الدماغ البشري
وحدة الوعي
يقال إن الدماغ البشري هو أكثر الأشياء تعقيدًا في العالم الذي نعرفه؛ ومقارنةً بوزن الجسم، فإن الدماغ البشري أكبر بكثيرٍ من جميع أدمغة الكائنات الأخرى؛ فهو أكبر ٣ مرات مما قد تتوقَّع إذا ما قارنْتَه بدماغ أقرب الكائنات إلينا وهي القردة العليا. يزن دماغ الإنسان نحو كيلوجرام ونصف، ويتكوَّن من أكثر من مليار خلية عصبية ومليارات الوصلات العصبية، ومن تلك الوصلات تظهر قدراتنا الاستثنائية؛ مثل الإدراك الحسي، والتعلُّم، والذاكرة، والتفكير، واللغة، والوعي — بصورةٍ ما.
نعرف أن الدماغ وثيق الصلة بالوعي؛ لأن حدوثَ تغيُّرات في الدماغ يؤدِّي إلى حدوث تغيُّرات في الوعي. على سبيل المثال: العقاقير التي تؤثِّر في أداء الدماغ تؤثِّر أيضًا في التجارب الذاتية؛ فتحفيز مناطق صغيرة من الدماغ يمكن أن يؤدِّي إلى حدوث تجارب معيَّنة مثل الهلاوس أو الأحاسيس الجسدية أو الاستجابات الانفعالية، علاوةً على أن حدوث تَلفٍ في الدماغ يمكن أن يؤثِّرَ تأثيرًا هائلًا في وعي الفرد. هذا الأمر نعرفه جيدًا، لكن ما لا نعرفه بعدُ هو السببُ الذي يجعلنا واعين من الأساس.
بطريقةٍ أو أخرى، يبدو أن الدماغ غير مصمَّم بالطريقة التي تناسِب إنتاجَ نوعِ الوعي الذي نمتلكه، وأكثر ما يميِّز الدماغَ أنه متوازٍ وموزَّع في تصميمه؛ تصل المعلومات إلى الدماغ عن طريق الحواس، وتُستخدَم للتحكُّم في الكلام والأفعال وغيرها من المُخرَجات، لكن لا يوجد تنظيم مركزي؛ فلا يوجد مكان مركزي داخلي تحدث فيه الأشياء ذات الأهمية الكبرى. يشبه الدماغ شبكةً هائلةً — أو تجمُّعًا هائلًا من الشبكات المتداخِلة — أكثر مما يشبه كمبيوترًا شخصيًّا ذا معالج مركزي. لا يوجد شيء مركزي في دماغ الإنسان؛ فهناك مناطقُ مختلفةٌ في الدماغ مسئولةٌ عن البصر والسمع والكلام وصورة الجسم وضبط الحركة والتخطيط المستقبلي وغيرها من المهام التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وكل هذه المناطق يرتبط بعضها ببعض، لكن هذا لا يحدث عن طريق إرسال كلِّ شيء إلى معالج مركزي، بل عن طريق ملايين الوصلات المتداخِلة التي تملأ المكان.
في المقابل، يبدو الوعي البشري موحَّدًا، وعادةً ما تُوصَف «وحدةُ الوعي» هذه بثلاثِ طرق مختلفة؛ والطريقة المعتادة للتفكير في الوعي — وهي صورة المسرح أو تيار التجارب — تتضمَّن الطرقَ الثلاث.
الطريقة الأولى: تقوم هذه الطريقة على أنه في أي وقت من الأوقات تتوافر وحدة تجمَعُ تلك الأشياءَ التي أمرُّ بها الآن؛ بمعنى أن بعضَ الأشياء تكون داخل وعيي، وبعضها لا يكون كذلك، الأشياء الموجودة بالداخل تُسمَّى «محتويات الوعي»، وتكوِّن تجاربي الحالية في التيار أو العرض على خشبة المسرح. الطريقة الثانية: يبدو الوعي موحَّدًا على مدار الوقت، بمعنى أنه يبدو أن هناك استمراريةً من لحظة إلى اللحظة التي تليها، أو حتى على مدار فترة زمنية كاملة من تجارب الوعي. الطريقة الثالثة: محتويات الوعي هذه تختبرها الذات نفسها؛ بعبارةٍ أخرى، هناك مُجرِّب واحد، وأيضًا تيار من التجارب.
