الذات
الذات والروح
من — أو ماذا — أكون؟ إن إجابات مثل: «أنا هو جسدي» أو «أنا هو دماغي» غير مُرضية؛ لأنني لا أشعر بأنني جسم أو دماغ. يبدو لي أنني شخص يمتلك هذا الجسم والدماغ، لكن مَن يمكن أن يكون الذي يشعر كما لو أنه يعيش داخل تلك الرأس وينظر إلى الخارج عبر العينين؟ ومَن ذا الذي يبدو أنه يعيش هذه الحياة ويمر بتلك التجارب؟
من وجهة النظر العلمية، لا توجد حاجة إلى وجود مالك، ولا إلى كيان داخلي يلاحظ ما يفعله الدماغ، ولا إلى ذات داخلية. ربما تكون الأدمغة معقَّدة وصعبة في فهمها، لكنها «مغلقة سببيًّا»؛ يعني هذا أننا يمكن أن ندرك كيف تؤثِّر خلية عصبية على أخرى، وكيف تتجمع مجموعات من الخلايا العصبية وتتفرَّق، وكيف تؤدِّي حالة ذهنية معينة إلى أخرى وأنه لا حاجة لأي تدخل آخَر؛ بعبارة أخرى، إن أدمغتنا لا تحتاج «إلينا».
مع ذلك، لديَّ إحساس يغمرني بأنني موجود؛ فعندما أفكِّر في التجارب الواعية، يبدو لي أن هناك شخصًا يمتلكها، وعندما أفكِّر في حركات جسمي، يبدو لي أن هناك شخصًا يقوم بها، وعندما أفكِّر في القرارات الصعبة في حياتي، يبدو لي كأن شخصًا لا بد أنه قد اتخذها، وعندما أتساءل عن الأشياء المهمة بحق في هذا العالم، يبدو لي كما لو أن الأشياء يجب أن تكون مهمةً لشخص ما. هذا الشخص هو «أنا»؛ «ذاتي» الحقيقية.
إن مسألة الذات مرتبطةٌ على نحوٍ وثيق بمشكلة الوعي؛ إذ عندما تكون هناك تجارب واعية فمن السهل الافتراض أنها لا بد تحدث لشخصٍ ما، فلا يمكن أن تكون هناك تجارب دون شخص يمر بها؛ وهكذا نصل إلى طريق مسدود. إن العلم لا يحتاج إلى ذات داخلية، لكن معظم الناس متأكِّدون تمام التأكد من أن لديهم ذواتٍ. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد معظم الناس أن إنكار فكرة الذات سيؤدِّي إلى الفوضى ويقوض الابتكار ويدمِّر النظام الأخلاقي؛ هناك أشياء عديدة تعتمد على اعتقادنا بوجود الذات من عدمه، غير أن أفكارنا فيما يتعلَّق بالذات تميل إلى أن تكون محيِّرة للغاية.
يحاول الفيلسوف ديريك بارفيت تبديدَ بعض تلك الحيرة بالتمييز بين نظرية الأنا ونظرية الحزمة. بدأ بارفيت من الحقيقة غير المشكوك فيها بأننا «نبدو» كذوات فردية مستمرة تمر بتجارب، وتساءَلَ عن السبب في ذلك. ردَّ مؤيدو نظرية الأنا بأن السبب يكمن في أن هذا الاعتقاد صحيح بالفعل؛ فنحن ذوات مستمرة. على العكس من ذلك، ردَّ مؤيدو نظرية الحزمة بأن هذا الاعتقاد غير صحيح، وأنه يجب تفسير تجربة الذات بطريقة أخرى.
أخذَتْ نظرياتُ الحزمة اسمَها من عملٍ للفيلسوف ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦) الذي وصف كيف أنه بدأ بالبحث في تجاربه الذاتية عن الذات المجرِّبة، لكنَّ كلَّ ما وجده كان هو التجارب؛ فخلص إلى أن الذات ليست كيانًا، لكنها أشبه ﺑ «حزمة من الأحاسيس»؛ فحياة المرء سلسلة من الانطباعات التي يبدو أنها تنتمي إلى شخصٍ واحد، لكنها في واقع الأمر مرتبطة بعضها ببعض من خلال الذاكرة وغير ذلك من العلاقات.
لاحظ أن فكرة الثنائية هي أحد أشكال نظرية الأنا، وأنت تحتاج إلى أن تكون مؤمنًا بتلك الفكرة لتؤمن بوجود ذات مستمرة. في واقع الأمر، وكما سيتضح لك من خلال عرضنا، إن الكثير من النظريات العلمية الحديثة التي ترفض فكرةَ الثنائية لا يزال يحاول إيجاد الملازمات العصبية للذات، أو تفسير الذات في ضوء التراكيب المستمرة الموجودة في الدماغ؛ لذا فتلك النظريات تقوم على نظرية الأنا.
