كتاب التفكير
يضم هذا الكتاب مجموعة من الحِكَم والقصائد التعليمية الطويلة التي استُلهم بعضها من أصول فارسية وعربية، بينما يشتمل كتاب الحِكَم على أمثال يتراوح كلٌّ منها ما بين أربعة أبيات أو بيتَين، وكأن الكتابَين يحصران بينهما كتاب الضيق — أو السخط — الذي لم يخلُ كذلك من شعر الحكمة.
والواقع أن إنتاج جوته لم يقتصر على الشعر الغنائي الذي يتدفق من نبعه الفطري غنيًّا بالتجربة المؤثِّرة؛ إذ كان بطبيعة «المربِّي» المتأصِّلة فيه يميل ميلًا شديدًا إلى الشعر التعليمي وشعر الحكمة والتأمل الذي غلب على إنتاجه المتأخِّر بوجه خاص، سواء في الديوان الشرقي أو في أشعاره الفلسفية أو في رواية سنوات التجوال لفيلهيلم ميستر أو مجموعة الحكم والتأملات أو الحكم الأليفة (أو المدجَّنة) التي نهل فيها — كما رأينا من قبل — من المعلَّقات — وبخاصة معلَّقة زُهير — ومن الأمثال الألمانية القديمة للرد على «صغار» عصره والسخرية منهم. ويعرِّف الشاعر بهذا الكتاب في التعليقات على الديوان بقوله: «إن هذا الكتاب يزداد ويتم التوسع فيه كل يوم بالنسبة لمن يعيش في الشرق؛ ذلك أن كل شيء «ضربٌ من» التفكير الذي يتأرجح بين الحسي وما فوق الحسي، دون استقرار نهائي على الواحد أو الآخر. وهذا التأمل، الذي يُطالَب به «القارئ» ويُدعى إليه، من نوع خاص جدًّا، فهو لا يكرِّس للحكمة العملية وحدها، وإن كانت هذه تفرض على الإنسان أقوى المطالب، وإنما يوجِّه كذلك إلى تلك النقط القصوى التي تُواجِهنا عندها أغرب مشكلات الحياة الأرضية على نحوٍ مباشر قاسٍ، وتضطرُّنا للركوع أمام الصدفة والعناية الإلهية وقراراتها التي تتجاوز قدرتنا على الفهم، والتعبير عن التسليم المُطلَق بوصفه القانون الأعلى الذي يتحكم في الأمور المتعلِّقة بالسياسة والأخلاق والدين» (بتصرُّف عن ترجمة بدوي، ص٤٥٤ من التعليقات على الديوان). وكان جوته قد ذكر قبل ذلك هذا الكتاب في سياق إعلانه عن الديوان الشرقي-الغربي في «صحيفة الصباح» سنة ١٨١٦م بقوله: «إن كتاب التفكير مخصَّص للأخلاق العملية وحكمة الحياة، وذلك وفقًا للعادات والطباع الشرقية.»
(١) اسمع النصح
لا يتذوق نغم القيثار إلا من يُحسِن الإصغاء ويملك القدرة والموهبة والاستعداد؛ فالروح الشاعرية شرطٌ لا غنًى عنه لمقاربة الأعمال العشرية، ويؤكِّد الشاعر أنه هو وأمثاله لا يعيشون ويُبدِعون لأجل الجمال الخالص وحده، بل من أجل الإرادة الطيبة (التي فضَّلها الفيلسوف كانط على كل شيء في الوجود!) والجمال الأخلاقي الذي يسكن الباطن ويفيض عنه: «إن أجمل العرائس ليست هي أفضلهن أو أصلحهن» (س٦). وربما يكون الشاعر قد استقى المعنى من ترجمة فون هامر لحافظ الشيرازي (حرف الياء، رقم ١٧، الترجمة، ج٢، ص٤٥٩: اسمع النصح من القيثارة، وليس يُجدي النصح إلا إن كنت أهلًا له. عن بدوي، ص١٣٨).
(٢) خمسة أشياء
تكاد هذه القصيدة — مع تصرُّف طفيف — أن تكون نظمًا لعدد من الأبيات التي قرأها الشاعر لفريد الدين العطار (في الترجمة الفرنسية لسلفستر دي ساسي عميد المستشرقين في ذلك الوقت، المنشورة في كنوز الشرق لفون همَّر، ج٢، ص٢٢٩) من كتاب الإرشاد، بند نامه، بدوي، ص١٣٨. وكان العنوان الأصلي للقصيدة هو «خمسة أشياء عقيمة».