لا بد إذن لعلم الوعي الناجح أن يفسِّرَ محتويات الوعي، واستمرارية الوعي، والذات التي تُوصَف بأنها واعية، ولا بد أن تكون نقطةُ انطلاقِه لفعل ذلك هي الدماغ اللامركزي المتوازي المتفرع. سنعود إلى مسألة الذات، لكننا سنكتفي الآن بالفكرة التي تبدو في ظاهرها بسيطة، وهي أن هناك محتوياتٍ للوعي.
تتمثَّل النقطة المهمة هنا في أن معظم ما يحدث في الدماغ البشري يبدو كأنه يحدث خارج الوعي ولا يمكن للوعي أن يصل إليه؛ فنحن نرى الأشجارَ تتمايل أثناء هبوب الرياح، لكننا لسنا واعين بكل النشاط الكهربي السريع الذي يحدث في القشرة البصرية التي تؤدِّي بنا إلى هذا الإدراك. وعندما نجلس أمام جهاز الكمبيوتر ونحن واعين لنردَّ على إحدى رسائل البريد الإلكتروني، فإننا نكون غيرَ واعين بالطريقة التي تكتب بها أيدينا الكلمات، أو المصدر الذي تأتي منه هذه الكلمات. وعندما نلعب مباراة تنس طاولة، فإننا نسعى جاهدين عن وعيٍ للفوز دون أن ننتبه إلى التحكُّم البصري الحركي الذي يمكِّننا من الفوز.
في جميع هذه الحالات، تكون كل خلية من خلايا دماغنا، إلى جانب مليارات الوصلات العصبية، نَشِطة؛ بعضها يطلِق النبضاتِ الكهربيةَ على نحوٍ أسرع، والبعض الآخَر على نحو أبطأ، اعتمادًا على ما نقوم به. غير أن معظم هذا النشاط لا يحدث مطلقًا في تيار الوعي أو في مسرح عقلنا؛ لذلك فنحن نقول عنه إنه يتم في العقل الباطن أو اللاوعي، أو نُحِيله إلى هامش الوعي.
لكن ما الذي يعنيه هذا حقًّا؟ تكمن المشكلةُ في أن هذا التمييز يتضمَّن وجودَ فرق سحري بين الأشياء الموجودة في الوعي وتلك الموجودة في اللاوعي؛ فهل نشاط الدماغ الذي يتمُّ في الوعي تتحكَّم فيه روح خارقة أو ذات غير مادية، كما يمكن أن يعتقد أي شخص مؤمن بنظرية الثنائية؟ وهل هناك مكان خاص في الدماغ يحدث فيه الوعي؟ وهل هناك أنواع خاصة من «الخلايا العصبية الخاصة بالوعي» تُنتج تجاربَ واعيةً، في حين لا تفعل الخلايا الأخرى ذلك؟ وهل هناك طُرُقٌ معيَّنة للربط بين الخلايا العصبية وتلك التي يترتب عليها إنتاج الوعي؟ أم ماذا؟ كما سنوضِّح، هناك نظريات خاصة بالوعي مقابِلة لكلِّ هذه الاحتمالات، لكن كلها بها أَوْجهُ نقص خطيرة.
وأخيرًا، يبدو وكأنَّ السؤال الذي نطرحه هو: هل نحن نصارع من أجل تأكيد صحة مفهومنا الشائع عن الوعي بأنه يشبه مسرحًا أو تيارًا من التجارب، أم أننا نتخلَّى عن كل طرقنا التقليدية للتفكير فيه ونحاول أن نبحث عن مفهوم جديد؟ من الأفضل أن نضع هذا السؤال في اعتبارنا بينما نتأمَّل بعضًا من نتائج الأبحاث المدهِشة التي تربط الوعي بعمل الدماغ.
الحس المواكب
يسمع بعض الناس أشكالًا، أو يرون أصواتًا أو يلمسونها، وهذا الشكل الغريب من الوعي الموحَّد شائع على نحو مثير للدهشة؛ فالعديد من الأطفال الصغار يعانون من تلك الحالة، لكنَّ تأثيراتها غالبًا ما تختفي مع تقدُّمهم في العمر، تاركةً نحو شخصٍ من كلِّ ٢٠٠ شخص بالغ يعاني من تلك الحالة. تنتقل تلك الحالة بالوراثة بين أفراد العائلات، وهي شائعة أكثر بين النساء، وبين مَن يكتبون بيدهم اليسرى، ويرتبط بوجود ذاكرةٍ جيدةٍ لكن تصحبها قدرات رياضية ومكانية ضعيفة. وهو شائع على نحوٍ خاصٍّ بين الشعراء والكتَّاب والفنَّانين.
