تطوُّر الوعي
افترِضْ أنك في يوم جميل، وأنك تحدِّق في شجرة بلوط كبيرة في الغابة؛ إنك ترى الأوراقَ الخضراء وهي تتحرك كالأمواج في أثناء هبوب النسيم، والظلَّ الملون يتراقص على أرضية الغابة، والطيورَ تطير من غصن إلى آخَر، وعندما تنظر عن كثب، سترى النمطَ المتشابِكَ لِلِّحاء على جذع الشجرة، وتلمح خنفساء وهي تحاول الاختفاء، وتشم رائحةَ الأرض المتناثر عليها ثمار البلوط، وتشعر بالهواء الرطب حولك؛ تلك هي التجربة الواعية، هذه هي صورة الشجرة بالنسبة إليك.
لكن كيف تبدو الشجرة بالنسبة إلى الخنفساء، أو تلك الطيور التي تطير من غصن إلى آخَر، أو الخفافيش النائمة المختفية بالأعلى، أو الثعبان المختبئ في العشب؟ نريد أن نعرف هذا، ويبدو من المعقول أن نسأل عن رؤية الحيوان للعالَم. المشكلة أننا لا يمكننا أن نعرف؛ فكما اكتشفنا عندما سألنا: «كيف يكون الحال لو كنتَ خفاشًا؟» ليس أمامك سوى تخيُّلِ أنك خفاش أو دودة، فهذا الأمر يتعلَّق بوعي الحيوان. وهناك في الواقع مسألتان منفصلتان؛ الأولى: تتعلَّق بتحديد الكائنات الحية التي لديها وعي وشكل هذا الوعي، والثانية: تتعلَّق بوقت وكيفية تطوُّر هذا الوعي.
ربما يكون من المفيد أن نتأمَّلَ نطاقًا من الكائنات ونسأل إن كانت واعيةً أم لا. دعونا نبدأ بحجرٍ يوجد تحت الشجرة؛ معظم الناس سيتفقون على أنه ليس هناك حال معيَّن نكون عليه إذا أصبحنا حجرًا أو قطعًا من التربة حول الشجرة أو أجزاءً من لِحاء وقعَتْ من الشجرة، غير أن أنصار النظرية الروحية الشاملة يعتقدون أن كل شيء في الكون واعٍ؛ ومن ثَمَّ بالنسبة إليهم، لا توجد كائناتٌ غير واعية، والوعي موجود منذ بداية الخلق.
ماذا عن الشجرة نفسها؟ معظم الناس سيقولون إن الأشجار وغيرها من النباتات غير واعية، إلَّا أنه يمكن إثبات أن العلامات الأولى للوعي تتمثَّل في امتلاكِ حواسَّ ووجودِ قدرة على التفاعل مع العالم، والشجرة يمكن أن يكون لديها إحساس بالعالم؛ فهي تستجيب للجاذبية والضوء ودرجة الحرارة والرطوبة، وبتسريع فيلم لشجرة بلوط تنبثق من جوزتها، سنرى أن البذرة الصغيرة تتلوى متحسسة طريقها لأعلى، وأوراقها الغضة تخرج متلمسة الضوء، وسنكون أكثر ميلًا للاعتقاد باحتمالية أن لديها وعيًا. ينطبق الشيء نفسه على الأشنات والطحالب وربما البكتيريا.
ما الكائنات الأخرى التي يجب أن نضمَّها إلى القائمة؟ إذا حاوَلَ عدة أشخاص ترتيبَ الكائنات من الأقل وعيًا إلى الأكثر وعيًا، فسيحدث اختلافٌ فيما بينهم؛ فالبعض سيضع الأطفالَ الرُّضَّع قرب نهاية التسلسُلِ لأنهم لم يتعلَّموا بعدُ الكثيرَ من الأشياء، في حين أن آخَرين سيضعونهم بالقرب من قمة التسلسل نظرًا لإمكانياتهم، وسيضع البعضُ حيواناتِ الشمبانزي في مرتبةٍ مرتفعة لأنهم متشابِهون معنا جدًّا، في حين سيرى آخرون أن الغربان والحيتان والدلافين أكثر ذكاءً، وأن المهم هو عامل الذكاء.