تقدِّم الديانات الكبرى أمثلةً واضحةً على النظريتين؛ فكلها تقريبًا تجسد على نحوٍ مباشِر نظرية الأنا؛ أي إنها تقوم على افتراض وجود الذوات، سواء أكان يتم النظر إليها كأرواح أم آتمان أم أي شيء آخَر؛ فوجود تلك الذوات الشخصية تقوم عليه معتقدات خاصة بالهوية والحياة بعد الموت والمسئولية الأخلاقية، وهو شيء أساسي بالنسبة إلى معتقدات المسيحيين واليهود والمسلمين والهندوس. وعلى الرغم من أن بعض العلماء متديِّنون، والبعض الآخَر يدَّعِي أنه لا يوجد تعارُضٌ بين العلم والدين، فمسألة الذات تبرز باعتبارها مشكلة واضحة في هذا الشأن؛ فإذا كان كلُّ شخصٍ لديه روح أو ذات، إلى جانب دماغ، فإن العلم يجب أن يكون قادرًا على اكتشافها، لكنه حتى الآن لم يستطع؛ وهذا لا يعني أنه لن يفعل، لكن هناك مشكلة بالتأكيد.
ترفض الهندوسية وحدها من بين الديانات الأخرى فكرة الذات؛ عاش بوذا في شمال الهند منذ ما يقرب من ٢٥٠٠ عام، ومن المفترض أنه قد تثقَّفَ بعد فترة طويلة من التأمُّل جالسًا تحت شجرة، وقد رفض بوذا المعتقدات الدينية السائدة في عصره، بما في ذلك الذات الداخلية الأبدية أو الآتمان، وبدلًا من ذلك، قال إن المعاناة البشرية سببها الجهل، وعلى وجه الخصوص التمسُّك بمفهوم خاطئ وهو الذات، وإن السبيل الوحيد لإنهاء هذا الصراع هو التخلُّص من كلِّ الرغبات والميول التي تُقوي الذات؛ لذا تُعَدُّ فكرةُ «اللاذَات» أساسيةً في تعاليمه. لا يعني هذا أن الذات غير موجودة، لكنها عبارة عن وَهْمٍ، أو أنها ليست كما تبدو؛ فبدلًا من أن تكون كيانًا دائمًا يعيش طوال حياة الشخص، فإنها مجرد اسم متعارف عليه لمجموعة من العناصر. وهو يرى أيضًا أن كل شيء معتمِد على أسباب سابقة، وأنه لا شيء ينشأ بمفرده؛ وهذا يشبه الفكرةَ الحديثة التي تقول إن الكون مغلَقٌ سببيًّا ومعتمد بعضه على بعض. يفسِّر هذا كيف أمكَنَه ادِّعَاء أن «الأفعال موجودة وكذلك تبعاتها، أما الشيء الفاعل فلا». يقول بارفيت عن بوذا إنه أول مُنظِّر لنظرية الحزمة.
إن نظرية الحزمة صعبةٌ على نحوٍ غير معتاد في فهمها أو قبولها؛ فقبولها يعني التخلِّي تمامًا عن أي فكرة تقول إنك كيان لديه وعي وإرادة حرة أو يعيش حياة جسمه؛ وبدلًا من ذلك، يكون عليك الاعتقاد بأن كلمة «ذات» لا تشير إلى شيء واقعي أو دائم؛ إنها مجرد فكرة أو كلمة. أما عن الذات التي تمر بتجارب، فإن هذا النوع من الذات مجرد انطباع عابر يتكوَّن مع كل تجربة ثم يتلاشى ثانيةً. ويحدث وَهْمُ الاستمرارية نتيجةً لأنَّ كل ذات مؤقتة تظهر مع الذكريات التي تعطي الانطباعَ بالاستمرارية.
إن مثل هذه النظرية المخالفة للبديهة ربما لن تكون جديرةً بالنظر إليها ما لم تكن هناك صعوبةٌ كبيرة يتحتم علينا أن نواجِهها حال غيابها عند تحديد المقصود بالذات فقط. إن الفكرة التي ترى أن الذات وَهْمٌ هي على الأقل جديرة بأن ننظر إليها بعين الاعتبار بينما نتأمَّل بعضَ أغربِ الظواهر الخاصة بالذاتية.
شطر الدماغ
ماذا سيحدث إذا تمَّ شطر دماغك إلى نصفين؟ ربما يبدو هذا مجرد تجربة عقلية، لكن في واقع الأمر، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، تمَّ إجراء تلك العملية الرهيبة؛ فالصرع يمكن أحيانًا أن يكون شديدًا جدًّا لدرجةٍ تجعل الحياةَ غير محتملة من خلال التعرُّض لنوباتٍ شبه مستمرة منه. اليوم، أصبَحَ بالإمكان معالجة تلك الحالات بالعقاقير أو بجراحاتٍ أقل تدخُّلًا، لكن في ذلك الوقت، كان يتم علاج الحالات الصعبة بشقِّ الدماغ إلى نصفين؛ مما يمنع انتشار النوبات من جانبٍ إلى آخَر. وفي معظم هذه الحالات تتم إزالة الجسم الثفني الذي يُعَدُّ المكوِّنَ الأساسي الذي يصل بين جانِبَيِ الدماغ، مع ترك جذع الدماغ وبعض الوصلات العصبية كما هي سليمة. لذا، لعلنا نبالغ إذا قلنا إن أدمغة هؤلاء المرضى قد تمَّ شَطْرُها إلى نصفين، لكن من دون الجسم الثفني، فإن معظم الإشارات العصبية المعتادة بين الجانبين الأيمن والأيسر من الدماغ ستتوقف.
