الإرادة الواعية
هل نتمتع بإرادة حرة؟
مدَّ يدك أمامك، ثم اثنِ رُسغك كلما أردتَ بناءً على إرادتك الحرة.
هل قمتَ بهذا؟ إن لم تكن قد فعلتَ ذلك، فلا بد أنك قررتَ ألَّا تُلْقِ بالًا. في كِلا الحالَين، لقد اتخذتَ قرارًا، لقد قمتَ بثني يدك في لحظةٍ ما، أو أنك لم تفعل ذلك على الإطلاق. السؤال الآن: مَن الذي أو ما الذي اتخذ القرار أو بدأ الفعل؟ هل ذاتك الداخلية؟ أم قوة الوعي؟ هذا ما قد يبدو لك، لكن كما رأينا، هناك مشكلات معقَّدَة فيما يتعلَّق بفكرة وجود ذات داخلية، وحتى لو كانت تلك الذات موجودةً، فليست لدينا أي فكرة عن الكيفية التي قد تتسبَّب بها في حدوث الفعل؛ لذا ربما كانت هناك عمليات دماغية متعددة، تحدث على نحو متتالٍ، هي التي حدَّدَتْ إذا ما كنتَ قد ثنيتَ رُسغك أم لا، ومتى تمَّ هذا.
يتفق ذلك حتمًا مع الدليل التشريحي؛ فنحن نعرف الكثيرَ عن التحكُّم في الأفعال الإرادية من خلال التجارب التي أُجرِيت على كلٍّ من البشر والحيوانات، فعندما يتم القيام بأي فعل إرادي مثل ثَنْي الرُّسغ، تشترك العديد من مناطق الدماغ في ذلك، ويكاد تسلسل الأحداث يكون كما يلي: يبدأ النشاط في المنطقة قبل الجبهية التي ترسل وصلاتٍ عصبيةً إلى القشرة أمام الحركية، وهذا يبرمج الأفعال ويرسل وصلاتٍ عصبيةً إلى القشرة الحركية الأولية، التي ترسل بدورها الأوامرَ الخاصة بتحريك العضلات.
هناك مناطق أخرى لها دور في أفعال معينة؛ على سبيل المثال: في الكلام، تنتج منطقة بروكا الناتج الحركي وهي توجد عند معظم الذين يكتبون باليد اليمنى في الجانب الأيسر من الدماغ، تأتي بعد ذلك المنطقة الحركية الإضافية التي تتعامل مع التسلسُل والبرمجة الدقيقين للأفعال السابقة التخطيط، والقشرة الحزامية الأمامية المعنيَّة بالانتباه للمشاعر والألم إلى جانب الفعل. وأخيرًا، توضِّح أدلةٌ من عمليات تصوير للدماغ في البشر أن هناك منطقةً تُسمَّى القشرةَ قبل الجبهية الظهرية الجانبية مَعنِيَّة على نحوٍ فريدٍ بالتجربة الذاتية الخاصة بتحديد وقت الفعل وكيفيته.
لذا، فالمشكلة هي كما يلي: يمكن للعلم أن يكشف عن الخلايا العصبية التي تكون نَشِطة عند قدوم المعلومات الحسية وتخطيط الأفعال وتنفيذها، غير أنه لا يبدو أن الخلايا العصبية مسئولة عن اتخاذ قرار بالفعل، سواء في القشرة أمام الجبهية أو في أي مكان آخَر. وإنما يبدو أن ثمة شيئًا آخر — ذاتي أو وعيي — يجعلني حرًّا في الاستجابة بالطريقة التي أرغب فيها.
تلك هي المشكلة الكلاسيكية الخاصة بالإرادة الحرة، التي قال عنها ديفيد هيوم إنها أكثر المسائل المثيرة للجدل في الميتافيزيقا. في واقع الأمر، يقال إنها أكثر المسائل نقاشًا بين كل المسائل الفلسفية، بدايةً من الفلسفة اليونانية وما بعد ذلك. أثارَتْ تلك المسألة مشاعرَ قويةً؛ لأن الحرية تستتبع المسئولية، فنحن نعتبر أنفسنا مسئولين، ونعتبر الآخرين مسئولين عن أفعالهم بافتراض أنهم يختارون بحريةٍ التصرُّفَ بالطريقة التي يقومون بها، فإذا لم تكن هناك إرادة حرة، فقد تبدو المسئولية الأخلاقية للبشر مهدَّدةً؛ ومن ثم يبدو حكم القانون مهدَّدًا.
إن جزءًا من المشكلة يتعلَّق بالحتمية؛ فبالنسبة إلى العديد من الفلاسفة الأوائل، إلى جانب العلماء الحاليين، يبدو أن الكون حتمي؛ أي إن كل الأحداث محدَّدة سلفًا من قِبل أحداث سابقة. إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يفترض أن كل شيء يحدث لا بد أنه محتوم، وإذا كان كل شيء كذلك، فلا مجال للإرادة الحرة؛ لأن كل أفعالي لا بد أنها محدَّدة سلفًا. يعني هذا أنه لا مجالَ لاختياري فعلَ أي شيء، ولا معنى في إمكانية قيامي بأي شيء آخَر.
