كتاب زليخا
يقول جوته عن هذا الكتاب في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح (١٨١٦م) إنه يحتوي على قصائد عاطفية، ويتميز عن كتاب العشق بأن الحبيبة مذكورة بالاسم، وأنها تظهر فيه بطابع واضح صريح، بل تظهر من الناحية الشخصية كشاعرة تتمتع بشبابها وتُنافِس الشاعر، الذي لا يُخفي كِبَر سِنه، في حبها المشبوب بالعاطفة. والبيئة التي تجري فيها هذه الدراما الثنائية بيئة فارسية محضة. وهنا أيضًا تفرض المعاني الروحية نفسها في بعض الأحيان، ويبدو وكأن حجاب الحب الأرضي يُخفي وراءه علاقات أسمى.
ثم يقول عنه بعد ذلك في تعليقاته وأبحاثه التي وضعها بنفسه لتُعِين على فهم الديوان: «إن هذا الكتاب، وهو أوفر كتب الديوان (من حيث عدد قصائده) يُمكِن أن يُعَد مكتمِلًا.» وإن نفس العاطفة المشبوبة وروحها التي تشيع في الكتاب كله، ليسا شيئًا يُمكِن استعادته بسهولة، أو على الأقل يجب أن تُنتظَر عودته كما تُنتظَر عودة موسم النبيذ الطيب، في أمل وتواضع، ولكن أرجو أن يسمح لنا بتقديم بعض الخواطر عن مسلك الشاعر الغربي في هذا الكتاب؛ فهو مثل بعض أسلافه الشرقيين ينأى بنفسه عن السلطان، بل إنه كدرويشٍ قنوع، يجرؤ حتى على مقارنة نفسه بالأمير؛ لأن الشحاذ الحقيقي هو في الواقع أشبه ما يكون بالملِك. إن الفقر يمنح الجرأة. وعدم اعترافه بالخيرات الأرضية وقيمتها، واستغناؤه عنها تمامًا أو احتياجه للقليل منها، هو قراره الذي يجعله خالي البال من كل هم، وبدلًا من السعي إلى التملُّك المُثير للقلق، فإنه يجود بفكره بالبلاد والكنوز، ويتهكم على كل من كان يملكها ثم فقدها. والواقع أن شاعرنا قد تبنَّى نوعًا من الفقر الإرادي؛ وذلك ليكون أكثر اعتزازًا بأن ثمة فتاةً تُحِبه لهذا السبب وتميل إليه.
أضِف إلى هذا أنه يفتخر بعيبٍ أكبر؛ فقد تولَّى عنه الشباب، وهو يزيِّن شيخوخته وشَعره الأشيب بحب زليخا، لا عن غرور وإلحاح، كلا! بل عن يقين بأنها تُبادِله حبًّا بحب؛ فزليخا الذكية، تقدِّر الروح التي تُنضِج الشباب مبكِّرًا كما تجدِّد شباب الشيخوخة (بتصرف عن ترجمة بدوي، ص٢٠٩، ص٤٥٩، وطبعة هامبورج ص٢٠١-٢٠٢، ص٢٦٩).
وإذا كان كتاب العشق قد عرض ظاهرة الحب بأشكالها المختلفة، كما قدَّم شخصيات متنوعة من العشاق الذين أخلصوا في الحب إلى حد الجنون أو الفناء، فإن كتاب زليخا يقتصر على عاشقَين اثنَين يؤلِّف بينهما الحب المشبوب. ومع ذلك، فإن ظاهرة الحب نفسها تُصوَّر من خلالهما، كما يتمثل الكل في هذا النموذج المثالي النادر. ومن هنا يسود الطابع الشخصي الحميم قصائد هذا الكتاب، كما تنفذ فيه وتشع منه — على حد تعبير جوته نفسه في النص السابق — معانٍ روحية ودينية وكونية مختلفة. وتتكرر في الكتاب بعض الموضوعات المحورية في الديوان كله، كما تظهر فيه موضوعات أخرى يكاد ينفرد بها عن سائر الكتب؛ فهناك موضوع التفوق أو «التعاظم» الذي تناولناه في شروح سابقة، وفيه يُقارِن الشاعر نفسه بالقيصر ويؤكِّد أنه أعظم منه لأنه يُحِب ويُحَب. وفيه كذلك موضوع الارتباط الوثيق بين الحب والدين، بَيدَ أن الجديد هنا — ومن الطبيعي أن يظهر في قصائد الحب الصادقة! — هو ما يُمكِن تسميته بجدلية الحب، أو بتعبير أبسط بتبادُل الحب، كما يظهر بشكل رمزي في قصيدة جنجوبيلوبا (رقم ١٠) التي تؤكِّد أن كلا الحبيبَين واحد واثنان، وبشكل كوني شامل في قصيدة «لقاء من جديد» (رقم ٣٩)، كما يزداد عمقًا في شعور الحبيبَين بأن كلًّا منهما قد خُلِق للآخر ولا غنى له عنه — وهذا هو جوهر الحب! — مما يظهر في قصيدة «أن زليخا فُتنت» (رقم ٢، السطر ٦)، وعلى لسان حاتم (في القصيدة رقم ١١، س٧-٨)؛ ولهذا تكثر القصائد الحوارية في هذا الكتاب بين زليخا (التي أطلق الشاعر اسمها على حبيبته مريانة فون فيليمر) وبين حاتم (وهو الاسم الذي أطلقه الشاعر على نفسه؛ ربما لأنه لا يقلُّ في جوده وعطائه للحب عن حاتم الطائي!) وتربط بهذا كله تلك الفكرة الصوفية العريقة التي تقول إنه لا يجد نفسه إلا من يفقدها ويتخلى عنها؛ أي من يهبُها للمحبوب، وإن كنوز الأرض جميعًا لا تُساوي شيئًا لأن الحب هو الغِنى الحقيقي (راجع القصيدة رقم ٤، السطر ٧-٨؛ والقصيدة رقم ١٥، س٧-٨، س١١-١٢؛ والقصيدة رقم ١٩، س٥–٨)؛ ومن ثَم يأتي أهم موضوعات هذا الكتاب، وهو تأكيد اﻟ «نحن» في ثنائية الحب، سواء في «عودة اللقاء» بعد فراق طويل، أو في الفراق المأسوي الذي ليس بعده لقاء، وكل هذا في رموز كبرى تتجلى في صور متنوعة، مثل صورة الكرة التي يتلقفها الحبيب ويُلقيها لحبيبه (في القصيدة رقم ١٦، من السطر ١٦–٢٠؛ وفي القصيدة رقم ٣٣ بهرامجور فيما يُقال، هو الذي اخترع القافية؛ والقصيدة رقم ١٢ عن ورقة الشجرة العجيبة «جنجوبيلوبا») التي تجسِّد الحب كلقاءٍ يضم اثنَين في واحد، كما تمثِّل ما نسمِّيه نحن بالمكتوب والنصيب الذي قُسِم كلُّ واحد منهما للآخر، وفي القصيدتَين اللتَين ترمزان بالشمس مرة لاستحالة اللقاء بعد الفراق والهجران، ومرة أخرى لتجربة الحب التي يشع منها الحضور الإلهي، وهما صورة سامية (رقم ٣٦) وصدى (رقم ٣٧)، وكأنما تسبح القصائد كلها في الوجود الكلي قبل أن تنتهي دورتها إلى الأنا والأنت المُتحابَّين. وقد ضم جوته إلى هذا الكتاب بعض القصائد التي أرسلتها إليه حبيبته مريانة، وذلك بعد تغيير طفيف جدًّا لم يمسَّ سوى كلمات قليلة، ولولا معرفتنا بهذه القصائد التي كتبتها الشاعرة، وتأثَّرت فيها بطبيعة الحال بلُغة جوته وتجربته وإيقاعاته! لقُلنا إنها من شعره، وإن كان النظر المدقِّق سيميِّزها عنه بخصائص «أنثوية» رقيقة بيَّنها بعض الدارسين، ولا يتسع هذا المجال لذِكرها.
الشعار في مستهل الكتاب: مأخوذ عن ترجمة المستشرق دييز (في كتابه ذكريات من آسيا، ج١، ص٢٥٤–١٥٢٠). ورمز الشمس هنا له دلالة عميقة — كما سبق القول — على ظهور مريانة في حياته على غير انتظار، وعلى تجربة الحب التي غمرتها بالنعمة الإلهية كما تغمر الشمس الوجود بنورها، وربما كان هذا المعنى المتضمَّن في السطور الأربعة من أقوى الأسباب التي جعلت الشاعر يختارها شعارًا لكتاب زليخا.
