢ / ١٨١٤م هذه الملاحظة: حافظ والتقليد. ولعل مرجع هذا — كما قلت — إلى أنه كان لا يزال في بداية تجربته الشرقية وتجربة اللقاء مع الشعر الشرقي، وليت المجددين عندنا — وأقصد الأصلاء والصادقين لا الأدعياء المقلدين تقليد العبيد والقرود للنماذج الغربية أو حتى المحلية في مختلف الأشكال الأدبية والفنية — ليتهم يفكرون قليلًا في هذه التجربة التي مرَّ بها شاعر عظيم وكادت أن تعصف به أو تحرقه على حد قوله، لولا أنه تمسك بذاتيته الفنية (الفردية والجماعية) قبل أن يفوت الأوان كما فات الكثيرين.
(٨) سر مكشوف
هذا تعبير أثير عند جوته، وهو يقصد به كل ما هو عجيب يبرز للنور، ولكن العادة والتحيز يمنعان الناس من رؤيته، ولذلك بقي بالنسبة للعارفين سرًّا نقيًّا يبهج قلوبهم، وكأن سوء فهمه أو عدم فهمه من قِبَل الجهلاء والأغبياء يحميه من التطفل عليه، وكأن العنوان الذي وضعه جوته لهذه القصيدة في البداية هو «اللسان الصوفي» (متأثِّرًا في ذلك بما قاله مترجم حافظ — فون همر — عن تلقيب الشُّراح الشرقيين لحافظ بلسان الغيب — بدوي، ص١٠٧ عن ترجمة همر، ص٣٣)، فكأن اتجاه بعض شراح حافظ المتشددين من الناحية الدينية لتفسير شعره تفسيرًا مجازيًّا من حيث المعنى الصوفي الباطن لا المعنى الحسي والدنيوي الظاهر قد أغضب جوته، فراح يدافع عن إيمان حافظ الذي لم يفهموه فهمًا صحيحًا (راجع الأبيات، من ٩–١٢)، كما دافع في مواضع أخرى من كتاباته — ومنها تعليقاته على الديوان الشرقي — عن نشيد الإنشاد الذي فسَّره بعض المتشددين المسيحيين تفسيرًا دينيًّا باطنًا، فالحب في رأيهم هو الحب الإلهي، والخمر هي معرفة الحقائق الإلهية، أمَّا هو فيرى في هذا إساءة فهم لنشيد الأنشاد ولشعر حافظ على السواء، وأن ذلك الفهم المجازي والصوفي يرجع «لفقهاء الألفاظ» الذين لم يعرفوه على حقيقته، لأن ما هو إلهي موجود وجودًا مباشرًا في كل ما نُجرِّبه وندركه ونحياه ولا يحتاج لافتراض الثنائية العتيدة التي تقسِّم العالم إلى ظاهر وباطن وجسد وروح ودنيا وآخرة (وذلك تمشيًّا مع رؤيته الكونية والدينية الشاملة وإيمانه بوحدة الوجود) ومن هنا بقي مع حافظ في رأيه متديِّنًا ومتصوفًا تصوفًا نقيًّا خالصًا، ولكن بمعنى التصوف الطبيعي الذي تأثر فيه جوته بفلسفة اسبينوزا (انظر السطر التاسع الذي اختلف الشُّراح حوله اختلافًا شديدًا لا يتسع المجال لتفصيل القول فيه).
