كتاب الضيق
مع أن الانفعال الجارف المُشتعِل لا يصلح أن يكون مادة للأدب والفن؛ إذ يتحتم على المُبدِع أن يصوغه في أشكال موضوعية وفنية، فإن من الطبيعي ألا يخلو شعر جوته — المعبِّر عن إنسانيته المُتكامِلة — من مشاعر السخط والضيق وسوء المزاج التي أثارها في نفسه هجوم الحاقدين وتطاوُل السِّفلة والأوغاد، الذين لا تنجو حياة ثقافية من عاهاتهم وأمراضهم المُزمِنة (وإن تفاوَتت النِّسب والأبعاد بطبيعة الحال بين ثقافة متقدِّمة وأخرى متخلِّفة!) لذلك انعكست على شعره ونثره آثار المعارك التي كان يُضطَر أحيانًا إلى خوضها ورد سهام الحقد إلى صدورهم، أو باللجوء للسخرية والدعابة المهذَّبة، ثم إدارة ظهره لهم والعكوف على عمله. ولا يستطيع قُراء اليوم أن يتصوَّروا مقدار ما عاناه الشاعر والمفكِّر والعالم الكبير من حسد الحاسدين وصَغار الصِّغار العاجزين الذين لا يعملون ولا يُحِبون لغيرهم أن يعملوا — كما تقول العبارة المشهورة لطه حسين — ويسوءهم على الدوام أن يتألق الكوكب في السماء وهم غارقون في أوحال فشلهم وتخبُّطهم. وكم اتهمه أصحاب النفوس الصغيرة والألسنة الطويلة بالغرور والتكبر والأنانية، والتهتك في حياته الخاصة، والخنوع للأمراء والنبلاء، والتعالي على عامة الشعب، وضعف الإحساس بالوطنية، وعقم البحوث العلمية في النبات والضوء والألوان والمعاد … إلخ، بل وصل الأمر إلى حد اتهامه بركاكة شعره وسخف قصائده وأناشيده الطويلة المنظومة على البحر السكندري! كان يُقابِل هذه الاتهامات في معظم الأحوال بالصمت والعمل، ولكنه كان ينفجر أحيانًا بالسخط والغضب في بعض أحاديثه وحِكمه وتأملاته. وقد شجَّعه على ذلك وعزَّاه عنه أيضًا أن توءم روحه الشرقي حافظ الشيرازي قد تعرَّض مثله لوشايات الوشاة وغدر الأقزام ولسع الحشرات الطُّفَيلية التي لا يغيظها شيء كما يغيظها أن يعمل الناس في صمت وترفُّع وتفانٍ. ولا شك أن إحساسه الذاتي بالثقة والتفوق، ويقينه الثابت بأن الدنيا لا تخلو أبدًا من النفوس الصادقة التي تتلقى عمله بالحب والرضا والعرفان، قد أعاناه على «تشكيل» نيران غضبة وتحويلها إلى أضواء دافئة وأنغام عذبة (راجع على سبيل المثال القصيدتَين رقم ٨، ٩ في هذا الكتاب: «هل سبق أن أشرت عليكم»، «لا يرفعن أحد صوته بالشكاة من الدناءة والوضاعة»). وقد قال الشاعر نفسه عن هذا الكتاب في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح سنة ١٨١٦م: «يتضمن كتاب الضيق قصائد ليست غريبة عن الشرق في أسلوبها ولهجتها؛ ذلك لأن شعراء الشرق، الذين يمدحون رعاتهم وحُماتهم بأروع القصائد، يفقدون كل اعتدال عندما يُحِسون أنهم قد فقدوا الاهتمام وأُزيحوا إلى الوراء، أو يتصوَّرون أنهم لا يُجازَون جزاءً وافيًا، ثم إنهم يقعون على الدوام في خلاف مع الزهاد والمنافقين وأشباههم، كما يدخلون باستمرار في صراع مع العالم، أو مع المسار المضطرب لأحوال الدنيا كما يُسمُّونه.» ثم يقول عنه في تعليقاته التي ألحقها بالديوان بعد ذلك بسنوات: «إذا كانت بقية كتب هذا الديوان تنمو وتزداد، فإن هذا الكتاب يُسمَح له أيضًا بهذا الحق. ولا بد في البداية أن تتجمع الإضافات اللطيفة المُتزِنة قبل أن يُستطاع تحمُّل انفجارات السخط والضيق. إن «عاطفة» الإحسان المشترك بين البشر، ومشاعر التسامح والتعاون بينهم، تربط بين السماء والأرض، وتهيِّئ للناس الفردوس الموعود. أما السخط (أو الضيق) فهو دائمًا أناني، ويُصِر على مَطالبه التي عجز عن تحقيقها، وهو مدَّعٍ وكريه ولا يسرُّ أحدًا، بل لا يكاد يسرُّ أحدًا ممَّن استولى عليهم نفس الشعور، ولكن الإنسان لا يستطيع على الرغم من ذلك أن يكظم مثل هذه الانفجارات، بل إنه ليُحسِن صنعًا عندما يسعى للتنفيس بهذه الطريقة خصوصًا عن سخطه على إعاقة نشاطه وتعطيله. وقد كان حريًّا بهذا الكتاب أن يكون الآن أقوى وأغنى مما هو عليه، ولكننا نحَّينا جانبًا بعض قصائده منعًا لإثارة الضيق في النفوس. ويكفي أن نُلاحِظ الآن أن أمثال هذه التعبيرات التي يُمكِن أن تبدو مُثيرة للضيق، يُمكِن في وقتٍ لاحق أن تُعَد بريئة «من الإساءة»، وأن تُستقبَل «من القُراء» بمودة وترحيب عندما تُدخَر لنشرها في السنوات القادمة على هيئة مُلحَقات ﻟ «الديوان»» (عن طبعة هامبورج، ص١٩٧-١٩٨، وبتصرف عن ترجمة بدوي، ص٤٥٠).
