كتاب الفردوس
إذا كان الكتاب السابق — وهو كتاب البارسي — قد صوَّر الطبيعة والأرض والشمس بوصفها رموزًا لقانون الطُّهر والقداسة الذي ينبغي أن يحكم حياة الإنسان، كما حكم حياة البارسيين أو المجوس القدماء عبَدة النار، فإن هذا الكتاب يولِّي وجهه شطر الآخرة، ويقدِّم تصوُّر الشاعر عن جنة الفردوس «الإسلامية» كتعبيرٍ مجازي عن القيمة الأُخروية والميتافيزيقية لوجود الإنسان في الحياة الخالدة، لا سيَّما حين يكون هذا الإنسان قد قضى حياته في الجهاد في سبيل الله مثل الشهداء، أو في سبيل الإبداع مثل شاعرنا الذي يدخل هنا في ألوان مرِحة صافية من الحوار مع رموز الجمال الأنثوي الخالد وهن الحوريات.
والقصائد التي يضمها الكتاب تمثِّل وحدة مُترابِطة؛ فكل واحدة منها تفترض السابقة عليها وتمهِّد للآتية بعدها، وتُحِس منها جميعًا أننا بإزاء لعبة مُتبادَلة كلعبة المرايا المُتعاكِسة التي تتبادل الصور والوجوه على صفحاتها؛ فهي تبدأ بما هو سماوي فوق الأرض، ثم تُصوِّر ما هو أرضيٌّ كرَّمه الله يرفعه إلى السماء؛ الرجال الذين أُنعِم عليهم بدخول جنة الفردوس، وهم الشهداء الأبرار، ثم الصفوة من النساء المُسلِمات اللائي اجتباهن الله في الدنيا والآخرة، وأنعم عليهن بدخول الجنة. وأخيرًا يأتي دور الشاعر الغربي نفسه الذي يلتمس في البداية من الحورية دخول الجنة، ويظهر فيها بعد ذلك ويتحرك بحُرية؛ لأنه أثبت أنه يحمل آثارَ جِراحٍ لا تقلُّ ألمًا وعمقًا عن جِراح المجاهدين. ويحكي الكتاب بعد ذلك قصة الحيوانات التي كرَّمها الله بدخول الجنة، ثم يرفع هذا كله (كما يقول هيجل عن المرحلة الثالثة من مراحل جدله المثالي التي تجمع بين الضدَّين في المرحلتَين السابقتَين في لحظة ثالثة أكثر خصوبة وغنًى) في قصيدة أعلى والأعلى التي تُعَد — بجانب قصيدة «الحنين المبارك» من كتاب المغنِّي وقصيدة «اللقاء من جديد» من كتاب زليخا اللتَين سبق شرحهما في هذه التعليقات — أروعَ قصائد الديوان إن لم تكُن من أروع أشعار جوته على الإطلاق؛ ففي هذه القصيدة تصويرٌ لما يُمكِن أن نصفه بأنه الشمس المركزية للنور الإلهي الذي يتعذر وصفه، والذي يستوعب في داخله كل ما هو إنساني ويحوِّله. ويتردد صدى «الحنين المبارك» إلى الآخر المُطلَق أو الأنت الأزلية الأبدية الذي يتوقُ المُحِب للاتحاد به وهو الله عز وجل عُلاه. ويرتبط الحب الإلهي بالحب البشري ارتباطًا عميقًا، ومن هنا تكاد صورة السماء أن تقتصر على صورة الحورية التي يتعلق بها قلب الشاعر، كما يسود شكل الحوار الذي وجدناه في كتاب «زليخا» التي تظهر الآن على هيئة حورية من حوريات الجنة. وتبدو الحياة السماوية كأنها امتداد للحياة الأرضية التي غمرتها نعمة الحب، كما يبدو الحب الأرضي — الذي عرفنا مدى عمقه وصفائه وعذابه أيضًا في كتاب زليخا — وكأنه نوعٌ آخر من الحب الإلهي، أو على الأقل قبسٌ من نوره أو قطرة من بحره اللانهائي.
