كتاب الساقي
عرَّف جوته بكتاب الساقي (ساقي نامه) في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح لعام ١٨١٦م بقوله: «يدبُّ الخلاف بين الشاعر وبين صاحب الحان المعتاد، فيختار صبيًّا جميلًا يزيد من متعة الشراب بخدمته اللطيفة. وسوف يكون الفتى تلميذه وموضع ثقته، وسيُفضي إليه بآرائه السامية، والميل المهذَّب النبيل المُتبادَل بينهما سيشيع الحياة في الكتاب.»
ثم قدَّم الشاعر الكتاب بشكلٍ أكثر تفصيلًا في «التعليقات والأبحاث»، وحاوَل أن يُلقي الضوء على علاقته بذلك الصبي التي تختلف عن المأثور لدينا عن الغلمان وتعلُّق بعض الشعراء الفُرس والعرب بهم، اختلاف علاقة المعلِّم والمربِّي بتلميذه عن تدلُّه العاشق بمعشوقه: «لم يكن من الجائز أن يخلو الديوان من الميل المُفرِط إلى الخمر التي تكاد أن تكون محرَّمة، ولا من الشعور الرقيق بجمال غلام، لكن هذا الموضوع الأخير كان من الواجب أن يُعالَج، وفقَ تقاليدنا وأخلاقنا، بطهارة تامة. إن الميل المُتبادَل بين الشباب والشيخوخة يدل في الواقع على علاقة تربوية أصيلة، والتعلق الشديد من الطفل بالعجوز ليس على الإطلاق حادثًا نادرًا وإن كان ظاهرةً يندر الإفادة منها، ولْيتأمَّل المرء هنا علاقة الحفيد بالجد، وكذلك العلاقة بين الوارث الذي جاء متأخِّرًا وبين الأب الحنون الذي فُوجِئ بولادته؛ ففي مثل هذه العلاقة تُتاح الفرصة لنموِّ ذكاء الأطفال؛ إذ يتنبَّهون لمعاني الكرامة والخبرة وسلطة الكبار، وتستشعر النفوس الطاهرة في ذلك الحاجة إلى العطف المُفعَم بالاحترام والتوقير، وتتأثر به الشيخوخة وتُحسُّ بالثقة والاطمئنان. وإذا استشعر الشباب تفوقُّه واستغله في التوصل لأهدافه الصبيانية وإرضاء حاجاته الطفولية، فإن رقة «الشباب» وجماله يجعلنا نتسامح مع مَكره المبكِّر، لكن أكثر ما يؤثِّر فينا ويلمس قلوبنا هو ذلك الشعور المتنامي لدى الصبي، الذي أثَّرت عليه روح الشيخ العالية، وإحساسه في دخيلة نفسه بالدهشة التي تجعله يستشعر أن شيئًا مُشابِهًا يُمكِن (مع الزمن) أن ينمو في داخله. ونحن نُحاوِل أن نُشير إلى هذه العلاقات الجميلة في «كتاب الساقي»، وأن نشرحها هنا شرحًا أكثر تفصيلًا. وقد خلَّف لنا سعدي الشيرازي بعض الأمثلة اللطيفة، التي لا شك في أنها معروفة للجميع وتهيِّئ لنا الفهم الكامل لهذه الأمور» (بتصرف عن بدوي، ص٢٦٧، ص٤٦٠-٤٦١، وكذلك طبعة هامبورج، ص٢٦٩، ص٢٠٢–٢٠٥). ثم يُورِد جوته حكايتَين مؤثِّرتَين من جُلستان سعدي الشيرازي ترويان قصة هذا الشاعر العظيم مع غلامَين فتنا قلبه، وخلَّف الموت المبكِّر لأحدهما الحسرة الفاجعة في قلبه (وقد ذكرهما أستاذنا بدوي عن الترجمة العربية البديعة التي قام بها الخواجة جبرائيل بن يوسف الشهير بالمخلع لجُلستان سعدي، من ص١١١-ص١١٢، القاهرة، طبعة بولاق، سنة ١٢٦٣ﻫ/١٨٤٧م).