اعتقَدَ بعض الفلاسفة أنه لا يمكن الجمع بين الإرادة الحرة والحتمية، وحاجُّوا بأنه إما أن الحتمية خاطئة (الأمر الذي يبدو غير محتمَل وصعبًا جدًّا في إثباته)، وإما أن الإرادة الحرة لا بد أنها وهْمٌ (لأنها ستكون مكافِئةً للسحر؛ أيْ تدخُّلًا مستحيلًا غير مادي). لاحظ أن ظهور عمليات عشوائية حقيقية في العالم الحتمي، كما في فيزياء الكم أو التحلُّل الإشعاعي، لا يعطي مجالًا لوجود الإرادة الحرة؛ حيث إن تلك العمليات لا يمكن على الإطلاق التأثير فيها، إن كانت بحقٍّ عشوائيةً.
في المقابل، يجد مَن يحاولون الجمع بين الإرادة الحرة والحتمية طرقًا عديدة ومتنوِّعة للقيام بذلك؛ على سبيل المثال: إن بعض العمليات الحتمية فوضوية، يعني هذا أنه يمكن أن تكون لها نتائج معقَّدة على نحوٍ غير معتاد، لا يمكن التنبؤ بها، حتى نظريًّا، على الرغم من أنها حتمية بالكامل في الأحوال المبدئية. كذلك، فإن البشر لا بد أن يقوموا باختيارات معقَّدة حتى في العالم الحتمي. فالبشر — مثلهم مثل الحيوانات الأخرى وبعض الآلات — عناصر فاعلة معقَّدة يجب أن تتَّخِذَ العديدَ من القرارات. في واقع الأمر، إنهم لا يمكنهم الاستمرار في هذه الحياة دون فعل ذلك. بالنسبة إلى بعض الذين يحاولون إثباتَ إمكانية هذا الجمع بين الإرادة الحرة والحتمية، فإن هذا النوع من اتخاذ القرار كافٍ جدًّا كأساس للمسئولية الأخلاقية والقانون، والبعض سعداء لاعتبار أن هذا هو حرية الإرادة.
السؤال الآن: أين مكان الوعي في هذا الإطار؟ يرى البعض أن الوعي هو الذي يعطي المسألةَ كلها طابعها المميز؛ فبالنسبة إلى البعض، إن القدرة البشرية على التفكير الواعي بذاته هي التي تميِّزنا عن الحيوانات الأخرى والآلات؛ فهم يرون أن لدينا إرادةً حرة لأن بإمكاننا الموازنة الواعية بين البدائل وتقدير عواقبها؛ ومن ثَمَّ يمكن أن نكون مسئولين عن اختياراتنا، غير أن هذا يرجعنا على نحوٍ مباشِرٍ إلى المشكلة نفسها. فإذا كان الوعي يُنظَر إليه كقوة تجعل الإرادة الحرة ممكنةً، فإنه يكون مكافِئًا للسحر؛ أي إنه تدخُّل مستحيل في عالم مغلَق سببيًّا، لكن إذا لم يكن الوعي بمثل هذه القوة، فإن إحساسنا بالتحكُّم الواعي يجب أن يكون وهمًا، وقد تساعدنا بعض التجارب في تحديد أي الجانبين على صواب.
توقيت الأفعال الواعية
هل قمتَ بالمهمة البسيطة المتمثِّلة في مدِّ يدك ثم ثَنْي رُسغك؟ إن لم تقم بها، فيجب أن تفعل الآن — أو تكرِّر ذلك بضع مرات — لأن هذا الفعل البسيط معروفٌ عند دراسة الجانب النفسي للفعل الإرادي.
في عام ١٩٨٥، قام ليبيت بتجربةٍ لا يزال يُثار الجدل بشأنها حتى الآن؛ فقد طرح السؤالَ التالي: عندما يثني شخص رسغه على نحوٍ تلقائي ومقصود، فما الذي يبدأ الفعل؟ هل هو القرار الواعي بالقيام بالفعل أم عمليةٌ دماغيةٌ غيرُ واعية؟ للردِّ على هذا السؤال، طلَبَ من المشاركين في تجربته القيامَ بثني رسغهم على الأقل ٤٠ مرة، في الأوقات التي يريدونها وقاسَ ثلاثة أشياء، وهي: الوقت الذي تمَّ فيه الفعل، والوقت الذي بدأ فيه النشاط الدماغي في القشرة الحركية، والوقت الذي اتخذوا فيه القرار على نحو واعٍ بالقيام بالفعل.
إن أول شيئين كان من السهل تحديد وقتهما؛ إذ يمكن تحديد الفعل نفسه من خلال وضع أقطاب كهربية على الرسغ (أيْ مخطط كهربية العضلات)، ويمكن قياس وقت بداية النشاط الدماغي باستخدام أقطابٍ كهربيةٍ على فروة الرأس (أيْ مخطط كهربية الدماغ) تكتشفُ إشارةً تتزايد تدريجيًّا تُسمَّى «إمكانية الاستعداد». تكمن الصعوبة في تحديد وقت اللحظة التي قرَّرَ فيها المشاركون القيام بالفعل، والتي أشار إليها ليبيت بالإرادة؛ إذ تكمن المشكلة في أنك إنْ طلبتَ منهم الصراخَ أو الضغطَ على زرٍّ أو فعل أي شيء آخَر، فسيكون هناك تأخير آخَر قبل أن يحدث الفعل الجديد هذا، كما هو الحال مع الفعل الخاص بثني الرسغ. كذلك، فإن القرار الخاص بالصراخ قد يتداخَلُ مع القرار الأساسي الذي يتم قياسه؛ لذا وضع ليبيت طريقةً خاصة لقياس الإرادة؛ فقد وضع أمام المشاركين في تجربته شاشةً تظهر عليها نقطةٌ تدور في دائرة مثل عقارب ساعة، ثم طلب من المشاركين مشاهدةَ الساعة وتحديد مكان وجود النقطة عندما قرَّروا القيام بالفعل. استطاعوا حينها — بعد أن انتهى الفعل — الإشارةَ إلى مكان النقطة في تلك اللحظة المهمة، وهذا ما سمح لليبيت بتحديد وقت اتخاذهم قرارَ القيام بالفعل.