(٣) خمسة أخرى
هذه القصيدة تُعارِض القصيدة السابقة بصورة واضحة، وهي بحيويتها ونضارتها تعبِّر عن أخص خصائص تفكير جوته ورؤيته التي تُشيد بالفعل والإقبال على الحياة مع الثقة بالنفس والترفُّع والتحدي، ويكفي القول بأن العنوان الأصلي الذي وضعه لها في البداية هو «خمسة أشياء خصبة».
(٤) وإن ما ورد في بند نامه (أي كتاب الإرشاد لفريد الدين العطار)
ترتبط هذه الأبيات ارتباطًا وثيقًا بالقصيدة السابقة مباشرة «محبوبة هي نظرة الفتاة» ويبدو أنها قيلت على أثر قراءة جوته لعبارة وردت في كتاب الإرشاد (الفصل التاسع والستون) بما معناه: «الأفضل أن تتصدق على الفور وتهب بيدك عن طيب خاطر، من أن تجمع المال طول العمر وتخلِّفه بعد موتك لإنفاقه في وجوه الخير.» لاحظ إشادته — في السطرَين السابع والثامن — بالحاضر وتفضيله على ذكرى الماضي، وذلك بما يتسق مع دعوته الدائمة للاستجابة لمطالب اليوم الحاضر وأداء واجب اللحظة، بدلًا من الاختباء في ماضٍ لم يعُد له وجود، أو الاسترسال مع الأوهام والأحلام بمستقبلٍ لم يأتِ بعد، ولا نضمن إن كان سيأتي أبدًا!
(٥) فلتُحسِن رد التحية
إشادة بالفوائد المرجوَّة من لقاء ذوي الهمة والنشاط والذكاء حتى على غير معرفة سابقة، وتبادل الأفكار والآراء معهم في ظل المودة والتقدير والاحترام، وهي تحية للجنرال البروسي الكونت فون جَنيسناو الذي خطَّط لحرب التحرير من قبضة نابليون، ولم يعرفه جوته معرفة شخصية، وإنما ظل كلٌّ منهما يُبادِل الآخر الاحترام عن بُعد.
ويحتمل أن يكون الشاعر قد تأثَّر فيها بالآية الكريمة من سورة النساء، ٨٦: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا. والواقع أن هذا الجنرال كان قد قابل الشاعر الذي يُجِله كلَّ الإجلال مع عدد من الضباط الشبَّان في سنة ١٧٩٠م، ثم تذكَّر هذه المقابلة أثناء زيارة ابن الشاعر، وهو أوجست، وزوجته أوتيليه، لبرلين — التي كان قد أصبح حاكمًا أو عمدة لها — فأوعزت إليه أوتيليه في تلك الزيارة في شهر مايو ١٨١٩م أن يكتب لجوته، وأرسل الشاعر الرد ومعه هذه القصيدة ليكون ذكرى واعتذارًا وشكرًا، وذلك في الثاني عشر من شهر يوليو ١٨١٩م (عن طبعة فايتس، ص٣١٠).
(٦) لقد طالما قالوا الكثير
ردٌّ مُفحِم مترفِّع على الهجمات الصغيرة والمطاعن الحقيرة التي دأب الجاحدون والمُرجِفون على توجيه سهامها السامة إلى صدر الشاعر الذي يقول لهم بترفع واختصار. إن الفهم والتقدير والنقد الإيجابي كان أولى بكثير من إساءة الفهم والتفتيش عن النقائض والأخطاء، ولو فعلوا هذا لساعدوه على تدارُك عيوبه، وهدَوه إلى اختيار «الأفضل» الذي يجذب إليه في العادة «أقلَّ عدد من الضيوف المُخلِصين» (س١١).
ولكن الشاعر استطاع على كل حال في نهاية المطاف أن يتعلم من أخطائه دون عون من أحد، بل لقد تعلَّم كيف يفكِّر عنها بالندم والإصرار على المزيد من التعلم والعمل؛ وبذلك خلَّد ذكره وسُمِّي عصر أدبي وتاريخي كامل باسمه، بينما أصبح الحاقدون عليه ترابًا في صحراء النسيان التي تليق دائمًا بأمثالهم.