ماذا حدث لهؤلاء المرضى؟ لم يحدث إلا القليل جدًّا؛ فقد تعافَى المرضى على نحوٍ جيد، ويبدو أنهم عاشوا حياة طبيعية، دون حدوث أيِّ تغيير، أو حدوث تغييرٍ قليلٍ في الشخصية أو معدل الذكاء أو القدرة اللغوية. لكن في أوائل ستينيات القرن العشرين، أجرَى عالِمَا النفس روجر سبيري (١٩١٣–١٩٩٤) ومايكل جازانيجا تجاربَ أظهَرَتْ وجودَ بعض التأثيرات الغريبة.
وفي تجربة معروفة، جلس المريض أمام شاشةٍ كانَتْ منقسِمةً إلى قسمين، ونظر بثبات إلى المنتصف، ثم تمَّ عرضُ الكلمات أو الصور في جانبٍ ثم الجانب الآخَر، مما أدَّى إلى إرسال المعلومات إلى جانب واحد فقط من الدماغ؛ استطاع المريضُ الردَّ لفظيًّا، أو باستخدام أيٍّ من اليدين.
افترض أنه تمَّ عرْضُ صورةٍ ما على المجال البصري الأيمن، وحيث إن الكلام في بعض الأشخاص مقصور على الجانب الأيسر من الدماغ، فإن المريض يستطيع حينها أن يصفَ الصورةَ على نحوٍ طبيعيٍّ تمامًا، لكن إذا تمَّ عرْضُها على المجال البصري الأيسر، فلن يستطيع ذلك. أكَّدَ هذا أن الجانب الأيسر من الدماغ بقدرته على الكلام يمكنه فقط رؤيةُ ما يتمُّ عرْضُه في الجانب الأيمن، وفي الوقت نفسه يمكن للجانب الأيمن للدماغ أن يرى ما يُعرَض في الجانب الأيسر. ثبت هذا من خلال طلبِ الباحثين من المشاركين في التجربة الردَّ من دون كلمات؛ على سبيل المثال، يمكن إعطاؤهم كومةً من الأشياء المخفية في حقيبة، ويُطلَب منهم اختيارُ ما رأوه باستخدام اليد اليسرى؛ وبهذه الطريقة يمكن أن يعطي جانِبَا الدماغ في نفس الوقت ردَّيْن مختلفين للسؤال التالي: «ماذا ترى؟» لم يَبْدُ أن أيًّا منهما كان يعرف ما يفعله الآخَر؛ والسؤال هنا هو: هل هذا يجعل الجانبين شخصَيْن منفصلين واعِيَيْن؟
وفي تجربة شهيرة، تمَّ عرْضُ صورةٍ لثلوجٍ في الجانب البصري الأيسر للمريض بي إس المصاب بحالة انفصال الدماغ، وصورةٍ لمخلب دجاجة في الجانب الأيمن، وطُلِبَ منه اختيارُ صورٍ مشابِهة من مجموعةٍ من الصور الموجودة أمامه؛ اختار بيده اليسرى صورةَ جاروف (لصورة الثلوج)، وبيده اليمنى صورةَ دجاجة. هذا يتناسب مع ما يراه كلُّ جانب من جانِبَي الدماغ، لكن عندما طُلِب من المريض أن يفسِّرَ أسبابَ اختياراته، قال (أي الجانب الأيسر المتكلِّم من الدماغ): «أوه، هذا شيء بسيط؛ يتناسب مخلب الدجاجة مع الدجاجة، وستحتاج لجاروفٍ لتنظيف حظيرة الدجاج.»
يتضح من هذا أن الجانب الأيسر المتكلِّم من الدماغ أخفى جهْلَه عن طريق الاختلاق لملء فجوات الذاكرة؛ لقد فعَلَ الشيءَ نفسه عندما عُرِض على الجانب الآخَر صورة انفعالية تعطي عذرًا مقبولًا للضحك أو الابتسام أو التورُّد أو أي استجابة انفعالية تمت استثارتها. ربما يساعد هذا على تفسير كيف يمكن أن يبدو هؤلاء المرضى طبيعيين جدًّا، لكنه يجب أن يجعلنا أيضًا نطرح تساؤلات عن أنفسنا؛ فأدمغتنا تتكوَّنُ من العديد من الوحدات المستقلة نسبيًّا، والجزء المتحدِّث لا يمكنه الوصول إلى كل شيء يتم في الدماغ، غير أنه كثيرًا ما يقدِّم أسبابًا مُقنِعة لأفعالنا. والسؤال هنا هو: كَمْ من هذه الأسباب اختلاقاتٌ مقبولة وليس أسبابًا حقيقية؟ وكيف يمكننا معرفة ذلك؟
خلَص سبيري من تلك التجارب إلى أن مرضاه كان لديهم كيانان واعيان في رأس كلٍّ منهم؛ كلُّ كيان منهما له أحاسيس خاصة وإرادة حرة. في المقابل، احتجَّ جازانيجا بأن الجانب الأيسر فقط من الدماغ هو الذي يقوم بدور «المترجم» الذي يستخدم اللغةَ وينظِّم المعتقدات وينسب الأفعالَ والنيات إلى الأشخاص؛ إن هذا الجانب فقط هو الذي لديه «وعي عالي المستوى»، تاركًا الجانبَ الآخَر من الدماغ بقدرات ومهارات متعدِّدة، لكن دون وعي حقيقي.