السؤال هو: ما الذي حدث أولًا؟ الإرادة أم إمكانية الاستعداد؟ قد ترغب في تحديد أي الإجابتين تتوقَّع أن تكون صحيحةً، وقد يكشف هذا عن آرائك العامة عن الذات والوعي والإرادة الحرة.
اكتشَفَ ليبيت أن القرارَ الخاص بالقيام بالفعل أو الإرادة يحدث قبل القيام بالفعل بنحو ٢٠٠ ملِّي ثانية (أيْ خُمْس ثانية)؛ لكن إمكانية الاستعداد بدأت قبل ذلك بنحو ٣٥٠ ملِّي ثانية، أيْ قبل القيام بالفعل بنحو ٥٥٠ ملِّي ثانية قبل الفعل. بعبارة أخرى، تبدأ العمليات الدماغية التي تخطط الحركة قبل أن تتكوَّنَ لدى الشخص الرغبةُ الواعية في الحركة بأكثر من ثلث ثانية، وهذا وقت طويل جدًّا في عرف الدماغ، فلا بد أنه قد حدث قدرٌ كبير من المعالجة العصبية قبل أن يقرِّرَ الشخصُ الحركةَ على نحوٍ واعٍ.
ربما ليس من الغريب أن تلك النتيجة قد ثار حولها الكثير من الجدل؛ ففي النهاية يبدو أنها تهدِّد أهم افتراضاتنا حول الفعل الإرادي، الذي مفاده أن قرارنا بالقيام بالفعل هو الذي يبدأ عملية الفعل بأكملها. لكن إذا فكَّرْتَ في هذا، فستجد أن الفكرة التي ترى أن هناك قرارًا واعيًا يبدأ قبل أي عمليات دماغية، ستكون مكافِئة للسحر؛ إذ تعني أن الوعي يمكن أن يظهر فجأةً ويؤثِّر في الأحداث المادية التي تتم في الدماغ. إن النظريات الوحيدة التي تقرُّ بهذا هي نظريات الثنائية، مثل النظرية الديكارتية أو نظرية بوبر وإيكلز، وقد عرضنا من قبلُ المشكلاتِ الموجودةَ في تلك النظريات.
يعني هذا أنه لا ينبغي أن يندهش أحدٌ من النتائج التي توصَّل إليها ليبيت، غير أن هذا لم يحدث؛ فالفلاسفة وعلماء الإحصاء وعلماء النفس وعلماء الفسيولوجيا كلهم قد دخلوا في نقاشات طويلة ومعقَّدة حول معنى تلك النتائج.
البعض قَبِلَ النتائجَ دون تمحيصٍ، وخلَص إلى أن الوعي يأتي دوره متأخِّرًا جدًّا عند بدء عملية الفعل الإرادي، ولذلك لا يمكن أن يكون السببَ النهائي لها؛ وهذا يعني أنه ليسَتْ لدينا إرادة حرة.
من بين هؤلاء مَن جادَلَ بشأن تلك النتيجة، وحاوَلَ البعضُ التشكيكَ في صحة النتائج؛ على سبيل المثال: التشكيك في الطريقة التي قِيسَتْ بها الإرادة أو المهمة المنفذة أو تصميم التجربة، لكن ليبيت نفَّذَ العديدَ من التجارب الضابطة التي استبعدَتْ معظمَ المشكلات، وقد توصَّلَتِ التجاربُ المشابهة لاحقًا على نحوٍ عامٍّ إلى النتائج نفسها.
في حين ادَّعَى آخرون أن النتائج لا يمكن تعميمها لأنواع الأفعال المهمة بالنسبة إلى الإرادة الحرة؛ على سبيل المثال: في تلك المهمة، كان بإمكان المشاركين اختيارُ وقت قيامهم بالفعل فقط، وليس نوعية الفعل الذي سيقومون به. كذلك، فإن حركة بسيطة للرسغ لا يمكن مقارنتها بفعل معقَّد مثل النهوض من السرير أو قراءة كتاب، ناهيك عن القيام باختيار صعب مثل قبول إحدى الوظائف أو تحديد طريقة تربية الأطفال؛ بهذه الطريقة رأى هؤلاء أن نتائج ليبيت لا تُعَدُّ دليلًا ضدَّ عدم وجود نوع الإرادة الحرة المهم.
لم يقبل ليبيت نفسه هذه الانتقادات، ولا فكرة أن الإرادة الحرة وهم؛ بدلًا من ذلك، وجَدَ دورًا آخَر للوعي في الفعل الإرادي؛ حيث لاحَظَ أن المشاركين في تجربته أحيانًا يقولون له إنهم امتنعوا عن فعل الحركة قبل فعلها تمامًا، وقد جعله هذا يقوم بتجربة أخرى لاختبار هذا الأمر، وأوضح أنه في تلك الحالات تبدأ إمكانية الاستعداد كالمعتاد، لكنها تختفي قبل نحو ٢٠٠ ملِّي ثانية من الوقت المفترض أن يحدث فيه الفعلُ. ومن ثم فقد رأى وجود «فيتو واعٍ»؛ فالوعي — بحسب قوله — لا يمكنه بدء عملية ثني الرسغ، لكن يمكنه أن يعمل على منعها. بعبارة أخرى، على الرغم من أنه ليسَتْ لدينا إرادة حرة للفعل، فإن لدينا إرادةً حرة لعدم الفعل.