هناك اعتبار آخَر وهو الحواس المختلفة التي تمتلكها الحيوانات؛ فالثعابين، على سبيل المثال، لديها حاسة شمٍّ حادة، في حين أن هناك حيوانات أخرى لديها مجسات خاصة لاكتشاف الأشعة تحت الحمراء والرؤية خلالها للإمساك بفريستها، والطيور لديها حاسة شم ضعيفة أو ليسَتْ لديها أيُّ حاسة شم على الإطلاق، لكنها تستطيع الرؤيةَ في الضوء فوق البنفسجي الذي لا يستطيع البشرُ رؤيتَه. في واقع الأمر، الكثير من الطيور لديها جهاز بصري رباعي اللون يعطيها قدرةً أكثر غنًى على رؤية الألوان من تلك التي لدينا في ظلِّ جهازنا البصري الثلاثي اللون. السؤال الآن: كيف يكون الحال إذا رأيتَ لونًا لا يستطيع البشرُ رؤيتَه؟ لا يمكننا حتى تخيُّل هذا؛ لأنَّ علينا استخدام الجهاز البصري في دماغنا في عملية التخيُّل، وهذا الجهاز ليس لديه أي تمثيل للألوان فوق البنفسجية.
في نفس الوقت، تمتلك الحشرات عيونًا معقَّدَة بها آلاف العدسات المنفصلة بدلًا من عين واحدة كما هو الحال بالنسبة إلى الطيور والثدييات، كما يمكنها الرؤية في ظلِّ الضوء فوق البنفسجي، والكثير من الحشرات لديه حاسة شم حادة، وهي تستخدم مساراتٍ ذاتَ رائحةٍ لقيادة رفاقها إلى الطعام، أو يتواصل بعضها مع بعض باستخدام الفيرومونات وتكتشف تلك المواد الكيميائية من خلال قرون استشعارها. ما شكل تجربتهم؟ وكيف يكون الحال إذا شممْتَ رائحةَ جثة فأر متعفِّنة باستخدام قرن استشعار حسَّاس؟ بالنسبة إلى ذبابة تضع بيضها في تلك الجثة، من المفترض أن رائحة تلك الجثة ستكون جذَّابة جدًّا. من خلال معرفتنا بحواس الحيوانات الأخرى، يجب أن نخلص إلى أن كل كائن في تلك الغابة ستكون لديه تجربة مختلفة تمامًا؛ فكلٌّ منها يعيش في بيئة أو عالَم مختلف تمام الاختلاف.
ربما لا يزال لدينا الفضول بشأن تحديد الحيوانات التي لديها وعي. من ناحيةٍ، يمكن أن يكون الوعي موجودًا أو غير موجود؛ أي إن بعض الكائنات لديها وعي، في حين أن كائنات أخرى ليس لديها وعي. يعتقد ديكارت أن البشر فقط هم مَن لديهم أرواح؛ ومن ثَمَّ فإن الحيوانات الأخرى «كائنات آلية عديمة الشعور». ومن ناحية أخرى، يمكن أن يكون الوعي متغيِّرًا مستمرًّا؛ أي إن بعض الكائنات لديها وعي أكبر من الأخرى. إن أي نظرية صحيحة للوعي ينبغي لها تحديد أي الكائنات واعية، والسبب في ذلك، وشكل هذا الوعي.
ما السبيل لمعرفة هذا؟ إننا سنصطدم ثانيةً بتلك الخاصية المثيرة للوعي التي لا يمكن أن نعرفها؛ فلا توجد آلية يمكنها اكتشافُ الوعي، وليس هناك منطقة داخلية في الدماغ لإنتاج الوعي قد نجدها في بعض الحيوانات ولا نجدها في حيواناتٍ أخرى؛ لذا يستمر السؤال دون إجابة، وإذا كان هناك سؤال لا يمكن الإجابة عنه، فربما من الأفضل أن نتوقَّفَ عن طرحه.