ويُلاحَظ أن جوته قد وضع عنوان هذا الكتاب متأثِّرًا بحافظ الشيرازي الذي وضع نفس العنوان لأحد الكتب التي يتألف منها ديوانه. والواقع أن تأثُّر الشاعر الغربي ﺑ «توءم روحه الشرقي»، والعلاقة الصافية الحميمة التي تربط الغرب بالشرق، كما صوَّرها جوته في ديوانه كله، تبلغ ذروتها في هذا الكتاب، غير أن مَدخل الشاعر الغربي إلى الموضوعات والمعاني التي يطرقها الشعراء الشرقيون في مثل هذا الكتاب مدخلٌ مختلف؛ فالعلاقة الروحية بين الشاعر الشيخ والساقي تختلف — كما رأينا من كلامه هو نفسه — أشد الاختلاف عن علاقة الشاعر الفارسي أو العربي بالغلام الذي يروي ظمأه إلى الشراب. والخمر تبدو هنا روحية، وأكاد أقول ملائكية، وليست هي الخمر المُسكِرة التي ينتشي بها البشر؛ لأن نشوة الشاعر نشوة روحية خالصة. ولعل كلام مؤرِّخ الفن «فنكلمان» الذي تأثَّر به جوته في شبابه، وأخذ منه مفهومه عن بساطة الفن الكلاسيكي وعظمته، لعل كلام ذلك المؤرِّخ السيئ الحظ (إذ مات مقتولًا على يدِ لصِّ آثارٍ غادرٍ سرق منه بعض التحف القديمة) عن الصداقة قد استدعته إلى وعيه قصائد هذا الكتاب (راجع عن فنكلمان مقال كاتب هذه السطور «الألم الجميل» في كتابه البلد البعيد، القاهرة، ١٩٦٧م)، فراح يتأمل وجه الصبي الساحر في تأمله في حافة الكأس التي يشربها ويشرب معها ذكريات حبه القصير العمر.
(١) نعم في الحانة
القصيدة تمثِّل الانتقال من كتاب زليخا والتمهيد لهذا الكتاب. ويُذكَر أن جوته قد ضمَّن السطرَين ١٠-١١ الرسالة التي بعث بها إلى روزيته فون شتيدل (وهي الابنة الكبرى لفليمر زوج مريانة) في السابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٨١٥م؛ مما يدل على أن القصيدة قد كُتبت في نفس الفترة أو قبلها بقليل؛ أي بعد توديعه لحبه وحبيبة قلبه مريانة.
(٢) لقد وصل الحال
لم تُعرَف حتى الآن هوية هذا اللص (عن بدوي، ص٢٦٨).
(٣) هل القرآن قديم؟
ربما يكون جوته قد قرأ شيئًا عن مشكلة خلق القرآن المشهورة في عهد المأمون في أحد المصادر الكثيرة التي رجع إليها عن الإسلام، وإن لم أجد أثرًا لهذا المصدر في طبعات الديوان التي تحت يدي، والمهم أن الشاعر يُقرُّ بالاحترام الواجب على كل مسلم للقرآن الكريم، ولكنه لا يحرم نفسه — شأنه في ذلك شأن كثير من شعراء الفُرس والعرب الذين يهيمون في كلِّ وادٍ — من تذوُّق الخمر ونشوتها، وهو مصداق ما ذكرنا قبل قليل من أن الخمر في هذا الكتاب خمرٌ روحية قبل كل شيء، وربما أوحت للشاعر كما أوحت للصوفية المسلمين بمعاني الحب الإلهي بجانب الحب البشري والأرضي الذي لا يُمكِن أن يكون الشاعر «الدنيوي» قد غفل عنه.
وفي بعض أبيات القصيدتَين التاليتَين تأثَّر بما قرأه الشاعر في ترجمة دييز لكتاب قابوس، ص٤١٩، ٤٤٤ (عن بدوي، ص٢٧٠).
(٤) ما الذي يجعلك فظًّا سمجًا في أكثر الأحيان؟
من الواضح أن موضوع القصيدة قديمٌ ومعروف في التراث الشرقي والغربي (سواءٌ الأفلاطوني — راجع محاورة فيدون على وجه الخصوص — أو المسيحي)، وهو أن النفس أو الروح سجينة البدن، وقد كانت حرة قبل دخولها فيه، وستكون حرة بعد خروجها منه. وقد تكرَّر الموضوع في قصائد أخرى في الديوان بصورة عابرة وبلهجة صافية مُفعَمة باللعب والعبث (كما ترى مثلًا في قصيدة شدو البلبل في الليل، وهي القصيدة الثانية من كتاب الأمثال الذي سيأتي بعد هذا الكتاب) غير أنه يتخذ صورة باقية وتشكيلًا فنيًّا رائعًا ومعاني روحية عميقة في «درة عقد الديوان» — كما أُحِب أن أسمِّيها! — وهي قصيدة حنين مبارك من كتاب المغنِّي (القصيدة رقم ١٧).