هكذا يكتمل في هذا الكتاب أسلوب الديوان الذي يقوم على الحوار — أو بالأحرى اللعب! — المُتبادَل بين الأرضي والسماوي، والدنيوي والإلهي، والشرق بألوانه الزاهية وزخارفه المجازية والغرب بجدِّيته وقلقه وشوقه إلى المُطلَق، وطموحه الدائم للارتفاع إلى مناطق أعلى وأعلى. وتكتمل كذلك دائرة الديوان في هذا الكتاب، الذي يُشبِه قبة سماوية تمتدُّ فوق الكتب الأخرى، وتعكس أضواءها كما تعكس ذات الشاعر وحياته وتجاربه مع الحب ورؤيته للعالم والإنسان «من منظور الأبدية»، كما يقول فيلسوفه الأثير اسبينوزا في تعبيره المعروف. ومع كل هذا تظل تتردد داخل هذه الدائرة العجيبة نغمةُ المرح الصافي والدعابة الحلوة. كيف نفسِّر هذا كله؟ لا بد أن يسأل كلٌّ منَّا قلبه؛ إذ لا يلمس القلب إلا ما يأتي من القلب. وأخيرًا يُناشِد الشاعر قصائد الديوان أن تنام على صدر الشعب، ويلتمس من جبريل أن ينشر بفضله سحابةَ مِسكٍ فوق الجسد المكدود المُتعَب؛ كي يمضي وهو مُعافًى مرِحٌ — كالعهد به — وودود، ويجوب سعيدًا جنات الخلد.
ويقول جوته في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح لعام ١٨١٦م: «إن كتاب الفردوس (خلد نامه) يحتوي على عجائب الفردوس كما يتصوَّره المسلمون، وكذلك على السِّمات الرفيعة للشعور بالتقوى والورع، وهي السمات المتعلِّقة بالسعادة الخالصة في الدار الآخرة.» ويجد القارئ هنا الحكاية الخارقة عن أهل الكهف السبعة وفقًا للمأثورات الشرقية، كما يجد حكايات أخرى تُصوِّر بالمعنى نفسه الاستبدال المرِح للمُتَع السماوية بالمُتَع الأرضية. ويُختتَم الكتاب بتوديع الشاعر لشعبه، وبهذا ينتهي الديوان نفسه (طبعة هامبورج، المجلد الثاني، ص٢٧٠).
ويقول عنه كذلك في تعريفه بكتب الديوان في تعليقاته وأبحاثه: «وهذه الناحية من نواحي العقيدة الإسلامي تحتوي كذلك على مواضع رائعة كثيرة، وجنات في جنات، بحيث تطيب للإنسان الحياة والإقامة فيها.» ويمتزج الهزل والجِد هنا بألطف صورة، ويُعِيرنا اليومي المُتسامي أجنحة للصعود إلى الأعلى فالأعلى منه. وما الذي يمنع الشاعر من أن يركب فرس محمد الرائع (البراق)، وأن يحلِّق به في أرجاء السموات جميعًا؟ ولماذا لا يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدَّسة التي أُنزِل فيها القرآن كله على النبي؟ إن ها هنا فوائد جمة يُمكِن اكتسابها (بتصرف عن بدوي، ص٤٦٥، وطبعة هامبورج، ص٢٠٦).
(١) تذوق
في القصيدة دعابةٌ خفيفة ولطيفة، وفي المقطوعة الثالثة منها تعبيرٌ مُضمَر عن فكرة الصدور أو الفيض التي تأثَّر فيها جوته بأفلوطين والأفلاطونية المُحدَثة في عدد كبير من أشعاره المتأخِّرة (انظر على سبيل المثال قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: «لو لم تكن العين مُشمِسة، لما أمكنها أن ترى الشمس، ولو لم تكن قوة الله كامنة فينا، أكان يتسنَّى لما هو إلهي أن يفتن قلوبنا؟» طبعة هامبورج، المجلد الأول، ص٣٦٧). فالمخلوقة السماوية المحبوبة التي تهبط إليه من أعلى هي نموذج للشباب، وصورة من مثال الجمال الخالد. وفي القصيدة كذلك بعض الأفكار والصور التي تكرَّرت في عدد من قصائد كتاب زليخا (كالقصيدة رقم ٣ لما كنت تُسمَّين الآن زليخا، ورقم ٧ أمِن المُمكِن؟ وكذلك القصيدة الأخيرة: في وُسعك أن تتخفَّي في آلاف الأشكال). وإن كانت هنا ترفُّ في زرقة سماوية أشد صفاءً.
