الوقت والمكان
توقيت التجربة الذاتية
هل يمكن أن يتأخَّر الوعي عن أحداث العالم الواقعي؟ ظهر هذا السؤال المحيِّر من واقع الأبحاث التي بدأها في ستينيات القرن العشرين عالمُ الأعصاب بنجامين ليبيت. أدَّتِ النتائجُ التي توصَّلَ إليها إلى ظهور نظريات عن «تأخُّر ليبيت» أو «تأخُّر نصف الثانية»، كما سنرى في الفصل الخامس، وتبعات ذلك على حرية الإرادة والمسئولية.
أجرى ليبيت أُولى تجاربه على مرضى تعرَّضَ سطحُ أدمغتهم لجراحةٍ ضرورية، وقد صرَّحوا له بتحفيز هذا السطح باستخدام أقطاب كهربية. كان معروفًا منذ فترةٍ طويلةٍ أن منطقة الدماغ المسمَّاة القشرة الحسية الجسدية تحتوي على خريطة للجسم، وأن تحفيز أيِّ جزءٍ منها يؤدِّي إلى الإحساس كما لو أن الجزء المرتبط به من الجسم قد تمَّ لمسه؛ فإذا تمَّ تحفيز القشرة الحركية يتحرَّك جزء من الجسم، وإذا تمَّ تحفيز القشرة البصرية تتمُّ رؤية أشياء، وهكذا.
استخدم ليبيت سلسلةً من عمليات التحفيز الكهربية المختلفة في الطول بَدءًا من بضعة ملِّي ثوانٍ (الملِّي ثانية يساوي واحدًا على ألفٍ من الثانية) وحتى أكثر من ثانية واحدة، وتوصَّلَ إلى ما يلي: مع تعرُّضِ المرضى لسلاسل قصيرة من النبضات الكهربية، لم يشعروا بأي شيء، لكن مع التعرُّضِ لنوبات أطول، ذكروا أنهم شعروا بشيء كلمسة على أذرعهم. أثبت ليبيت أن الأمر احتاجَ نصفَ ثانيةٍ من التحفيز الكهربي المستمرِّ حتى يمكن للمريض أن يقول: «أشعر بذلك.» بَدَا الأمر كما لو أن التجربةَ الواعية حدثَتْ بعد نصف ثانيةٍ من بَدء التحفيز.
وقد جاء إثباتُ تلك النتيجة الغريبة من خلال تجارب استُخدم فيها أسلوب لكبح أو حجب الأحاسيس الواعية، وقد كان من المعروف بالفعل أن تحفيزَ القشرة الحسية الجسدية بعد لمسةٍ حقيقيةٍ على الذراع يمنع الشعورَ باللمسة، لكن ليبيت حدَّدَ الوقت؛ فإذا حُفِّزَ الدماغ بعد اللمسة بأكثر من نصف ثانية، فإن المريض يكون باستطاعته الشعور باللمسة، أما إذا فُعِل ذلك قبل مرور نصف الثانية، فسوف يُطمَس الشعورُ باللمسة كما لو أنه لم يحدث قطُّ.
لقد كان التفسير الأكثر وضوحًا (على الرغم من أنه ليس بالضرورة الأكثر دقةً) هو أن إنتاج الوعي يحتاج إلى نصف ثانية من نشاط الخلايا العصبية. أطلق ليبيت على هذا: «كفاية نشاط الخلايا العصبية المطلوبة للوعي». هذا أمر غريب للغاية؛ فهو يعني أن الوعي يجب أن يتأخَّرَ في حدوثه عن أحداث العالم الواقعي؛ ومن ثَمَّ فهو لا قيمةَ له في الاستجابة لعالمٍ سريعِ الإيقاع. من المهم هنا أن ندرك معنى نصف ثانيةٍ في عالم الدماغ؛ فالإشارة الخاصة بلمسة حقيقية على الذراع تصلُ إلى الدماغ في واحد على مئاتٍ من الثانية، والأصوات تصلُ إلى هناك على نحوٍ أسرع. إن وقت الاستجابة القياسي لومضةٍ ضوئيةٍ يساوي نحو خُمْس ثانيةٍ، ويتضمَّن هذا تنشيطَ العديد من الخلايا العصبية لاكتشاف الضوء وتنسيق الاستجابة. يبدو ضربًا من الجنون أن يأتي الوعي متأخِّرًا هكذا في سير هذه العملية، لكن هذا ما بَدَا من نتائج تجارب ليبيت.
إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا لا ندركه؟ يتضمَّنُ تفسيرُ ليبيت للأمر ظاهرةَ «الإحالة الراجعة» أو «السبق الذاتي»؛ فهو يرى أن الوعي يحتاج بالفعل نصفَ ثانيةٍ من النشاط المتواصِل في القشرة، لكنه يُرجِع سببَ عدم ملاحظتنا لهذا التأخُّر إلى أن الأحداث يتمُّ إرجاعها إلى الوقت الذي يحدث فيه الحد الأدنى لنشاط الخلايا العصبية المطلوب للوعي؛ وهذا ممكن لأنه عندما نتعرَّضُ لمثيرٍ — على سبيل المثال: ومضة ضوئية أو لمسة سريعة — يحدث تأثيرٌ فوريٌّ في الدماغ يُسمَّى «الاستجابةَ المستدعاة». وطبقًا لنظرية ليبيت، عندما نشعر على نحوٍ واعٍ بلمسة على الذراع، فإن النشاط يزداد في القشرة الحسية الجسدية حتى يتم الوصول لكفاية نشاط الخلايا العصبية المطلوبة للوعي؛ وبمجرد الوصول إليها، فإن التوقيت الظاهري للَّمْسة تتمُّ إحالتُه لوقتِ الاستجابة المستدعاة؛ وإلا، فلن يتمَّ الشعورُ بأي شيء. وبهذه الطريقة، لا يُلاحَظ أبدًا أيُّ تأخيرٍ في حدوث الوعي.
