كتاب الأمثال
ويقول جوته عن هذا الكتاب في تعريفه بالديوان الشرقي في «صحيفة الصباح» لعام ١٨١٦م: «يحتوي كتاب الأمثال على تصويرات متنوعة مع تطبيقها على الأحوال البشرية.» كما يقول عنه في تعليقاته وأبحاثه التي تُعِين على الفهم الأفضل للديوان الغربي-الشرقي: «على الرغم من أن الأمم الغربية قد أخذت الكثير من ثروة الشرق، فسوف نجد هنا الكثير مما يتعيَّن علينا أن نجني ثماره، ولتحديد ذلك نقدِّم ما يلي: يُمكِن تقسيم الأمثال، وكذلك سائر الأنواع الأدبية في الشرق ذات الصلة بالأخلاق، تقسيمًا غيرَ مُخلٍّ إلى ثلاثة أبواب؛ أخلاقية وعرفية وزهدية. والقسم الأول (من الأمثال) يشمل أحداثًا وإشارات تتعلق بالإنسان بوجهٍ عام وأحوال وجوده، دون محاولة للتعبير الصريح عما هو خير أو شر. وهذا الأخير هو الذي يُبرِزه القسم الثاني بحيث يهيِّئ للسامع اختيارًا معقولًا. أما القسم الثالث فيُضيف إلى ذلك «نوعًا من» الإلزام القاطع؛ إذ يتحول الإرشاد الأخلاقي إلى قاعدة وقانون. ويُمكِن أن نُضيف إلى هذه الأقسام الثلاثة طائفةً رابعة من الأمثال التي تُصوِّر التوجهات العجيبة التي تصدر عن الأوامر التي يستحيل تفسيرها وإدراك كنهها، وهي تعلِّم وتؤكِّد الإسلام الصحيح؛ أي التسليم المُطلَق بمشيئة الله، والاقتناع بأن أحدًا لا يُمكِنه الإفلات من نصيبه المقدَّر له. وإذا أردنا أن نُضيف طائفة خامسة يتحتم أن تُسمَّى الأمثال الصوفية؛ فهي تلك التي تدفع بالإنسان خارج الموقف السابق، الذي يظل باعثًا على القلق والشعور بالضيق والعناء، نحو الاتحاد بالله في هذه الحياة الدنيا نفسها، ونحو الزهد المؤقَّت في تلك الخيرات التي يُمكِن أن يُؤلِمنا فقدانها. فإذا عرفنا كيف نميِّز بين الأغراض المتنوعة في مختلف التصويرات الرمزية في الشرق، فسوف يكون في هذا كسب كبير؛ لأن الخلط بين هذه الأغراض يعوق المرء على الدوام؛ إذ يجعله يبحث فيها مرة عن تطبيق عملي لا وجود له، أو يجعله مرة أخرى يغفل عن المعنى العميق الكامن وراءها. وتقديم أمثلة لافتة لكل هذه الأنواع سيجعل بالضرورة كتاب الأمثال شائقًا ومُفيدًا. أما عن ترتيب الأمثال التي سنقدِّمها في هذه المرة، فإننا نترك الحُكم عليه للقارئ اللبيب» (بتصرف بدوي، ص٤٦٣-٤٦٤، طبعة هامبورج، ص٢٦٩، ص٢٠٥-٢٠٦ من المجلد الثاني لأعمال جوته).