(١) من أين أتيت بهذا؟
تردُّ القصيدة على أسئلة الصِّغار الذين أدهشهم أو ساءهم أن يتجه الشاعر الغربي إلى الشرق، أو بالأحرى يُهاجِر إليه ويستلهمه قصائد الديوان، وجوابه عليهم يدل على ثقته بشخصيته التي لم يضيِّعها في رحاب الشرق، وإنما بعثها من جديد إلى الحياة كما بعث أنفاس الدفء والحرارة في آخر ومضات شرارة إلهامه ووحيه (س٥-٦)، ووسَّع آفاقه حين جاب الآفاق الشاسعة وحلَّق في محيط النجوم (س٩-١٠)، وجذب الشرق إليه لكي يتجنب عالم الغرب المُبتلى بالحقارة والصَّغار؛ ولهذا تتوالى الصور الفنية الحية التي تعزِّز تصميم الشاعر ويستقيها من الحياة البدوية الثرية بالكرم والمروءة والمغامرات وغارات اللصوص والصعاليك على القوافل، ومن الجري أيضًا وراء السراب الخادع.
(٢) لن تجد أي شُوَيعر نظَّام
تواصَل الهجوم على الصِّغار ولكن من منظور آخر، فلا تقتصر الأنانية وضيق الأفق والنرجسية على الشعراء والفنانين (الذين يُمكِننا أن نتسامح معهم ونتفهَّم مواقفهم ما دامت تقترن بالإبداع)، وإنما تمتد بصورة أسوأ وأقبح إلى رجال السياسة والقُواد العسكريين وأوساط الناس الذين لا يجلبون على العالم غير الخراب والضوضاء والشحناء والبغضاء (لاحظ نغمة التهكم والدعابة — التي تصدر عن الحب والتسامح! — في المقطوعتَين الأُوليَين، وبوجه خاص في المقطوعة الرابعة). أما عن غُرَف الانتظار، فهي إشارة إلى ما يدور في دواوين الدولة وفي قصور الأمراء وبين رجال البلاط من التآمر والكيد والنفاق (س١٠). ولو تعلَّمت الشعوب أن تتعامل باحترام وقدَّر كل شعب ما قدَّمه الشعب الآخر للتراث البشري من جلائل الأعمال، لزالت أسباب الفُرقة بينها، وتعلَّمت أن تعيش مع بعضها في سلام (س١٣–١٦).