من غير المحتمل أن تُكرَّر تجاربُ ليبيت مرةً أخرى؛ لأن التقدُّمَ الذي حدث في الطب جعل هذا النوع من الإجراء التدخُّلي غيرَ ضروري. مع ذلك، عادةً ما يتمُّ قبول نتائج تلك التجارب من قِبَل معظم الباحثين في هذا المجال، لكن ما لا يوجد اتفاق حوله هو التأويل الصحيح لتلك النتائج. إن ليبيت نفسه من ضمن مناهِضي المذهب المادي الذين يعتقدون أن تلك النتائج تعني عدمَ التكافؤ بين العقل والدماغ. أما مَن تبنَّى نظرية الثنائية — مثل فيلسوف العلم السير كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤)، واختصاصي علم النفس العصبي السير جون إيكلز (١٩٠٣–١٩٩٧) — فقد اعتبَرَ تلك النتائجَ دليلًا على قوة العقل غير المادي، وادَّعَى الرياضي السير روجر بينروز أننا بحاجة لنظرية الكمِّ لتفسير تلك النتائج.
اختلف دينيت وتشيرتشلاند مع هؤلاء تمامًا؛ فهما يريَان أن النتائج يبدو فقط أن لها تلك التبعات الغريبة لأن الناس لن يتخلَّوْا عن فكرتهم الخاطئة عن الوعي، وسيبقون متمسكين بفكرتهم الخاصة بالمسرح الديكارتي، وهذا يجعل مشكلةَ الوعي غير قابلةٍ للحلِّ عندما يكون من المفترض أن يكون الأمر كذلك.
إن هذا الاعتراض جدير بأن نستكشفه قليلًا على نحوٍ أكثر عمقًا؛ فالطريقة الطبيعية للتفكير في تأخير نصف الثانية ربما تكون شيئًا كهذا؛ فلمسة على الذراع (أو أي مثير آخَر) تؤدِّي إلى إنتاج إشارات تمر عبر أعصاب الذراع إلى الدماغ حيث تتمُّ معالجةُ المعلومات في المناطق ذات الصلة، حتى تصل في النهاية إلى الوعي ويشعر الشخص باللمسة. من وجهة النظر هذه، هناك نوعان مختلفان من الظاهرة، كلٌّ منهما له توقيته؛ بدايةً هناك الأحداثُ الموضوعية التي لها توقيتات مادية يمكن قياسها باستخدام الأجهزة، مثل توقيت حدوث المثير الكهربي، أو التوقيت الذي تنشط فيه خلية دماغية معينة. وهناك أيضًا التجارب الذاتية التي لها توقيتاتها، مثل الوقت الذي تحدث فيه تجربة اللمس، أو الوقت الذي تدخل فيه اللمسة دائرة الوعي.
قد يبدو هذا الوصف رائعًا جدًّا، في واقع الأمر، ربما تكون مقتنِعًا بأنه يجب أن يكون صحيحًا، لكن لاحِظْ كلَّ المشاكل التي يُدخِلنا فيها؛ فإذا قبلتَ تلك الطريقة البديهية ظاهريًّا للتفكير في الدماغ، فأنت إما أمام مكانٍ في الدماغ حيث تتقابل الأحداث المادية مع الأحداث العقلية، وإما أمام وقتٍ تتحوَّل فيه العمليات غير الواعية على نحوٍ سحري إلى عمليات واعية؛ أي الوقت الذي «تصبح فيه واعية» أو «تدخل دائرة الوعي». لكن ما الذي يمكن أن يعنيه هذا؟ إذا فكَّرتَ بتلك الطريقة، فأنت تصطدم بالمشكلة الصعبة أو بلغز الوعي الذي يبدو أنه غير قابل للحل.
إحدى الطرق الجيدة للتعامُل مع هذا الموضوع هي تبنِّي طريقةِ التفكير البديهية هذه في الوعي، ومحاولة حلِّ المشكلة؛ أي تفسير كيفية تحوُّلِ العمليات غير الواعية إلى عمليات واعية، وهذه هي الطريقة التي تقودنا إلى نظرية الكم، وأشكال مختلفة من الثنائية، وبالطبع معظم النظريات العملية الحالية الخاصة بالوعي. يتمثَّل اقتراح ليبيت في أنه عندما يحدث نشاط فيزيائي في مجموعة من خلايا الدماغ لفترةٍ طويلةٍ على نحوٍ كافٍ، فإن تلك العملية تتحوَّل من كونها غير واعية في إحدى اللحظات إلى أخرى واعية في اللحظة التالية، لكنه لا يفسِّر كيف يحدث ذلك أو لماذا، وهكذا يبقى اللغز مستمرًّا.