قال ليبيت إن لهذا تبعاتٍ مهمةً على الحرية والمسئولية؛ فهذا يعني أنه على الرغم من أنه لا يمكننا التحكُّم الواعي في ميولنا أو دوافعنا، فإنه يمكننا عن وعيٍ منْعُ تحوُّلِها إلى أفعال؛ لذا لا ينبغي — على سبيل المثال — أن نُسأَل عن مجرد تخيُّل الرغبة في القتل أو الاغتصاب أو السرقة؛ لأن تلك الدوافع ليس لدينا تحكُّمٌ واعٍ بها، لكن يمكن أن نمنع أنفسَنا من فعل تلك الأشياء لأن لدينا حق اعتراض واعٍ. بتلك الطريقة، استطاع ليبيت تقبُّلَ نتائجِ تجربته دون التوقف عن الاعتقاد في قوة الوعي. في واقع الأمر، لقد تجاوَزَ هذا وطوَّر «نظريةَ المجال العقلي الواعي»، التي ترى أن التجربة الذاتية خاصية فريدة وأساسية في الطبيعة؛ أي هي مجال ينشأ من نشاط الدماغ، ويمكن أن يؤثِّرَ بدوره في هذا النشاط. زعم ليبيت أن هذا المجال الموحَّد القوي يفسِّر السمتين الأكثر صعوبةً فيما يتعلَّق بالوعي، وهما: وحدة حياتنا العقلية، وإحساسنا بالإرادة الحرة.
أخيرًا، إن أكثر الانتقادات الموجَّهة للتجربة حدَّةً هو أنها تقوم على اعتقاد خاطئ مفاده أنه يمكن تحديد توقيت التجارب الواعية. كما رأينا في الفصل الثالث، تؤدِّي التجارب التي تحاول تحديد العلاقة بين الوعي والوقت إلى الكثير من المشكلات والنتائج المتعارضة، وللخروج من ذلك علينا تبنِّي وجهةِ نظرٍ متشكِّكة بالكامل في فكرة إمكانية تحديد توقيت التجارب الواعية. تذكر أن تجربة ليبيت تعتمد على توقيت اللحظة التي تمَّ فيها اتخاذ القرار في الوعي، أو اللحظة التي أصبحنا على وعي به؛ لكن هل من المقبول أن نقول إن هناك مثل هذا الوقت؟
إن فكرة إمكانية تحديد توقيت التجارب الواعية بأكملها مُلغزة؛ لأنها تفترض أن هناك مجموعتين من الأوقات: الأوقات التي تقع فيها الأحداث التي تتم في الدماغ، والأوقات التي نصبح فيها على وعي بتلك الأحداث أو التي تدخل فيها تلك الأحداثُ دائرةَ الوعي. بعبارة أخرى، بقبول إمكانية تحديد توقيت اللحظة التي تمَّ فيها اتخاذُ القرار في الوعي، فأنت تقرُّ بأن التجارب الواعية شيء مختلف عن الأحداث التي تتمُّ في الدماغ.
أحد البدائل أن ترفض فكرةَ أن التجارب الواعية أحداثٌ تقع في أوقات معينة، ويعني هذا تفسير تلك التجارب على نحوٍ مختلفٍ تمامًا. قد نقول إن المشاركين في التجربة حدَّدوا مكانَ النقطة عندما عرفوا أن هناك حركةً على وشك الحدوث، بدلًا من القول إن هذا هو الوقت الذي تمَّ فيه اتخاذ القرار عن وعي. بهذه الطريقة، لا يمكن للإرادة الواعية أن تبدأ الأفعالَ، ليس لأنها تأتي في وقت متأخِّر، وإنما لأنها ليسَتْ شيئًا منفصِلًا عن العمليات التي تحدث في الدماغ؛ ومن ثَمَّ فهي لا تمثِّل أيَّ شكل من أشكال القوة على الإطلاق.
الإحساس بالإرادة الواعية
إن كل تلك المناقشات والتجارب تلقي بظلال الشك على فكرة أن الوعي هو سبب أفعالنا، غير أنه يظلُّ لدينا إحساس لا يتبدَّل بأنه كذلك؛ لذا ربما يكون من المفيد أن نستكشف كيف يتولَّد لدينا هذا الإحساس. فعندما تحدث الأفعال، يكون علينا تحديد إن كنَّا نحن السببَ فيها أم شخص آخَر، ويمكن أن نخطئ في هذا بطريقتين مثيرتين للاهتمام.
بدايةً، يمكن أن نفعل شيئًا ونعتقد على نحوٍ خاطئٍ أن شخصًا آخَر هو المسئول عن فعله؛ ففي عام ١٨٥٣، أجرى مايكل فاراداي (١٧٩١–١٨٦٧)، عالم الفيزياء المعروف بأبحاثه في مجال الكهرباء، تجربةً حاسمةً على التحكُّم الواعي. في ذلك الوقت، في منتصف القرن التاسع عشر، كان الولع بتحضير الأرواح في أَوْجِه؛ حيث انتشَرَ من بلدة صغيرة في ولاية نيويورك عبر أوروبا والولايات المتحدة، وكان الوسطاء الرُّوحانيون يقدِّمون عروضًا مبالَغًا فيها لما كانوا يدَّعُون أنه تواصُلٌ مع أرواح الموتى. ومن أشهر طرق هذا التواصُل القرع على الطاولة.