(٧) إن الأسواق تُغريك بالشراء
تعبير عن التضاد القائم بين المعرفة والحكمة، وبين طريق العلم وطريق الدين. ومَن أقبل على العلم أو الدين بغير حب فلن يصيب منهما شيئًا؛ فالحب وحده هو الذي يُمكِن أن يهدينا مصباحه على طريق العلم والدين معًا، ومن يحترق بنار الحب فلا جرم سيعرفه الرب ويهديه (س١١-١٢). أما الانسياق وراء إغراء «السوق» ووهمه (كما أكَّد بيكون في الباب الأول من كتابه الأورجانون الجديد الذي يتضمن تحذيره من أوهام العقل أو أخطائه المشهورة) فلم يؤدِّ إلا إلى «التورم» و«التضخم» الذي يُصيب أدعياء العلم والدين، ويحوِّلهم إلى نمل وجراد يلتهم الأخضر واليابس في حقول المعرفة على اختلافها، وينتهي إلى تخريبها وتخريب نفسه. وليتنا نتعلم من تحذير بيكون ومن قصيدة جوته بعد أن غصَّت حقولنا وأسواقنا الثقافية بالجراد الانتهازي والحشرات الطفيلية المتورِّمة من التهام الخضرة والخضر الباقين في قيد الحياة. القصيدة مستوحاة بأكملها تقريبًا من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثامن، الآيات من ١–٣.
(٨) لا تسَل من أي باب
المقصود بمدينة الله (س٢) هي الدنيا أو العالم. والقصيدة تقدِّم صورة طيِّبة وواضحة المعالم عن الإنسان الذي دأب على العمل والنشاط، والتزم بالقِيَم والمُثُل الأخلاقية والإنسانية العالية، وراح يشقُّ طريقه في غمار الحياة الثقافية والأدبية في عصره (الذي سُمِّي في تاريخ الأدب بعصر جوته!) والقصيدة تعبِّر بالإضافة إلى ما سبق عن حكمة الشاعر في الحياة التي تقول ببساطة إن الإنسان لا يُمكِنه أبدًا أن يعرف نفسه وإمكاناته وطاقاته الكامنة فيه عن طريق التفكير والتأمل، بل عن طريق العمل وممارسة الفعل الدءوب؛ «حاوِل أن تؤدي واجبك، وسوف تعرف على الفور مدى قدراتك، ولكن ما واجبك؟ إنه الاستجابة لمطالب اليوم الحاضر» (راجع مجموعة حِكَمه وتأملاته). وربما تكون كذلك متأثِّرة بكتاب قابوس أو قاموس نامه الذي ترجمه فون دييز ونشره في برلين سنة ١٨١١م، وهي مجموعة من الحِكَم التي يوجِّهها أمير آسيوي إلى ابنه في القرن الحادي عشر الميلادي. وقد أرسل جوته القصيدة من فيزبادن إلى فيمار لتكون تحية منه ومشاركة في الاحتفال بتكريم المستشارَين كارول كيرمي وأرنست كونستانتين فون شارت بمناسبة مرور خمسين عامًا على عملهما وخدمتها المُخلِصة للدولة والبلاد، وذلك في اليوم العاشر من شهر يونيو ١٨١٥م، وقد أُرسِلت إلى ابنه أوجست ليحملها إلى المُحتفى بهما أو ليقرأها عليهما؛ ولذلك تنطوي على أمل الشاعر في أن يتعلم الابن من حكمتهما، ويرعوي عن تهوُّره ونزقه الذي عُرِف عنه!
(٩) من أين جئت؟
تناولٌ غنائي وعاطفي صافٍ للسؤال الأزلي الأبدي المحيِّر، ولكن في إطار الحكمة والشعر التعليمي الذي يخفِّف من حدَّته وألمه، ويربط بين حيرة اللحظة الراهنة وبين الحيرة على مستوى الوجود العام، وذلك حين يتلاقى الألم والسرور في ذكرى لقاء أصبح ينتمي إلى الماضي. وقد كتبها الشاعر أثناء إقامته في فرانسزياد في الثالث عشر من سبتمبر ١٨١٨م على أثر اللقاء على غير انتظار — في الخامس والعشرين من شهر يوليو — بالدوقة أودنيل وصيفة معبودته إمبراطورة النمسا ماريا لودفيكا التي كتم حبه العميق البائس لها حتى عن نفسه (كما سبق القول في التعليق على قصيدة سر أعمق من كتاب العشق). وفي القصيدة تعبير مُقتصِد وشديد التكثيف عن تلك التجربة وذِكراها، التي امتزج فيها ألم الذكرى ولذة اللقاء غير المتوقَّع الذي رفَّت منه نفحة عطرة من طيف الحبيبة التي غيَّبها الموت المبكِّر ضحية التهاب رئوي غادر في سنة ١٨١٦م.