أيهما على صواب؟ المشكلة أننا ليس لدينا فكرة عن كيفية تحديد ذلك؛ فيمكننا سؤال كلِّ جانب من جانبي الدماغ، لكن — كما هو الحال مع الأشخاص الآخَرين، أو الأطفال الرُّضَّع، أو الحيوانات — نحن ما زلنا لا نستطيع التأكُّد على وجه اليقين إذا ما كان لديهما تجارب واعية إلى جانب القدرة على الكلام واختيار الصور أم لا. يعود بنا هذا إلى النقاشات التي عرضنا لها في الفصل الأول؛ فإذا كنتَ تعتقد أن الوعي عنصر خارجي إضافي، فمن الطبيعي أنك تريد أن تعرف إن كان كِلَا الجانبين لديه وعي أم جانب واحد منهما فقط، لكنك لن تستطيع أن تفعل هذا. وهكذا الحال عندما يتعلَّق الأمر بالذاتية — إذا كنتَ تعتقد بوجود ذوات دائمة، فمن الطبيعي أنك تريد أن تعرف إنْ كان كِلَا جانبي الدماغ لديه ذات أم لا، لكنك لن تستطيع أن تفعل هذا.
هل ستضغط على الزر؟
هل تؤمن بوجود ذاتين داخلك؟ هل قلبك يقول لك شيئًا وعقلك يقول شيئًا آخَر؟ إن التجربة الفكرية الفلسفية طريقة جيدة لاكتشاف هذا.
تخيَّلْ آلةً يمكنك الدخول فيها والسفر إلى أي مكان تريده. عندما تضغط على الزر، فإن كل خلية في جسمك سيتمُّ تصويرها وتدميرها وإعادة إنتاجها في المكان الذي ستذهب إليه، وحيث إن هذه تجربة فكرية، فيجب أن نفترض أن هذا الإجراء آمِن تمامًا ويمكن الرجوع فيه؛ لذا لا يمكن أن تكون لديك مخاوف مشروعة من أن تضلَّ الطريق. والسؤال هنا هو: هل ستذهب؟
إذا كنتَ أحدَ المؤيدين لنظرية الحزمة، فمن المفترض ألَّا تكون لديك أيُّ هواجس على الإطلاق؛ فكل خلية في جسمك لن تختلف بعد انتهاء الرحلة، وكل ذكرياتك ستبقى كما هي. لن تبدو مختلفًا للآخرين، وسيكون لديك نفس وهم الذات الداخلية كما كان لديك من قبلُ.
إذا كنتَ لا تزال ترفض الضغط على الزر، فلا بد أنك مؤمن بفكرة أن الشخص الذي سيصل إلى المكان بالتأكيد ليس «أنت». بعبارة أخرى، ستظلُّ تعتقد في وجود ذات داخلية.
هذا أمر مهم؛ فمن الضروري أن تعرف إن كانت هناك ذات واعية ثانية داخل الشخص المصاب بحالة انفصال الدماغ لا تستطيع أن تتحدَّث على نحوٍ ملائم أو التأثير على ما يحدث؛ بالطبع هذا يبدو غريبًا، لكن بارفيت يرى أن تلك المشكلة بأكملها وَهْمٌ نشأ بسبب الاعتقاد في وجود الأنا بسبب نظرية الأنا. فنظرية الحزمة تخلَّتْ عن المشكلة تمامًا؛ فلا توجد ذات واحدة ولا ذاتان داخل الدماغ المشطور؛ صحيحٌ أن هناك تجارِبَ لكن لا يوجد مَن يمرُّ بها، كما هو الحال معك ومعي.
التنويم المغناطيسي وانفصال العقل
تخيَّلِ المشهدَ التالي: أنت في عرض، وهناك رجل على خشبة المسرح يطلب متطوِّعين للصعود على المسرح ليتم تنويمهم مغناطيسيًّا. إنك تشاهد أعدادًا كبيرة من الناس وهم يرفعون أيديهم لكي يصعدوا، وأنت متردِّد في فعل ذلك، والمنوِّم المغناطيسي يفرزهم ببطء باستخدام ألعابٍ واختباراتٍ مختلفة حتى وصل عددهم إلى حوالي ستة مستعدين للدخول في «غفوة عميقة». بعد بضع دقائق، وبعد توقُّعات متعلِّقة بالنوم أو تصوُّر مشاهد جميلة أو تخيُّل الهبوط في مصعد، استرخى كلُّ المتطوعين وكانوا مستعِدِّين للمرح، وفي لمح البصر، كان أحدهم ينظر عبر نظَّارة خيالية لخلع الملابس، في حين كان يتصرَّف الآخَر كحصان في سيرك، في حين كان ثالث يتجوَّل بين المشاهدين يطلب منهم إيقاظه.