في هذا النوع من جلسات تحضير الأرواح، يجلس عدد من الأشخاص حول طاولة ويضعون أيديهم على نحوٍ مستوٍ أمامهم، ثم ينادي الوسيطُ الرُّوحاني على الأرواح ليُعلِنوا عن حضورهم، ويحدث أن تبدأ الطاولة في الحركة على نحوٍ غامِضٍ، ويطلب الوسيط من الأرواح الإجابةَ عن أسئلة الحاضرين، بأن ينقروا مرةً واحدةً للإجابة بنعم، ومرتين للإجابة بلا، أو باستخدام شفرات أبجدية أكبر، وهكذا يتمُّ طرح الأسئلة والحصول على إجابات عنها، ويعود الحاضرون إلى بيوتهم معتقِدين أنهم تحدَّثوا مع آبائهم أو أزواجهم أو أولادهم المتوفَّين. وفي أكثر تلك الجلسات دراميةً، رُوِي أن الطاولة كانَتْ تخبط بأرجلها على الأرض، أو تنقلب، أو ترتفع لأعلى على رجلٍ واحدةٍ، أو حتى ترتفع بالكامل عن الأرض.
بالطبع، إن الاتهامات بالغش كانت منتشِرةً، وضُبِط بعضُ الوسطاء وهم يستعينون ببعض الأشخاص المخفِيِّين عن الأنظار أو عصِي أو حبال مخفيَّة، غير أن بعضهم بَدَا أنه ليست لديه فرصة للغش، حتى إنهم قُيِّدوا بحبالٍ وكانوا معصوبي العينين أثناء العرض. أراد فاراداي أن يكتشف ما يحدث، ففي النهاية، إذا كانَتْ قوةٌ بحقٍّ مشترِكة في الأمر، فإن اكتشافها يمكن أن يغيِّر مسارَ علم الفيزياء، وإذا كان وعي أرواح الموتى يمكنه تحريك طاولة ثقيلة، فقد كان يرغب في معرفة الكيفية التي يتم بها هذا.
لكي يكتشفَ هذا، أَلْصَقَ قطعًا من الكرتون بالطاولة بمادة لاصقة خفيفة بحيث تتحرك قليلًا إذا تحرَّكَتْ أيدي المشاركين في جلسة تحضير الأرواح بطريقةٍ أو بأخرى. اعتقَدَ أنه إذا كانت الأرواح هي مَن تحرِّك الطاولة بالفعل، فستتأخَّر حركةُ قطع الكرتون عن حركة الطاولة، لكن إذا كان المشاركون يقومون بالدفع أو السحب، فمن المفترض أن تتحرَّك قِطَعُ الكرتون قبل أن تتحرك الطاولة. كانت النتائج واضحةً؛ كانت قِطَع الكرتون تتحرك دائمًا في اتجاه تحرُّك الطاولة. بعبارة أخرى، كان المشاركون — وليس الأرواح — هم المسئولين عن تحريك الطاولة.
سألهم فاراداي عن ذلك، واقتنع بأنهم لم يدركوا ماذا كانوا يفعلون. وفي تجارب أخرى، طوَّرَ مقياسًا يوضِّح كَمَّ الضغطِ الجانبي الذي يضعه المشاركون على قطع الكرتون؛ فعندما كان باستطاعتهم رؤية المقياس، توقَّفَتْ كلُّ الحركات. لم يخلص فاراداي إلى أن المشاركين كانوا يغشون، وإنما خلَص إلى أنهم يقومون ﺑ «حركة عضلية غير واعية»؛ وكان هذا أول إثباتٍ على أننا أحيانًا نعتقد أننا لا نقوم بشيء في حين أننا نقوم به بالفعل.
ينطبق الأمر نفسه على لوحة ويجا الحديثة، التي يتم فيها وَضْعُ الأحرف والأرقام حول حافة طاولة، ويضع المشاركون أصابعهم على أسفل كوب مقلوب، وعندما تُطرَح عليهم أسئلة، يبدو الكوب وكأنه يتحرَّك دون أن يتحكَّمَ فيه أحدٌ على نحوٍ واعٍ. يحدث هذا لأن عضلات الذراع تتعب بسرعةٍ؛ مما يجعل من الصعب تتبُّع مكان أصابع المشاركين، وعندما تحدث حركة بسيطة، يعدِّل المشاركون وضْعَ أصابعهم؛ مما يتسبَّب في حركةٍ أكبر بكثير. إن مثل هذه التعديلات طبيعية جدًّا؛ في واقع الأمر، فهي مهمة للحفاظ على استقامة ظهورنا عندما نقف ثابتين، أو عند الإمساك بكوب ساخن من الشاي بأمان في أيدينا؛ فلا يمكن أن تبقى أي عضلة دون أن تتحرك؛ ومن ثَمَّ فإن جسمنا يكون في حالة دائمة من الحركة البسيطة مع إعادةِ ضبطٍ وتعديلٍ دائمين في الوضع.
لاحِظْ أن وجود الحركة العضلية غير الواعية لا تعني أن هناك شيئًا يُسمَّى «اللاوعي»، الذي هو مصدر تلك الحركات، ولكنه يعني فقط أن الناس بإمكانهم القيام بأفعالٍ دون إدراك أنهم يقومون بها؛ لأن جسمهم، بكل ما فيه من أجهزةٍ متعدِّدة للتحكُّم المتوازي، هو الذي بَدَأ تلك الأفعالَ.