غير أن هذا السؤال لا يمكن أن نتوقَّفَ عن طرحه، حتى لو كان السببُ الوحيد هو أننا نهتمُّ بمعاناة الحيوانات. فلا يمكن أن يعاني أيُّ كائنٍ آليٍّ ليس لديه وعي؛ لذا إذا كان ديكارت ومَن وافَقَه على رأيه على حقٍّ، فنحن لسنا بحاجةٍ إلى القلق بشأن ألم الحيوانات؛ غير أن الحيوانات يبدو لنا أنها تعاني، فمن الواضح أن القطة ذات الفرو اللامع الكثيف والعينين اللامعتين والمزاج المرح تبدو سعيدة، في حين أنه من الواضح أن تلك ذات الفرو الخفيف الرث والعينين الجامدتين التي تعرج بسبب جرح ينزف في إحدى أرجلها؛ تشعر بالألم. لكن هل يمكن أن نتأكَّدَ من أن مشاعرنا الحدسية في هذا الشأن صحيحةٌ؟
إن مشاعرنا الحدسية هذه متقلِّبة؛ فعلى سبيل المثال: ينسب الناس على نحوٍ عامٍّ مشاعرَ أكبر للحيوانات الرقيقة والمحبوبة التي تشبهنا، مثل القطط والأرانب بعيونها الناظرة إلى الأمام. ويتبنى الناس الموقفَ الحدسي هذا تجاهَ أي شيء يتحرَّكُ على نحوٍ مقصودٍ، حتى لو كان أبسط الروبوتات، وأثبتَتِ التجاربُ التي أُجرِيتْ على الروبوتات الأكثر تعقيدًا كيف ينسب الناسُ مشاعرَ لرأسٍ حديديةٍ تقلِّد الابتسامَ أو العبوسَ أو الاستماعَ؛ فلا يمكننا الوثوق بتلك المشاعر الحدسية.
للخروج من تلك الأزمة، احتجَّت عالمة البيولوجيا ماريان ستامب دوكينز بأنه إذا كان أي حيوان يعاني بحق، فيجب أن يكون مستعدًّا للعمل من أجل تجنُّبِ سببِ معاناته. ونظرًا لقلقها من عدم وجود قشٍّ في البطاريات الخاصة بالدواجن، قامَتْ دوكينز بتصميم تجربةٍ يتوجب فيها على الدواجن دفْعُ ستارة ثقيلة للوصول إلى قفصٍ به قشٌّ. وعلى الرغم من أنه من الواضح أن الدواجن فضَّلَتِ القفصَ الذي به قش، فإنها لم تقم بأي مجهود للوصول إلى هناك. إن الإجراءات السلوكية المشابهة لهذه يمكن أن تساعِدنا على الحكم على مدى معاناة الحيوانات، لكن ربما يجعل هذا بعضَ الناس يقولون: «هذا حسن، لكن هل الحيوانات تتصرَّف كما لو كانت تتألَّم أو أنها تشعر «بالفعل» بالألم؟»
إن أفضل سبيل للإجابة عن هذا السؤال هو أن تكون هناك نظريةٌ تحدِّد القدراتِ والسلوكياتِ التي تشير إلى وجود وعي، وتلك التي تشير إلى عدم وجوده، وبالنسبة إلى الوعي عند الحيوانات، فهناك العديد من تلك النظريات.
المرايا والذوات والعقول الأخرى
إذا نظرتَ في مرآة، فماذا سترى؟ سترى ذاتك بالتأكيد. ربما يبدو هذا تافهًا، لكنه في الواقع إنجاز حقيقي؛ فكونك قادرًا على رؤية ذاتك يعني أنه لا بد أن لديك إدراكًا لمعنى الذات، وهذا ما يجعل التعرُّفَ على الذات من خلال المرآة اختبارًا معروفًا للغاية؛ فإذا كان الوعي يعتمد على وجود إدراك للذات، كما يرى بعض الناس، فاختبار المرآة قد يخبرنا بشيء عن وعي الحيوانات؛ فنحن بحاجة إلى اكتشاف أي الحيوانات يمكنها التعرُّف على ذاتها في المرآة.