أو تأمَّلِ التنويمَ المغناطيسي كعلاج؛ إنه يُستخدَم لمساعدة الناس على الإقلاع عن التدخين، أو فقدان الوزن، أو تقليل الضغط العصبي، أو مواجهة المشكلات العاطفية، ومع أن العديد من الادِّعاءات المتعلِّقة بذلك مبالَغ فيها، فبعض تلك العلاجات يفيد. ويُستخدَم التنويم المغناطيسي أيضًا في تقليل الآلام وكبديلٍ للتخدير في بعض أنواع العمليات.
نشأ التنويم المغناطيسي من المسمرية السيئة السمعة باستخدامها لقطع المغناطيس، ونظريات «المغناطيسية الحيوانية» التي كانت في قمة ازدهارها في أواخر القرن التاسع عشر، عندما تمَّ استخدامها في الطب وعلم النفس والتسلية. وكان تحضير الأرواح شائعًا أيضًا في ذلك الوقت، وكان الباحثون في هذا المجال يقومون أحيانًا بتنويم الوسطاء الروحانيين مغناطيسيًّا لفصل أرواحهم عن أجسادهم، وهذه إحدى الظواهر العديدة التي يبدو أنها تشير إلى حالة انفصال العقل.
هناك ظاهرة أخرى، وهي الظاهرة الغريبة الخاصة باضطراب تعدد الشخصية؛ في عام ١٨٩٨، ذهبَتْ شابة صغيرة تُدعَى الآنسة كريستين بوشام إلى دكتور مورتون برينس (١٨٥٤–١٩٢٩) الذي كان من بوسطن، وهي تعاني من آلامٍ وقلقٍ وإنهاكٍ؛ قام برينس بتنويمها مغناطيسيًّا، فتحوَّلَتْ إلى شخصية سلبية جدًّا، ثم ظهرَتْ شخصيةٌ جديدة تمامًا، وبدأت تشير إلى الآنسة بوشام بضمير الغائب «هي». سالي، كما أُطلق عليها فيما بعد، كانت مليئةً بالحيوية ومَرِحة ومتحدِّثة لَبِقة وقوية وبصحة جيدة، في حين كانت كريستين مملة وعصبيةً وضعيفةً ومتزمتة على نحو مفرط، وعندما كانت كريستين تكتب خطابات عقلانية، كانت سالي تظهر فجأة لتمزقها، وعندما كانت كريستين ترفض التدخين، كانت سالي تظهر وتشعل سيجارة. بعبارة أخرى، جعلت سالي حياة كريستين جحيمًا، مع أن الاثنتين كانتَا تسكنان الجسم نفسه.
كانت حالة الآنسة بوشام واحدة من الحالات الكلاسيكية لاضطراب تعدد الشخصية، وسُجِّلت مئات الحالات المشابِهَة لحالتها بين عامَيْ ١٨٤٠ و١٩١٠. وأجمع كلُّ علماء النفس والأطباء والباحثين على أنه يمكن لشخصيتين مختلفتين أو أكثر أن تستحوذ على جسم واحد؛ فوليام جيمس، على سبيل المثال، اعتقَدَ أن مثل تلك الحالات، إلى جانب ظواهر تنويمية أخرى، أثبتَتْ أنه بإمكان دماغ واحد أن يدعم ذواتٍ واعيةً عديدة، إما بشكل تبادلي وإما في الوقت نفسه، وسُمِّيت هذه الحالة بالوعي المشترك أو الذوات الخفية.
بدأت الحالات تزداد غرابةً مع زيادة عدد الشخصيات وعدم وجود نظريةٍ تفسِّر ما يحدث؛ لذا ظهَرَ في أوائل القرن العشرين هجومٌ على الفكرة، مع ادِّعاء الخبراء أن الظاهرة بأكملها يختلقها التنويم المغناطيسي والقوة الإقناعية للأطباء الذكور على مريضاتهم الفاضلات. صحيحٌ أن الكثير من تلك الحالات يثيرها التنويم المغناطيسي، كما بَدَا كذلك أن بعضها قد شُفي ثانيةً من خلال التنويم المغناطيسي، لكنَّ بعضها كان يحدث بشكل تلقائي، ويستمر لإذهال الخبراء، مثل شخصية البطلة التي ظهرَتْ في الفيلم الذي عُرِض في خمسينيات القرن العشرين الذي يُسمَّى «وجوه حواء الثلاثة»، وتلك التي ظهرَتْ في رواية «سايبل» الشهيرة التي نُشِرت في سبعينيات القرن العشرين، وهي «امرأة لديها ١٦ شخصية منفصلة».