هناك طريقة أكثر ثوريةً تتمثَّل في التخلُّص من الافتراض القائل بأنه يمكن تحديد توقيت التجارب الواعية. صحيحٌ أن التخلُّصَ من طريقة التفكير الطبيعية في الوعي صعب للغاية، لكنْ هناك بعض الأمثلة الغريبة الأخرى التي قد تجعل هذا الاحتمال أكثر جاذبيةً.
الساعات والأرانب
تخيَّلْ أنك جالس تقرأ أحد الكتب، وبينما تُقلِّب الصفحة تدرك أن الساعة تدق. منذ لحظة، لم تكن واعيًا بالدقات، لكن الآن وفجأةً دخلَتْ تلك الضوضاء دائرة وعيك؛ في تلك اللحظة، يمكنك تذكُّر الأصوات التي لم تكن تستمع إليها، وعَدُّ الدقات التي لم تسمعها. دقت بالفعل ثلاث دقات، وأنت ستستمر في الاستماع حتى تجد أنها الساعة السادسة.
هذا المثال رائع على نحوٍ خاصٍّ؛ لأنه يمكنك التأكُّد من أنك قد قمْتَ بعَدِّ عدد الدقات على نحو صحيح، لكن يحدث شيء مشابه طوال الوقت مع أشكال متعدِّدة من الضوضاء الخلفية؛ فربما على نحو مفاجئٍ تكون واعيًا بالضوضاء الخاصة بالحفر التي تحدث في الطريق، وحتى تلك اللحظةِ أنت لم تكن واعيًا بها، ولكن الآن يبدو الأمر كما لو أنك تذكَّرْتَ صوتها قبل أن تصبح واعيًا بها؛ يبدو الأمر تقريبًا كما لو أن شخصًا، إن لم يكن أنت، كان يستمع طوال الوقت. إن تلك التجارب معتادة جدًّا لدرجة أننا نميل لتجاهلها، لكنها تستحق أن نفكِّرَ فيها على نحوٍ أكثر إمعانًا.
دعونا نتأمَّل مثال الساعة؛ إذا كانت طريقةُ التفكير العادية في الوعي صحيحةً، يجب أن نكون قادرين على تحديد أيٌّ من التجارب كانت في مسرح أو تيار الوعي، وأيٌّ منها لم يكن هناك. فماذا عن أول ثلاث دقات للساعة؟ إذا قلتَ إنها كانت في تيار الوعي (أي إنك كنتَ واعيًا بها) طوال الوقت، فلن تستطيع تفسير الانطباع المحدد جدًّا بأنك أصبحتَ على وعي بها فقط لاحقًا. على الجانب الآخَر، إذا قلتَ إنها كانت خارجَ تيار الوعي (أي إنك كنتَ غير واعٍ بها)، فعليك أن تفسِّرَ ماذا حدث عندما أصبحتَ على وعي بها؛ فهل كانت غير واعية حتى الدقة الرابعة ثم حدثت إحالة راجعة في الوقت على نحو ذاتي، كما يمكن أن يقول ليبيت؟ هل الذكريات الخاصة بها موجودة في شكلٍ ما من الحالة غير الواعية فقط لكي تتحوَّل لتكون واعية عندما يتحوَّل انتباهك؟ وبعيدًا عن صعوبة تفسير ماذا يمكن أن يعني هذا التحوُّل، يتركنا هذا مع نوعٍ أغرب من تيار الوعي؛ لأنه يحتوي الآن على مزيجٍ من الأشياء التي كنَّا واعين بها طوال الوقت وتلك التي نعيها فجأةً على نحوٍ استرجاعيٍّ.
هناك العديد من الأمثلة الأخرى التي تشير إلى نفس الأمر؛ ففي غرفةٍ صاخبةٍ مليئة بالأشخاص الذين يتحدث بعضهم مع بعض، ربما تحول انتباهك فجأةً لأن شخصًا خلفك قال: «خمِّنْ ماذا قال جيرمي أمسِ عن سو … إنها …» فإنك ستستمع باهتمام بالغ؛ في تلك اللحظة، إنك تبدو على وعي بالجملة بالكامل وهي تقال، لكن هل هذا صحيح؟ إنك لن تلاحظها على الإطلاق إذا لم يذكر اسمك. السؤال الآن: هل تلك الجملة داخل تيار الوعي أم خارجه؟
في واقع الأمر، تنطبق تلك المشكلة على كلِّ كلامنا؛ فأنت بحاجة إلى تجميع العديد من المعلومات المتسلسلة قبل أن تصبح بدايةُ الجملة قابلةً للفهم. ما الذي يوجد في تيار الوعي إذن بينما يحدث كل هذا؟ هل كل هذا مجرد ضوضاء أو كلام غير مفهوم؟ وهل تحوَّلَتْ من مجرد ضوضاء لا معنى لها إلى كلمات في منتصف الطريق؟ لا يبدو أن الأمر كذلك؛ يبدو الأمر كما لو كنتَ قد سمعتَ جملةً مفهومةً أو استمعتَ إليها وهي تقال، ولكنَّ هذا مستحيل. فكِّر في كلمة واحدة أو استمع إلى طائر صغير وهو يغني. فقط بمجرد أن تكتمل الأغنية أو تنتهي الكلمة، هل يمكنك أن تعرف ما هذا الذي سمعته؟ ماذا كان في تيار الوعي قبل تلك النقطة؟
هناك تجربة مبتكرة تُسمَّى «الأرنب القافز» تُبرز المشكلةَ في أوضح صورها. لإحداث هذا التأثير، يمدُّ الشخصُ ذراعَه وينظر إلى الاتجاه الآخَر بينما ينقر القائمُ بالتجربة على ذراعه. في التجربة الأصلية، تمَّ استخدام آلة للنقر، لكن يمكن إحداث نفس التأثير باستخدام نقرات مُنتَجة بعناية باستخدام قلمِ رَصاص مسنون؛ الأمر المهم هو أن تنقرَ على فترات متساوية بدقةٍ وبضغطٍ متساويين خمس مرات في الرُّسْغ، وثلاث مرات بالقرب من المرفق، ومرتين بالقرب من الكتف.