(١) دعوة: تتناول القصيدة — التي لا تخلو من الغموض المُوحي! — موضوعًا من أجل الموضوعات، لعله أن يكون هو الحاضر الذي يبلغ ذروة حضوره في لحظة الحب! وذلك بنوع من اللعب أو التلاعب بالألفاظ، شأنها في هذا شأن العديد من قصائد الديوان، وربما يكون أهم ما فيها هو الانصراف عن العالم الصاخب المُضطرِب الذي نشقى به ويشقى بنا كل يوم، لاستعادة العالم الحقيقي أو الجوهري في الحب مع «أعز حبيب».
(٢، ٣) عرف جوته، بغير شك، قصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز فرعون مصر عن مصدرَيها الأساسيَّين، وهما الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وتأثَّر كذلك بتصوير نور الدين عبد الرحمن جامي (١٤١٤–١٤٩٢م) — في قصيدته الكبرى «يوسف وزليخا» — للحب بينهما في صورة حب عُذري طاهر أفضى إلى إيمان زليخا بالله. فهل يُمكِن القول إن حب الشاعر لمريانة فيليمر كان من هذان النوع كما يقول بعض الشُّراح (ومنهم الدكتور بدوي في شرحه على هذه القصيدة وتفسيره لتسمية جوته لنفسه باسم حاتم علامة على الحب الروحي الذي يتجلى في العطاء بغير حدود)؟ لا أظن أن جميع قصائد هذا الكتاب تُوحي بهذا الحب الروحي أو العذري الخالص، وإن كان هذا لا يمنع أنها تؤكِّد وحدة الحبيبَين وتفانيهما في العطاء الروحي وغير الروحي. أما عن حاتم الطغرائي الذي تذكره القصيدة رقم ٣ «لما كنت الآن تُسمين زليخا»، فقد تصوَّر شُراح الديوان أنه سهوٌ وقع فيه جوته بدلًا من إسماعيل الطغرائي صاحب لامية العجم، الذي قرأ جوته وصف هيربوليه له في المكتبة الشرقية بأنه رجل غني بالفضائل والصفات الحميدة، وهو قريب مما يسمِّيه الإيطاليون بالفيرتووزو — أي المُنفرِد البارع في فنه — إلى أن أثبتت الباحثة السيدة كاترينا مومزن — كما ذكرنا بالتفصيل في مقدمة هذا الكتاب — أن ذلك لم يكن سهوًا على الإطلاق. والمهم أن الحاتمَين اللذَين تذكُرهما القصيدة رجلان ناضجان مثله في العمر والتجربة، وأن كلَيهما اشتهر بالعطاء السخي ووعد نفسه بأن يلقاه من المحبوبة وأن يقدِّمه لها. والقديس جورج المذكور في السطرَين السابع والثامن من القصيدة رقم ٣ هو القديس المحلي لمدينة أيزناخ، حيث كُتبت القصيدة في يوم ٢٤ من مايو سنة ١٨١٥م.
(٤) حاتم: يتردد هنا (لا سيَّما في السطرَين السابع والثامن) موضوعُ فقدِ النفس والعثور عليها في المحبوب، وهو الموضوع الذي يتكرر في قصائد أخرى، من أهمها القصيدة رقم ١٨ على لسان زليخا «الشعب والخادم والحكام»، على نحوِ ما تتردد سائر الموضوعات في قصائد هذا الكتاب، كأنها جُمَل أساسية مُتداخِلة في سيمفونية طويلة.
(٥) زليخا في قمة الفرح بحبك: ردٌّ على القصيدة السابقة، وهي من نَظمِ مريانة، وبها يبدأ تبادُل الحوار بين العاشقَين، أو تبدأ الدراما الثنائية التي ذكرها جوته وأشَرنا إليها في التمهيد لهذا الكتاب. وأهم ما يميِّز هذا الحب هو الاختيار الحر والعطاء السخي الذي يصدر عن الفرح والابتهاج بالعطاء نفسه (راجع البيت الأول: في قمة الفرح بحبك).
(٦) ما خاب لصبٍّ مسعاه: استوحى جوته هذه الأبيات من ترجمة أولياريوس (١٦٥٤م) لبستان سعدي: «لو أحببت إنسانًا حبًّا صادقًا لوجَّهت قلبك إليه، وأغمضت عينيك عن كل شيء في العالم، ولو بُعثت ليلى والمجنون مرة أخرى إلى الحياة وقد نسيا الحب تمامًا لَتعلَّما من جديد فن الحب من كتابي» (ص١١٥).
(٧) أمِن المُمكِن: الكلام على لسان حاتم، ويصدُق عليه ما قاله جوته في تعريفه بكتاب زليخا في صحيفة الصباح: «إن حجاب الحب الأرضي يبدو أنه يُخفي علامات أسمى.» فالوردة شيء واقعي ملموس، ولكنها مع ذلك شيء مستحيل وغير قابل للفهم؛ لأنها هي الجمال والكمال الذي يُحِس معه الإنسان بما هو مستحيل وعصيٌّ على الإدراك؛ أي بالاقتراب مما هو إلهي. وفي هذا المعنى يقول الشاعر في إحدى قصائده المتأخِّرة بعنوان «أبيريما»: «عليكم، وأنتم تتأملون الطبيعة، أن تنتبهوا دائمًا للواحد وللكل، فلا شيء في الداخل ولا شيء في الخارج، وهكذا تُمسِكون، بلا تردُّد، بالسر المقدَّس المكشوف» (طبعة هامبورج، المجلد الأول، ص٣٥٨). والمعنى ببساطة أن المعطي المباشر المحدود يكشف عن اللامحدود واللانهائي، وأن الوردة والبلبل والحبيب تعكس للعَين العاشقة قبسًا من الألوهية، فتشعر حيالَها بأنها واقع ولا واقع في وقت واحد، كما تُحِس بالسعادة والفرحة المُمتزِجة بالرهبة والقلق حين ترى الوردة (الجمال) وتسمع البلبل (الصوت الإلهي). وتأتي أهمية القصيدة من أنها تُوحي لأول مرة في كتاب زليخا بالبعد الكوني والبعد الإلهي اللذَين سنجدهما بصورةٍ أعمق في قصيدتَي «لقاء من جديد» (رقم ٣٦) و«في وُسعِك أن تتخفى في آلاف الأشكال» (رقم ٤٦).
(٨) رأت زليخا في الحُلم أن الخاتم الذي أهداه حاتم إليها قد سقط في مياه الفرات (وهو هنا البديل في الحلم عن نهر الماين!) وهو يفسِّر الحلم بأنه — وهو التاجر الذي يجوب أنحاء الأرض — قد أصبح بفضل هذا الخاتم مشدودًا إلى عالمها، غارقًا إلى أُذنَيه في نهر حبها، وهو يذكرها على سبيل المقارنة بأن حاله تُشبِه حال دوق البندقية الذي كان يستقل سفينة في يوم الاحتفال بقيامة المسيح من كل عام، ويُلقي بخاتم في الماء رمزًا لارتباط مدينة البندقية بالبحر، أو بزواجها منه لضمان سيطرتها البحرية والتجارية عليه.
(٩) شجرة الجنج كو: (وليس جنجو كما يكتبها جوته!) شجرةٌ عريقة من شرق آسيا، يُقال إنها شجرة مقدَّسة في الصين، وقد عرفت طريقها منذ القرن الثامن عشر إلى حدائق النباتات في القارة الأوروبية. يُقال أيضًا إن ورقتها تبدو كالمروحة المفرودة التي يشقها من المنتصف قَطعٌ عميق غائر، فتظهر كأنها ورقتان نمتا معًا (وقد رأيت بعيني كيف استغلَّها التجار في مدينة فيمار الصغيرة لجذب السياح، وصنعوها على أشكال مختلفة من الحلوى والشوكولاتة التي تُلَف معها قصيدة جوته بخط يده المُنسَق الجميل!) ومع أن كتاب زليخا قصائد عديدة تعبِّر عن وحدة العاشقَين (مثل قصيدة بهرامجور فيما يُقال رقم ٣٢، وقصيدة لقاء من جديد رقم ٣٩)، إلا أن هذه القصيدة تمثِّل الوحدة الثنائية — إذا صح هذا التعبير — في صورة حية أو رمز عياني عجيب يقول كل شيء، وإن كان لا يبوح به إلا لمن جرَّب الحب وتعذَّب بنعيمه أو نَعِم بعذابه!