كشفت تلك الحالات عن انتشار وباءٍ جديد، وبحلول عام ١٩٩٠، تمَّ تشخيص أكثر من ٢٠ ألف حالة في الولايات المتحدة بهذا الاضطراب، مع مساهمة البرامج التليفزيونية والكتب في انتشار الفكرة. مرة أخرى، أصبَحَت معايير تشخيص الحالة أكثر دقة ومن ثم قلَّ عدد الحالات المشخصة. وفي عام ١٩٩٤ حلَّ مصطلحُ «اضطراب انفصال الهوية الفصامي» محلَّ مصطلح «اضطراب تعدد الشخصية»، الذي لم يَعُدْ يستخدمه الكثيرُ من الاختصاصيين.
إنَّ ما جعل تلك الحالات تبدو غريبةً جدًّا هو فكرة أن العقل يمكن أن ينشطر أو ينفصل إلى أجزاء منفصلة. تبدو نفس الغرابة مع بعض الظواهر التنويمية الأخرى، وقد أدَّتْ إلى نقاشات حامية الوطيس ولا تزال غير محسومة بعدُ. إن وجهة النظر الفيكتورية ترى أن التنويم المغناطيسي حالة انفصال، ينفصل فيها جزء من العقل عن باقيه. ويتحكم المنوِّم المغناطيسي في الشخص المنوَّم (الذي عادةً ما نُطلِق عليه السائر نائمًا) بالتحدُّث مباشَرةً إلى الجزء المنفصل من عقله؛ مما يجعله يتصرَّف ويفكِّر على نحوٍ مختلف، وحتى يقوم بأعمالٍ باهرةٍ كان من المستحيل أن يقوم بها وهو في حالة الاستيقاظ العادية.
منذ القرن التاسع عشر، اعترَضَ النقَّاد قائلين إن الغفوات التنويمية مختلَقةٌ، أو إن الأشخاص المنوَّمين كانوا فقط يذعنون للشخص القائم بالتنويم أو يقومون بتمثيلية. استمرَّتْ هذه الحجة نفسها على مدار معظم القرن التالي، مع دوران الحجج حول سؤال واحد رئيسي هو: هل التنويم المغناطيسي حالة خاصة من الوعي — ربما حالة انفصال للعقل — أم لا؟ هناك نظرية ترى أنه كذلك، وأخرى ترى أنه ليس كذلك.
كانت هناك محاولات عدة لاختبار هاتين النظريتين؛ قارنَتِ التجاربُ النقدية بين أفراد المجموعة المنوَّمة وأفراد المجموعة الضابطة الذين طُلِب منهم ادِّعَاء أنهم منوَّمون أو تخيُّل المرور بخبرة الإيحاءات التنويمية دون أن يتعرَّضوا لأي إجراء مباشِر. كان الهدف يتمثَّل في أنه إذا ظهرت على أفراد المجموعة الضابطة نفس الظاهرة التي تظهر على الأشخاص «المنوَّمين بالفعل»، فإن فكرة وجود حالة تنويمية خاصة خاطئة.
أثبتَ العديد من التجارب أنه لا توجد اختلافات بين المجموعتين، وهذا يدعم النظرية التي ترى عدم وجود حالة تنويمية خاصة، والعديد من علماء النفس سعداء بالانتهاء إلى أنه لا يوجد شيء مميَّز وخاص بشأن ظاهرة التنويم المغناطيسي. ومع ذلك، تبقى بعض الأشياء الغريبة؛ فعلى سبيل المثال: يتعرَّض بعض أفراد المجموعة المنوَّمة في تلك التجارب إلى حالة عقلية تتعطَّل فيها لديهم القدرةُ على التحليل النقدي، بحيث يَقْبَلون مواقفَ غير منطقية أو مستحيلة بشكل لا يمكن أن يقبله أفرادُ المجموعة الضابطة، مثل رؤية صورتين لنفس الشخص في نفس الوقت، أو رؤية أشياء موجودة خلف أشياء أخرى عبر الأخيرة.
هناك تأثير غريب آخَر اكتُشِف في سبعينيات القرن العشرين على يد عالم النفس إرنست هيلجارد (١٩٠٤–٢٠٠١)؛ أثبتَتِ التجاربُ أن بعض المشاركين المنوَّمين الأصحاء ينكرون الشعورَ بالألم عندما يتم غمس إحدى يدَيْهم في ماء متجمِّد (وهو إجراء لإثارة الشعور بالألم غير ضار وشائع الاستخدام في التجارب النفسية). اعتقَدَ هيلجارد أنه في أعماق هؤلاء ما زال جزء من أنفسهم يشعر بالألم، ولذلك قال لهم: «عندما أضع يدي على أكتافكم، سأكون قادرًا على التحدُّث إلى هذا الجزء المخفي داخلكم …» وعندما فعل هذا، وصَفَ المشاركون المنوَّمون الألمَ الشديدَ الذي يشعرون به. وفي تجارب أخرى، كان «المراقِب المتخفِّي» بداخل الأفراد المنوَّمين يصف أحداثًا منسيَّةً أو مثيراتٍ متجاهَلةً ظاهريًّا؛ بدا الأمر كما لو أن شخصًا آخَر كان يمرُّ بتجارب واعية طوال الوقت.