(٣) لعلكم تُلاحِظون
عودة إلى موضوع التعاظم أو الترفُّع والتفوق الذي تشعر به الأنا في هذه القصيدة تجاه أعدائها الصِّغار الذين لا يستحقون منها إلا الاحتقار، وهو موضوع أساسي يتغلغل في عدد غير قليل من قصائد الديوان، ويتجلى في صور مختلفة، كالجرأة (القصيدة رقم ١٤ من كتاب المغنِّي) والزهو والانطلاق (القصيدة رقم ١٥ من الكتاب نفسه بعنوان: خشن ونشيط) ومساواة القيصر نفسه في سموِّه بل التفوق عليه لكونه عاجزًا عن الحب (في مواضع مختلفة من كتاب زليخا وكتاب الساقي) وتأكيد عظمة الأنا بقدر بذلها وعطائها للأنت المحبوبة وتوحُّدها معها إلى حد الفناء (في قصيدة حنين مبارك من كتاب المغنِّي). والكلمة الأصلية في السطر الرابع تعني الطغاة، وقد فضَّلنا أن تكون الحكام العظام؛ لأن المعنى الأصلي للكلمة اليونانية يدل على الحاكم الفرد، وليس بالضرورة على المستبد الظالم. والمعروف أن جوته كان شديد الإعجاب بنابليون الذي لم يكن في نظره طاغية، بل واحد من «الحكام العظام». وألريش فون هوتن (١٤٨٨–١٥٢٤م) هو العالم الإنساني والثائر البروتستنتي في أوائل عصر الإصلاح الديني الذي اشتهر بحملاته الشديدة على الأمراء والرهبان من أصحاب الثياب البُنية الذين قاسى الأمرَّين من ضيق أفقهم، على نحوِ ما قاسى حافظ من علماء الدين المُحافِظين أصحاب الملابس الزرقاء الذين كان هو نفسه واحدًا منهم (راجع قصيدتَي اتهام وفتوى من كتاب حافظ). أما أعداء جوته من رجال الدين المسيحي المُتزمِّتين فيصعب التعرف عليهم؛ لأنهم يبدون في مظهرهم كسائر المسيحيين (س١٧–٢٠).
(٤) وكان ما يتفتح في ظل الصمت
تُعرَض هذه القصيدة بلهاث مُواطِني جوته وراء البدع واقتناص الأخبار الجديدة والثرثرة والتشتت والتهالك على الظهور ولفت الأنظار، إلى آخر ما استحدثته الصحف اليومية من تخريب للإنسان في ذلك الحين — دع عنك ألوان الخراب والدمار التي تسبِّبها وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء كل يوم في حياتنا الحاضرة! — والشاعر يقف على الطرف الآخر من هذه المشاغل المدمِّرة؛ أي يقف مع الخير والحق والحقيقة الشعرية والوجودية التي تتفتح في ظل الصمت، ولا تكترث بأن يكون لها اسم أو شعار، سواءٌ كان مستمدًّا من اللغة القديمة أو الحديثة. وروح الشعر تفرض عليه أن يحيا بعمق، ويبتعد بنفسه عن اللغو والجدل العقيم وتصيُّد الأنباء وتلفيقها وتمزيقها ورتقها باسم التجديد الذي هو في حقيقته تبديد؛ ولهذا لا يلجأ الشاعر هنا إلى الشكوى ولا إلى الغضب، وإنما يتمسك بالدعابة المترفِّعة، ويقتنع بترديد أغنيته الهامسة كعصفور صغير في وجه الصخب والضوضاء (راجع السطور ٣، ٤، ١٠، ١٣، ١٤)، وهي أغنية تحيا بعمق، وتريد أن تهتدي للحق (س١٣-١٤)؛ لأنها تُخاطِب الأبدي وتتجه إليه من وراء العابر والزائل أو من خلاله، وذلك كما فعل الشعر دائمًا، وكما سيفعل على الدوام (س٢٧-٢٨).
(٥) المجنون معناه
المجنون هنا هو الذي أصابه مسٌّ من الشيطان وشيطان الشعر بوجه خاص، وليس المقصود بالضرورة هو مجنون ليلى الذي ورد ذِكره أكثر من مرة في الديوان. وفي القصيدة نظرة عميقة إلى رسالة الشعر والشاعر كما آمن بها جوته طوال حياته؛ فالشعر لا يخلِّص الشاعر نفسه وحسب، وإنما يحمل الخلاص والإنقاذ للآخرين الذين يُسارِعون إلى وضعه في الأغلال وتقييده بالحبال (س٥-٦). وعندما ينتبهون أخيرًا إلى خطئهم يكون الوقت قد فات، كما يحدث دائمًا للعباقرة والأفذاذ (س١٠). وفي هذه القصيدة تناولٌ جديد لموضوع «التعاظم» أو التفوق الذي سبق الكلام عنه (راجع التعليق على القصائد رقم ١، ٢، ٤ من هذا الكتاب) والذي تتشبَّث به الأنا الشاعرة كُلَّما حاول الخصوم والأعداء والحاقدون أن يُغرِقوا سفينتها المُنطلِقة في بحار الإبداع. ويبدو أنه (أي موضوع الأنا المتمركِزة حول نفسها للدفاع عن وجودها!) هو أحد المداخل الأساسية لفهم كتاب الضيق بأكمله، وإن كنا نكتشف (في كتاب العشق وزليخا والساقي والفردوس) أن وحدتها مع الأنت وفناءها في حبه — كما سبقت الإشارة لذلك — هو العاصم الحقيقي لها من الغرق في تفاهات العصر وصغاره ومهاتراته.