هناك مثال أقل إثارةً بكثير لهذا النوع من الخطأ يحدث في حالة الإصابة بالفصام؛ إن الفصام هو مرض نفسي خطير منتشر في جميع أنحاء العالم، ويصيب حوالي ١٪ من السكان. إن ما يجعل هذا المرض خطيرًا جدًّا هو فقدان الشخص لإحساسه بقدرته على التحكُّم في ذاته، ومن أكثر أعراض هذا المرض شيوعًا الهلاوسُ السمعية؛ حيث يسمع الكثيرُ من المصابين به أصواتًا تتحدَّث إليهم، وبعضهم يكون مقتنعًا بأن أرواح الموتى أو العفاريت تعيش في الجدران أو أن كائنات من الفضاء الخارجي تحاوِل التواصُل معهم. وفي حين يسمع البعض أفكارهم وهي تُعرَض بصوتٍ عالٍ بحيث يمكن للجميع سماعها، يعتقد البعض الآخَر أن أناسًا ممَّنْ حولهم يُدخِلون أفكارًا في رءوسهم. أثبتَتْ تجاربُ استخدَمَتْ أجهزةً لتصوير الدماغ أن الأصوات تتزامَن مع وجود نشاطٍ في مناطق الدماغ التي تنشط إذا كان الشخص يتخيَّل سماعَ أصوات؛ لذا يمكن أن نفترض أنهم يسمعون بالفعل أصواتًا، على الرغم من أنهم مقتنِعون بأنهم لا يفعلون ذلك. إذا استطعنا فهم كيف يحدث هذا، فإن إيجاد علاجٍ فعَّالٍ لمرض الفصام سيكون وشيكًا جدًّا.
مثال أخير على هذا الخطأ مصدره تجربة مثيرة أُجرِيت في ستينيات القرن العشرين، عندما كان إجراء عملية في الدماغ يعني في الغالب فتح الجمجمة للوصول إلى مناطق كبيرة من الدماغ. قام جرَّاح الأعصاب البريطاني وليام جراي والتر (١٩١٠–١٩٧٧) بزرع أقطاب كهربية في القشرة الحركية لبعض مرضاه، معتبرًا هذا جزءًا من العلاج، وفحص ما حدث عندما طلب منهم التحكُّم في جهاز بروجيكتور لعرض الشرائح. في بعض الأحيان، يمكنهم الضغط على الزرِّ عندما يرغبون في رؤية الشريحة التالية، وفي أحيانٍ أخرى أخذ جراي والتر الناتجَ من أدمغتهم وكبَّرَه واستخدم تلك الإشارة لتغيير الشريحة. أصابت المرضى حيرةٌ شديدة؛ قالوا إنهم عندما كانوا على وشك الضغط على الزر، كانت الشريحة تتغيَّر من تلقاء نفسها، وحتى إن كانوا بالفعل متحكمين في الأمر، فلم يكن لديهم الإحساس بالرغبة في فعل ذلك. أيًّا كان ما يمكن أن يخبرنا به ذلك، فإنه يثبت بما لا يَدَعُ مجالًا للشك أن «شعورنا» بأن لدينا إرادة حرة يمكن أن يكون في بعض الأحيان خاطئًا.
وهم الإرادة الواعية
يسرع البشر على نحو عجيب في استنتاج أن الأحداث التي يلاحظونها سببها كائنات لديها خطط ونيات، وحتى الأطفال الصغار جدًّا يستجيبون على نحوٍ مختلف للأشياء التي تتحرَّك بنفسها مقارَنةً بتلك التي يدفعها أو يسحبها شخصٌ ما غيرهم، ومع تقدُّمهم في السن، يطوِّرون ما يُطلَق عليه «نظرية العقل»؛ أيْ إدراك أن الأشخاص الآخَرين لديهم رغبات واعتقادات وخطط ونيَّات. يبدو الأمر كما لو أننا جُبلنا على اكتشافِ الكائنات الحية ونسبةِ أفعالٍ إليها. في واقع الأمر، ربما يكون هذا ما يحدث تمامًا، وربما تكون تلك القدرة قد تطوَّرَتْ لأسباب بيولوجية جيدة؛ فقد يعتمد البقاء في هذه الحياة على نحوٍ واضحٍ على التفسير الصحيح للأحداث، إما كحركات غير ذات صلة، وإما كأفعال مقصودة لكائنٍ حيٍّ آخَر.
باستخدام تلك القدرة، يمكن للناس بسهولة الخلوص إلى نتيجة أن الأحداث يتسبَّب فيها عامِلٌ ما، في حين أن الأمر ليس كذلك؛ ففي واقع الأمر، يعتمد نجاح أفلام الكرتون وألعاب الكمبيوتر على هذا؛ فهي تجعل من الممكن توفير تمثيلات بسيطة جدًّا للكائنات الحية، ومع ذلك يتفاعل الأطفال معها على نحوٍ كبير؛ على سبيل المثال: عندما ينادون على الفأر جيري كي يهرب من القط توم، أو على كيني المسكين حتى لا يقتل. ويبدو أيضًا من الطبيعي جدًّا التحدُّثُ عن الأشياء غير الحية كما لو أن لديها عقولًا؛ فلا يجد أي من الناس غرابةً في أن أقول: «ترى ساعتي أن اليوم هو يوم الخميس.» أو أن «جهاز الكمبيوتر المحمول خاصتي مصمِّم على إفساد محاضرتي.» يطلق دينيت على هذا اتخاذ «الموقف القصدي»؛ أي إننا نتعامل مع الآخَرين (أو أجهزة الكمبيوتر أو الساعات أو شخصيات الكرتون) كما لو أن لديها عقولًا، وهذا يُعَدُّ — بحسب اعتقاده — في الغالب طريقةً مختصرةً فعَّالةً لفهم ما يجري حولنا.