ومما يُذكَر أن جوته أرسل هذه القصيدة مكتوبة بخط يده مع خطاب إلى روزينة شتيدل، الابنة الكبرى لفون فيلمر زوج حبيبته، وذلك في السابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٨١٥م، كما عُثِر على نسخة خطية أخرى منها كتب تحتها: تذكارًا لأيام سبتمبر السعيدة. ويقول بعض الشُّراح إنه أرسلها إلى مريانة نفسها ومعها ورقة من تلك الشجرة العجيبة، وذلك بناءً على الملاحظة التي دوَّنها بواسريه صديق جوته في الخامس عشر من الشهر نفسه.
(١٠) زليخا طلعت الشمس! يا له من منظر بديع! لهذه القصيدة مناسبة طريفة؛ فقد كانت مريانة تعرف مدى حب جوته لكل ما هو شرقي، كما كانت هي نفسها لا ترى شيئًا من الشرق إلا ربطته بشخصه، وكان قيصر النمسا فرانز الأول قد أهدى جوته وسامًا، واغتنمت مريانة هذه الفرصة، فاشترت له هدية لطيفة على سبيل الدعاية من معرض فرانكفورت، وكانت عبارة عن شعار تركي من الورق المقوَّى يمثِّل الشمس التي يُعانِقها الهلال (وكان سلاطين الأتراك العثمانيين يضعونه وسامًا على صدر الشجعان والأصفياء المُخلِصين س٥–٨). وقد احتفظ جوته بهذه الهدية المحبوبة حتى وفاته، كما فسَّرها في القصيدة تفسيرًا مرِحًا وشائقًا من منظور العاشق السعيد. وجديرٌ بالذِّكر أنه كتبها في مدينة هيدلبرج في الثاني والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٨١٥م الذي انفتحت له فيه — فيما يبدو — أبواب جنة مريانة التي لم تضنَّ عليه بخمرها وعسلها. وقد ذكَّرته بهذه القصيدة بعد ذلك بحوالي عشر سنوات في رسالةٍ كتبتها إليه في بداية شهر مارس سنة ١٨٢٤م.
(١١) تعالَ أيها الحبيب تعال! يوضِّح آخر بيتَين مغزى القصيدة؛ إذ يرجع الشاعر مرة أخرى إلى موضوع العظمة أو التعاظم الذي تناوَله في قصائد سابقة، وإن كان الحب يجعله في هذه المرة أعظم من عباس الأكبر شاه إيران المشهور (حكم من ١٥٨٦–١٦٠٨م)، كما تحلُّ العمامة الملفوفة بشالٍ من الموصلَين محل القلنسوة (راجع قصيدة خاطر حر، رقم ٣، س٤ من كتاب المغنِّي)، وتيجان القياصرة التي لا تختلف كثيرًا عن العمامة (س٩ وبعده). أما العمامة التي تدلَّت من رأس الإسكندر (س٥–٨) فهي «الدياديم» أو غطاء الرأس الذي كان ملوك الفُرس يزيِّنون به رءوسهم، وقد لبسه الإسكندر فيما يلبسه من ثيابهم الفخمة بعد فتحه لإيران.
(١٢) قليل ما أطلبه: لعلها أحلام يقظة تصوِّر لخيال المُحِب نفائس الهدايا الشرقية التي يتمنى أن يقدِّمها لها؛ الياقوت من بدخشان (على نهر سيجون)، والفيروز من بحر هرقانيا (البحر الكاسبي أو بحر الخزر، وتجيء هذه التسمية القديمة من كلمة فاركانا الفارسية التي تعني بلد الذئب)، والفواكه من بُخارى فيما وراء النهر (تركستان)، ودواوين الشعر على ورق الحرير من سمرقند عاصمة ممالك تيمور، بجانب الأقمشة من الهند بلد البراهمة، والماس من سلمبور في البنغال، واللؤلؤ من ميناء هرمز على الخليج الفارسي، والتوابل والعطور من البصرة، وكل هذه الروافد البديعة المتألِّقة تصبُّ في النهاية في بحر الحب السعيد الذي يوحِّد الأنا مع الأنت.
(١٣) هل كان من المُمكِن أن أتردد؟ تواصَل موضوع الهدايا في القصيدة السابقة، مع التأكيد على التعاظم أو الشعور بالعظمة والتفوق — الذي يُتيحه الحب الصادق — حتى على القيصر نفسه (من س٧–١٢)! والكلام بطبيعة الحال على لسان حاتم دون تدخُّل من زليخا كما تصوَّر أحد الشراح وهو (أرنست بويلتر). لاحظ اللغة الحية المتوثِّبة التي تتراوح بين التساؤل والخطاب المباشر، وراجع ما سبق قوله عن موضوع التعاظم الذي تُحِس به الأنا من خلال الأنت المُحِبة وحدها (راجع الشروح السابقة على القصائد الأولى من كتاب الضيق).
(١٤) الصحائف المكتوبة بخط جميل: أهم ما في هذه القصيدة هي قوة الإبداع التي يحملها الشاعر الكهل في صدره، كما كانت تُلِح عليه وتتفجر منه في أشعار شبابه. ويُمكِن القول إن قصة كتاب زليخا هي قصة الإبداع الشعري المتجدِّد على هيئة عطاء متجدِّد أيضًا في صُوَر شرقية متنوِّعة (س٢٦ وما بعده). ويُلاحَظ أن حاتم هنا هو التاجر الذي يؤرِّقه البُعد عن الحبيبة ويدفعه الشوق إليها، وهو كذلك الشاعر الذي يُهدِيها ما سبق أن أهدته هي إليه؛ لآلئ شعرية ألقَتها عواطفها المشبوبة على شاطئه المُوحِش. لاحِظ كذلك ارتباط الإبداع بالحب المُتبادَل كالكرة التي يتقاذفها الحبيبان (س١٦–٢٠). والفرنجي والأرمني (س٢٢-٢٣) هم التجار المسيحيون الذين يُشارِكهم حاتم في التجارة، وكانوا كما وصفهم أولياريوس في وصف رحلته إلى بلاد فارس، هم أغنى التجار في إيران. أما قطرات المطر الإلهي (السطر قبل الأخير) فسوف يذكرها الشاعر في كتاب الأمثال في قصيدته البديعة «تحدرت قطرة خائفة من السماء»، وهي أولى قصائد الكتاب الأخير.
(١٥) حبٌّ بحُب: هنا يتضح التبادل في الحب — الذي سبق أن ذكرناه — بأجلى صورة وبأسلوب جديد؛ فإذا كان قد قُدِّم من قبل في صور فنية (مثل ورقة شجرة الجينجو ولعبة الكرة والقافية التي سيأتي ذِكرها في قصيدة بهرمجور فيما يُقال، رقم ٣٣) فهو يُقدَّم الآن بطريقة لُغوية ترتبط فيها كل كلمتَين بحرف الباء، كما سنراه بعد ذلك في شكل حواري بين زليخا وحاتم. والأبيات الأخيرة من هذه القصيدة تمهِّد لفكرة التفاني في الحب وإنكار الذات.