(٢) رجال موعودون
تبدأ برثاء النبي ﷺ لشهداء المسلمين في غزوة بدر (في العام الثاني للهجرة، يناير سنة ٦٢٤م)، ثم لا يلبث الشاعر أن يستلهم قصة الإسراء والمعراج، التي قرأ عنها في القرآن الكريم وفي كتابَي «أولزنز» و«ي. ف. رييندر» عن النبي محمد وغيرهما، فنُحسُّ بعد قليل أنه يمزج أوصاف الملأ الأعلى وجنة الفردوس بتصوراته ورغباته وأحلامه الخاصة بالعثور على حوريته (أي زليخا) بين حوريات الجنة.
(٣) صفوة النساء
بعد أن يلهج الشاعر بالثناء على هذه النخبة الطاهرة من صفوة النساء (ومنهن زليخا امرأة العزيز التي أحبَّت سيدنا يوسف وراودته عن نفسه ثم تابت وأنابت وهداها الله للإيمان، ولكن هنا زليخا أخرى غير التي وصفها الشاعر في القصيدة الأولى من كتاب العشق، وهي قصيدة نماذج، س٦–٨، وغير زليخا التي سمَّى حبيبته باسمها، وراح في هذا الكتاب يبحث عنها بين حوريات الجنة حتى وجدها واتصل الحوار بينهما بعد ذلك في قصائده كلها) بعد أن يفعل ذلك تجد الحورية التي سيُحاوِرها في القصيدة التالية أنه يستحق أن يُسمَح له بالدخول إلى جنة الفردوس لينعَم بوجوده إلى جوارهن.
(٤) سماح
هنا يُسمَح للشاعر بدخول الجنة مع الموعودين من شهداء المسلمين؛ فقد حقَّق الشروط التي وضعتها الحورية (من س٥–١٢) وفسَّر هذه الشروط تفسيرًا شاعريًّا استخدم فيه كلمات الحورية نفسها ودوافعها وأغراضها (إذ يذكُر الجهاد والجِراح التي تُثبِت انتماءه — الشعري والإنساني — للموعودين من الشهداء والصالحين). ويختم الشاعر كلامه بالدعابة كما بدأه؛ إذ يعبِّر عن رغبته في أن يُحصي عدد الدهور على أناملها الرقيقة، وهنا يتردد صدًى خافتٌ للصوت الرنَّان الطنَّان الذي سبق أن سمعناه في قصائد عديدة سابقة، عبَّر فيها الشاعر عن إحساسه بالتفوق والتعاظم حتى على القيصر نفسه، وإن كان هنا أقرب إلى الثقة بالنفس والاعتزاز بالإنجاز، وأبعد ما يكون عن «آليات الدفاع عن النفس» من ألسنة الخصوم الصِّغار وسهام النقد المسمومة بالحقد. والنغمة هنا على كل حال نغمةٌ خفيفة ولطيفة، تذكِّرنا بالأغنيات العذبة في كتاب زليخا، وربما يرجع هذا مرة أخرى إلى ثقة الشاعر بأن الحوريات قد تقصَّين أمره في القصيدة رقم ٢، وعرفن حقيقته، وتأكَّدن من بطولته الشعرية التي تنبع أيضًا من الحب والإيمان كبطولات «الرجال الموعودين».