(٦) هل سبق أن أشرت عليكم؟
عودة إلى الموضوع السابق من زاوية مختلفة. فالصِّغار يتهمونه بعدم الاكتراث بشئون السياسة وأحداث الساعة، وهو يرد عليهم بأنه لم يُعنَ أبدًا بالدخل فيها كما لم يُدخِل نفسه في شئون الحِرَفيين والعمال كالنجارين والصيادين، وكل ما يرجوه منهم هو أن يتركوه لممارسة عمله الذي يُحسِنه بدلًا من حشر أنوفهم فيه باستمرار. وإذا كانوا يشعرون بأن لديهم مثل ما لديه من القدرة والموهبة، فليقدِّموا برهانهم ويُشارِكوا في حلبة الإبداع بدلًا من الاكتفاء بالثرثرة الفارغة عنه (كما يحدث اليوم في حياتنا الثقافية والفنية إلى حد المَلل والغثيان).
(٧) طمأنينة المتجوِّل
استطراد آخر لنفس الموضوع كما ورد خصوصًا في القصيدة رقم ٤ «لعلكم تُلاحِظون أن التعاظم»، وفيه تُواجِه الأنا خصومها المُرجِفين، وعلى وجهها قناع العظمة والترفُّع والجلال، وفوق شفتَيها ابتسامة السخرية الساحقة: دعهم يُديرون ويُثيرون كالغبار (س١١-١٢). وراجع كذلك تعليق بدوي الذي يرى فيه أن الشاعر قد استلهم في المقطوعة الأخيرة أبياتًا من الشاهنامه عن ترجمة دييز (ص٢٠٢، برلين، ١٨١١م) يقول فيها: «إنني أسعى إلى العزلة حين يدور العالم في دوامة، ودوران الحظ أسوأ من أسوأ غبار في العالم» (بدوي، ص١٧٥). ويرى شارح آخر (وهو فايتس في طبعته للديوان، ص٣١٣) أن السطرَين الأخيرَين متأثِّران بكتاب قابوس وجوه العام، ويُلاحِظ أن هذه القصيدة هي الوحيدة في هذا الكتاب التي وضع لها جوته عنوانًا. أما سائر العناوين فقد أخذتُها من السطر الأول للقصائد. وكلمة المتجوِّل في العنوان تكرِّر صورة شائعة في شعر جوته عن الإنسان الذي يمضي في سبيله ويتمشى بلا هدف محدَّد.
(٨) من ذا الذي يطلب من الدنيا؟
يرى أحد الدارسين (وهو إرماتنجر) ضرورة استكمال السطر الثالث بحيث يكون على هذه الصورة: «فيظل يتلفت إليها.» أما إضاعة نهار النهار (س٤) فالمقصود بها إضاعة الوقت المُلائم للعمل. وفي القصيدة توضيح للمعنى الكامن في معظم قصائد هذا الكتاب، وهو الانصراف إلى العمل الصامت الجاد بدلًا من التلفت إلى كل الجهات والانشغال بالتوافه العاجلة. ولا بد أن الحياة أو الدنيا ستُجازي من لا يضيِّع اللحظة — أي العمر القصير الضئيل بالقياس إلى الزمن الكوني! — وستضع في يده ذات يوم من الأيام ثمرة جهده الذي قضى فيه السنوات.
(٩) إن ثناء المرء على نفسه
إذا كان لا يليق بالإنسان النشيط الفعَّال أن ينتظر الثناء من أحد، فلا يليق به أن يُثني على نفسه بنفسه؛ فكلا الأمرَين شيء فج ممجوج. والواجب على الحكيم أن يثق بنفسه وعمله، ولكنه إذا صرَّح بهذه الثقة خرج من دائرة الحكماء ودخل في دائرة الحمقى. ولعل الشاعر يُحاوِل هنا أن يسوِّغ أمام الناس تلك الثقة بالنفس التي يأخذها عليه بعضهم إلى حد اتهامه بالغرور (التعاظم). وربما تلقى هذه الحكمة التي كتبها في مجموعة حِكَمه وتأملاته شيئًا من الضوء على هذا الموقف الشائك الذي وجد نفسه فيه: «يُقال إن الثناء الباطل على النفس تخرج منه روائح عفنة. قد يكون هذا صحيحًا، ولكن الجمهور لا يشم الرائحة التي تفوح من الافتراء الغريب والاتهام الظالم.» والسطر الأول مأخوذ عن ترجمة دييز لكتاب السعداء لمؤلِّف تركي من القرن السادس وهو بوزري جمهور.