(١٦) الشعب والخادم والحكام: المقصود بالشعب في الاستخدام اللغوي للكلمة في القرن الثامن عشر هم العامة. أما كلمة الحكام فقد فضَّلناها على المعنى الظاهر للكلمة الأصلية، ومعناها القاهرون أو الغالبون مثل تيمور ونابليون، أو الطغاة بالمفهوم الإغريقي الذي يدل على الحاكم الفرد الذي لا يكون بالضرورة حاكمًا ظالمًا (نيرانوس). ولا بد من القول بأن كلمة الشخصية تعبِّر عن اقتناع جوته العميق بوحدة الشخصية الحية وحقها في الوجود والاستقلال الذاتي، وإيمانه بالتفرد شبيه بإيمان «ليبنتز» (١٦٤٦–١٧١٦م) ﺑ «الموناد» أو الجوهر الروحي الفرد، من حبة الرمل وورقة الشجر إلى الخالق سبحانه الذي سمَّاه المونادة العظمى أو مونادة المونادات. واعتقاد جوته بالخلود بعد الموت قائم على اقتناعه بأن الشخصية — التي قضت حياتها على الأرض في تثقيف نفسها واستيعاب كل ما يُمكِنها من معرفة وتحقيق أقصى مُمكِناتها — يستحيل أن يسري عليها الفناء. وقد عبَّر عن هذا لصديقه يوهانيس فالك ليلة تشييع جنازة الأديب فيلاند الذي كان يُحِبه ويقدِّره (في ٢٥ من يناير ١٨١٣م). كما عبَّر عنه في كتابه «تاريخ نظرية الألوان»، حيث يقول في الفقرة التي يتحدث فيها عن شخصية نيوتن: «إن كل كائن يشعر بوحدته تتجه إرادته إلى التمسك بحالته التي هو عليها، وهذه هبة أبدية وضرورية من هبات الطبيعة. ومن هنا يُمكِن القول بأن كل كائن فرد يُحافِظ على طبعه، حتى الدودة التي تنكمش على نفسها إذا داستها الأقدام. وبهذا المعنى يجوز لنا أن ننسب طبعًا للضعيف، بل للجبان؛ لأنه يتجلى عمَّا يقدِّره سائر الناس فوق كل شيء؛ أي يتخلى عن الشرف والمجد في سبيل المحافظة على شخصه، غير أن الحالة مع الحب تختلف عن هذا كل الاختلاف؛ فالمُحِب — كالمتصوِّف — لا يجد ذاته إلا إذا فقدها، ولا يشعر بوحدة شخصيته حتى يبذلها للمحلوب، ولن يُحِس بهذه المفارقة الجدلية إلا عاشق أو عابد أو متصوِّف.» ويُلاحَظ أن القسم الثاني من القصيدة يؤكِّد هذا المعنى؛ فحاتم يرد على زليخا بقوله: «هذا جائز، وهو كذلك رأي الناس، لكني أتبع أثرًا آخر؛ إذ لا أجد نعيم الدنيا إلا في حب زليخا، إن بذلَت من أجلي النفس، كبُرت نفسي في عيني، وإذا هجرَت أو صدَّت، ضيَّعت النفس على الفور.» ثم تستطرد المقطوعتان الأخيرتان فتؤكِّدان أن حاتم سيغيِّر مصيره إذا أحس أنه «راحت عليه». عندئذٍ سيتقمَّص روح العاشق الجميل الذي تُغازِله، وربما اختار أن تحل روحه في جسد الفردوسي أو المتنبي بوجه خاص؛ لعلو إحساسهما بشخصيتهما الطموحة إلى المجد، أو إلى المكافأة الجزيلة وصدامهما مع الشاه أو الخليفة أو الأمير الذي حرمه منها وسبَّب لهما الإحباط والغضب. أما الفقيه في السطر الأول من المقطوعة الأخيرة فهو في الأصل الرابي؛ أي المتفقِّه في الدين بوجهٍ عام لا في الدين اليهودي وحده.
(١٧) كما يزدان بازار الصائغ بالجواهر: يدور الحوار في هذه المرة بين حاتم وبين بعض الحسناوات اللاتي يحسدن زليخا لأنه يخصُّها بأغانيه، مع أنها قد لا تكون جميلة إلا في عينَيه، على نحوِ ما كان جميلٌ يتصوَّر أن بثينة العجوز التي تغضَّن وجهها وانحنى ظهرها لا تزال تسحره بفتنتها. ويُجامِلهن حاتم مجاملة الفارس النبيل، فيُثني على السمراء ويُبدي إعجابه بالشقراء، ولا يبخل بكلماته الرقيقة حتى على اللَّعوب الماكرة (وفي هذه الفقرة الثامنة — كما يقول بورداخ الباحث المشهور وناشر أعمال جوته — تأثَّر جوته بشكسبير في مسرحيتَيه الشهيرتَين روميو وجولييت، الفصل الخامس، المنظر الأول، ٣٩، وهنري الخامس، الفصل الثالث، المنظر الأول، ٦)، ولكن حاتم ينتهي في الفقرة العاشرة بالقول إن جمالهن ليس إلا العلامة التي تدل على حبيبته زليخا (راجع القصيدة رقم ١١، البيتَين ١٥-١٦ على لسان حاتم: انظري الآن كيف كانت زليخا منذورة لي منذ عهد بعيد. وكذلك آخر قصيدة في كتاب زليخا (رقم ٤٦) وهي في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال). وتذكر الحسناوات أنهن يقُلن الشعر أيضًا، فيجد حاتم الفرصة مناسبة للإشادة لأول مرة بشعر زليخا أو مريانة (راجع القصيدة رقم ٣٢ بدءًا من الفقرة الثالثة، وكذلك القصيدة التالية لها بهرامجور فيما يُقال). عندئذٍ تقتنع الفتيات بأن زليخا ليست إلا صورة خيالية من اختلاق الشاعر، ويتمنَّين في النهاية ألا تُزاحِمهن هذه الحورية الأرضية. ويرجِّح بعض الشُّراح (مثل فايتس، ص٣٢٠) أن تكون هذه القصيدة — التي كتبها جوته في مدينة ميننجن في العاشر من أكتوبر ١٨١٥م، وهو في طريق عودته إلى فيمار بعد وداعه الأخير لمريانة — قد دُوِّنت تحت تأثير زيارته في الثلاثين من شهر سبتمبر من نفس العام (١٨١٥م) لبعض الحسناوات، ومنهن الممثِّلة كارولينه ياجمان التي كانت عشيقة أميره كارل أوجست، وتعرِّفه إلى شقيقتها وصاحباتها، وقد ألحَحن عليه في الرسالة التي بعثن بها إليه في الخامس من شهر أكتوبر أن يزورهن مرة أخرى في مدينة مانهايم ليتفرج على بعض عروضهن الفنية — كما ذكر صديقه سولبيس بواسريه في مذكراته — ولكنه كان في حالة نفسية لا تسمح له بذلك العبث؛ الأمر الذي جعله يُسرِع بالسفر ومغادرة هيدلبرج في السابع من الشهر نفسه.
(١٩) لا تدَعي فمك الياقوتي العذب: إعادة صياغة لأبيات شرقية أوردها دييز في كتابه «ذكريات من آسيا» (ج٢، ص٢٣٦) عن الشاعر التركي السابق الذِّكر وهو كاتبي رومي، كما ذكرها الدكتور بدوي (ص٢٣٨) على هذه الصورة: «مِن العار، أيها الساقي، أن تُقابِل بين القمر وياقوت الحبيب. أيُّ غاية لآلام الحب غير البحث عن دواء؟!» والقصيدة التالية مُستلهَمة أيضًا من أصول شرقية: «لو كان ما بينك وبين الحبيبة بُعدَ ما بين الشرق والغرب، فاجرِ أيها القلب؛ لأنه عند المُحِبين بغداد ليست بعيدة» (الكتاب السابق الذِّكر لدييز، ج٢، ص٢٣٢، وبدوي ص٢٣٨).
(٢٠) ألا ليت عالمكم المكسور: هنا أيضًا استلهم جوته حافظًا الشيرازي في ترجمة هامر (ج١، ص١٨٤): «منذ الآن لم يبقَ شيءٌ أعلمه في أمور الدنيا، فإن طلعتك زُيِّنت لعيون الدنيا» (بدوي، ص٢٣٩).
(٢١) من أين لي صفاء البال؟ يظهر في هذه القصيدة موضوع البُعد والفراق الذي وجدناه في القصيدة السابقة رقم ٢٣: «إن قدَّر الدهر يومًا، بالنأي عمَّن تُحِب.» بيدَ أن هذا الموضوع ستسوده في القسم الثاني من هذا الكتاب نغمة مأسوية فاجعة (كما في قصيدة صدى التالية رقم ٣٧).
(٢٢) عندما أتفكر فيك: في هذه القصيدة والقصيدة السابقة نجد الشاعر وحيدًا، كما يظهر الساقي لأول مرة. وهذا الأخير يُحزِنه أن تتسبب وحدة الشاعر في حرمانه من دروسه ومن حكمته التي يبدو أنه (أي الشاعر) يريد أن يحتفظ بها لنفسه. لاحِظ أن كلمة الساقي الفارسية والعربية تُستخدم هنا أحيانًا كاسم علم.
(٢٣) إلى الأغصان المتشابكة الكثيفة: ربما كان انفجار القشرة (س١٣) كناية عن تفجُّر الإبداع الشعري من وجدان الشاعر، وكأن تساقُط أغنياته في حجر الحبيبة (س١٥-١٦) رمز لوجوده أو لحُبه الذي جعله مُمتلئًا بالصور الشعرية، من هنا تشابكت الأغصان الكثيفة وكثرت الثمار التي تحملها (س١-٢)، ومن هنا أيضًا يُحاوِل الشاعر في القصيدة السابقة (رقم ٢٩) أن يبرِّر طول كتاب زليخا بالنسبة لسائر كتب الديوان. والجدير بالذِّكر أن هذه القصيدة كُتِبت في اليوم الرابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٨١٥م، وهو ثاني الأيام الثلاثة التي التقى فيها بمريانة قبل أن يودِّعها الوداع الأخير ويرجع إلى فيمار. والأغصان المتشابكة الكثيفة هي أغصان أشجار الكستناء في حديقة القلعة المشهورة في مدينة هيدلبرج.