ما الذي سيشعر به هذا الشخص؟ على نحوٍ غريبٍ بشكل كافٍ، سيشعر بسلسلة من النقرات تنتقل بسرعة من الرُّسْغ إلى الكتف ليس في ثلاث مرات منفصلة، لكن كما لو أن أرنبًا صغيرًا يقفز بطول ذراعه؛ ومن هنا جاءت التسمية «الأرنب القافز».
إن هذا التأثير غريب ويجعل الناس يضحكون، لكن الأسئلة التي يثيرها مهمة؛ فكيف يعرف الدماغ مكان النقرة الثانية والثالثة والرابعة عندما لم تكن النقرة على المرفق قد حدثَتْ بعدُ. فإذا تبنَّيْتَ الفكرةَ التقليدية التي تقول بأن كل نقرة (النقرة الرابعة مثلًا) يجب أن تكون إما واعيةً وإما غير واعية (داخل تيار الوعي أو خارجه)، فستدخل في حيرة كبيرة. على سبيل المثال، ربما يكون عليك القول بأن النقرة الثالثة كانت تجربة واعية في مكانها الصحيح؛ أي في الرُّسْغ، لكن لاحقًا، بعد حدوث النقرة السادسة، تمَّ مَحْوُ تلك الذكرى وحلَّتْ محلها التجربة الواعية بها التي حدثَتْ في منتصف الطريق بين الرُّسغ والمرفق. وإذا لم تعجبكَ تلك الفكرة، فقد تفضِّلُ القولَ بأن الوعي توقَّفَ لبعض الوقت، بانتظار حدوث كل النقرات قبل تحديد مكان كل واحدة منها؛ في تلك الحالة، بقيتِ النقرةُ الرابعة غير واعية حتى حدثت النقرة السادسة، ثم تمَّتِ الإشارة إليها على نحو رجعي في الوقت حتى تُوضَع في مكانها الصحيح في تيار الوعي.
مرة ثانية، يبدو أننا نُواجَه باختيار غير مريح؛ إما التعامل مع المشكلات، وإما تجاهُل الفكرة التقليدية لتيار التجارب الواعية. سنورد فيما يلي مثالًا أخيرًا قد يوضِّح مشكلاتٍ أخرى في فكرة تيار الوعي.
القيادة دون وعي
ما المقصود بالانتباه؟ في عام ١٨٩٠، أعلَنَ وليام جيمس أن «جميعنا يعرف معنى الانتباه»، لكن بَدَا بعدَ العديد من المجادلات والتجارب اللاحقة أنه لا أحدَ يعرف المقصود بالانتباه، حتى إنه لا توجد عملية واحدة بهذا الاسم يمكن دراستها؛ فالانتباه أحدُ جوانب الوعي الذي يبدو واضحًا وسهلَ الفهم للوهلة الأولى، لكنه يزداد غرابةً كلما تعمَّقْتَ التفكير فيه.
تتمثَّل أكثر الطرق البديهية في التفكير في الانتباه في النظر إليه ككشاف ضوء يمكن أن تركِّزَه على بعض الأشياء، مع ترك أشياء أخرى في الظلام؛ أحيانًا يُستخدَم هذا الكشافُ ضدَّ إرادتنا بواسطة ضوضاء عالية أو شخصٍ ينادي على اسمنا، لكن في أوقات أخرى، نقوم بتوجيهه بأنفسنا، باختيار أن نفكر الآن — على سبيل المثال — في الكتاب الذي نقرؤه، ثم النظر عبر النافذة لدقيقةٍ أو دقيقتين؛ إن هذه القدرة على توجيه الانتباه ليسَتْ فقط شيئًا نستطيعه، وإنما يبدو أيضًا أنها شيء يقوم به وعينا. «يبدو» الأمر كما لو أنني أقرِّرُ عن وعيٍ ما أريدُ أن أنتبه إليه، لكن هل هذا صحيح حقًّا؟
إذا فكَّرنا فيما يحدث داخل دماغنا، فإن تلك الفكرة التقليدية تصبح أصعبَ في استيعابها؛ ففي داخل الدماغ، هناك عمليات عديدة تحدث على نحوٍ متوازٍ، تنسِّق بين الإدراكات الحسية والأفكار، وتتحكَّم في سلوكنا. ربما أفضل طريقة للتفكير في الانتباه هي تخيُّله كنظام أو مجموعة من النُّظُم لتخصيص موارد الدماغ؛ لذلك عندما أركِّز على حديثٍ ما، فهناك إمكانيات معالجة أكثر تُخصَّص لمناطق اللغة والسمع في الدماغ مقارَنةً بتلك الخاصة بالبصر واللمس؛ وعندما يتحوَّلُ انتباهي لمشاهدة مباراة رياضية، تُخصَّصُ إمكانيات معالجة أكثر لمناطق البصر، وهكذا.