(٥) رنين
إذا كان الشاعر قد أكَّد من قبل (في أول قصائد الديوان، وهي قصيدة الهجرة من كتاب المغنِّي، من س٣٩–٤٢) أن كلماته تحوم دائمًا حول أبواب الفردوس، متوسِّلةً الدخول لتحظى بالخلود، فإن قصائده أيضًا تُريد الآن أن تدخل معه جنة الفردوس؛ لأن أنغامها تختلف كلَّ الاختلاف عن أنغام قصائد شعراء آخرين، تبقى في الأسفل عاجزة عن الصعود إلى أعلى. كلاهما إذن يريد الخلود؛ الشاعر لأنه عرف كيف يُحِب ويحيا بحق، والقصائد لأن جمال نظمها وسحر ألحانها يؤهِّلها للبقاء، فإذا رجعت للأرض حُقَّ لها الخلود في صدور البشر بفضل الأصداء السماوية التي جلبتها معها من الفردوس، كما صار من حقها أن ترقد في النهاية على صدر «شعبه» في سلام (كما ستقول القصيدة الأخيرة في الديوان). ولا يفوتنا أن نذكُر أخيرًا أن الشاعر لا ينسى أن يُطالِب بمكافأة غيره من الشعراء والفنانين على أعمالهم المتميِّزة (س٢٦–٣٢)؛ لأن الفن الحقيقي لا بد أن يكون خيرًا يعمُّ الجميع (س٢٩-٣٠)، ولأن جوته لم يكن أنانيًّا بالقدر الذي تصوَّره كثيرٌ من معاصريه، أوحى به هو نفسه في بعض قصائده التي تردِّد نغمة التعاظم والتفوق، والأصح من ذلك بالنسبة له أو لغيره من الفنانين أن الفن نفسه — إذا صح تجسيده وتشخيصه! — هو الأناني الذي يستحوذ على صاحبه استحواذًا كليًّا.
(٦) إن حبك وقُبلتك يسحرانِني
السماء هنا كما يقول ماكس كوميريل (في كتابه أفكار عن قصائد، ص٢٨٧–٢٨٩) هي الحب نفسه كما عاشته الحبيبة التي يتعرف إليها الشاعر، ولكنه حبٌّ خالٍ من قدر الفراق (الذي لم يكن منه مفرٌّ كما بيَّنا في الفصل الخاص بقصة الديوان الشرقي). وفي الحوار بين الشاعر والحورية — أو زليخا السماوية! — يتأسس نوعٌ من الاتحاد الجديد الذي يقوم فيه القلب الشاعر — إذا جاز هذا التعبير — بنظم العالم وتحويله إلى شعر. ما أقصرَ لحظاتِ الحب أو لحظته التي عاشها العاشقان على الأرض! لكن ما كان أطولَها بحيث يُمكِن أن تُصبِح الآن سماءً شاسعة الأرجاء يصعب تعيين حدودها!
(٧) ها أنت ذا تلمس إصبعي من جديد
عودة إلى لحظة الحب التي يرفض الشاعر (س٧-٨) أن يحدِّدها بمقاييس الوقت وحساباته العادية؛ لأنها لحظة اهتزاز الكيان وارتجافه التي تعلو على التحديد؛ ولهذا يأتي الحوار المُختصَر عن عالم غير زماني أو فوق الزمان والتاريخ، كما تتتابع الأفكار والموضوعات وتتجاوز ألوانها الرقيقة كالغيوم في سماء ليلة من ليالي الصيف. والسطور الأُولى تُشير إلى كلمات الحوار السابق في قصيدة سماح (٣١–٣٣) والشاعر هنا لا يزال هو الشاعر المُستغرِق في أفكاره (س٩)؛ ولهذا تتوسل إليه الحورية — بعد أن تُشيد بجسارته التي جعلته يُخاطِر بنفسه في الأعماق الإلهية — أن يكون حاضرًا بجوار حبيبته (زليخا) التي تعترف صراحة بأنها هي حبيبته الغالية. فالحضور إذن هو محور القصيدة التي تسأله الحبيبة أن يردِّدها ليجدِّد حضور لحظة الحب ذات الحضور الدائم هنا في السماء كما كانت على الأرض. والقصيدة هي نفس القصيدة التي سمعتها تحوم على باب الفردوس (والبيت رقم ١٥ يُشير إلى قصيدة رنين، وهي القصيدة الخامسة في هذا الكتاب)، وإن كانت سعادة الحب الأرضية-السماوية لا تنتهي بانتهائها. وجديرٌ بالذِّكر أن القصائد التي ناقشناها حتى الآن — باستثناء القصيدة رقم ٢ وهي «رجال موعودون» — يرجع تاريخ نظمها إلى عام ١٨٢٠م؛ أي بعد أن خبَت شعلات الحب المتوهِّجة في القصائد التي كُتبت بين عامَي ١٨١٤م و١٨١٦م؛ ومن ثَم يُلاحِظ النُّقاد أن أسلوبها ينتمي لأسلوب جوته الشعري المتأخِّر (راجع الكتاب السابق الذِّكر لكوميريل، وهو أفكار عن قصائد، فرانكفورت على الماين، ١٩٤٣م، ص٢٨٩، وما بعدها).