(٢٤) ما إن ألقاك من جديد: يستمع حاتم من زليخا إلى أغنيات حب جديدة، وهي أغنيات لم ينظِمها شاعر كلاسي من الشعراء الذين يعرفهم من الغرب والشرق، فهل صدرت عن شاعر آخر أحبها وأهداها إليها؟ كلا؛ فهذه القصائد من نظم زليخا — مريانة — نفسها، كما سبق وأن أخبرتنا قصيدة سابقة (القصيدة رقم ٢٠، كما يزدان بازار الصائغ بالجواهر، س٥٠–٥٢)، وكما سنعرف من قصائد أخرى نظمَتها مريانة وضمَّها جوته — كما سبق القول — إلى الديوان (مثل قصيدة رقم ٣٥ — ما معنى هذه الحركة؟ والقصيدة رقم ٣٨ — آه أيتها الريح الغربية، وهما المعروفتان بقصيدتَي الريح الشرقية والريح الغربية)، وقد كُتبت في اليوم السابع من أكتوبر الذي بدأ فيه الشاعر رحلة العودة والوداع الأخير.
(٢٥) بهرامجور فيما يُقال: تروي حكاية فارسية قديمة أن بهرامجور الملك الساساني (المتوفى سنة ٤٤٠م) خاطَب حبيبته وجاريته ديلارام (أي راحة القلب) بكلمات متوهِّجة بلهيب الحب، فردَّت عليه بكلمات من نفس الوزن والقافية؛ وبهذا نشأت أول أبيات مُقفَّاة في الشعر الفارسي. وقد استغل جوته هذه الحكاية البسيطة العميقة وجعلها رمزًا للواحد والاثنَين؛ أي للحب الذي يجعل المُحِب واحدًا واثنَين في وقت واحد (كما يتجلى في القصيدة رقم ١٠، وهي جنجوبيلوبا، س١١-١٢، التي سبق الحديث عنها). وهذه القصيدة التي كُتبت في الثالث من شهر مايو سنة ١٨١٨م بالقرب من مدينة يينا تُواصِل الموضوع الذي طرقَته القصيدة السابقة مباشرة، وهو شاعرية زليخا — مريانة — وإن كانت ترتفع إلى مستوًى رمزي، كما تكرَّر موضوع التبادل في الحب، الذي عالجته قصائد عديدة سابقة في صور وتشبيهات مختلفة (كما في القصيدة رقم ١٠ التي ذكرناها قبل قليل، والقصائد الحوارية بين زليخا وحاتم، والقصيدة رقم ١٧ حب بحب)، وهذه القصيدة تتناوله من ناحية تبادُل القوافي بين بهرامجور وحبيبته، وكذلك بين حاتم وزليخا، بحيث تبقى الكلمة الشاعرية حتى ولو تلاشى النغم والصوت، وبحيث يتجلى فيها «الكل السامي للحب» (س١٤، س١٦). ويبدو أن الشاعر قد شغله هذا الموضوع حتى أواخر حياته؛ إذ نجده يعود إليه في حوار فاوست مع هيلينا (القسم الثاني من فاوست، الفصل الثالث، من س٩٣٦٥) الذي تقول فيه هيلينا: «معجزات كثيرة أراها وأسمعها فتُصيبني الدهشة، وأود أن أسترسل في السؤال. ومع ذلك أحب أن أعرف؛ لماذا رنَّ كلام الرجل في سمعي رنينًا غريبًا، غريبًا وودودًا؟ فالنغمة تبدو وكأنها تأتلف مع النغمة، وما إن تُصافِح الكلمة الأذن، حتى تأتي كلمة أخرى لتُلاطِفها في حب.» ويرد عليها فاوست قائلًا: «إذا كانت قد أعجبتك طريقة شعوبنا في الكلام، فيقينًا سيسحرك غناؤهم، وسيرضى السمع والإحساس رضاءً عميقًا، لكن أضمن وسيلة هي أن نجرِّبه على الفور؛ فالحديث المُتبادَل يدعو إلى هذا ويهيب به.» وتسأله هيلينا: «قُل لي إذن. كيف يُمكِنني أن أتحدث بهذا الجمال؟» ويُجيبها فاوست: «هذا أمر في غاية البساطة، فلا بد أن يأتي الحديث من القلب، وعندما يفيض الصدر بالحنين، يتلفت المرء حوله ويسأل.» وتُقاطِعه هيلينا قائلة: «عمَّن يُشارِكه في الاستمتاع.» ويستطرد فاوست قائلًا: «والآن لا تتطلع الروح إلى الأمام ولا تتلفت للوراء؛ فالحاضر وحده …» وتقول هيلينا: «هو سعادتنا.» وأخيرًا يقول فاوست: «إنه (أي الحاضر) هو الكنز، والكسب العظيم والملك والضمان، لكن مَن الذي يؤكِّد صدقه؟» وتمدُّ هيلينا — أجمل الجميلات — يدها وهي تقول: يدي!
(٢٦) كانت سعادتي بنظرتك: يتجدد هنا موضوع الفراق الذي تتصاعد نغماته الحزينة في قصائد تالية. والسطران السابع والثامن يكرِّران الفكرة التي نجدها كثيرًا عند جوته، وهي أن كل شيء، حتى ما يُبهِج القلب ويسرُّه، تترتب عليه نتائج لا يُمكِن التنبؤ بها، كأنما قُضي على الإنسان أن يدفع الثمن الباهظ عن كل لحظة سعيدة مرَّ بها، ويتحمل ذنب كل لذة تمتَّع بها وظن أنه عاشها في غفلة من الدهر والبشر. وأحسب أن القارئ سيشعر هنا بعمق مأساة اللحظة ومأساة الحب؛ أي بعمق مأساة وجود الإنسان بوجهٍ عام.
(٢٧) ما معنى هذه الحركة؟ هنا أيضًا نسمع نغمة الفراق، ولكن على لسان زليخا، ومِن نظم مريانة نفسها، وهي نغمة غنائية رقيقة لا تخلو — مع الأسى الحنون والشوق الحميم الذي يسري فيها — من الإيحاء ببارقة أمل في أن تتحقق وعود الريح الشرقية (أو ريح الصَّبا التي طالما تغنَّى بها الشعراء العرب وحمَّلوها رسائلهم للأحباب!) والقصيدة نظمَتها مريانة على طريق رحلتها من فرانكفورت إلى هيدلبرج؛ أي في اليوم الثالث والعشرين من سبتمبر سنة ١٨١٥م (وهو التاريخ الذي أثبته جوته — كعادته — في النسخة التي كتبها بخط يده). وقد لمسَت ريشة جوته بعض أبيات القصيدة (من ١٣ إلى ٢٠) بتغيير طفيف، ربما كان الهدف منه هو تصعيد حرارة العاطفة، ولكنه لم يرُق لمريانة التي لم ترضَ عن تعديل «نَظمِها الجميل». وقد كانت الأبيات التي غيَّرها جوته في الأصل على هذه الصورة: وعلى همسها الناعم أن يحمل لي، تحية رقيقة من الحبيب، وقبل أن يلف الظلام هذه الروابي، سأجلس ساكنة عند قدمَيه. ويُمكِنك أن تُواصِلي المسير، وتُعيني الفرِحين والمحزونين، وهناك، حيث تتوهج الأسوار العالية، سأجد المحبوب العزيز (١٣–٢٠). ولا شك أن القارئ يُحِس في القصيدة بروح جوته وأنفاسه الشعرية ونغمه المُتزِن المشحون بالألم والحنين.