الآن ربما نسأل: ما الذي يوجِّهُ هذا التخصيصَ للموارد؟ أجرى علماء النفس آلافَ التجارب التي توضِّح كيف يمكن لمثيرات مختلفة أن توجِّهَ الانتباهَ، وكيف يمكن توزيع الانتباه ومناطق الدماغ التي تكون نَشِطةً عندما يحدث هذا. لكنْ أين دور الوعي؟ وماذا يمكن أن يقابل في الدماغ الإحساسَ القوي بأنني هناك أوجِّه العرضَ على نحوٍ واعٍ؟ هذا مجرد أحد الأسباب وراء عدم وضوح العلاقة بين الوعي والانتباه. وحتى مع حدوث تقدُّمٍ كبيرٍ في فهم الانتباه، فلا توجد نظرية متَّفَق عليها على نحوٍ عامٍّ تربط بينه وبين الوعي. في حين تساوِي بعضُ النظريات بين الوعي والانتباه، تدَّعِي أخرى أنهما ظاهرتان مختلفتان تمامًا؛ ويدَّعِي البعض أنه لا يمكن أن يكون هناك وعي من دون انتباه، في حين يرفض البعض هذا.
توضِّح ظاهرة القيادة دون وعي على نحوٍ بارزٍ تلك المشكلةَ؛ إن أي شخص أصبح سائقًا بارعًا ربما مرَّ بهذه التجربة الغريبة؛ فأنت عندما تقود سيارتك في خط سير وطريق مألوفَين لك متوجِّهًا إلى العمل أو المدرسة أو منزل صديق لك، فأنت أثناء قيادتك تبدأ في التفكير في شيء آخَر، وفي وقت سريع جدًّا، تصل إلى وجهتِكَ؛ أنت تعرف أنك قدْتَ سيارتك حتى وصلْتَ إلى هذا المكان، لكنْ يمكن ألَّا تتذكَّرَ أيَّ شيء على الإطلاق بشأن هذه القيادة؛ يبدو الأمر كما لو أنك غير واعٍ تمامًا بالعملية كلها، حتى إن كنتَ منتبهًا تمامًا طوال الوقت.
ما الذي يحدث هنا؟ أحد الاقتراحات تتمثَّل في أنك كنتَ منتبهًا لأحلام يقظتك بدلًا من تجربة القيادة، لكن إذا كان يُنظَر إلى الانتباه على أنه عملية خاصة بمعالجة الموارد، فإن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ ففي تلك الرحلة، ربما تكون قد توقَّفْتَ عند عدة إشارات حمراء، وتحرَّكْتَ بسيارتك ثانيةً عندما تحوَّلَتِ الإشاراتُ إلى اللون الأخضر، وتعاملتَ مع نقاط الْتقاء الطرق، وحافظتَ على مسافةٍ آمِنةٍ بين سيارتك والسيارة التي تسير أمامك، وعدَّلْتَ من سرعتك حتى تتناسَبَ مع السير على التلال والمنعطفات، وبطَّأْتَ من سرعتك عندما رأيتَ لافتةً تحدِّد الحدَّ الأقصى المسموح به للسرعة، ولوَّحْتَ كي تشكرَ شخصًا جعلك تمر أولًا. كل هذه المهام تحتاج إلى مهارات، فهي تتطلب تنسيقًا معقَّدًا بين البصر والسمع والتحكُّم الحركي وعملية اتخاذ القرار وغير ذلك؛ لهذا فإن النقطة المهمة هنا ليسَتْ أن الدماغ لم يكن يُولي أي انتباه للمهمة، وإنما أنه كان يفعل تلك المهمة بشكلٍ آليٍّ ولم تكن «واعيًا» بها؛ يبدو الأمر وكأن كل هذا النشاط كان يتم من دونك.
كيف يمكنك أن تَعِيَ هذا؟ يبدو من السهل والبديهي أن تستدعي الصورَ المجازية المعتادة الخاصة بالمسرح أو التيار لوصف الفرق؛ ففي الحالة الواعية، كانت كلُّ تلك الإشارات المرورية المتغيِّرة والتلال والمنعطفات والسيارات الأخرى معروضةً في مسرحنا العقلي أو اختبرناها في تيار الوعي لدينا؛ أما في الحالة غير الواعية، فقد سيطرَتْ أحلامُ اليقظة على العرض، ولم تدخل الإشارات والمنعطفات والسيارات قطُّ إلى تيار الوعي.
تظهر المشكلة فقط عندما نحاول الربطَ بين تلك الفكرة وبين ما يحدث في الدماغ. دعونا نتأمَّل عملياتِ الدماغ المتضمنة في جانب واحد صغير من عملية القيادة؛ على سبيل المثال، ملاحظة تغيُّر الإشارة إلى اللون الأحمر وإيقاف السيارة؛ في الحالة الواعية وغير الواعية، لا بد أن قدرًا كبيرًا من المعالجة قد حدث في القشرة البصرية ومناطق التخطيط في القشرة الجبهية والقشرة الحركية حيث يتم التنسيق بين حركات الأيدي والأقدام. في كِلا الحالَين، إنك تنجح في إيقاف السيارة، غير أنه في إحداهما، يتم كل هذا النشاط عن وعيٍ، أما في الأخرى فلا؛ فما الفرق؟
كما أوضحنا، لا توجد شاشة مركزية في الدماغ تشاهد الذات من خلالها العرض، ولا معالج مركزي تحدث فيه التجارب الواعية، غير أنه يجب أن يكون هناك اختلاف مهم. السؤال الآن: ما هو هذا الاختلاف؟ إنه هو ما يجب على كلِّ نظرية صحيحة خاصة بالوعي أن تشرحه. حان الآن الوقت لاستعراض بعضِ أشهر النظريات الخاصة بالوعي، ومعرفة كيف تتعامل مع هذا الاختلاف المدهش.