في أكثر أشكال تلك الحالة شيوعًا، دائمًا ما يتمُّ الربطُ بين الأرقام أو الأحرف والألوان. ولا يمكن كَبْتُ تلك التجارب عن وعي، وعند إخضاع مَن يعانون من تلك الحالة بعد أعوامٍ عديدة من معاناتهم لاختبارات، فإن معظمهم يذكرون أنه ينتج عن نفس المثير نفسُ الأشكال أو الصور أو الألوان. وكثير من هؤلاء يخفون قدراتهم هذه، ولوقت طويل شكَّ علماء النفس في وجود هؤلاء، لكنَّ الأبحاثَ الحديثة أكَّدَتْ شيوعَ تأثيرات تلك الحالة وثباتها.
ربما يمتلك مَن يعاني من تلك الحالة وصلاتٍ عصبيةً كبرى بين مناطق الإحساس المختلفة بالدماغ، ويرى اختصاصيُّ علم النفس العصبي الأمريكي في إس راماتشاندران أنه نظرًا لأن الأرقام والألوان تتمُّ معالجتهما في مناطق متجاورة في الدماغ، فإن هذا قد يفسِّر أكثرَ أشكالِ تلك الحالة شيوعًا.
الملازمات العصبية للوعي
كلنا أحسَّ بالألم. إن الألم تجربة فظيعة؛ فهو شعور مزعج لا نحبه، لكن ماذا عن ماهية هذا الشعور؟ إن الألم نموذج مثالي لفهم الملازمات — أو الأُسُس — العصبية للوعي؛ أي الأحداث التي تتم في الدماغ التي تلازم، أو ترتبط بالتجارب الذاتية.
على الجانب الشخصي، إن الألم تجربة خاصة على نحو مثالي؛ فلا يمكننا وصفُ ألمنا لأحدٍ، ولا يمكن أن نعرف مدى شدة الألم الذي يشعر به شخص آخَر، إلا بمراقبة سلوكه، وحتى عند قيامنا بهذا فقَدْ نعتقد أنه يحاول خداعَنا، على الرغم من أننا لا يمكننا أبدًا التأكُّد من الأمر. ولا يمكننا تذكُّر الشعورِ الذي نحسُّ به عندما نتألَّم بمجرد أن يذهب هذا الألم. في واقع الأمر، عادةً ما يقال إنه ما من امرأةٍ يمكن أن تُنجِبَ طفلًا ثانيًا إذا كان بإمكانها تذكُّر الآلام التي شعرَتْ بها عند ولادة طفلها الأول. وأخيرًا، فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن نعرف بها حقًّا شكلَ الألم هي أن نعاني منه الآن.
على الجانب غير الذاتي، يحدث الألم — على سبيل المثال — عندما يُجرَح جزء من الجسم؛ فتحدث تغيُّرات كيميائية عديدة في موضع الجرح، ثم تمر الإشارات العصبية عبر الخلايا العصبية المتخصصة التي تُسمَّى «الألياف العصبية سي العديمة الميالين» إلى الحبل الشوكي، ومن هناك إلى جذع الدماغ والمِهاد والقشرة الحسية الجسدية (التي تتضمَّن خريطةً بها كلُّ مناطق الجسم) وقشرة الدماغ الحِزامية. وتوضِّح عمليات تصوير الدماغ أن هناك ارتباطًا قويًّا بين قدر الألم وقدر النشاط الذي يحدث في تلك المناطق؛ بعبارة أخرى، نحن فهمنا هنا بعضًا من الملازمات العصبية للألم.
الآن، من المهم أن نتذكَّرَ أن «الارتباط لا يعني السببية»، فمن السهل أن ننزلق من الارتباطات إلى نتائج خاطئة فيما يتعلَّق بالسببية، كما في المثال البسيط التالي: افترض أن فريدي لديه عادةُ الدخولِ إلى غرفة المعيشة وفتح التليفزيون، تقريبًا في كلِّ مرة يفعل فيها ذلك، سرعان ما يتبع ذلك بَدء مسلسل الكَرْتُون «عائلة سيمبسون». عندما يدخل أناس آخَرون إلى غرفة المعيشة ويفتحون التليفزيون، فإن فقراتٍ مختلفةً تمامًا تُعرَض على التليفزيون. لو كان الارتباط يعني السببيةَ، لَكان يجب علينا أن نخلص إلى أن ما يقوم به فريدي هو السبب في عرض مسلسل الكَرْتُون. في تلك الحالة، بالطبع، نحن لا نقع في هذا الفخ، لكنَّنَا نفعل ذلك في العديد من الحالات الأخرى.