كما يمكن أن يشهد أيُّ مالك لحيوان أليف، لا يمكن للقطط والكلاب والأرانب فعل ذلك؛ فعند رؤية تلك الحيوانات لمرآةٍ في البداية، قد تندفع إليها باهتمامٍ شديدٍ، وقد تنظر خلف المرآة للبحث عن الكلب أو الأرنب الآخَر الذي يمكنها رؤيته في المرآة، لكنها سرعان ما تشعر بالملل. قد تتصارَعُ بعض أنواع الأسماك مع صورها المنعكسة، وقد تقدِّم الطيورُ استعراضًا أمامها؛ فمن الواضح أنها تفترض أنها ترى سمكةً أو طائرًا آخَر. لكن ماذا عن القردة والقردة العليا؟
في عام ١٨٧٢، أعطى تشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢) مرآةً لاثنين من حيوانات إنسان الغاب في حديقة الحيوان، ووصف كيف لعِبَا وحاوَلَا تقبيلَ صورتيهما المنعكستين، لكن لم يكن متأكِّدًا من أنهما تعرَّفَا على نفسيهما. وبعد حوالي قرن من الزمان، صمَّمَ عالم النفس جوردون جالوب اختبارًا لاكتشاف ذلك؛ إذ أعطى مجموعةً من حيوانات الشمبانزي وقتًا طويلًا للعب بالمرآة، ثم خدَّرَها ورسم بقعتين حمراوين واضحتين فوق إحدى العينين والأذن المقابلة لها، وعندما استيقظَتِ الحيوانات، جعلها تنظر في المرآة. أنا أو أنت في هذا الموقف سنرى على الفور البقعتين وربما سنحاول لمسهما أو مسحهما، وهكذا فعلَتْ تلك الحيوانات؛ فقد لمسَتِ البقعتين أكثر من لمسها لنفس المكان في الجانب الآخَر من وجهها.
ومنذ ذلك الحين، تم اختبار المزيد من الأنواع الأخرى؛ فقد خضع الأطفال الرُّضَّع من سن ١٨ شهرًا فما فوق لهذا الاختبار. من الأنواع الأربعة الأخرى للقردة العليا، لمسَتْ حيوانات الشمبانزي والبونوبو وإنسان الغاب البقعتين، على الرغم من وجود اختلافٍ كبيرٍ بينها في هذا الشأن، لكن حيوانات الغوريلا لم تفعل ذلك، وأظهرت الاختباراتُ التي أُجرِيت على القردة أنها غير قادرة على التعرُّف على ذاتها، على الرغم من أن بإمكانها استخدام المرايا في أغراض أخرى، مثل الوصول إلى الأشياء التي يمكنها فقط رؤيتها عبر انعكاسها في المرآة. يشير هذا إلى وجود اختلافٍ كبيرٍ في هذا الشأن بين القردة العليا والحيوانات الأخرى، لكن هناك الكثير من الشكوك والمشكلات التي تحيط بهذا الأمر؛ فعلى سبيل المثال: بعض أنواع الحيتان والدلافين على قدرٍ كبيرٍ جدًّا من الذكاء، وتستمتع باللعب بالمرايا، وربما يكون لديها مفهومٌ عن الذات، لكن ليست لديها أيدٍ يمكنها بها لمس البقعتين الملوَّنتين.
على الرغم من أن هذا الاختبار رائع ومهم، فإنه لا يقدِّم إجاباتٍ مؤكدةً عن الوعي؛ فقد كان جالوب الذي صمَّمَ هذا الاختبار مُقتنِعًا أن حيوانات الشمبانزي تستطيع التعرُّفَ على ذاتها في المرايا، ولديها مفهوم عن الذات، وفكرة عن ماضيها ومستقبلها، ووعي بذاتها. إن المتشكِّكين يتفقون معه فقط في أن تلك الحيوانات يمكنها استخدام صورها المنعكسة في المرآة في فحص أجسادها، ويرون أن هذا لا يعني أن لديها وعيًا ذاتيًّا.
هناك طريقة أخرى لاستكشاف الوعي الذاتي، وهي فحص الذكاء الاجتماعي عند الحيوانات، بما في ذلك فحص إن كان يمكنها تقدير أن الحيوانات الأخرى لديها عقول. الفكرة هنا تتمثَّل في أن الحيوان إذا كانت لديه نظريةٌ عن العقل، كما هو الحال بالنسبة إلى البشر، فربما يمكنه تحويل هذا الفهم للداخل ويرى أن ذاته لديها رغبات ونيات ومشاعر. إن الخداع مهم هنا أيضًا؛ فحتى تخدع كائنًا آخَر، يجب أن تكون على علمٍ بما يعرفه أو يريده، وقد لُوحِظ أن حيوانات الشمبانزي تعمل على تشتيت انتباه الحيوانات الأخرى بينما تقوم بانتزاع الطعام أو تحرص على الاختفاء خلف الصخور حين تمارس سلوكًا خارجًا، لكن بعض التجارب الذكية التي قام بها اختصاصيُّ الرئيسيات دانيال بوفينيللي ألقَتْ بظلال الشك على مدى التبصُّر الاجتماعي لتلك الحيوانات.