جعلَتْ تلك النتائج هيلجارد يضع نظريته الجديدة الخاصة بانفصال العقل، التي تبرهن على أنه في الحالة الطبيعية تكون هناك أجهزةُ تحكُّم متعددة تحت توجيه «أنا» تنفيذية، لكن في الحالة التنويمية، يتحكَّم القائم بالتنويم، جاعِلًا الأفعالَ تبدو لا إرادية والهلاوسَ حقيقيةً. تختلف تلك النظرية بعض الشيء عن نظريات انفصال العقل السابقة التي ترى أن الأجزاء المنفصلة من العقل عبارة عن أشخاص واعين مختلفين، لكنها تحتفظ بفكرة أن الدماغ الواحد يمكن أن يدعم أكثر من مجموعة من التجارِب الواعية في نفس الوقت.
غنيٌّ عن البيان أن تلك النظرية تُعَدُّ واحدةً من بين العديد من النظريات في هذا المجال، ولا يوجد إجماع بين تلك النظريات على شيء. وبعد أكثر من ألف عام من البحث، ما زلنا لا نعرف إن كان التنويم المغناطيسي يتضمَّن حالةً خاصة من الوعي، أو يمكن الجزم بأنه يقسم الوعي، أم لا.
النظريات الخاصة بالذات
يمكن أن نعود الآن — ربما بمزيد من الحيرة — إلى سؤال: «مَن أكون أو ماذا أكون؟» إنَّ كل الظواهر السابقة تمثِّل تحديًا للافتراض الشائع بوجود ذات واعية لجسم واحد، وتتركنا نتساءل عن كيفية تفسير الحالات الاستثنائية والإحساس الطبيعي بوجود الذات؛ حيث إنْ كان من الممكن أن تكون هناك تجارب واعية متعدِّدة تحدث في الوقت نفسه، فلماذا نشعر بأن لدينا ذاتًا واحدة؟
هناك نظريات متعدِّدة تحاوِلُ تفسيرَ معنى الذات، وهناك نظريات فلسفية عن طبيعة الأشخاص والهوية الشخصية والمسئولية الأخلاقية، وهناك نظريات نفسية عن تكوين الذوات الاجتماعية والتحيُّز الخادم للذات والأمراض المتعددة للذات، وهناك أيضًا نظريات خاصة بعلم الأعصاب متعلِّقة بأساس الذات في الدماغ. نحن بالطبع لا يمكننا تناوُل كل تلك النظريات هنا؛ لذا فقد اخترْتُ أمثلةً قليلة لها تبعات واضحة فيما يتعلَّق بالوعي.
لقد قيل عن كتاب وليام جيمس «مبادئ علم النفس» الذي ظهر في عام ١٨٩٠ إنه أشهر كتاب في تاريخ علم النفس؛ ففي مجلدين كبيرين، تناوَلَ جيمس كلَّ جوانب الوظائف العقلية والإدراك الحسي والذاكرة، وسعى بكلِّ قوةٍ لتحديد طبيعة الذات المجربة، التي ادَّعَى أنها «أكثر الألغاز المحيِّرة التي تدخل ضمن نطاق علم النفس».
إن الحل الذي قدَّمَه كان نظريةً مهمةً ربما يمكن فهمها على الوجه الأمثل من خلال مقولته الشهيرة: «التفكير هو نفسه الشخص المفكِّر.» رأى جيمس أن أفكارنا لها نوع من الحميمية والدفء بالنسبة إلينا، الأمر الذي حاوَلَ أن يفسِّرَه على النحو التالي: في أي وقت، ربما يكون هناك نوع خاص من التفكير الذي يرفض بعضَ محتويات تيار الوعي، لكنه يوافق على محتويات أخرى ويجمعها معًا ويدَّعِي أنها ملكه. وفي اللحظة التالية، يكون هناك تفكير آخَر يأخذ المحتويات السابقة ويجمعها معًا وينسبها لنفسه، مُوجِدًا شعورًا بالوحدة. بهذه الطريقة — بحسب قوله — يبدو أن التفكير هو نفسه الشخص المفكِّر. وتبدو تلك النظرية وكأنها نظرية حديثة على نحو استثنائي، ترى أنه لا توجد ذات أو أنا ثابتة. لكن جيمس رفَضَ نظريةَ الحزمة، وكان يؤمن بقوة الإرادة وبوجود قوة روحية شخصية.
بعد مرور مائة عام، حاوَلَ علماء الأعصاب تناوُلَ المشكلة؛ فأشار راماتشاندران إلى بحثه عن ملء الفجوات (انظر الفصل الرابع) الذي يبدو أنه يطرح مسألة مَن الذي يتم له ملء الفجوات في الصورة. عبر هذا البحث، قال: «… يمكن أن نبدأ في تناوُل أكبر الألغاز العلمية والفلسفية التي نواجهها، وهي طبيعة الذات.» اقترَحَ راماتشاندران أن عملية ملء الفجوات لا تتمُّ من أجل شخصٍ ما، ولكن من أجل شيء ما، وهذا الشيء هو عملية دماغية أخرى؛ أيْ عملية في الجهاز الحوفي للدماغ.