ماذا عن الألم؟ ربما تتسبَّب التغيُّراتُ الجسمية في الألم، وفي هذه الحالة يكون علينا حل المشكلة الصعبة، وربما يتسبَّب الألم في التغيُّرات الجسمية، وفي هذه الحالة نحتاج إلى نظرية خارقة للطبيعة، وربما حدث شيء آخَر سبَّبَ كليهما، وفي هذه الحالة نحن لا نعرف ماهيةَ هذا الشيء، أو ربما كان كلاهما الشيءَ نفسَه. يؤيِّد العديدُ من الماديين التفسيرَ الأخير، لكن إذا كان هذا التفسيرُ صحيحًا، فنحن ليست لدينا مطلقًا أي فكرة عن كيف يمكن أن يكون صحيحًا؛ إذ كيف يمكن لهذا الشعور المخيف الفظيع غير المرغوب فيه والمحرج أن يكون هو نفسه إطلاق النبضات الكهربية لبعض الألياف العصبية سي العديمة الميالين؟
يوضِّح هذا السؤال عُمْقَ جهلنا الحاضر فيما يتعلَّق بالوعي، لكننا يجب ألَّا نيأس؛ فالعلم لديه عادة حل المشكلات التي تبدو مستحيلة، وقد يفعل ذلك ثانيةً هنا، فدعونا نُلقِ نظرةً على بعض أفضل التجارب التي وُضِعت من أجل سبر أغوار الملازمات العصبية للوعي؛ في هذه الحالة، الوعي البصري.
تقدِّم مثل هذه الأشكال الغامضة فرصةً مثاليةً لدراسة الملازمات العصبية لتجارب معينة؛ على سبيل المثال، ربما نكون قادرين على تحديد مناطق الدماغ التي يحدث فيها تغييرٌ عندما تتغيَّر التجربةُ، وربما يعني هذا أننا وجدنا المنطقةَ حيث دخلَتْ إدراكاتُنا الحسية في دائرة الوعي، أو حدَّدْنا الخلايا العصبيةَ الخاصة بنوع الوعي محل البحث، أو حدَّدْنا مركزَ الوعي البصري.
هل هذا يعني أن المشكلة قد حُلَّتْ وأننا قد عرفنا المكانَ الذي يحدث فيه الوعي في الدماغ؟ يبدو أن بعض الباحثين يفكِّرون هكذا؛ على سبيل المثال، يعتقد تشالمرز أن الوعي ينتج في تلك المناطق، ويرى راماتشاندران أن تلك الخلايا الدماغية هي التي تنتج التجارب الواعية الذاتية بخلاف الخلايا الدماغية الأخرى. على نحوٍ مماثلٍ، خَلَصَ فرانسيس كريك (١٩١٦–٢٠٠٤)، عالم الفسيولوجيا الحائز جائزةَ نوبل، إلى أننا لسنا واعين بعملية المعالجة في مناطق الإحساس الأولية، وأننا واعون فقط بالنتائج اللاحقة لتلك المعالجة.
لكن المشكلة الأساسية تبقى كما هي؛ فنحن ليسَتْ لدينا أي فكرةٍ عمَّا يعنيه القولُ بأن بعض الخلايا العصبية هي التي تُنتج التجارب الواعية الذاتية، أو أن الوعي يَنتج في منطقة معيَّنة من الدماغ؛ فعندما نكتشف الخلايا الدماغية المرادة، يجب أن نسأل: كيف هذا؟ ولماذا؟ وما الاختلاف الكبير الذي يُحدِثه هذا الأمر؟ وكيف يمكن لبعض الخلايا أن تُنتج التجاربَ الذاتية، ولا يمكن ذلك للبعض الآخر؟
إنه من المهم بالتأكيد معرفة مكان حدوث تلك العمليات، لكن الارتباطات وحدها لا تحل اللغز؛ في واقع الأمر، إنها تجعلنا ندرك بوضوحٍ أكبر أنه لغز.