(١٠) عاملوا النساء
يُلاحَظ التأثر الشديد بحديث نبوي شريف يُروى عن أبي هريرة وغيره في صِيَغ مختلفة، منها: «إن المرأة من ضلع أعوج، وإنك إن تُرِد إقامة الضلع تكسرها، فدارِها تعِش بها.» أو في هذه الرواية: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خُلِقن من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزَل أعوج.» وقد قرأ جوته هذا الحديث مُترجَمًا في «كنوز الشرق» (ج١، ص٢٧٨؛ بدوي، ص١٥١). راجع عن الضلع المعوَج أيضًا سفر التكوين، ٢: ٢١ من العهد القديم.
(١١) إن الحياة لعبة من لعب الإوز
تقوم القصيدة على لعبة يُستخدَم فيها نوع من النَّرد أو الرمي بالزهر المرقوم، تُدفَع فيها أشكال الإوز إلى الخانات التي يبلغ عددها ٦٣ تبعًا للرقم الذي يكشف عنه الزهر، فإذا وصل اللاعب إلى الخانة التي رُسِم عليها إوزة تتلفت للخلف، وجب عليه التراجع أو الانتظار. أما إذا بلغ الخانة رقم ٥٨ التي عليها إوزة ميتة فلا بد أن يخرج من اللعب. والمعنى أن الناس تتدافع على طريق الحياة، ومن يتعثر أو يسقط في الزحام لا يتلفت أحد وراءه ولا يحفل به (طبعة فايتس، ص٣١٥).
(١٢) أخذت منك السنوات
من أهم قصائد الديوان التي نُحِس فيها بالصفاء الروحي والفكري الذي يتحرك ويتنفس فيه. والسطران الأخيران لهما دلالة خاصة على الطابع العام للديوان الذي يتجلى في الحرص على الربط بين الأعلى والأدنى، والروحي والجسدي، والمعنوي والتجريبي، والحسي وما فوق الحس … إلخ. وقد لاحظ بعض النُّقاد أن كلمة «الفكرة» — ولها أهمية كبرى في عالم جوته ورؤيته الكونية والدينية والعلمية — لم تظهر في الديوان كله ولم ترِد إلا في السطر الأخير من هذه القصيدة، وإذا كانت الفكرة تأتي مرتبطة بالحب، فإن هذا يدل من ناحية أخرى على الروح العامة للديوان؛ لأن الشاعر الكهل الذي يُشارِك بفكره وعقله في إدراك وحدة النظام الكوني، لا يقدر على تحقيق هذه المشاركة إلا عن طريق الحب. والفكر والحب كلاهما طريق إلى المُطلَق، وطُوبى لمن يجمع بينهما ويحرص على وحدتهما حتى النهاية كما فعل جوته. ويضيق المقام عن شرح معاني الفكرة، كما تظهر عنده في عالم التجربة وعالم الأخلاق والحياة الباطنة، وكما تتحكم على هيئة القانون في علم الظواهر، وتكون مهمة العلم هي اكتشافها من خلال هذه الظواهر نفسها. وسواء سمَّينا هذه الفكرة بالظاهرة الأولى أو بالمثال الأفلاطوني أو بالواحد الأفلوطيني أو حتى بالأبدي الإلهي الخالد، فعالم الظواهر والمظاهر الذي نعيش ونضطرب فيه ليس إلا انعكاسًا باهتًا لها.
(١٣) لو وضعت نفسك
كُتِبت في السادس عشر من نوفمبر سنة ١٨١٩م وأُرسِلت مع نسخة من الديوان الشرقي إلى المستشرق يوهان جوتفريد أيشهورن الذي طالما اتصل جوته به أثناء عمله بجامعة يينا، ثم أُضيفت إلى طبعة سنة ١٨٢٧م. وقد أثنى جوته على هذا المستشرق في تعليقاته على الديوان، واعترف بفضله في إهدائه له نسخة من ترجمة وليم جونز للمعلَّقات قبل ذلك باثنَين وأربعين عامًا، وحمد له وقوفه بجانبه مدى الحياة وإسداء النصح له في كل ما يتصل بأمور الشرق والاستشراق (طبعة هامبورج، ص٢٤٦-٢٤٧ من التعليقات).
(١٤) سوف يُخدَع الكريم
لعلها أن تكون دعوة للاستبصار بقسوة العالم وشدة وطأته على الصالحين والطالحين جميعًا، حتى يأخذ المرء أُهبته ويُواجِهه وهو متجرِّد من الأوهام، ولا يكتفي بالتقية، بل يخدع بعد أن خُدِع. وما أحق الطيِّبين الأنقياء في هذا العالم بالانتباه إلى هذا التحذير؛ حتى لا ينصب لهم الأوغاد الغادرون شراك الكمائن، وربما يحبسونهم فيها مدى الحياة كالفيران المسكينة.