(٢٨) صورة سامية: إذا كانت القصيدة السابقة قد بعثَت نسمة أمل يُمكِن أن تلطِّف من عذاب الفراق، فإن نغمة الحزن الفاجع لا تلبث أن تُفاجِئنا — كما نجد في موسيقى موتسارت المتأخِّرة — في غمرة الانتشاء بالألحان العذبة المُنسجِمة، وهذا هو الذي نُحِسه من هذه القصيدة التي كُتبت في السابع من شهر نوفمبر ١٨١٥م؛ أي بعد الفراق الأخير لحبيبة القلب؛ فالألم الذي يخبِّئه القدَر أو الضرورة العمياء يتحول إلى صورة طبيعية رائعة. إن الشمس المُنتصِرة (هليوس) تحب المطر، ولا تهتم إلا بزخَّاته المتوالية لكي تغمر كل قطرة ببريقها الساطع، ولا يلبث قوس قزح البديع الألوان أن يتشكَّل، وتُقبِل عليه الشمس بحُبها وحنانها، فيتراجع مُبتعِدًا عنها ومعه المطر، وذلك تحت تأثير أشعتها الساطعة. وتتشابك الصورة الطبيعية مع صورة إله الشمس (هليوس) وإلهة الغيوم وقوس قزح (إيريس)، ويتحول الصراع الفاجع بينهما إلى موقف مأسوي لا حيلة لأحد الطرفَين فيه، فكل خطوة تقرِّبنا من السعادة تحمل معها ألمًا أفدح، وكل ما بذله هليوس ليُشرِق وجه حبيبته إيريس قد جعل لقاءه معها مستحيلًا. وفي النهاية يرجع الشاعر — وكثيرًا ما كان يشبِّه نفسه بالشمس! — إلى الأنا بكل ما فيها من مرارة وخيبة أمل، ولا نسمع كلمة واحدة عن الظروف أو الأسباب التي فرَّقت بين الحبيبَين؛ إذ يكفي أن القدَر قد اتخذ قراره القاسي، وأن هذا القرار لم ينجُ منه إنسان. هل نقول إن الصورة الطبيعية تكشف رغم كثافتها الشديدة عن شخصية الشاعر وشخصية حبيبته اللتَين مثَّلهما بالإلهَين الأسطوريَّين؟ أم نقول إن المقطوعة الأخيرة لم يكُن لها داعٍ لأنها أشبَهُ بالشرح الزائد للمعنى الدال أو السر المكشوف؟ لكن هذا سيكون على حساب الصورة الرائعة المستقلة بذاتها، وسيكون لونًا من التحليل أو التشريح الجارح لكيانٍ حي باسم النقد أو التفسير. وقد قال جوته في كتابه عن «نظرية الألوان» في القسم التاريخي تحت عنوان «تاريخ الزمن الأقدم»: إن الإغريق حوَّلوا قوس قزح إلى فتاة محبوبة، وجعلوها ابنة تاوماس (أي الدهشة في اليونانية).
(٢٩) صدى: لعلها أن تكون صدًى أو ترجيعًا لصوت القصيدة السابقة والقصائد التي قبلها، والتي ورد فيها التشبيه بالشمس (كما في القصيدة السابقة مباشرة وهي صورة سامية) وبالقيصر (القصيدة رقم ١٣ تعالَ أيها الحبيب تعالَ، والقصيدة رقم ١٤ قليلٌ ما أطلبه، والقصيدة رقم ٥١ هل كان من الممكن أن أتردد؟).
وتبدأ القصيدة بداية بسيطة أقرب إلى الحياد والبُعد عن الانفعال، وفجأةً نهبط معها إلى طبقة أعمق ونغمة أبطأ (س٣-٤) تذكِّرنا بقصيدة عزاء سيئ (رقم ٩ من كتاب العشق). ويستدعي الوجه الحزين المتسلِّل في الليالي المُعتِمة صورًا أخرى أكثر حزنًا — كسُيورِ السُّحب ودموع القلب الكابية (س٥–٧) — وأشبه ببُقَع لونية غامقة على لوحة القلب المعبِّرة عن شيخوخة الحزن في ضمير الشاعر الشيخ. وبعد أن يظهر صوت الأنا (س٧) نجده ينفجر على حين فجأة من البيت التاسع بما يُشبِه الاستغاثة بالأنت المحبوب، بعد أن غاصت الأنا في قرار الألم الوحيد المُظلِم ولم يبقَ أمامها إلا أن تستنجد بشمعة حياتها وشمسها ونورها المُفتقَد (وربما كان هذا التفجُّر المفاجئ هو الذي فرض عليَّ نظم المقطوعة الأخيرة شعرًا ممزَّقًا كالصوت الصارخ فيها!) لاحِظ أيضًا تكرار الصور التي تعبِّر عن النور، ومن الواضح أن تشبيه الحبيب بوجه القمر تشبيهٌ شائع في الشعر الفارسي والعربي والشرقي عمومًا، كما أن النور الذي يغمر الأبيات الثلاثة الأخيرة يتحول إلى استعارة حية في مواجهة الليل وصوره المتعدِّدة في المقطوعتَين السابقتَين. وللنور — كما يعلَم كل من قرأ لجوته أو حاوَل دخول عالمه — دلالة عظيمة عنده، وأهمية لا تعدِلها أهمية في كل إنتاجه الشعري والعلمي والفكري، وفيه انعكاس لتأثُّره بأفلاطون وأفلوطين والتصوف الغربي والشرقي، بقدر تعبيره عن الصورة المحسوسة التي تعكس الألوهية الفعَّالة في كل شيء. ولعل تنوُّع الأصوات والصور والأحوال الوجدانية في هذه القصيدة أن يكون كذلك خير تعبير عن استعارة النور وأطيافه المتعدِّدة التي تتخلل قصائد الديوان كله لا هذه القصيدة وحدها. وربما لا يكون من قبيل التزيد أن أقول إن آخر كلمات الشاعر مع آخر نفَس خرج من صدره (وكان ساعتها يجلس في مواجهة النافذة في حجرة مكتبه) هي: مزيدًا من النور … (راجع كذلك ما قاله العقاد — رحمه الله — عن النور في كُتيِّبه الرائع في بيتي).
(٣٠) آه أيتها الريح الغربية: هذه القصيدة أيضًا — شأنها شأن القصيدة رقم ٣٥ عن الريح الشرقية — من نظم مريانة، وكأنما هي صوتٌ مضادٌّ يُقابِلها كما يُقابِل قصيدتَين أُخريَين على لسان حاتم، وهما: صورة سامية (رقم ٣٦) وصدى (رقم ٣٧) اللتَين تحدَّثنا عنهما قبل قليل. وإذا جاز لنا القول بأن القصيدتَين الأُوليَين للريح الغربية والريح الشرقية تمثِّلان القطب الأنثوي أو السلبي الذي يتسم بالرقة والحنان والاستعداد للبذل والتضحية، وأن القصيدتَين على لسان حاتم تمثِّلان القطب الإيجابي أو الرجولي، فلا بد من القول إن كلتَيهما تعبِّران عن مبدأ الاستقطاب الأساسي عند جوته، والذي تقوم عليه الطبيعة والحياة والحب والفن في كل تجلياتها الدينية والكونية والعاطفية (وتجد أوضح تعبير عنه في القصيدة رقم ٤ وهي قصيدة تمائم من كتاب المغنِّي: «في التنفس نعمتان»، التي تؤكِّد هذا المبدأ في صورة البسط والقبض أو الزفير والشهيق). وإذا كان كلا القطبَين يعبِّر عن نفس الشعور بالحزن واليأس والحرمان، فما أشد اختلاف النغمة من شفتَي زليخا عنها من فم حاتم. ويُذكَر أن مريانة كتبت هذه القصيدة في اليوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٨١٥م وهي على طريق العودة من هيدلبرج إلى بيتها (الجربرميلة) بالقرب من مدينة فرانكفورت، وأغلب الظن أنها كتبتها بعد اليوم التاسع من شهر أكتوبر عندما بلغها أن جوته رجع إلى فيمار عن طريق مدينة فيرتسبورج؛ أي عندما أحسَّت أن لقاءهما الأخير قد أطلق في سمعها رنين أجراس الفراق الأخير.