الأدمغة التالفة
تحدث السكتة الدماغية عندما يحدث انسدادٌ في الأوعية الدموية الدماغية وتتعرض الخلايا العصبيةُ المحرومة من الأكسجين للتلف، وكثيرًا ما يتسبَّب هذا في شللٍ في الجانب العكسي من الجسم لجانب الدماغ الذي حدثَتْ فيه الإصابة، أو العمى، أو مشكلاتٍ أخرى في جانب واحد. يسهُل فهم ذلك لأن الجانب الأيسر من الدماغ يتحكَّم في الجانب الأيمن من الجسم، وهو يرى الجانبَ الأيمن من العالم المرئي (أي إنه لا يتحكَّم في العين اليمنى، لكن في كل شيء يُرَى إلى يمين المنتصف). لكن هناك تأثير أكثر غرابةً يحدث أحيانًا مع حدوث تلف في الجانب الأيمن من الدماغ؛ أَلَا وهو العمى النصفي.
لا يفقد المصابون بتلك الحالة بعضَ القدرات فحسب، وإنما يبدو أنهم يفقدون نصفَ عالَمِهم؛ لا يقتصر هذا على أنهم لا يستطيعون الإبصارَ عندما ينظرون ناحيةَ الجانب الأيسر من إحدى الغرف أو الصور، وإنما يبدو أنهم لا يدركون أن هناك جانبًا أيسر. يصبح هذا واضحًا من خلال سلوكهم الغريب؛ على سبيل المثال، قد يأكلون فقط الطعامَ الموجود على الجانب الأيمن من طبقهم، ويتجاهلون تمامًا الباقي حتى يدير أحدُ الأشخاص الطبقَ لهم، وربما يحلقون فقط الجانبَ الأيمن من ذقنهم، أو يتفاعلون فقط مع الزائرين الذين يقفون على يمينهم.
أجرى عالم الأعصاب الإيطالي إدواردو بيزياك تجربةً فريدةً على هؤلاء المرضى؛ فقد طلب منهم تخيُّلَ ميدان الكاتدرائية الشهيرة في ميلانو، الذي كانوا جميعًا يعرفونه جيدًا. كان عليهم أولًا وَصْفُ ما سيرونه إذا كانوا قد وصلوا إلى الكاتدرائية من الجانب الشمالي؛ لقد وصفوا جميعُهم المبانيَ والمحلات والمقاهي العديدة الجميلة التي رأَوْها على يمينهم، في حين تجاهلوا تمامًا أيَّ شيء على يسارهم إذا كانوا يقفون في هذا الموضع، ولم يستطع بيزياك أن يجعلهم يخبرونه بما كان هناك، لكنه بعد ذلك دعاهم لتخيُّلِ القدوم إلى الميدان من الجانب المقابل، وهنا وصفوا بدقةٍ كلَّ المباني التي كانوا قد تجاهَلوها في البداية، ونسوا تلك التي كانوا قد تذكَّروها.
ما الذي يحدث هنا؟ من الصعب علينا جدًّا تصديق أن التجربةَ البشرية يمكن أن تتجزَّأ هكذا؛ فنحن نفضِّل أن نتخيَّل أننا بالتأكيد إذا أُصِبنا بسكتة دماغية، فإننا سندرك الخطأَ السخيف الذي وقعنا فيه ونجمع الجانبين معًا، لكن من الواضح أن هذا لا يحدث أبدًا؛ فمن منظور هؤلاء الأشخاص، يختفي نصفُ العالم تمامًا، ولا توجد ذاتٌ واعيةٌ أعلى يمكنها التغلُّب على المشكلة.
إن الذاكرة أيضًا شيء يمكن ببساطة أن نعتبره أمرًا مسلَّمًا به حتى نعاني من آثار فقدانه. هناك نوعان أساسيان من الذاكرة: ذاكرة قصيرة المدى، وذاكرة طويلة المدى. لكنَّ هذا التقسيم العام يمكن أن يُخفِيَ الأشكالَ العديدة المختلفة والدقيقة من الذاكرة المرتبطة بمهامَّ وقدراتٍ معيَّنة، وهذا مهم لدى الأشخاص الأكبر سنًّا الذين قد تضعف قدرتُهم على تذكُّرِ الأحداث الماضية، لكنهم قد يكونون قادرين على التعرُّف على الأماكن، وتذكُّرِ المهام الروتينية، وتعلُّمِ مهاراتٍ حركية جديدة. كذلك، عندما يحدث تلفٌ في مناطق صغيرة من الدماغ، فإن هذا يمكن أن يؤثِّرَ في أنواع متخصِّصة جدًّا من الذاكرة. ومع ذلك، فإن أكثر أشكال فقدان الذاكرة حدَّةً وأكثرها إثارةً للاهتمام عند دراسة الوعي هو فقدان الذاكرة التقدُّمي أو اللاحق للإصابة.