(١٠) أتعتقد إذن؟
يتكلم الناس عادة ويتناقلون الكلام بعضهم عن بعض، ويصدِّقون ما يقولون ويسمعون، وهم يتصوَّرون أن الأمر يُمكِن أن يقف عند هذا الحد، لكن الواقع أن هذه هي البداية التي ينبغي أن ينطلق منها الإنسان إلى النقد الحقيقي وإصدار الحكم المُستقِل في أمور السياسة والتاريخ وشئون الطبيعة والاجتماع والدين … إلخ. لاحظ تأثير الروح العقلانية للعصر وفلسفة كانط النقدية على القصيدة، ولاحظ أيضًا أن الكلمة الأصلية للنقل في السطر الثالث تعني التراث المنقول أو المتوارَث بأوسع معانيه، وأخيرًا يردِّد الشاعر — ربما دون قصد — كلمات كانطية معروفة، كالحكم والفهم من منظور نقدي لا يخفي تأثير مؤسِّس الفلسفة النقدية عليه، ولعل القصيدة تعبِّر أيضًا عن رغبة الشاعر في تحكيم العقل في النقل. وترجِّح الباحثة كاترينا مومزن أن تكون القصيدة ردًّا على عبارات دينية متشدِّدة صدرت من المستشرق فون دييتس.
(١١) ومن يحاكي الفرنسيين أو البريطانيين؟
عودة للهجوم السابق (في القصيدة رقم ٦: وكأن ما يتفتح في ظل الصمت) على اللهاث وراء البِدَع وكل جديد لافت في الأدب والحياة. وليت المُغالِين عندنا — إلى حد التطرف والشذوذ والإلغاز والإظلام! — في التجديد دون معرفة حقيقية بالقديم الذي يصرخون بالقطعية معه لا مجرد تجاوُزه كما يقول بذلك أي تجديد صحيح، ليتهم يقفون طويلًا عند الفقرة الأخيرة من هذه القصيدة؛ فالذي لا يجدِّد ووراءه ثلاثة آلاف عام من الخبرة بتراثه وتراث الإنسانية سيظل يتخبط في الظلام ويحيا من يوم ليوم كالشحاذ المُتنقِّل من باب إلى باب. لاحظ هنا أيضًا المقابلة التي يُقيمها الشاعر بين الحياة الإعلامية أو الصحفية المتسرِّعة اللاهثة وراء ما تتوهم أنه جديد أو تجديد، وبين الحياة بعمق والارتباط بالأصول والجذور. وكذلك هجوم الشاعر على النزعات القومية المتعصِّبة التي أخذت تُطِل برءوسها أيام جوته، ورأى من واجبه وبوازع أصيل من نزعته العالمية والإنسانية أن يتصدى لمزاعمها الضيِّقة الأفق، وهو يُشهِر في وجهها سيف القانون الأخلاقي، ويرفع راية الصالح العام للبشرية العاقلة.
(١٢) عندما كان المسلمون
الدراويش المُحدَثون هم رجال الدين وعلماء اللاهوت المعاصرون لجوته. ويُمكِن ترجمة المصطلحات الإسلامية إلى مصطلحات غربية دون تغيير في جوهر القضية التي تدور حولها القصيدة؛ فما ينطبق على القرآن الكريم والدراويش يصدُق على الإنجيل وعلماء اللاهوت المسيحيين، والقديم هو العقيدة المتشدِّدة المُحافِظة، بينما الجديد هو النزعة الإنسانية والمثالية ونقد الكتاب المقدس. ولعلها أن تكون دعوة من الشاعر للذين كانوا يُثرثِرون في عهده عن الجديد — إلى حد إشاعة التشويش والاضطراب وإشعال نيران التعصب بدلًا من العمل على إطفائها — لكي يتعلموا من المسلمين الذين يُجلُّون كتابهم المقدس، وينعمون بذلك بالطمأنينة وراحة الضمير.
(١٣) النبي يقول
كُتبت في الثالث والعشرين من شهر فبراير سنة ١٨١٥م، ودوَّن الشاعر معها هذه الآية الكريمة من سورة الحج (الآية ١٥) للرد على أعدائه: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ولعله لم يجد خيرًا منها للرد على أولئك الصِّغار.
(١٤) تيمور يقول
عودة ختامية لموضوع التعاظم، لا من وجهة نظر الأنا، بل من وجهة نظر شخصية مُخِيفة مشهورة (تيمورلنك) يعتبرها الشاعر رمزًا لشخصية العبقري المُؤمِن بنفسه وبالله (ولست أدري كيف وصل جوته إلى هذا الحد من الخلط وسوء الفهم).