(٨) حيواناتٌ مرضيٌّ عنها
أخذ جوته قصة الذئب بصورتها الموجودة في الفقرة الثالثة عن كتاب شاردان الذي سبق ذِكره (رحلة إلى بلاد فارس وأماكن أخرى في الشرق)، وقد أوردها الدميري بالتفصيل في كتابه حياة الحيوان؛ إذ روى كيف كلَّم الذئب أهبان بن أوس الأسلمي الذي ذهب إلى الرسول ﷺ في المدينة وحدَّثه بحديث الذئب وأسلم على يدَيه. أما الكلب الصغير فهو قطمير «الباسط ذراعيه بالوصيد» في قصة أهل الكهف في القرآن الكريم. وأما هرَّة الصحابي المعروف وراوي الحديث النبوي الشريف أبي هريرة، فالظاهر أن جوته أخذها عن جلستان سعدي أو من تعليق أولياريوس، الذي ترجم الجلستان، على الموضوع الذي ذُكرت فيه (راجع بالتفصيل ترجمة بدوي، ص٣٢٥–٣٢٧).
(٩) أعلى والأعلى
تُشير «مثل هذه الأشياء» (س١) إلى القصائد السابقة في هذا الكتاب، كما يُشير البيتان (س٧-٨) بصورة ضمنية إلى القصيدة رقم ٣ من كتاب الأمثال وهي «إيمان عجيب»، التي تؤكِّد أن الله ينجِّي عبده ويحقِّق رغباته وآماله حتى ولو عرف الغضب والقنوط طريقهما إلى قلبه، وفي السطر ٢٦ تصرَّفنا في الصفة «خطابي» التي تُفيد هنا اللغة الخالية من الكلمات وهي لغة النظرات.