عادةً ما تقع تلك الحالةُ عندما يحدث تلفٌ في الحُصَين (وهو جزء من الجهاز الحوفي الدماغي)، سواء أكان السببَ في هذا متلازمةُ كوراسكوف التي تحدث نتيجة التسمُّم الكحولي أم السبب فيه جراحة أو مرض أم التعرض لحادثة أدَّت إلى حرمان الدماغ من الأكسجين. وتكون النتيجة أن الشخص يحتفظ بالذكريات الموجودة بالفعل في الذاكرة القصيرة المدى والذاكرة الطويلة المدى لديه، لكنه يفقد القدرةَ على الاحتفاظ بذكرياتٍ جديدةٍ في الذاكرة الطويلة المدى؛ ومن ثَمَّ فإن بقية حياته تكون على شكل حاضر يستمرُّ لبضع ثوانٍ ثم يختفي ولا يتذكر عنه شيئًا.
كان إتش إم من أشهر الحالات المصابة بفقدان الذاكرة التقدُّمي التي تمَّتْ دراستُها؛ فقد تمَّ استئصالُ منطقتَيِ الحُصَين لديه في عام ١٩٥٦ في محاولةٍ يائسةٍ للسيطرة على حالة الصرع الشديدة التي كان يعاني منها، وقد انتهى به الأمر بحالة فقدان شديد للذاكرة؛ فقد كان بإمكانه تعلُّم مهاراتٍ جديدةٍ، وأصبح أسرع إدراكًا لمثيراتٍ معيَّنة، لكنه كان دائمًا ما ينكر أداءَه للمهام التي قام بها. سي دبليو كان موسيقيًّا فقَدَ ذاكرتَه بسبب الْتهاب الدماغ، وبعد المرض ظلَّ بإمكانه الاستمتاع بالموسيقى وقراءة النُّوَت الموسيقية وعزفها وحتى توجيه الكورَس، لكن لم يكن بإمكانه تذكُّر البروفات أو أيِّ أحداثٍ أخرى حدثَتْ له منذ مرضه.
يصف عالم الأعصاب أوليفر ساكس تجربتَه مع جيمي جي الذي كان أحد ضحايا متلازمة كوراسكوف، والذي كان يعتقد وهو في التاسعة والأربعين من عمره أنه لا يزال في التاسعة عشرة، وقد ترك لتوِّه البحرية. وبدافع من الفضول، أَراه ساكس صورتَه في المرآة، لكنه سرعان ما ندم على ما فعل عندما تملَّك جيمي الخوف والحيرة عند رؤية وجهه الذي يوجد به شعر رمادي. هذا ما جعل ساكس يقوده بسرعةٍ إلى النافذة ليرى بعضَ الأطفال وهم يلعبون بالخارج، وقد هدَّأ هذا من روع جيمي وبدأ يبتسم وتركه ساكس متسلِّلًا، وعندما عاد حيَّاه جيمي كما لو أن ساكس شخص غريب تمامًا.
كيف يكون الحال عندما تعاني من فقدانٍ شديدٍ للذاكرة؟ هل إتش إم وسي دبليو وَاعِيان بالكامل أم أنهما واعيان بطريقة مختلفة؟ أم ما حقيقة هذا الأمر؟ إذا استطعنا اكتشاف الوعي أو قياسه أو حتى تعريفه على نحوٍ صحيحٍ، فقد نحصل على إجابات محدَّدة، لكن كل ما نستطيع فعله هو ملاحظة سلوك الناس والاستماع لما يقولونه. ومن خلال ملاحظة هاتين الحالتين، فمن الواضح أنهما واعيان في بعض الجوانب؛ فهما مستيقظان ومنتبهان ومهتمَّان بما يحدث حولهما، ويمكنهما وصْفُ ما يشعران به، غير أن تجربتهما في جوانب أخرى مختلفة تمامًا.
في مذكرات سي دبليو، كتب الكلمات التالية أكثرَ من مرة: «لقد أصبحتُ واعيًا لتوِّي للمرة الأولى.» في حين تعجَّبَ آخَرون أكثر من مرة قائلين: «لقد استيقظتُ لتوِّي!» ربما كلنا يعرف هذا الشعورَ القوي بأننا أصبحنا فجأةً واعين بما يدور حولنا، كما لو أننا كنَّا نحلم أو مستغرقين في التفكير؛ هذا الشعور بالاستفاقة قد يثيره جمال ما يوجد حولنا أو كلمة معيَّنة أو تعليق محدَّد أو سؤال أحدنا نفسه: «هل أنا واعٍ الآن؟» أيًّا كان السبب، فقد تكون لحظة غريبة وخاصة، لكن تخيَّلْ كيف تعيش حياةً عبارة عن يقظة دائمة لا يمكنك أبدًا تذكُّرُها.