(٣١) لقاء من جديد: بعد المقطوعة الأولى، التي تفيض بلوعة المُغترِب النائي عن حبيبه، وشوقه وحنينه لِأنْ يضمَّه إلى قلبه من جديد، وارتجافه وخوفه من الحاضر الذي لا يعرف ماذا يدَّخره للمستقبل، نجد القصيدة تقفز قفزة مُفاجئة في أبعاد كونية مهولة، أو هكذا يبدو لنا الأمر للوهلة الأولى؛ فها هو ذا العالم كما كان في أصل نشأته، راقدٌ في أعمق أعماقه كالهاوية اللانهائية «على الصدر الأبدي لله». كان عماءً مُوحِشًا مختلِطًا، وكل شيء فيه وحيد مُنفرِد (س٢٢–٢٤)؛ لهذا خلق سبحانه — بِسرِّ كُن! — قوةً قادرة على ربط كل شيء بكل شيء برباط الحب والاتصال بعد التفرق والانفصال (س٣١-٣٢) وتجلَّت هذه القوة في صورة الألوان؛ فالنور — كما تقول نظرية الألوان عند جوته — يتحول إلى لون عن طريق وسط عكر أو مُعتِم، والله جلَّت قدرته هو النور، والمادة هي الظلام، لكن المادة تتخفف شيئًا فشيئًا من ثقله وترتفع إلى مستوًى روحاني لطيف، ويسقط عليها الضوء ويتخللها، فينشأ منظور الألوان وفي وسطه اللون الأحمر (س٢٧)، حتى الأصوات والأنغام تتحد وتنتظم وتتجانس بعضها مع بعض (س٢٤، ٣٠)، ويتحد الله والعالم كما تتحد كل الأشياء، وتتجاذب الأقطاب المتضادَّة فيُحِب ويتآلف من جديد كلُّ ما تفرَّق بعضه عن بعض (س٣١-٣٢)، ويجد في هذا التلاقي سعادته وغاية سعيه ومُناه؛ لأن الوحدة الكلية هي جوهر الطبيعة الإلهية وماهيتها، وكل اتحاد يتم في الكون هو رمزٌ دالٌّ عليها وشوقٌ للاتحاد بها. ولقد عرف الكون أو الكل في البداية الأولى تلك «الآهة الأليمة» (س١٤)؛ آهة افتراق كل شيء جزئي وانفصاله عن كل شيء، ثم عرف «الحياة غير المحدودة» (س٣٦) حين اتحد مع غيره في اتحاد مُبارَك وسعيد. والأمر كذلك مع الأنا والأنت حين يفترقان وحين يتحدان؛ ولهذا كان مَثلَين نموذجَين للعذاب والفرح (س٤٥-٤٦). وعندما نصل إلى المقطوعة الأخيرة نكتشف أننا رجعنا أو رجعت هي بنا إلى المقطوعة الأولى، وأن التجربة الإنسانية والشخصية لا تنفصل عن التجربة الكونية التي تتصل بها أوثق اتصال وأعمقه. وليس هذا بالأمر الغريب على شاعرنا الذي نظر دائمًا إلى «الأنا» في سياق كوني، ولم يغُص مرة إلى عمق «الأنا» إلا وغاص في نفس الوقت في عمق الكل والكون. وإذا كان الله سبحانه — وهو الكل أو الوحدة الكلية السامية — قد خلق العالم ليكون بمثابة «الموضوع، أمامه»، أو المرآة التي ينعكس على صفحتها جماله وجلاله (كما يقول الحديث القدسي الشريف المعروف، ويقول كثير من الصوفية وعلى رأسهم ابن عربي)؛ فإن العالم مشروط ومحدود، وهو لهذا مكوَّن من أضداد أو ثنائيات أو أقطاب مُتقابِلة؛ نور وظلام، نهار وليل، ذكر وأنثى، حياة وموت، مادة وعقل، سعادة وتعاسة، وفرح وألم (س١٤). ومن ثَم لم تكن النقلة من المقطوعة «الذاتية» الأولى في القصيدة إلى المقطوعات الأخرى حتى المقطوعة الختامية، لم تكن نقلة مُفاجئة كما تصوَّرنا الأمر في البداية؛ بهذا ترجع النهاية إلى البداية — كما نرى ذلك كثيرًا عن جوته — وتجد تجربة «الأنا» — كما قُلت قبل قليل — مكانها داخل السياق الكوني الكلي. وإذا كانت الأنا المُحِبة تنجذب «بأجنحة فجرية» (س٤١) إلى ثغر «الأنت»، فليس ذلك إلا سعيًا إلى الوحدة والاتحاد؛ أي سعيًا إلى الاتحاد الأسمى بجوهر الألوهية الخالدة، وتجاوُز لحدود الفردية عن طريق الحب (أو عن طريق الموت الذي اقترن دائمًا بالحب!) وكأن وحدة المُحبَّين اللذَين فصل بينهما الفراق ليست إلا عودة للاتحاد بمعنيَيه: الجزئي والكلي الأخير معًا؛ أي إلى الاتحاد الذي لا يكون بعده افتراق (س٤٧-٤٨). إن عنوان القصيدة الذي يُوحي بلقاء الحبيبَين بعد الغَيبة والفراق، يكشف في الواقع عن أكثر من ذلك بكثير؛ فكل لقاء جديد في حقيقته اتحادٌ بين الأقطاب المُتباعِدة في العالم، وكل لقاء جديد بين حبيبَين صادقَين؛ أي حبيبَين خُلِقا لبعضهما واختار كلٌّ منهما الآخر اختيارًا حرًّا من كل الضرورات التي تفرضها التقاليد والمصالح والأطماع والمنافع؛ هو في حقيقته لقاء كوني أصيل؛ لأنهما قد كانا — كما كان كل موجود سواهما — في أصل النشأة مُتحِدَين على الصدر الأبدي للإله (س١٠). وهكذا يعود الموضوع المحبَّب إلى نفس جوته من جديد، وقد اتخذ في هذه المرة بُعدًا كونيًّا هائلًا غير محدود. إنه الموضوع الذي تناوَله بصورة رمزية في ورقة شجرة «الجنجوبيلوبا» (القصيدة رقم ١٠ في هذا الكتاب)، وهو موضوع «الواحد والاثنان»، كما عبَّر عنه في صور مختلفة تؤكِّد أن زليخا خُلِقت لحاتم كما خُلِق حاتم لزليخا (وكل حبيب لحبيبه!) من وقت طويل. ولعل هذا العمق الكوني والزمني هو الذي يقرِّب القصيدة مِنَّا ويقرِّبنا منها، كما يدنو بنا من منطقة الكمال والجلال التي نشعر حيالها بالرهبة والرجفة التي تهزُّنا منذ بدايتها (س٨)، ولعلها أيضًا تذكِّرنا بأساطير الوحدة الأولى قبل الانفصال مع التجسد والهبوط إلى العالم عند أفلاطون (الجمهورية وفايدروس)، كما تذكِّرنا بالصدور أو الفيض عند أفلوطين والأفلاطونية المحدَثة وعند بعض فلاسفة المسيحية والإسلام. فهل يفسِّر الحب الأسطورة؟ أم تفسِّر الأسطورة الحب؟! مهما يكُن الأمر، فإن القصيدة تستمد العمق والشمول والجلال من الحب والدين والطبيعة التي اتحدَّت في رؤية جوته وحدةً لا تنفصم عُراها؛ ولهذا لا نعجب لقول بعض الشُّراح إن هذه القصيدة تمثِّل الذروة بالنسبة لبقية قصائد كتاب زليخا، كما تتصل اتصالًا حميمًا بالذروة الأخرى لكتاب المغنِّي، وهي قصيدة «حنين مبارك» آخر قصائد هذا الكتاب؛ فكلتا القصيدتَين تضع «الأنا» داخل سياق الكون الذي تتغلغل فيه الروح الإلهية، كما تؤكِّد وحدة الطريقَين أو اتحادهما — طريق الحب وطريق الدين — وذلك في نغمٍ تتردد فيه معاني الجلال والكمال والجدية التي لا نكاد نجدها في سائر قصائد الديوان التي تُراوِح دائمًا بين الجد والدعابة، والوجه والقناع، والحكمة والسخرية، والعذوبة واللعب اللُّغوي والصوتي. وقد كُتبت القصيدة في اليوم الرابع والعشرين من شهر سبتمبر ١٨١٥م في مدينة هيدلبرج؛ أي في غمرة السعادة بلقائه لمريانة.
(٣٢) ليلة البدر: كانت هذه القصيدة هي الرد الذي أرسله جوته (وهي مؤرَّخة بخط يده في ٢٤ من أكتوبر ١٨١٥م) على الرسالة الرمزية أو السرية التي بعثتها إليه مريانة في الثامن عشر من الشهر نفسه بطريقة الشفرة التي اتفقا على التراسل بها، وهي ذكر رقم القصيدة والصفحة من ديوان حافظ في ترجمة همَّر، كما نعلَم ذلك من التعليقات والأبحاث المُلحَقة بالديوان. وقد أنهت مريانة رسالتها ببيت من شعر حافظ يقول فيه: «أريد أن أقبل، هذا ما أقوله» (ص٤٣٣ من الترجمة المذكورة).