ويُلاحَظ أن الأبيات (من س١٩–٣٢) تُصوِّر حركة التصعيد في تجاوُز الإنسان لبشريته الأرضية، وعلوِّه بوجه خاص إلى نوع من الوجود غير اللغوي — أو بالأحرى فوق اللغوي — الذي يرمز هنا رمزًا جديدًا ومعبِّرًا عن التجربة الصوفية العريقة، التي لا تجد في مثل هذه الحالة — أو هذا المقام! — إلا الصمت تعبيرًا عما يستعصي على التعبير (تذكَّر على سبيل المثال عبارة النفري الدالة: كُلَّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)، حتى الحواس الخمس التي لمسنا فعلها ونشاطها في القصائد السابقة من هذا الكتاب (س٣٣–٣٦) ستندمج هنا في حاسة واحدة أو حسٍّ حدسيٍّ قادر على الرؤية والنفاذ والارتفاع بصاحبه — بغير وسيط لغوي ولا إدراكي — إلى رحاب الألوهية، و«الدوائر الأبدية التي تنفذ فيها كلمة الله بصورة خالصة حية» (س٣٧–٤٠). ونرتفع على السُّلم الصاعد إليها درجةً درجة، مدفوعين بأقوى وأسمى الدوافع، وهو الحب (٤١–٤٤). وهناك يتلقَّفنا النور الإلهي الذي «يُذِيبنا» فيه كما يُذِيب كل «موناد» (بلغة ليبنتز)؛ أي كل موجود متفرِّد يحثُّه الشوق للاتحاد بالروح الكلية، أو يدفعنا للرجوع ﻟ «الواحد» الأسمى (بلغة أفلوطين) الذي فاض عنه العالم الروحي والعالم المادي بطبقاتهما المختلفة؛ لأنه هو المنبع الأصلي أو مركز الإشعاع الأول. وكل هذه صُوَر طالما التقينا بها في قصائد سابقة، ويُمكِن أن نجدها في أعمال أخرى عديدة كُلَّما تطرَّق الشاعر إلى «المسائل الأخيرة» — كما يُقال في الفلسفة — وبخاصة في أشعار الشيخوخة، كما نجد مثلًا في قصيدة «الواحد والكل» التي يقول في المقطوعة الأولى منها: «كي يجد الواحد نفسه في اللامحدود، سيطيب له أن يتلاشى فيه، عندئذٍ يتبدَّد كل سأم أو ضِيق، وبدلًا من الرغبة الحارَّة والإرادة الشرسة، بدلًا من الطلب اللحوح والواجب الصارم، ستُصبِح متعته في إنكار الذات.» وكذلك في المشهد الأخير من القسم الثاني من فاوست، ثم في قصائد سابقة عديدة من الديوان الشرقي نفسه، مثل القصيدة القصيرة من مجموعة القصائد تحت عنوان تمائم، وتحمل رقم ٥ من كتاب المغنِّي، وتقول: «ما فكَّرت في شأن من شئون دنياي، إلا خرجت منه بالنفع العظيم، ومهما حدث فالروح لا تتناثر كالغبار؛ لأنها في أعمق أعماقها ترتفع إلى أعالي السماء.» ومثل الأبيات الأربعة من القصيدة الكبرى وصية الديانة البارسية، ص٦٩–٧٢، والقصيدة رقم ٤ من القصائد التي جُمعت ونُشرت بعد وفاة الشاعر: «ألا يحق لي أن أستخدم تشبيهًا كما يحلو لي، والله نفسه قد ضرب مثلًا للحياة من البعوضة؟! ألا يحق لي أن أستخدم تشبيهًا كما يحلو لي، والله يتجلى لي في عيون حبيبي على سبيل التشبيه؟» وأخيرًا وقبل كل شيء وبعد كل شيء في قصيدة «حنين مبارك» من كتاب المغنِّي، التي نرجع إليها دائمًا كُلَّما صعدنا مع الشاعر إلى المناطق العلوية من الوجود!
والمهم أن هذه القصيدة بمثابة الذروة الأخيرة للموضوع الذي عالَجه الديوان في تنويعات مختلفة؛ لأنه يمثِّل عمود رؤيته الدينية والكونية الشاملة التي يرقى فيها الحب شيئًا فشيئًا حتى يتحول إلى حب روحي شفاف — دون أن يتخلى تمامًا عن جذوره الأرضية والبشرية! — وكأن هذا التصاعد إلى المستويات العليا يقترن بالحنين المُتزايد أيضًا نحو النجاة أو الخلاص، وكأن الإنسان يبلغ مع ارتقائه درجات الحب شكلًا أسمى جديدًا من أشكال وجوده، بحيث يُصبِح الحب هو «الحس الباطن» الذي يُستغنى به عن بقية الحواس الخمس (س٣٣–٣٦ من هذه القصيدة)، وينفذ به في صميم العالم وسرِّه القائم على الحب؛ لكي يتلاشى فيه أخيرًا، أو يتخلى عن إنسيَّته ويذوب ذوبان قطرة الماء في المنبع الذي خرجت منه، والشعاع في نور الشمس التي انطلق منها.