(٥) الشاعر يقول للنادل
«الألفر» بمعناه الحرفي هو الحادي عشر، وقد احتفظت بالكلمة الأصلية التي أُطلِقت على محصول الكروم في وادي نهر الراين عام ١٨١١م. والمعروف أن جوته كان يفضِّل شرب هذا النوع من النبيذ (وهو الألفر) على غيره من الأنواع، وذلك خلال رحلات حبه (القدرية) في سنتَي ١٨١٤ و١٨١٥م في منطقة الراين وبين مدينتَي هيدلبرج وفرانكفورت، ولقاءاته مع حبيبة قلبه مريانة (راجع عن موضوع هذه القصيدة العبارات التي قالها جوته عنها وعن كتاب الساقي في إعلانه عنه في «صحيفة الصباح» لعام ١٨١٦م، وقد ذكرناها في بداية التمهيد لهذا الكتاب). ويحتمل أن تكون هذه القصيدة قد كُتبت تحت تأثير جمال النادل الأشقر الشاب الذي رآه جوته في مدينة فيزبادن، كما يقرِّر صديقه سولبيس بواسريه في مذكراته اليومية بتاريخ ٨ من أغسطس ١٨١٥م، غير أن النموذج الحقيقي للساقي الذكي الجميل هو ابن المستشرق باولوس، الذي رآه جوته أثناء زياراته المتكرِّرة له في خريف ١٨١٥م ومحاولاته لتعلُّم مبادئ اللغة والكتابة العربية على يدَيه. والظاهر أن ابن هذا المستشرق كان يحضر هذه اللقاءات، كما كان شديد التعلق بجوته (عن شروح طبعة فايتس، ص٣٢٣).
(٦) أنت بغدائر شعرك السمراء
بعد أن عبَّر حاتم في القصيدة السابقة عن ميله للصبي الذي يسقيه، نجد أن هذه القصيدة على لسان الساقي تكشف عن حبه وتعلُّقه بالشاعر من خلال التعبير عن غيرته من الفتاة ذات الغدائر السمراء والبسمة الماكرة الخبيثة. وفي القصيدة محاكاة حرفية لحافظ الشيرازي في تغنِّيه بالساقي وتفضيله له على المحبوبة (ترجمة همَّر لديوانه، ج١، ص٨٢، ص٣٩٢).
(٧) طالما لامونا على السكر
تعبِّر هذه القصيدة — من وراء الكلام الظاهر عن الخمر والسكر وحتى عن الحب! — عن نشوة الخَلق والإبداع المُضطرِمة الأُوار في نفس الشاعر. ولعل تكرار كلمة السكر تسع مرات في قوافي القصيدة الأصلية يدلُّنا على أن الشاعر أراد لها أن تكون «غزلية» على غرار غزليات حافظ وغيره من شعراء الفُرس الكبار، وإن كان قد بالغ في المحاكاة وألزم نفسه بما لا يلزم؛ إذ لم يكتفِ بتكرار القافية كل بيتَين (أي ١-٣-٥ وهكذا)، بل كرَّر كلمة السكر نفسها تسع مرات!