والحوار يدور في القصيدة بين السيدة وخادمتها، ونُحسُّ من أول فقرة أنه في ليلةِ صيفٍ تغمرها أضواء البدر وتسري فيها همسات الرغبة والشوق، وكأن كل شيء حسي أو واقعي قد فقد كثافته وحدوده ومعالمه وتحوَّل إلى روح ترفُّ رفيف الفراشة غير المنظورة مُلتهِبة بالحنين، أو كأن أبيات حافظ مجرد ذريعة لإطلاق عالم من الصور والألوان والأنغام التي كان يختزنها الشاعر في صدره وينتظر شيئًا يُثيرها في هذه اللغة الشفافة. ويُلاحِظ الناقد ماكس كوميريل (في كتابه أفكار عن جوته، ص٢٧٦–٢٧٩) أن زليخا هنا ليست هي نفسها صاحبة قصيدتَي الريح الشرقية والريح الغربية؛ فهي تكاد تذوب في حرارة عواطفها، وليس لها حضور إلا كحضور المسحور أو المأخوذ في دائرة الأسر المُطبِقة عليه بسعادة اللحظة التي يحياها ولا يحيا سواها. والدليل على هذا أنها لا تفعل شيئًا غير تكرار العلامة أو الشفرة: «أريد أن أقبل أن أقبل! قُلت لك هذا.»
(٣٣) كتابة سرية: تذكر القصيدة — التي تُشبِه أن تكون أغنية فرحة! — موضوع الرسائل السرية التي سبقت الإشارة إليها في التعليق السابق، هذه الرسائل التي كانت بالنسبة إليه «باقة زهور ملوَّنة» قُطفَت من بين آلاف الزهور في ديوان حافظ أو في بستانه الشعري، وهي تصرِّح بالفرح بتلك الرسائل وبالشكر والامتنان للشاعر الفارسي الذي استمدت شفرتها منه. أمَّا أن الكتابة سرية مُزدوِجة (س٢٥) فلِأنَّ الحبيبَين يلجآن إليها، وينعكس قلبهما على مرآة حافظ، وأما أنها تعبِّر عن طموح مُطلَق، فلِأنَّها — فيما أُقدِّر — ترتفع بالحب البشري إلى أبعاد أوسع وأشمل؛ دينية وكونية ورمزية، كما سبق القول في شرح القصيدة رقم ٣٩ «لقاء من جديد». وقد كُتبت القصيدة في ٢١ / ٩ / ١٨١٥م؛ أي قبل القصيدة السابقة (رقم ٣٩ «لقاء من جديد») بثلاثة أيام، وفي لحظة الحب الممتدة التي اتفقا فيها على «شفرة» رسائلهما المُقبِلة تحاشيًا لعيون الحساد والمتطفِّلين.
(٣٤) انعكاس: اللغة خفيفة صافية، لكن القصيدة كلها أشبه باللغز. وفي البيتَين ٣-٤ إحالةٌ ضمنية إلى القصيدة رقم ١٢ من هذا الكتاب، وهي قصيدة «طلعت الشمس، يا له من منظر بديع» التي يشبِّه فيها حاتم بالشمس، وزليخا بالهلال، والوسام التركي الذي يجمعهما — أي الشمس والهلال — باتحاد العاشقَين. أما عن بيت الأرمل الذي يذكره جوته، فلا يُمكِن أن يُؤخَذ مأخذًا حرفيًّا واقعيًّا، بل رمزيًّا؛ لأن كرستيانة زوجة جوته تُوفِّيت في السادس من شهر يونيو سنة ١٨١٦م؛ أي بعد تاريخ كتابة القصيدة (في ٢٦ / ١٠ / ١٨١٥م) بثمانية شعور. ولعل الأصح، كما يقول بورداخ، أن يُفهَم بيت الأرمل كما تُفهَم المرآة بمعنًى شعري؛ إذ خلا بيت الشاعر في فيمار من حبيبته التي تزوَّجته زواجًا شعريًّا فأنجبت له قصائد الديوان، ولكن ما معنى المرآة؟ إن النظرة السريعة إلى المقطوعة الثانية (س١٥) تُوحي بأنها — أي المرآة — هي نفسها قصائد كتاب زليخا وأغنياته التي كانت مريانة هي منبع إلهامها، وهذا هو رأي بعض الشُّراح مثل بورداخ وبويتلر، ولكن القصيدة إذا فسَّرناها هذا التفسير تُصبِح واضحة بلا لغز؛ ولهذا يرجِّح بيرتس، ومعه أريش ترونس ناشر الديوان الشرقي وشارحه في طبعة هامبورج، أن الأغاني التي ينظر فيها الشاعر (س١٥) فتظهر له حبيبته فيها، إما أن تكون هي أغاني حافظ — التي تعتمد عليها الرسائل السرية بينهما كما سبق القول — أو أغاني مريانة نفسها (مع العلم بأن القصيدة التالية رقم ٤٣ مِن نظمِها وأنها هي الرد على قصيدتنا الحالية) أو هي الرسائل نفسها التي يتبادلانها. يدل على هذا سياق القصيدة السابقة (وهي كتابة سرية) التي تتصل بها اتصالًا مباشرًا، وكذلك عنوان القصيدة نفسها التي يُفهَم منها أنها تعكس مشاعرهما المُتبادَلة، وأن الشاعر يجد نفسه وحبيبته في مرآتها.
(٣٥) بأي ارتياح عميق: القصيدة — كما سبق القول في الشرح السابق — من نظم مريانة، وهي ردٌّ على قصيدة انعكاس، ويرجَّح أن تكون مستوحاة بصورة مباشرة من أبياتٍ قرأتها في ترجمة همَّر لديوان حافظ (ج١، ص١٤١) وشرحها المترجم بقوله: «أريد أن أُرسِل قلبي إليك؛ لكي تستطيع أن ترى نفسك فيه كما تراها في مرآة.» وقد كتبتها مريانة في ٢٣ من ديسمبر سنة ١٨١٥م.
(٣٦) دع مرآة العالم للإسكندر: أصبح الإسكندر في العصور الوسطى، سواءٌ في الشرق أو في الغرب، شخصية أسطورية تُروى عنها حكايات أقرب إلى الخرافات، ومنها أنه كانت لديه مرآة يستطيع أن يرى فيها أشياء تفصله عنها مسافات شاسعة، وأن يُشاهِد على سطحها أعداءه ويعرف ما يدبِّرونه له. وقد عرف جوته ومريانة هذه الخرافات من قراءتهما لترجمة ديوان حافظ (ج١، ص٩، وص١١١) وتعليقات المترجم عليه. والقصيدة على لسان زليخا، وهي تُوحي بأن الإنسان لا يُمكِنه أن يُحِس بعظمة العالم واتساعه إلا في تجربة الحب بما تنطوي عليه من تحدُّد ومن تجاوُز لكل الحدود في نفس الوقت. بهذا ترجع بنا إلى أحد الموضوعات التي بدأ بها كتاب زليخا، وهو ضرورة العزوف عن العالم اليومي بتفاهاته لكي نجد العالم الحق (راجع قصيدة دعوة، س٥، ٦، وهي أولى قصائد هذا الكتاب). وقد نُشرت القصيدة لأول مرة في عام ١٨٢٧م مع الطبعة الكاملة لأعمال جوته التي أشرف عليها بنفسه.
(٣٧) في وُسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال: تأتي هذه القصيدة — التي حاولت أن أُحافِظ فيها على نوع من الإيقاع الذي يُخلُّ أحيانًا بموازين الخليل بن أحمد! ختامًا لكتاب زليخا، وكأنها الحركة الأخيرة المُندفِعة في سرعة وتدفُّق لسيمفونية الحب الذي تابعنا رفرفته بين الأرض والسماء، وعايشنا صوره الفنية الحية التي استمدها من الطبيعة التي يعدُّها الشاعر العاشق طريقه إلى الله. وهذه القصيدة — التي يُمكِن أن نصفها بأنها غزلية مدوَّرة تكرِّر كلمات بعينها، مثل الكل وعلى الفور، كما يكرِّر المسلم التقي تسابيحه! — تُشبِه أن تكون مِسبَحة يردِّد عليها الشاعر الغربي أسماء الحبيب، فتنساب ضراعاته السابحة بين السماء والأرض في نغم مُسترسِل ودافئ وعميق، وتنهمر صور التبتُّل وتشبيهاته التي تسبِّح بحمد المعبود الحاضر في كل شيء، اللطيف بكل موجود، والمتجلي في كل مظاهر الطبيعة، أشبه باللحن المُنسكِب في تنويعات مختلفة. والقصيدة تسير في خط لولبي يبدأ من المنبع الإلهي ليعود إليه، وكأن المحبوبة صارت هي الطبيعة، أو كأن الطبيعة أصبحت هي المحبوبة والأنثى الخالدة (التي تغنَّى بها في ختام قصيده الأكبر فاوست). راجع كذلك قصيدة «تمائم» من كتاب المغنِّي، الفقرة الخاصة بجلال الدين الرومي في التعليقات والأبحاث المُلحَقة بالديوان (في ترجمة بدوي).