(١٠) أهل الكهف السبعة
ربما يكون الشاعر قد تعمَّد وضع هذه القصة المعروفة في التراث المسيحي (وهو عصر الشهداء في منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، وعلى عهد الإمبراطور الروماني دقيوس) والتراث الإسلامي، وبالأخص في سورة الكهف في القرآن الكريم، بالإضافة إلى بعض المصادر التي اطَّلع عليها أثناء عمله في الديوان (مثل كنوز الشرق ليوسف فون همَّر، ج٣، ص٣٤٧ نقلًا عن النص الإنجليزي لقصة النائمين السبعة لريتش)، أقول ربما يكون قد وضع هذه القصة الشهيرة (أو بالأحرى الحكاية الخارقة كما يسمِّيها أساتذة الأدب والمأثور الشعبي!) قبل القصيدة التي يختتم بها الديوان كله لكي يُضفي عليه طابعًا مرحًا لطيفًا لا يخلو مع ذلك من مغزًى دالٍّ على ما هو عجيب ومقدَّس. بهذا قدَّم لقارئه — قبل توديعه له — قصة شعرية مطوَّلة ذات إيقاعات «ترويخية» رباعية سلِسة وخالية من التقفية، ومُفعَمة بحيوية متدفِّقة تجعل منها حكاية أو ترنيمة شعرية — بالاد — تُضاف إلى حكاياته الرائعة السابقة التي تزخر بكل مقوِّمات القصة الشعرية وتفصيلاتها ومَشاهدها ولهجة الخِطاب والحوار الحي فيها. ويُلاحَظ أن هذه الحكاية الشعرية تعبِّر أيضًا عن روح الديوان؛ إذ تتناول حدثًا خارقًا يُمكِن أن يمثِّل حدًّا أو بداية نرتفع منها — من خلال عالمنا الأرضي نفسه — إلى منطقة الألوهية التي تعلو عليه، وكأنما نلمس هنا للمرة الأخيرة نفس الخشوع الذي لمسناه تجاه كل الموجودات من أصغرها إلى أعظمها شأنًا؛ لأن العالي اللامحدود يتجلى حضوره فيها بأشكال مختلفة. والطريف في هذه القصيدة القصصية أننا نجد فيها بعض التفصيلات التي خلت منها — على حد علمي — المصادر الإسلامية المعروفة، كما خلت منها رائعة توفيق الحكيم رحمه الله.
وأفيسوس (٥٥) مدينة أسَّسها الإغريق على ساحل بحر إيجه في آسيا الصغرى، وبها إلى اليوم آثار قبور يُظَن أنها كانت مقبرة أهل الكهف.
(١١) طابت ليلتكم
يدل عنوان هذه القصيدة الخاتمة للديوان على أمل الشاعر المودِّع لنا نحن قُراءَه وللحياة في أن يُبارِكه جبريل كما بارك أهل الكهف وأظلَّهم برعايته وحنانه (٤-٥) في المطوَّلة السابقة، وهو يتمنى كذلك أن يخلِّصه من الحاضر ويرقى به إلى مملكةٍ يحيا فيها في صحبة الأبطال من كل زمان، وينمو فيها الجمال ويتجدَّد، وليست هذه المملكة في الحقيقة إلا مملكة الفن أو العمل الفني والأدب العالمي بوجه عام؛ ومن ثَم يكون الأبطال الذين يقصدهم هم أبطال الفن والأدب لا أبطال القتال والحرب! وهو يتوق أخيرًا إلى أن يصحبه شعره إلى هذه المملكة الخالدة، التي سيسعد فيها بوجوده في نادي المُبدِعين — كما يعبِّر يحيى حقي رحمه الله — أو جمهورية المفكِّرين كما يقول ياسبرز فيلسوف الوجود المعروف، ولكنه لا يكتفي بذلك، وإنما يتمنى في النهاية أن يأخذ معه قطمير الطيب الذي كان نِعمَ الرفيق لأصحاب الكهف والرقيم.