(١٥) من يملك إصدار الأوامر
كان عنوانها الأصلي في المخطوطة هو «حق السادة وواجب الخدمة أو الطاعة»، وفيها إقرار بتقلب السادة الأعلَينَ بين الرضا والغضب بلا سبب، ونصح للخدم الأوفياء بالتمسك بالصبر والاتزان. ويبدو أن القصيدة ثمرة مُرة لخبرة أشد مرارة، وإن كان صاحبها يُحافِظ كعادته على ترفعه وإحساسه بالتفوق والثقة بالنفس مهما اضطرَّته ظروف الحياة والعمل إلى تحمُّل ما يكره وما لا يُطيق. وفي القصيدة إشادة ضمنية بفضل أمير فيمار كارل أوجست ورعايته للشاعر، وفي السطرَين الأخيرَين منهما تأثَّر بكتاب قابوس الذي سبق ذكره.
(١٦) إلى الشاه شجاع وأمثاله
كان كارل أوجست أمير فيمار بالنسبة لجوته مثل الشاه شجاع، وهو جلال الدين بن محمد المظفَّر الذي حكم شيراز وما حولها (من ٧٥٩ﻫ) ورعى الآداب والعلوم حتى وفاته (في سنة ٧٨٦ﻫ/١٣٨٤م) بالنسبة لحافظ الذي عاش في عهده ومدحه في شعره. والقصيدة موجَّهة لأمير فيمار أثناء اشتراكه في مؤتمر فينا للسلام بعد هزيمة نابليون، وفيها محاكاة للمدح عند الشرقيين، لا سيَّما في السطرَين الأخيرَين. أما السطر الأول «خلال الهدير كله والرنين»، ففيه إشارة إلى حروب الشاه شجاع وصراعه مع أبيه ثم مع شقيقه شاه محمود على الحكم، ويُقابِل هذا الهديرَ والرنين غناءُ جوته وثناؤه على أميره الذي يستمد منه الحياة، ويتمنى له طول العمر ودوام المُلك، على طريقة الشرقيين. وربما تنطوي القصيدة على إشارة خفية لبقاء أنغام الشعر بعد زوال هدير الحروب ورنينها الصاخب.
(١٧) أسمى النِّعم
مُرتبِطة بالقصيدة السابقة وإن كانت أصرح منها في التغني بالدوق كارل أوجست والدوقة لويزة، وفيها التزم بالقافية «وجدت» في آخر الأبيات الزوجية محاكاة للشعر الفارسي. وقد حافظ أستاذنا الدكتور على القافية في نظمه للقصيدة (ص١٥٨ من ترجمته)، وعجزت عن ذلك لإيثاري للترجمة النثرية الدقيقة بوجه عام.
(١٨) الفردوسي يقول
البيتان الأولان مأخوذان من الشاهنامه (عن الترجمة الألمانية التي قام بها النمسوي كارل جرافلودلف المتوفَّى سنة ١٨٠٣م). أما الثاني والثالث فيقدِّمان رد الشاعر الغربي المُؤمِن بالمُثُل الإنسانية في التربية والثقافة وباستقلال الشخصية التي يعدُّها فضلًا كبيرًا من الله عليه، وبهذا المعنى تُوصَف الثروة الحقيقية في الأبيات التالية، وهي التي ينعم بها الشحاذ أيضًا إذا استطاع أن يستمتع بجمال العالم، ويهنأ بالقرب من الله والإحساس به إحساسًا ورعًا تقيًّا في نبض المخلوقات جميعًا، من نبتة العشب إلى الإنسان الذي استخلفه على الأرض وسوَّاه في أحسن صورة ليكون صورة له.
(١٩) جلال الدين الرومي يقول
إذا كانت هذه الأبيات تضع الشكوى من فناء العالم وفراره كالحُلم على لسان الشاعر الصوفي الكبير، فإن الأبيات التالية على لسان زليخا تحمل رد الشاعر عليه، ويتلخص في معاينة الأبدي الخالد في اللحظة العابرة. وما أكثر ما تغنَّى الشاعر باللحظة وضرورة التمسك بها وملئها بالفعل والوعي والإبداع؛ وبهذا يختم كتاب التفكير في مرآة زليخا التي يتجلى الجمال الإلهي في جمال وجهها الفتَّان، وكأن المرآة في اللحظة نفسها التي تكشف عن الخالد من خلال الفاني والعابر (أو هذا على الأقل هو تفسيري لها ولهذه الأبيات الحلوة التي أتمنى أن أكون قد وُفِّقت إلى «إعادة إنتاجها» بما يفي بها).