(٨) أنت أيها الوغد الصغير أنت
تؤكِّد هذه القصيدة المُوجَزة ذات الإيقاعات الحرة ما قُلناه في التعليق على القصيدة السابقة من أن نشوة الشاعر هي نشوة الإبداع، ومن المعروف أنها حالة سُكر فريدة مصحوبة بالوعي واليقظة التامة، أو هي حالة وعي وصحو — يستلزمها الجهد المبذول في البناء وتشكيل العمل الفني — لا تستغني أبدًا عن الشعور بحالة النشوة والسُّكر التي تُصاحِب عملية الخَلق؛ ولذلك لا نستغرب أن يقول الناقد الكبير ماكس كوميريل — الذي سبق أن رجعنا لرأيه في شروح سابقة — إن جوته قد وصل في هذه القصيدة إلى الحكمة وقمة النزعة الأبولونية (أي نزعة الوضوح العقلي والتشكيلي الفني كما يسمِّيها نيتشه؛ تمييزًا لها عن النزعة الديونيزية التي تتعلق بنشوة الإبداع والتأمل في هاوية الحقيقة والوجود!) فصار على ديونيزيوس أن يخدم أبولو؛ أي أن يتحول الدم إلى روح؛ لأن الخمر روح (بدوي، ص٢٧٦). ومع أن حالة الإبداع شديدة الغموض، وكم حيَّرَت علماء النفس ودارسي العبقرية وشخصيات العباقرة! وليس من حقي ولا في طاقتي أن أُدلي فيها برأي محدَّد، أو أختزل علاقتها المعقَّدة في صيغة معيَّنة؛ فربما تُوحي القصيدة على ضوء الشرح السابق بأن الشاعر يتغنى بحالة الوعي أو الصحو التي تقترن بحالة الإبداع أو المحو التي يمر بها المُبدِع — وهو هنا الشاعر — في ذروة الوجد والنشوة الإبداعية. وإذا صح ما قلته على سبيل الترجيح فهي — بلغة التحليل النفسي — حالةٌ يمتزج فيها الوعي باللاوعي، أو الشعور باللاشعور.
(٩) يا للضوضاء في الحانة
تصف هذه القصيدة الأسباب التي تجعل الشاعر يختلف إلى الأماكن، ويختلط بالناس، ويعايش البيئة التي يحيا فيها، وإن بقي بينه وبين نفسه وحيدًا مع خواطره و«بنات أفكاره» على الرغم من ازدحام الحانة واضطرابها بالفتيات والراقصين والراقصات. والمقطوعة الثانية تغلب عليها روح الحكمة ولغة الأمثال التعليمية، ومن الواضح للشُّراح أن المقطوعة الأولى محاكاةٌ شبه كاملة لأبيات حافظ الشيرازي من ترجمة همَّر (ج١، ص٣٩٢)، نقلها أستاذنا بدوي كما يلي: «آه! آه! كم في الحانة صباح اليوم من ضجيج، حيث الساقي والحبيب والمشعل والنور كانت كلها في أشد اضطراب، وحيث (وإن كانت أقاصيص الحب ليست في حاجة إلى تفسير!) الناي والطبلة في اصطحاب، ومَن دخل في هذه الزمرة من المجانين حبًّا في النزاع والعراك، ابتعد عن نزاع المذاهب والمنابر» (بدوي، ص٢٧٧). وواضح من العبارة الأخيرة أن جوته يتبنى رأي حافظ في أن ألفاظ السِّباب البذيئة أحبُّ إلى الشاعر من المنازعات والمشاحنات التي تتبادلها المدارس والمذاهب المختلفة حول الأخلاق. وقد كُتبت القصيدة في الثامن من شهر سبتمبر ١٨١٨م في كارلزباد، ولكنها لم تُنشَر إلا سنة ١٨٢٧م في المجلة التي كان يُصدِرها جوته وهي «عن الفن والعصور القديمة.»
(١٠) تلك العجوز القبيحة
إنَّ سبَّ الدنيا ولعنها، ووصفها بالعجوز القبيحة أو البغي الفاجرة، موضوعٌ شائع في الشعر الشرقي، الفارسي والعربي على السواء، لا سيَّما عند أبي العلاء.