نظريات الوعي
أتلقَّى العديدَ من الخطابات ورسائل البريد الإلكتروني من أناسٍ يدَّعون أنهم وجدوا حلًّا للغز الوعي، ويريدون إطلاعي على النظرية التي توصَّلوا إليها في هذا الشأن، والغالبية العظمى من تلك النظريات تندرج تحت نوعين من النظريات: إما نظريات ثنائية تفصل بين العقل والروح، وإما نظريات تقوم على عجائب الفيزياء الحديثة.
تتسم فكرة الثنائية (التي تقوم على الفصل بين العقل والجسد) بالجاذبية دومًا؛ لأنها تتناسب على نحوٍ جيد مع طريقة تفكيرنا في الوعي، لكنَّ هناك عددًا قليلًا جدًّا من الفلاسفة أو العلماء الذين يرون أنها يمكن أن تكون صحيحة؛ فالمثال الحديث الوحيد لنظريات الوعي القائمة على تلك الفكرة هو التفاعلية الثنائية التي اقترَحَها بوبر وإيكلز في سبعينيات القرن العشرين، فقد قالَا بوجود عقل غير مادي واعٍ بذاته منفصل عن الدماغ المادي غير الواعي، وهذا العقل قادر على التأثير على الدماغ التابع له من خلال تفاعلاتٍ دقيقةِ التوازنِ تحدث عبر مليارات الوصلات بين الخلايا العصبية. قد يفسِّر بوبر وإيكلز ظاهرةَ القيادة اللاواعية بقولهما إن العقل غير المادي كان مشغولًا فقط بمناطق الدماغ الخاصة بأحلام اليقظة بدلًا من المناطق الخاصة بالبصر والقيادة. لكن، كما هو الحال مع الأنواع الأخرى من الثنائية، فإن هذه النظرية لا تقدِّم أيَّ تفسير لكيفية حدوث التجربة الذاتية (حيث إنها تراها فقط إحدى سمات العقل الواعي بذاته)، كما أنها لا توفِّر أيَّ تفسيرٍ لكيفية حدوث تلك التفاعلات التي تشير إليها.
إن كل نظريات الثنائية التي اطَّلَعْتُ عليها تواجِهُ نفسَ المشكلات تقريبًا؛ حيث يتم الحديث عن وجود عقل مستقلٍّ يقوم بعملية الوعي، لكن لا يوجد تفسيرٌ مُرْضٍ لكيفية تفاعله مع العالم أو الدماغ؛ اللهم إلا عن طريق السحر.
أما عن النظريات المعتمدة على علم الفيزياء الحديث، فتتخذ نهجًا آخَر؛ فبعضها يشبِّه السلوك المميز اللامكاني للوقت الموجود في فيزياء الكم بتأثيرات مماثلة في الوعي، في حين يعتمد البعض الآخَر على الفكرة المثيرة للجدل التي ترى أن الملاحظ الواعي مطلوب لشرح انهيار الدالة الموجية في ميكانيكا الكم. لكن النظرية الأكثر شهرةً من تلك النظريات تعتمد على الحوسبة الكمية في الأنيبيبات الدقيقة. يرى اختصاصيُّ التخدير ستيوارت هامروف والرياضي السير روجر بينروز أن الأنيبيبات الدقيقة الموجودة في كل الخلايا الدماغية ليست العناصر التركيبية البسيطة التي عادةً ما نظنُّها كذلك، فهي مصمَّمة لكي تسمح بالتماسك الكمي والاتصالات الكمية على مستوى الدماغ، وهذا يفسِّر — بحسب ادِّعَائهما — وحدةَ الوعي وإمكانية وجود إرادة حرة، وكذلك تأثيرات الوقت الغريبة لليبيت. لكن تكمن الصعوبة الحقيقية هنا في الذاتية؛ فحتى عندما تحدث الحوسبة الكمية في الأدمغة (وهو أمر مثير للجدل على نحوٍ كبيرٍ)، فإن هذا يظلُّ لا يفسِّر كيف يمكن أن تحدث التجارب الذاتية الشخصية. ويخلص العديد من الأشخاص إلى أن كلَّ ما تفعله النظرياتُ الكمية للوعي هو استبدال لغزٍ بلغزٍ آخَر.