إننا أيضًا نطبِّق العادةَ نفسها على أنفسنا؛ إذ لسنا فقط ننسب رغباتٍ ونيات إلى الآخرين، لكننا نفترض أن لدينا ذاتًا داخلية لديها الأنواع نفسها من الرغبات والنيات، وأنها هي التي تجعل الأشياء تحدُث؛ لذا عندما نشعر بأننا أردنا شيئًا، فهذا الشعور يتحول إلى شعور أن «أنا» الفاعل فَعل هذا الشيء. وفيما يتعلق بعملية التطوُّر، فلا يهم إذا ما كان سبب الإرادة خيالًا، ما دام هذا الخيال مفيدًا.
كما هو الحال دائمًا، يمكن أن نعلم الكثير عن عمليةٍ ما من الحالات التي تمَّتْ فيها على نحو خاطئ. لقد عرضنا بالفعل أمثلة تسبَّبَ فيها أشخاصٌ في حدوث شيء، لكن لم يكن لديهم شعورٌ مقابل بأنهم هم مَن قاموا بذلك، وهناك أيضًا حالات حدث فيها العكس.
من الأمثلة على ذلك ما يُطلَق عليه «وَهْمُ السيطرة»، وهو شائع في الألعاب ومسابقات اليانصيب؛ فإذا أُعطِي للناس اختيار على رقم تذكرتهم، فهم يعتقدون أن فرص فوزهم تكون كبيرةً، وإذا فازوا فإنهم يشعرون كما لو أنهم قد ساهموا في تحقيق هذا الفوز. بالمثل، قد لا تستطيع أنديةُ القمار تحقيقَ أي عائد إن لم يكن وَهْمُ السيطرة موجودًا؛ حيث إن الشعور الدائم بأن أفعال الواحد منَّا يمكن أن تُحدِث فرقًا، هو الذي يجعل الناس تُقبِل على ممارسة ألعاب الحظ. كذلك، فإن الإيمان بالأشياء الخارقة للطبيعة يدعمه هذا الوهم؛ على سبيل المثال: إذا حاوَلَ الناس على نحو ذهني إنتاج نتيجةٍ ما وحدثَتْ تلك النتيجة، فإنه يكون لديهم شعور قوي بأنهم هم مَن أحدثوا تلك النتيجة؛ فإذا كانوا يفكِّرون طوالَ المساء في صديقٍ لهم ثم اتَّصَلَ هذا الصديق، فسيكون لديهم شعور قوي بأن أفكارهم هي السبب في اتصال الصديق بهم. إن هذه المشاعر يمكن أن تتجاوز بسهولة أيَّ إنكارٍ منطقي للتأثيرات البعيدة للأفكار.
الإيمان بالأشياء الخارقة للطبيعة
لماذا نميل نحن البشر إلى الإيمان بوجود الأشباح والأرواح وما شابَه؟ يرى عالِمُ النفس التطوري ستيفن بينكر أننا من أجل فَهْمِ الطقس أو السموات أو أنماط الصحة والمرض، نستخدم أدمغتنا وأجهزتنا الإدراكية التي تطوَّرَتْ لأغراض أخرى؛ فنحن لا يمكننا بسهولة مقاومة اتخاذ الموقف القصدي؛ ومن ثَمَّ نتصوَّر أنه لا بد أن هناك كيانًا ما هو السبب في الأحداث التي نراها.
إن نفس الميل الطبيعي هو الذي جعل تحضيرَ الأرواح والعروضَ النفسية التي بها وسطاء روحانيون جذَّابةً جدًّا للناس. عندما أعادَ عالِمُ النفس ريتشارد وايزمان تقديمَ جلسات تحضير الأرواح على الطريقة الفيكتورية، رأى المشاركون فيها أشياءَ تطفو في الظلام، وشعروا بلمسات على بشرتهم، وسمعوا أجراسًا تدقُّ، وكانوا مقتنعين بأن هناك أرواحًا تتحرَّك فيما بينهم. قام أحد السَّحَرَة بتقليد تلك الظواهر، لكن حتى الذين كذَّبوه انخدعوا بحِيَله؛ لأنهم عندما رأوا الأشياء تتحرَّك ظنُّوا أن شخصًا لا بدَّ أنه يحرِّكها، وعندما تحرَّكَتِ الأشياءُ تمامًا كما لو أن هناك شخصًا يتجوَّل بينهم وهو يحملها، تخيَّلوا أن هناك شخصًا بالفعل يفعل ذلك. بهذه الطريقة، يمكن بسهولةٍ الإيمان بوجود أشباح وأرواح.
هناك شعور أكثر قوةً هو الشعور بأن أفكارنا هي السبب في أفعالنا؛ شبَّهَ عالِمُ النفس دانيال ويجنر تجاربَ الإرادة الواعية بأحكامنا السببية الأخرى، وافترض أن الإرادة الحرة وَهْمٌ سببُه خطأ كبير نقوم به. يحدث هذا الوهم على ثلاث مراحل (رغم أنها قد تحدث كلها سريعًا جدًّا)؛ أولًا: يبدأ دماغنا تخطيطَه للقيام بفعلٍ ما. ثانيًا: يؤدِّي هذا النشاط الدماغي إلى أفكار بشأن هذا الفعل. ثالثًا: يحدث الفعل ثم نقفز للنتيجة بأن أفكارنا الواعية هي السبب في الفعل.