وفي تقديري المُتواضِع أن القصيدة — برغم التأثر الملحوظ في عنوانها بكتاب قابوس وفي سطورها الأولى بحافظ الشيرازي (ترجمة همَّر، ج١، ص٦١) — تردِّد عددًا من الأفكار التي لا يملُّ جوته من ترديد نغماتها القوية الصريحة في أعماله، ومِن أهمها الإحساس الرائع بالحاضر الراهن، لا سيَّما في تجربة الحب وفي الإقبال النشط على العمل والفعل والإنجاز «الفاوستي» وعدم التعلق بالأمل الغامض في غدٍ غير مأمون ولا مضمون. ولعل مِن أهم ما نخرج به — بشكل تعليمي مبسَّط — من حياة هذا الشاعر العظيم وجهوده الإبداعية والعلمية الضخمة، هو هذه الحكمة البسيطة التي يُمكِن أن تهدينا إلى الرضا بالحياة إذا تمسَّكنا بها وعملنا على ضوئها: «أدِّ واجب اللحظة، وسوف تُحَل من نفسها كل المشكلات، فلا تحزن على ماضٍ فات، ولا تُلقِ كل أمالك على كنفَي غدٍ لم يأتِ بعد.» ولا شك عندي — كما سبق القول — أن هذا الإيمان العظيم بملء اللحظة الخصبة المُبدِعة بالعمل الخصب المُبدِع قد أثَّر على نيتشه تأثيرًا هائلًا، ربما بقي في لا وعيه ولم يعِه تمامًا عندما نادى بفكرته الرائعة المحيِّرة عن عودة الشبيه الأبدية، كما أثَّرت في عصرنا الحاضر على الفيلسوف الماركسي المستقبلي أو اليوتوبي أرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م)، وبخاصة في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل».
(١١) اليوم أكلت بشهية
(١٢) إنهم يُسمُّونك الشاعر العظيم
تكشف القصيدة — على لسان الساقي — عن جوانب لا يعرفها الناس في «السوق» من حياة الشاعر وغنائه وصمته. وكأن تعاطُف الساقي معه يجعله يتكلم في صمته بأعذب مما تنطق به أغانيه، أو كأنه ينظر إلى الأعماق الخفية التي تستقر فيها قُبلة الشاعر الأبوية له، وتظل محجوبة عن أعين المُعجَبين والمتطفِّلين و«المُستهلِكين» لشعره وإنتاجه. ويذهب الناقد الأدبي فولفجانج كايزر (في دراسة نُشرت في العدد ٢٣ من مطبوعة جمعية جوته الإنجليزية ١٩٥٤م، ص٢٩٠–٢٩٥) إلى أن هذه القصيدة واحدة من أجمل قصائد الديوان الشرقي؛ فهي تُسعِد القلب باللعب المُنغَّم بالأضداد، وتأسر اللُّب بسحر الإيقاع، وتهز النفس بالمباشرة أو التلقائية التي يعبِّر بها الإحساس عن النفس، هذا الإحساس الذي هو أعمق بما لا نهاية له مما يتصوَّر المتحدِّث (أي الساقي). وربما كانت الأضداد التي يذكرها «كايزر» هي التي تُقابِل في القصيدة بين الكلام والصمت، بين حياة الشاعر كما يظهر للناس وحقيقته الباطنة الخافية، بين القُبلة والتفكير والغناء، مهما رقَّت ألحانه. أمَّا جمال النغم وعذوبة الإيقاع التي يتحدث عنها الناقد، فلا بد من الاستماع إليها كما تتردد في الأصل؛ لأن أية ترجمة في أية لغة يستحيل عليها بطبيعة الحال أن تأتي بصيغة مُكافئة لجرس الكلمات ونغم الإيقاعات المُرتبِط بالضرورة بالكلمات الأصلية (انظر الفقرة الخاصة بالترجمة في المقدمة العامة لهذا الكتاب).
(١٣) تذكَّر يا سيدي
يُلاحَظ في هذا الحوار الشعري، الذي يجمع بين التفكُّه المرِح والعمق الفكري، أن موضوع الخمر — الذي تردَّد كثيرًا في قصائد كتاب الساقي — قد بدأ يُفسِح مكانه للحكمة (ولعل الشاعر قد قصد هذا لكي يمهِّد لكتاب الأمثال الذي سيأتي بعد هذا الكتاب)، وربما كان التضادُّ الحادُّ هنا بين الساقي الفتى الذي يُحافِظ على «حكمته» واتزانه، وبين الشاعر الشيخ الذي «يعلَم كل ما تطويه السماء وما تحمله الأرض»، ومع ذلك يضطرب وجدانه ويشيع الاضطراب من حوله كُلَّما انتشى بالخمر والشعر، ربما كان هذا التضاد نفسه من العلامات الدالة على حقيقة الشعر نفسه وماهيته الضدية؛ فهو يشبُّ في حضن الأسرار ويليق به الكتمان، لكن طبيعته اللغوية والتواصلية مع متلقِّيه تفرض عليه باستمرار أن «يخون نفسه» ويلجأ في الحياة الأرضية إلى «الغش أو الخداع»، وكأن خروج الشعر من كهفِ سرِّه وقوقعة صمته، وتشكُّله في «الكلمة» التي يسمعها الناس هو في حد ذاته نوعٌ من انكشاف السر أو هتك الحجاب أو «الخيانة». ويبدو لي أن اللمسة الصوفية في فهم الشعر هنا غير خافية.