(١) تحدَّرَت قطرة خائفة من السماء
تعتمد هذه القصيدة على مثَل أو أُمثولة فارسية اطَّلع عليها جوته في ترجمة أولياريوس المبكِّرة لبستان سعدي (وذلك في الطبعة الأخيرة التي ترجع لسنة ١٦٩٦م لكتاب أولياريوس الذي استعاره جوته من مكتبة فيمار، وهو وصف مزيد ومنقَّح لرحلاته في الشرق). كما يحتمل أن يكون الشاعر قد قرأ تلك الأُمثولة أيضًا في كتاب جان دي شاردان (وهو رحلة إلى بلاد فارس وأماكن شرقية أخرى، أمستردام ١٧٣٥م) أو في أحد المجلدات التي كان ينشرها المستشرق النمسوي النشيط يوسف فون همَّر تحت عنوان كنوز الشرق، أو في كتاب وليم جونز أشعار آسيوية وشروحها (راجع نص الأمثولة الأصلية التي حاكاها جوته محاكاة شبه تامة في طبعة بدوي، ص٢٩٠-٢٩١). وقد سبق أن قلنا في التمهيد لهذا الكتاب إن معظم الأمثال الواردة فيه تُوحي بمعانٍ دينية، وكان العنوان الأصلي الذي وضعه جوته لهذه القصيدة أو المثل المنظوم في المخطوطة هو «لؤلؤة مؤمنة» (كما كان العنوان الأصلي لقصيدة «حنين مبارك» التي نوَّهنا بها أكثر من مرة — وهي من كتاب المغنِّي — هو «التضحية بالذات»). إن القطرة في هذه القصيدة لم تعُد قطرة، لقد تحوَّلت أو ماتت فوجدت ذاتها الحقيقية (على نحوِ ما يقول أحد أبيات المقطوعة الأخيرة من قصيدة الحنين المبارك: مُت كيما تكون). والتضحية بالذات علوٌّ وارتفاع في سُلَّم الوجود؛ فالفراشة تحقِّق وجودها بالفناء في لهب الشمعة، والقطرة أيضًا تحقِّق وجودها عندما تموت وتتحول إلى لؤلؤة، وكأن تحقيق الذات قهرٌ للموت، وتلك هي عقيدة الشاعر عن الخلود كما شرحناها من قبل (في التعليق على قصيدة الشعب والخادم والحكام من كتاب زليخا). ولعل العمل الفني — في تحولاته المختلفة حتى يُصبِح عملًا فنيًّا بحق! — يُشبِه هذه القطرة التي كافأها الله على تواضُعها وإيمانها الشجاع، فوهبها القوة والبقاء، وصاغ منها لؤلؤةً يزهو بها تاج القيصر المجيد (أو دوق فيمار وراعى جوته وصديقه كارل أوجست!) أقول ربما يكون هذا هو قصد جوته من ضرب هذا المثل، فإن لم يكن الأمر كذلك فهو اجتهاد في التفسير.
(٢) شدو البلبل في الليل
البلبل هنا تعبير مجازي عن الروح الحبيسة في قفص الجسد. وقد تأثَّر الشاعر بحافظ الشيرازي (في ترجمة همَّر، كنوز الشرق، ج٢، ١٨١١م، ص١٠٨، ١٠٩) حيث يقول: «هذا البلبل الحبيس، الذي يُسمَّى الروح، لا يخدم البدن، الذي هو على العكس قفصه.» وفكرة حبس الروح في سجن الجسد أو في قفصه فكرةٌ معروفة في التراث الغربي — على الأقل منذ عهد الأورفيين والفيثاغوريين وأفلاطون — وفي التراث الشرقي كما سبق القول في موضع آخر من هذه الشروح (راجع كذلك قصيدة: ما الذي يجعلك فظًّا سمجًا في أكثر الأحيان؟ وهي القصيدة رقم ٨ من كتاب الساقي).
(٣) إيمان عجيب
استلهم الشاعر هذه القصيدة كما تصرَّف فيها تصرفًا لا يخلو من الدعابة والتهجم حتى في عنوانها، مثَل فارسي أورده شاردان (ج٤، ص٢٨)، وذكره رودلف ريشتر في طبعته للديوان الشرقي (ليبزيج، ١٩٢٦م، ص٣٣١)، وجاء على هذه الصورة في ترجمة بدوي (ص٢٩٢): «إن الزجاجة المكسورة تُشعَب، فكم بالأحرى يُعاد سبكُ الإنسان بعد أن يحطِّمه الموت؟» وإذا كان هذا المثل — الذي لا أعرف مصدره وإن كنت أرجِّح أنه قيل بعد الفتاح الإسلامي لبلاد الفرس — إذا كان يكرِّر ما سبق أن أكَّده القرآن الكريم في سُوَر عديدة للرد على الكفار الذين أصروا على إنكار البعث، فلا أدري لماذا يضمِّن جوته صياغته له نبرة الدعابة، على الرغم من إيمانه الراسخ بالخلود، كما سبق القول في شرحنا لقصيدة «الشغب والخادم والحكام» من كتاب زليخا.
(٤) تركت جوف محار لؤلؤة
واضحٌ من معنى القصيدة أو مغزاها (إذ إنها مثلٌ أو أُمثولةٌ قبل كل شيء!) أن الفرد ينبغي عليه أن يضحِّي بنفسه في سبيلِ كلٍّ أسمى منه وأرقى. ومع أن الفرد غاية في ذاته، فلا يجوز له أن ينسى أنه في نفس الوقت وسيلة إلى غاية أكمل منه وأشمل، حتى اللؤلؤة النفيسة أو الدرة اليتيمة، تُعاني بقسوة من الصائغ وتُجبَر على الانتظام في عقدٍ يضم أحجارًا غير نفيسة، تمامًا كما يُضطر العبقري أو حتى الإنسان الطيِّب النقي للحياة وسط الأشرار والاختلاط بالأراذل والأوغاد.