كل النظريات الأخرى التي سوف أتناولها تقوم على الفلسفة التقليدية وعلم الأعصاب، مثل النظريات التي تقوم على «عمليات التفكير العليا» في الفلسفة؛ ترى تلك النظريات أن الأحاسيس والأفكار تكون واعيةً فقط عندما يمتلك الشخص أيضًا عمليةَ تفكيرٍ عليا تمكِّنه من أن يكون واعيًا بها؛ لذا — على سبيل المثال — سيكون إدراكُ السائق للَّون الأحمر في إشارة المرور واعيًا فقط إذا صاحَبَتْه عمليةُ تفكيرٍ عليا تمكِّنه من رؤية اللون الأحمر. تفسِّرُ تلك النظرياتُ الاختلافَ المدهش دون استدعاءِ أي خلايا عصبية متخصِّصة خاصة بالوعي، فالأفكار الواعية هي تلك التي تصاحبها عملياتُ تفكيرٍ عليا خاصة بها؛ كما أنها تعالج ببساطة بعضًا من تأثيرات الوقت الغريبة؛ لأن عمليات التفكير العليا تستغرق وقتًا حتى يتمَّ تنفيذها، لكنها تنفي وجود وعي لدى الحيوانات الأخرى التي لا يمكن أن تكون لديها عمليات تفكير عليا، ولا تستطيع تفسير حالاتٍ مثل التأمُّل العميق التي يدَّعِي فيها الناسُ أنهم واعون جدًّا دون وجود أفكار على الإطلاق. أما عن ظاهرة القيادة دون وعي، فهي تُفسَّر فقط إذا افترضنا أن السائقَ طوال فترة القيادة كان يعتقد أنه مستغرِق في حلم يقظة.
إن نظرية إطار العمل الشامل لها جذور عميقة في علم النفس وعلم الأعصاب، وكان أول مَن وضَعَها هو عالم النفس برنارد بارس في ثمانينيات القرن العشرين؛ تقوم تلك النظرية على فكرة أن الدماغ منظَّم وظيفيًّا اعتمادًا على إطار عملٍ شامِلٍ تتمُّ فيه معالجةُ بضعة أشياء فقط في المرة الواحدة، وهي تعتمد بشدة على فكرة مسرح الوعي. وتقابل الأشياءُ القليلة للغاية التي توجد في الوعي في أي وقت تلك الموجودةَ في المنطقة المضاءة في منتصف المسرح المنارة بكشاف ضوء الانتباه والمحاطة بهامشٍ واعٍ أقل. وبعيدًا عن المسرح، يوجد جمهور غير واعٍ يجلس في الظلام، لهم نُظُمٌ سياقية عديدة غير واعية تشكِّل الأحداثَ التي تقع على المسرح.
ترى تلك النظرية أن ما يجعل أي حدث واعيًا هو أنه تتمُّ معالجته داخل إطار العمل العام؛ ومن ثَمَّ يتم عرضه على باقي النظام (غير الواعي)؛ ومن ثَمَّ عندما تقود دون وعي، تتم معالجة المعلومات الخاصة بالإشارات الحمراء والسيارات الأخرى في إطار العمل الشامل، ويتم عَرْضُها على باقي الدماغ، وهذا يجعلها متاحةً للتأثير على سلوكيات أخرى مثل الكلام والتذكُّر؛ وعندما يمتلئ إطارُ العمل الشامل خاصتك بأحلام اليقظة، تتمُّ إحالةُ الإشارات والسيارات إلى هامش الوعي أو حتى إلى الظلام ولا يتم عرضها.
إن ما يميِّز تلك النظرية هو أنها تقرُّ صراحةً بأن الأشياء يمكن أن تكون واعية؛ أي تلك الموجودة في إطار العمل والمتاحة على نحوٍ شامل. لكن المشكلة في تلك النظرية هي تفسير لماذا يجب أن تكون المعلومات التي يتمُّ عرضها — أي التي تكون متاحةً على نحوٍ شامل لجمهور غير واعٍ — واعية (أي مختبرة)، أما المعلومات الأخرى، فلا. في واقع الأمر، تبقى مشكلة الذاتية الأساسية غامضة كما هي دائمًا.
وربما ينطبق هذا أيضًا على معظم النظريات الخاصة بالوعي؛ فعلى سبيل المثال، يفترِض عالِمَا البيولوجيا العصبية جيرالد إديلمان وجيوليو تونوني أن الوعي ينشأ عندما تكون مجموعات خلايا عصبية كبيرة مركزًا ديناميكيًّا في الدماغ، مع وجود وصلات تنقل اتصالات ذهابًا وإيابًا بين منطقتَيِ المِهاد والقشرة الدماغية. تقترح اختصاصية علم الأدوية سوزان جرينفيلد أن الوعي ليس ظاهرةً تقوم على إدراك كل شيء أو لا شيء، لكنه يزيد مع حجم التجمُّعات العصبية؛ أي المجموعات الكبيرة من الخلايا العصبية المترابطة التي تعمل معًا. ربما يكون الأمر كذلك، لكن تلك النظريات لا تفسِّر لماذا يجب أن تنتج أي شبكة عصبية — مهما كبر حجمها أو كان تنظيمها مناسبًا — تجاربَ ذاتية في المقام الأول.
ربما تفعل تلك التراكيب العصبية هذا، وإنها حقًّا لَاستراتيجية رائعة أن يتمَّ اقتراحُ وجود تلك التراكيب التي ربما يكون لها دور في حدوث الوعي، ثم محاولة الكشف عن طريقة عملها. إن إديلمان وتونوني يحاولان فعل ذلك فيما يتعلَّق بمدى ارتباط خصائص مجموعات الخلايا العصبية بخصائص الوعي؛ وفي النهاية، ربما تنجح تلك الاستراتيجية، لكنني حتى الآن أستطيع القول إنه لا توجد أي نظرية يمكنها حلُّ اللغز الأساسي للتجربة الذاتية. إن كل تلك النظريات تقبل بالافتراض الأساسي القائل بأنه في أي وقت محدَّد يكون عدد قليل من الأشياء «داخل» مسرح أو تيار الوعي، في حين أن الأشياء الباقية تكون خارجه، لكنها لا تستطيع تفسير كيف يمكن لأي شكل من أشكال النشاط الدماغي المادي أن ينتج تيارًا من التجارب الواعية.