(١٤) ليلة صيف
تمثِّل هذه القصيدة الطويلة ذروة كتاب الساقي وفي الوقت نفسه لحن الوداع له؛ فالشاعر يسأل الساقي إلى متى يستمر الأصيل (وهو يمتد صيفًا في بعض البلاد الشمالية حتى الصباح!) وهو يسأله لأنَّ الأضواء — في ليالي الصيف — «مُتداخِلة» في بعضها ولا تمكِّن ظلام الليل من الانتصار عليها تمامًا. والساقي يُعلِن عن استعداده لإبلاغه بهذا النبأ حتى ولو تحوَّل من أجله إلى بومة تجثم على درَجِ الشرفة؛ وذلك عرفانًا بفضل الشاعر والمعلِّم عليه وردًّا لجميله وأملًا في تأمُّل العالم اللانهائي معه. وبعد أن يسترسل الصبي في تمجيد الطبيعة والإعجاب بأضوائها وطيورها ورياحها، يتدخل الشاعر ليُعلِّمه شيئًا جديدًا يأخذه من مخزون الأسطورة، ويُحِس بينه وبين نفسه أن الصبي لن يستطيع أن يفهمه، فأورورا أو إليوس الإغريقية (الفجر) هي السيدة المتقدِّمة في العمر (أو هي الشرق) التي تقع في حب هسبيروس (نجم المساء أو الغرب) وتُطارِده لكي يتزوجها. وعلى الصبي أن ينتبه ويُحاذِر من أن تحسبه العجوز نجم المساء؛ لأن جماله يُمكِن أن يختلط بجمال هذا النجم. ويسترسل الشاعر بدوره في وصف المُحِبة العجوز وتتبُّع خُطاها الملهوفة لمحاصرة ذلك الذي لاذ بالفرار مع الشمس، وكأن الشاعر قد هدهد الصبي لينام، وأقنعه أيضًا باللجوء إلى داخل البيت بعد أن ظل قلقًا ومؤرَّقًا طوال الليل. ولا يصحو الصبي إلا في القصيدة التالية رقم ٢٢ التي يكرِّر فيها وهو نعسان بعضَ ما تعلَّمه من الشيخ أو أهم ما تعلَّمه منه: إن الله حاضر في جميع العناصر. والأهم من ذلك كله أن الشيخ علَّمه بحب وبلا قهر أو عقاب، ويُنصِت الشاعر ولا يقول شيئًا، ويُواصِل صمته وهو يشرب لكي يُتيح للصبي الذي شرب منه حكمة عمره وتجربته أن ينام ويشبع من النوم. ولعله — أي الشاعر — قد شعر بالرضا والطمأنينة لأنه أخذ عنه جوهر هذه الحكمة، وهو أن الأبدي الباقي ينعكس في الموجودات الجزئية المتفرِّقة التي تأمَّل معها أضواءها وألوانها وأصواتها في دهشة وإعجاب. وتقول الأسطورة اليونانية إن إيوس أو (أورورا عند الرومان) قد خطفت الشاب تيثونوس، وأقنعت كبير الآلهة زيوس بأن يهبَه الخلود، دون أن يخطر على بالها أن تطلب منه أن يمنحه خلود الشباب. وهكذا يشيخ الشاب وينكمش إلى حجم الطفل أو في بعض الروايات إلى حجم الجُندب، ولا يبقى منه إلا صوته، وتُخفي إيوس ذلك السر وتُواصِل إطعامه ورعايته من وراء الأبواب المُغلَقة، كما تُواصِل أثناء النهار لهاثها وراء الشبان … وهسبيروس في نجمة المساء التي تجسَّدت على هيئة صبي يحلِّق في السماء ويصعد ويهبط وهو يحمل في يده شعلة مُلتهِبة. أما عن انقلاب النجم الشمالي فهو يتم عندما يُحيط الدب الأكبر والدب الأصغر بالنجم القطبي.