تأخذ نظريات إطار العمل الشامل نفسَ الخط؛ حيث تساوي بين الذات ومجموعات معينة من الخلايا العصبية المتفاعلة؛ على سبيل المثال: في نظرية بارس، يحدِّد تسلسلٌ من السياقات ما يدخل تحت دائرة الضوء في مسرح الوعي. والأبرز من بين هذه النظريات هي نظرية نظام الذات، التي تقول إن هذا النظام هو الذي يسمح بأن تكون المعلومات قابلةً للاستخدام والتعبير عنها. ويمكن تفسير اضطراب تعدد الشخصية من خلال تسلسُلات سياقية مختلفة تتنافَسُ من أجل الوصول إلى إطار العمل الشامل وإلى الذاكرة والحواس، لكن هذا لا يسمح بوجود الذوات الخفية التي وصَفَها جيمس وهيلجارد.
هناك مثال آخَر يتمثَّل في النظام المتعدِّد المستويات لداماسيو: إن الكائنات البسيطة لديها مجموعة من الأنماط العصبية التي ترسم خريطةً لحالة الكائن لحظةً بلحظة، والتي سمَّاها الذاتَ البدائية. أما الكائنات الأكثر تعقيدًا، فلديها وعي أساسي مرتبط بذات أساسية، وهذا لا يعتمد على الذاكرة أو التفكير أو اللغة، ويوفِّر إحساسًا بالذات في الوقت الحاضر؛ إنها ذات مؤقتة، يتم إعادة إنتاجها على نحوٍ لا نهائي لكل شيء يتفاعل معه الدماغ. وأخيرًا، مع القدرة على التفكير والذاكرة الشخصية، يأتي الوعي الممتد والذات الشخصية. هذه هي الذات التي تحكي عنها عند سَرْدِك قصةَ حياتك؛ إنها صاحبة الفيلم الذي في الدماغ التي تبرز داخل هذا الفيلم.
تشترك كل هذه النظريات في أنها تساوي بين الذات وعملية دماغية معيَّنة، وربما تحاوِلُ تفسيرَ أصلِ الذات وتركيبها، لكنها لا تقترب من لغز الوعي. في كل حالة، يُقال إن ذاتًا ما قد خابرت عمليات دماغية لأنها عُرِضَتْ على عملية دماغية أخرى أو أُتِيحت لها، لكن مسألة كيف يحوِّلها هذا إلى تجارب واعية أو لماذا، تظل أمرًا لا يمكن تفسيره.
أخيرًا، هناك نهج مختلف تمامًا قدَّمه دينيت؛ بعد أن رفض دينيت المسرحَ الديكارتي، رفَض أيضًا المُشاهد الذي يشاهد العرض. ادَّعَى دينيت أن الذات شيء يحتاج إلى تفسير، لكنه غير موجود بالطريقة التي يوجد بها أيُّ شيء مادي (أو حتى أي عملية دماغية)، وكما هو الحال مع مركز الجاذبية في الفيزياء، إنه لَتعبير تجريدي مفيد. في واقع الأمر، أُطلِق على تلك الذات اسمُ «مركز الجاذبية السردي»؛ فاللغة تنسج قصة ذات، ونحن نؤمن بأن هناك — بالإضافة إلى وجود جسم واحد لنا — ذاتًا داخلية واحدة تمتلك وعيًا ولها آراء وتتَّخِذ قراراتٍ. حقيقةً، لا توجد ذات داخلية، وإنما توجد فقط عمليات متوازية متعدِّدة ينشأ عنها وَهْم مستخدم حميد؛ أيْ خيال مفيد.
يبدو أن أمامنا بعضَ الاختيارات الصعبة عند النظر إلى ذاتنا الغالية، يمكن أن نتشبَّثَ بالطريقة التي تبدو بها لنا، ونفترض أن هناك ذاتًا أو روحًا دائمة، حتى لو كان هذا لا يمكن أن يحدث ويؤدِّي إلى مشكلات فلسفية عميقة، ويمكن أن نساويها بنوعٍ ما من العمليات الدماغية ونؤجِّل مسألة لماذا يجب أن تكون لتلك العملية الدماغية تجاربُ واعية على الإطلاق، أو يمكن أن نرفض أيَّ كيانٍ دائم يقابل شعورنا بكوننا ذاتًا.
أعتقد أننا فكريًّا يجب علينا أن نسلك هذا المسارَ الأخير. تكمن المشكلة في أنه من الصعب جدًّا قبولُ حياتنا الذاتية؛ يعني هذا أن ننظر على نحوٍ مختلف تمامًا إلى كل تجربة، ويعني أيضًا الاعتقاد بأنه لا يوجد مَن يمر بتلك التجارب، وأنه في كل مرة أبدو فيها أنني موجود، فإن هذا مجرد وَهْم مؤقَّت وليس نفس الذات الشخصية التي بَدَا أنها كانت موجودة قبل لحظة أو الأسبوع الماضي أو العام الماضي. إن هذا صعب، لكني أعتقد أن الأمر سيصبح أكثر سهولةً مع الممارسة.