(٥) رأيت بدهشة وابتهاج
بداية القصيدة مُستلهَمة من جلستان سعدي (في ترجمة أولياريوس السابقة الذِّكر)، وإن كان جوته قد أضفى عليها معنًى يتفق مع رؤيته الكونية والدينية (أي المعبِّرة عن إيمانه بوحدة الوجود تأثُّرًا بفيلسوفه الأثير اسبينوزا)، هذه الرؤية التي تجعله يُدرِك عظمة الله في أكبر الكائنات وأصغرها؛ لأنه سبحانه يتجلى في كل مخلوقاته، وإن كان المُؤمِن يعلَم تمام العلم أنه متعالٍ على كل شيء و«ليس كمثله شيء».
(٦) كان عند أحد القياصرة
يُلاحَظ أن هذه القصيدة تتسم بطابعٍ عملي ودنيوي يجعلها مختلفة — إلى حدِّ التضاد — عن القصيدة السابقة. لا يُعرَف مصدرها الشرقي على وجه التحديد، وإن كان أستاذنا بدوي يرجِّح — بالاستناد إلى بعض الشُّراح — أنها متأثِّرة بفقرةٍ وردت في ترجمة دييز لكتاب قابوس أو قابوس نامه (بدوي، ص٢٩٥).
(٧) قال القدر الجديد للمقلاة
في هذه القصيدة تعريضٌ بالخلاف الشديد الذي نشب بين المستشرقَين فون دييز وفون همَّر على ترجمة أحد الأمثال الشرقية.
(٨) الناس جميعًا من كبيرهم إلى صغيرهم
تواصَل التهكم اللاذع في القصيدة السابقة من التافهين المغرورين الذين تُصوِّر لهم نرجسيتهم أنهم قد أبدعوا الروائع، مع أن نسيجهم أوهى من نسيج العنكبوت. وكم ملأ هؤلاء التافهون حياة جوته بالنكد والتنغيص، وما زالوا ينغِّصون عيش العاملين في صمت في كل مكان وزمان (وبخاصة في زماننا الذي اتفقت آراء المُخلِصين على أنه زمان رديء).
(٩) لما نزل يسوع من السماء
تُشير هذه القصيدة من طرفٍ خفي إلى علاقة جوته بالدين، والدين المسيحي بوجهٍ خاص؛ فقد قال على سبيل المثال في سيرة حياته «شعر وحقيقة» (القسم الثالث، الكتاب الثاني عشر) وهو في معرض الكلام عن اهتمامه الجاد في شبابه بالمأثورات المقدَّسة، لا سيَّما بالعهدَين القديم والجديد: «إن كُتاب الأناجيل يُمكِنهم أن يتناقضوا كما يشاءون، ما دام الإنجيل لا يتناقض مع نفسه» (طبعة هامبورج لأعمال جوته، المجلد التاسع، ص٥١١). كما قال في الحِكم والتأملات: «إن في الحق شبهًا بما هو إلهي، وهو لا يظهر بشكلٍ مباشر، وإنما يجب علينا أن نحدس بوجوده من خلال مظاهره أو تجلياته» (طبعة هامبورج، المجلد ١٢، الحِكم والتأملات، الحكمة رقم ١١، ص٣٦٦). ومصدر القصيدة هو كتاب شاردان وصف لرحلة إلى بلاد فارس.
(١٠) حسن
في هذه القصيدة التي يختم بها كتاب الأمثال أصداءٌ من القصيدة الرائعة «لقاء من جديد» من كتاب زليخا، وهي التي قدَّمنا شرحًا مفصَّلًا لها في تعليقنا على قصائد كتاب زليخا (القصيدة رقم ٣٩). والأبيات الأخيرة تؤكِّد المعنى الديني، وهل ينتظر المحبوب تبريرًا للحب أسمى من رضا الله على آدم وحواء الراقدَين جنبًا إلى جنب في جنة الفردوس؟ وهل هناك ما يُرضيه سبحانه أكثر من أن يقول كلٌّ منهما لصاحبه: «أنت يا أحلى ويا أجمل ما صوَّر ربي»؟ (قارِن سفر التكوين ٢: ١٨، وكذلك ١: ٣١).