(٩) تلميح
يبدو من البيت الأوَّل في هذه القصيدة أنها مناقضة للقصيدة السابقة، وكأن الشاعر يستدرك خطأ وقع فيه. غير أن الحقيقة غير ذلك، فهو يؤيد الشراح والمفسرين الذين أخذوا شعر حافظ مأخذًا مجازيًّا باطنيًّا من جهة أنه — أي حافظ — ليس مجرد شاعر دنيوي وواقعي كما قد يُفهم من القصيدة السابقة، لكنه يرجع فيقول إن أصحاب التفسير الباطني والمجازي قد أخطئوا عندما فهما الغادة الحسناء على أنها «شفرة» أو علامة لغوية دالَّة على الحب الإلهي، كما أخذوا الخمر على أنها هي الوَجْدُ الصوفي. والحقيقة أن الواقعية الخالصة والمجازية المحضة مخطئان، والأصح هو التفسير الرمزي: فالحب هو الحب الأرضي والواقعي، إلا أنه يشير كذلك إلى ما وراءه، وما فوقه، يحيل إلى الأبدي الذي يعلو عليه. فالخمر هي الخمر التي تملأ شاربها نشوةً وحماسًا، لكن النشوة والحماس يرتفع به إلى رؤية الحقيقة الدينية والإحساس بما هو باقٍ وخالد. ولو لم يكن الأمر كذلك ما تحمس جوته لحافظ ولا تصور أنه قريب منه، ولا أستلهمه ديوانه الشرقي كله! أمَّا التناقض أو التعارض فهو — في تقديري المتواضع — نوع من اللعب الذي سبق أن ذكرت أنه سمة غالبة على الديوان، ومن قَبيل اللعب المرح أن يكون عنوان القصيدة هو «لمحة» أو «تلميح» كما كان عنوان القصيدة السابقة عن سر لكنه مكشوف، وهكذا لا يحل جوته المشكلة، وإنما يحولها على عادته إلى تشبيه أو صورة أو رمز.
(١٠) إلى حافظ
في هذه القصيدة التي يُختَم بها كتاب حافظ تلخيص وتجميع للموضوعات أو «الموتيفات الأساسية التي يزخر بها عالم حافظ، وكان لها تأثير طاغٍ ومحبَّب على شاعرنا الذي وصفه بأنه توءم روحه ولم يستنكف أن يجعل نفسه تابعًا له وتلميذًا يتعلم منه، والقصيدة تلخص كذلك كل ما سوف تجده موزَّعَا على كتب العشق والتفكير وزليخا والساقي … إلخ. فنحن نجد فيها الحنين إلى الحب (س١–٦) وقدر الحرب المؤلم السار (س٧-٨) وشخص الحبيبة ووجهها وعودها المتثني كغصن البان (س٩–١٦) ووجهها الذي ينور القلب (س١٧–٢٢) وغناءها العامر بالبهجة والصدق (س٢٣–٢٨) والخمر وما تفعل فيه نارها (س٣٣–٣٦) والغلام المحبوب أو الساقي (س٣٧–٤٠) والعلاقة الحميمة بينه وبين الشاعر، وهي علاقة أبوية وتعليمية مختلفة عما نجده كثيرًا في الشعر الفارسي والعربي (س٤١–٤٤)، ثم حضور الحكيم أو جماعة الحكماء والمفكرين لمجلس الشراب (س٤٥–٤٨) وتأثير الشاعر حتى على الأمراء والساسة والحكام مثل شاه شجاع بالنسبة لحافظ وكارل أوجست أمير فيمار بالنسبة لجوته (س٤٩–٥٢). وتتوالى الموضوعات والصور التي ينسكب أحدها في الآخر بخفة ولطف على طريقة الشعر الشرقي، بحيث يتولَّد أحدها عن الآخر أو يفيض منه. لاحظ الصور والاستعارات الشرقية التي ينضدها الشاعر الغربي صورة بعد صورة، فالحبيبة الفاتنة شجرة سرو متقلبة المزاج (س١٢) ولها رائحة طيبة تفوح منها (س٣١-٣٢) إلى آخر هذه الصور التي يألفها الشرقي والغربي بوجه خاص من شعرائه من الجاهلية إلى اليوم، ويبقى الشاعر في النهاية هو توءم صاحبه ومعلمه الشرقي، على نحوِ ما أكد بوضوح في قصيدة سابقة من هذا الكتاب (بغير حدود، س١٥-١٦): فلنشترك معًا، نحن التوءمين، في الفرح والألم …» والجدير بالذكر أن القصيدة كُتبت في كارلزباد في الحادي عشر من شهر سبتمبر سنة ١٨١٨م، بعد أن تم طبْع كتاب حافظ، ولذلك أدمجها الشاعر في تعليقاته وأبحاثه الملحقة بالديوان.