لذا، دعونا نفترض أنك قرَّرْتَ الإمساكَ بسماعة الهاتف والاتصالَ بصديقك؛ بدايةً، يبدأ النشاط الدماغي في التخطيط للفعل (الذي من المفترض أن يكون السببَ فيه نشاطٌ دماغيٌّ سابِقٌ أو أحداث خارجية)، يؤدِّي هذا النشاط الدماغي إلى إنتاجِ أفكارٍ بشأن الاتصال بالهاتف. وأخيرًا، تمدُّ يدك وتمسك بالسماعة، وتقفز إلى النتيجة الخاطئة بأن أفكارك الواعية هي التي سبَّبَتِ الفعلَ.
هل يمكن أن يتمَّ هذا الأمر على هذا النحو؟ أجرى ويجنر عدةَ تجارب للتأكُّد من هذا؛ افترض ويجنر أن هناك ثلاثة متطلبات لحدوث تجربة الإرادة: يجب أن تتكوَّنَ الفكرةُ قبل وقوع الفعل، ويجب أن تكون الفكرةُ متَّسِقةً مع الفعل، ويجب ألَّا تُصاحَبَ بأسباب أخرى. ولاختبار هذا الافتراض، أجرى ويجنر تجربةً ألهمَتْه إيَّاها لوحةُ ويجا القديمة، التي اعتمدت — مثل الطاولات الناقرة لفاراداي — على حركة عضلية غير واعية. وفي نسخة ويجنر من تلك اللوحة، استبدَلَ بالكوب لوحةً صغيرة مُثبَّتة على فأرة الكمبيوتر؛ يضع لاعبان إصبعيهما على اللوحة التي تحرك مؤشرًا على شاشةٍ تعرض ٥٠ شيئًا صغيرًا. استمع المشاركون إلى كلمات عبر السماعات، وكان عليهم الإبقاء على حركة الفأرة حتى يستمعوا إلى إشارةٍ بالتوقُّف. في واقع الأمر، كان أحد اللاعبين متحالِفًا مع ويجنر، وكان يتحكَّم في إيقاف حركة الفأرة، مما مكَّنَ ويجنر من إثبات أنه في ظلِّ ظروفٍ معيَّنة، كان الخاضعون للبحث متأكِّدين تمامَ التأكُّد من أنهم أوقفوا الفأرة بأنفسهم، في حين أن هذا في واقع الأمر قد تمَّ على يد شخص آخَر. حدث هذا، كما توقَّع ويجنر، عندما سمعوا اسمَ الشيء قبل التوقُّف مباشَرةً.
ادَّعَى ويجنر أن وهم الإرادة الحرة يحدث تمامًا مثل الخدعة السحرية، وينبع لنفس السبب. يمكن أن يدفع السَّحَرَة جمهورَهم للاعتقاد بأنهم اختاروا الورقةَ، أو أنهم خمَّنوا الرقمَ بأنفسهم، ويمكن أن ننخدع جميعًا في الحياة العادية؛ وخلَص إلى أن الاعتقاد بأن أفكارنا الواعية تسبِّب أفعالنا، ما هو إلا وَهْمٌ، وسواء أكنتَ تتَّفِق مع هذا أم لا، فإن تلك الأمثلة التي عرضناها تطرح شيئًا واحدًا على نحو مؤكَّد؛ وهو أن شعورنا بأننا نريد شيئًا، ليس دليلًا على أنه لدينا — أو ليس لدينا — إرادة حرة.
إذا اتَّفَقْتَ مع هذا الرأي وخلَصت إلى أن الإرادة الحرة وَهْمٌ، فكيف يمكنك — أو ينبغي لك — أن تعيش حياتك؟ يخلُص بعض الناس إلى أنه لا معنى من فعل أيِّ شيء، وقد يمتنعون عن فعل أي شيء؛ لكنَّ هذا ليس نتيجةً لذلك النقاش وليس من السهل القيام به. فإذا اعتقدتَ أنك يجب أن تتبع هذا النهج، فاسأل نفسك ماذا ستفعل؛ حيث سيكون عليك مواجَهة حقيقة أنك لا يمكنك ببساطة ألَّا تفعل أي شيء؛ فالبقاء في السرير طوالَ اليوم لا يعني أنك لا تفعل شيئًا، ومن المفترض أنك ستقوم لتناوُلِ الطعام أو الذهاب إلى الحمام. كما أن إنهاء حياتك ليس معناه أنك لا تفعل شيئًا، كما أنه أمر ليس سهلًا أو مقبولًا. وبتقبُّلِكَ لفكرة كيف يمكن أن تكون حياتك دون أن تؤمن بأن لديك إرادة حرة، سيكون من السهل عليك أن تتخلَّص من الوهم.
السؤال الآن: ماذا بعدُ؟ حتى إذا كانَتِ الإرادةُ الحرة من الناحية الفنية وَهْمًا، فهو وهم قوي جدًّا؛ ولذا يلازمنا الشعور بأن لدينا إرادة حرة، حتى لدى الناس الذين لا يؤمنون بأن هذا صحيح، الذين يقولون أحيانًا إنهم يعيشون «كما لو» كانت الإرادةُ الحرة موجودةً، و«كما لو» أنهم والآخرين لديهم ذوات. بهذه الطريقة، يمكنهم أن يعيشوا دون أن يؤمنوا بشيء يعرفون أنه من المحتمل ألَّا يكون صحيحًا، وبالنسبة إلى الآخرين، يختفي هذا الشعور في النهاية.