إن مثل هذه الحالات تجعلنا نتأمَّل استمراريةَ الوعي؛ ففي حين أن مَن يعانون من فقدانٍ للذاكرة قد يرون الحاضرَ كتيَّار موحَّد من الوعي مثل أي شخص آخَر، وحتى إنهم قد يشعرون أن تجربتهم مستمرَّة من لحظة لأخرى، فإنه لا يمكن أن تكون لديهم أي فكرة عن التحوُّل إلى اليوم من الأمس، أو التخطيط للمستقبل المتصل بماضيهم؛ فإن كنتَ تؤمن بوجود أي شكل من أشكال الذات الداخلية أو الروح، فإن تلك الحقائق سيكون من الصعب التعامُل معها. فهل هناك ذات حقيقية في مكانٍ ما تتذكَّر كلَّ شيء لكن لا يمكنها عرضه على الدماغ التالف؟ هل الروح أو الذات قد تعرَّضَتْ لتلفٍ هي الأخرى، على نحوٍ متوازٍ تمامًا مع التلف المادي الذي حدث في الدماغ؟ الشيء الأكثر احتمالًا هو أن إدراكنا بوجود ذاتٍ لها وعيٌ مستمرٌّ، ينتجه على نحوٍ ما دماغٌ يعمل على نحوٍ متكامل، لكن كيف يكون هذا؟
قد تساعدنا تلك الحالات في تأمُّل مدى الارتباط بين تجاربنا الذاتية والدماغ؛ فهناك أشكال أكثر غرابةً من تلف الدماغ تتحدَّى فكرةَ وحدةِ الوعي.
الرؤية دون وجود قدرةٍ على الرؤية
دي إف مريضة بحالة تُسمَّى العمَه البصري، وعلى الرغم من قدرتها الأساسية على الرؤية ورؤية الألوان طبيعية، فإنها لا تستطيع التعرُّفَ على أشكال الأشياء أو أنماطها، أو تسمية أبسط الرسومات الخطية، أو تمييز الحروف أو الأرقام، لكنها تستطيع الوصولَ إلى الأشياء التي تستخدمها يوميًّا والإمساك بها بدقةٍ ملحوظة، حتى إن كانت لا تستطيع تعريفَ تلك الأشياء.
في تجربة مثيرة، عُرِضت عليها سلسلةٌ من الفتحات — مثل الفتحة التي تضع فيها الخطاب الذي تريد أن ترسله — وطُلِب منها رسمُ اتجاهِ الفتحة أو ضبْطُ أحدِ الخطوط مع زاوية الفتحة؛ لم تستطِع القيامَ بأيٍّ من هذا، لكنها عندما أُعطِيَتْ بطاقة، استطاعَتْ بسهولة محاذاتها مع الفتحة وإدخالها فيها.
للوهلة الأولى، ربما يبدو هذا كما لو أن تلك المريضة قادرة على الرؤية (لأنها استطاعت إدخال البطاقة) دون أن تمر ﺑ «التجربة الفعلية» للرؤية؛ سيوحي هذا بعدم وجود ارتباط بين الرؤية والوعي، كما لو أنَّ هذه السيدة زومبي بصري. تعتمد تلك النتيجة على طريقتنا الطبيعية في التفكير في الرؤية والوعي، لكن الأبحاث أثبتَتْ أن تلك النتيجة خاطئة.
إن أكثر الطُّرُق الطبيعية في التفكير في الرؤية ربما تتمثَّل فيما يلي: تأتي المعلومات إلى العينين ويعالجها الدماغ؛ فيؤدِّي هذا إلى رؤيتنا الواعية لصورةٍ من العالم، وبناءً على ذلك يمكن أن نتفاعل معها. بعبارة أخرى، يجب علينا أن نرى شيئًا على نحوٍ واعٍ قبل أن نكون قادرين على التفاعل معه. وقد ثبَتَ أن الدماغ ليس مصمَّمًا بتلك الطريقة على الإطلاق، وإن كان كذلك، فما كان لنا أن نستمرَّ في هذه الحياة أبدًا. في واقع الأمر، هناك (على الأقل) تياران أو مساران بصريان متمايزان، لهما وظائف مختلفة.