هناك طريقة مختلفة تمامًا للتعامُل مع الأمر، تتمثَّل في التخلِّي عن محاولة تفسير مسرح الوعي؛ ليس بالاستسلام والاعتقاد بأننا بشر ضعفاء لن يمكننا أبدًا فهم هذا اللغز الكبير، وإنما بادِّعَاء أن هذا المسرح وهم. كما أوضحنا، ادَّعَى دينيت أنه لا يوجد شيء اسمه المسرح الديكارتي، وفي نظريته الخاصة بتعدُّد قوى التأثير، ذهَبَ إلى حدِّ أنه تخلَّى تمامًا عن فكرة كون العقل يشبه المسرح، وأن بعض الأشياء تكون في دائرة الوعي، وبعضها خارجها. وبحسب دينيت، فإن العمليات الدماغية تضاعف التوصيفات المتوازية للعالم طوال الوقت، التي لا يوجد منها ما هو داخل دائرة الوعي أو خارجها. وعندما يتمُّ استكشاف النظام بطريقةٍ معينة؛ على سبيل المثال، بسؤال شخصٍ عمَّا هو واعٍ به أو جعله يستجيب لمثيرٍ ما، فربما يحدِّد ما هو واعٍ به ويخبرك عنه؛ لكن حتى عند تلك النقطة، لا يوجد ما يؤكِّد وجودَ هذا الشيء أو عدم وجوده داخل دائرة الوعي.
إن تلك النظرية مخالِفةٌ للبديهة بشدة؛ فهي ترفض اعتقادنا الجازم بأننا جميعًا نعرف على نحو الدقة ما نحن واعون به — أو التجربة الواعية الذاتية — في أي وقت محدَّد؛ لكن لها ميزة التوافُق الجيد مع تأثيرات التوقيت الغريبة التي عرضنا لها هنا. يحدث تأخير ليبيت لأن عملية إتاحة المعلومات لأي عملية استكشاف لفظي تحتاج إلى بعض الوقت. ودقات الساعة والقيادة لم تكونَا قَطُّ داخل أو خارج دائرة الوعي؛ ومن ثَمَّ لا تظهر مشكلات. لكن أَلَا يجعلنا هذا نتخلَّصُ تمامًا من الظاهرة التي نحاول تفسيرها؟ بعض الناس يعتقدون أنه يفعل ذلك، ويتهمون دينيت بإنهاء لغز تلك الظاهرة بنفي وجودها تمامًا.
ما الذي تعيه الآن؟
ربما تكون متأكدًا من أنك تعرف على وجه الدقة الأشياء التي توجد في دائرة وعيك الآن، لكن هل أنت متأكِّد من ذلك؟ لعدة سنوات، شجَّعْتُ تلامذتي على أن يسألوا أنفسهم سلسلةً من الأسئلة المتزايدة الصعوبة مئات المرات كل يوم، مثل: «هل أنا واعٍ الآن؟» أو «مَن الواعي الآن؟» أو «هل فعلتُ هذا على نحو واعٍ؟» وفي الغالب، ينتهي بهم الحال من كونهم متأكِّدين من أنهم واعون طوال اليوم، إلى وجود شكوك كبيرة لديهم في هذا الشأن؛ ويدركون أن طرح السؤال على أنفسهم يُحدِث فرقًا.
إن سؤال «ما الذي كنت واعيًا به منذ لحظة؟» مهم على وجه الخصوص، ولقد خصَّصْتُ له ساعات طويلة من التأمُّل؛ فإذا كان هناك بحقٍّ تيارٌ من الوعي، فيجب أن تكون هناك إجابة واحدة على السؤال السابق وهي أنني كنت واعيًا بشيء محدَّد، لكنك بمجرد أن تبدأ في تأمُّل الأمر على نحوٍ جِديٍّ، فستجد أنك يمكن أن تختار شيئًا واحدًا من ضمن أشياء عديدة مختلفة؛ على سبيل المثال، ضوضاء المرور أو الإحساس بالتنفُّس أو النظر إلى العشب. في البداية، كان يبدو أن اختيار أحد تلك الأشياء يستبعد الأشياءَ الأخرى، لكن مع التدريب، تغيَّرَ الوعيُ؛ فقد أصبح من الواضح أن هناك دائمًا مجموعاتٍ من الأشياء التي تحدث في نفس الوقت، وأنه لا يكون أيٌّ منها في واقع الأمر داخل دائرة الوعي حتى يتم إدراكها.
السؤال الآن: هل يمكن لاستكشاف الوعي أن يغيِّر من الوعي نفسه؟ إذا كان الأمر كذلك، فربما يكون من السهل خداعُنا، أو ربما نتعلَّم كيف نتخلَّص من هذا الخداع.
أنا أختلف مع دينيت؛ فمن الواضح أن هناك شيئًا نسمِّيه «الوعي» وهذا الشيء يحتاج إلى تفسير. لكنْ هل هو بالفعل تيار موحد من التجارب كما نظن؟ أعتقد أننا ربما نحتاج إلى التخلِّي عن فكرة أن كلًّا منَّا يعرف ما يوجد في وعيه الآن، وقبول فكرة أننا ربما مخدوعون في تصوُّراتنا عن عقولنا.