يمتد التيار الجوفي من القشرة البصرية الأولية إلى الأمام حتى القشرة الصدغية، وهو مَعنِيٌّ ببناء إدراكات حسية دقيقة للعالم، لكن تلك الإدراكات قد تأخذ بعض الوقت؛ لذلك — على نحوٍ موازٍ مع هذا — يمتدُّ التيار الظهري حتى الفص الجداري، وهو مَعنِيٌّ بتنسيق التحكُّم البصري الحركي السريع. يعني هذا أن الأفعال السريعة التي يقودها البصرُ، مثل ردِّ الإرسال في لعبةٍ ما، أو الإمساك بكرةٍ، أو تجنُّبِ عائقٍ ما في الطريق؛ يمكن أن تحدث قبل وقت طويل من إدراكك للكرة أو العائق. لقد أصبحت حالة دي إف مفهومة الآن؛ فيمكن وصفها ليس بأنها عدم وجود ارتباط بين الرؤية والوعي، وإنما بأنها عدم وجود ارتباط بين الفعل والإدراك الحسي؛ فقد فقدَتْ تلك الحالة جانبًا كبيرًا من التيار الجوفي الذي يؤدِّي إلى الإدراك البصري، لكنها تحتفظ بالتيار الظهري المطلوب للتحكُّم البصري الحركي الدقيق، وقد أثبتَ العديدُ من التجارب الأخرى هذه الصورةَ العامة، وهي ترى أن طريقتنا الطبيعية للتفكير في الإبصار خاطئةٌ.
أما عن الاكتشاف الغريب، فيتمثَّل في أن وايسكرانتز عرَضَ على مريضه مجموعةً من الخطوط بزوايا مختلفة متعدِّدة، وطلب منه تحديدَ إذا ما كانت تلك الخطوط رأسية أم أفقية، ردَّ عليه المريض على نحوٍ طبيعيٍّ بأنه لا يعرف إن كانَتْ رأسيةً أم أفقيةً؛ لأنه كان لا يستطيع رؤية أي خطوط. لكن وايسكرانتز طلب منه أن يخمِّنَ الأمرَ، ومع أن المريض كان ممتعضًا لأنه أعمى في تلك المنطقة، فقد خمَّنَ؛ وكانت إجابته صحيحة في حوالي ٩٠٪ من المرات. بعبارة أخرى، لقد ادَّعَى أنه أعمى غير أن البيانات أوضحَتْ أنه يستطيع الرؤية. أطلق وايسكرانتز على هذه الحالة المتناقضة اسمَ «إبصار العميان».
تمَّ إجراءُ العديدِ من التجارب اللاحقة على المرضى الآخرين بهذه الحالة، وكانت النتائج متماثلةً؛ ففي حين أن البعضَ كان يُنكر أنه يرى أيَّ شيء على نحوٍ واعٍ، فإنه كان يستطيع تحريكَ عينَيْه تجاه الأشياء، أو الإشارة إلى مكانها، أو تقليد حركة الأضواء أو الأشياء في البقعة العمياء. في حين حدث لدى آخَرين اتِّسَاعٌ في حدقة العين وغيرها من الاستجابات الانفعالية للمثيرات، والعديد منهم كان يخمِّن على نحوٍ صحيحٍ لونَ المثيرات التي يقولون إنهم لا يستطيعون رؤيتَها.
يبدو إبصار العميان، للوهلة الأولى، عامِلًا حاسمًا بالنسبة إلى نظريات الوعي؛ فالحجة قد تسير على النحو التالي: إن مَن لديهم هذه الحالة لديهم رؤية موضوعية دون وعي ذاتي؛ أي هو زومبي جزئي يمكن أن يرى دون أن يمرَّ بالتجربة الواعية الذاتية للرؤية؛ وهذا يثبت أن الوعي شيءٌ خارجيٌّ منفصِلٌ عن الوظائف المادية للرؤية، كما يُثبِت أن التجربة الواعية الذاتية موجودةٌ، وأن الوظيفية والمادية على خطأ.
إذا كان هذا هو التفسير الصحيح، يبقى إبصارُ العميان ظاهرةً مدهشة، لكنها لا تُثبِت أن الوعي يمكن أن ينفصل عن عمليات الإبصار. فإذا كانت تلك الحالة تخبرنا بشيء عن الوعي، فهو أن مفهومنا التقليدي عن وجود تجربة بصرية مركزية واحدة ربما يكون خطأً تمامًا. كذلك، فإن كيفية وَعْينا بأي تجربة بصرية تبقى عصِيَّةً تمامًا على التفسير كما هو الحال دائمًا.