تقوم حيوانات الشمبانزي باستجداء الطعام من البشر ومن بعضها البعض؛ لذا اختبرها بوفينيللي في ظلِّ ظروف غريبة جدًّا؛ ففي إحدى التجارب، قدَّمَتْ سيدتان الطعامَ لحيوانات الشمبانزي، السيدة الأولى وضعَتْ عصابةً على عينَيْها، والثانية على فمها. لم يمثِّل هذا أيَّ اختلاف بالنسبة إلى تلك الحيوانات؛ فقد استجدَتْ من السيدتين بنفس الدرجة، حتى إنها استجدَتْ بنفس الحماس من سيدةٍ وضعَتْ دلوًا على رأسها؛ يبدو أنها لا تفهم أنه لا جدوى من الاستجداء من شخص لا يمكن أن يراك. الخلاصة حتى الآن أن تلك الحيوانات ليسَتْ لديها نظرية عن العقل، لكن حتى هذا لا يزال غير مؤكَّد، والشواهد على وعي الحيوانات لا تزال غير مؤكدة أكثر.
آخِر خط فاصل هو اللغة، وهنا يظهر تفرُّد البشر؛ فمن المهم هنا التمييز بين اللغة الفعلية والأشكال الأخرى من التواصُلِ؛ فعلى سبيل المثال، تُصدِر قردة الفرفت ثلاثَ صيحاتِ تحذيرٍ مختلفة على الأقل لتحذير القردة الآخرين من أنواع مختلفة من المخاطر، ويقوم النحل برقصات طويلة لتوصيل معلومات عن مصادر الطعام والمسافات، وذكور الطيور تُعلِن للآخرين عن مكانتها المهمة من خلال طول وتنوُّع ألحانها؛ تلك والعديد غيرها من طرق التواصُل مهمة لحياة تلك الحيوانات، لكن تلك الإشارات لها معانٍ ثابتة، ولا يمكن إعادة الجمع بينها لإصدار أخرى جديدة. أما في اللغة الحقيقية، فيتمُّ الجمْعُ بين الأصوات أو الإشارات المحدَّدة بعددٍ لا نهائيٍّ من الطرق لإنتاج عددٍ كبير مساوٍ من المعاني المحتملة، وتلك التركيبات الجديدة تصبح حينها «ميمات» يمكن نقلها من شخص إلى آخَر (انظر الإطار القادم).
إن محاولات تعليم اللغة للأنواع الأخرى قد باءَتْ تقريبًا كلها بالفشل، على الرغم من أنه كانت هناك آمالٌ في البداية لنجاحها؛ فهناك مجموعة كبيرة من حيوانات الشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب تعلَّمَت لغةَ الإشارة الأمريكية، وبعضها لديه مفردات مكونة من عدة مئات من الإشارات؛ حتى إن هناك غوريلا اسمها كوكو نجحَتْ في اختبار التعرُّف الذاتي عبر المرآة، مما يوحي أن تدريبها على لغة الإشارة كانت له تأثيراتٌ أخرى. لكن تلك القردة العليا في الغالب تستخدم إشاراتِها في طلب الطعام؛ فلم تبدأ على نحوٍ تلقائيٍّ في ذكر أسماء الأشياء أو التلاعب بالكلمات أو إخبار الجميع عمَّا يفعلونه، كما يفعل الأطفال الصغار.
فيما يلي مدى علاقة هذا بالوعي؛ فبعض الناس يرون أن اللغة تُغيِّر العقولَ بالكامل وتُنتِج أساسياتِ الوعي، بما في ذلك الإحساس بالذات ونظرية العقل والقدرة على التفكير في الماضي والمستقبل. بعبارة أخرى، من دون اللغةِ لا يمكن أن يكون أيُّ حيوان واعيًا، وحيث إنه لدينا القليل من الأدلة — إن صحت — على وجود لغة في الأنواع الأخرى، فلا بد أننا فقط مَن لدينا وعي. لكن كيف يمكن أن نُثبِتَ هذا؟ إذا بَدَتْ تلك المشكلة صعبةً، فهي لا تُقارَن بالأمور الغامضة والمحيِّرة المتعلِّقة بمسألة كيف تطوَّرَ الوعيُ في المقام الأول، ومتى، ولماذا.
وظيفة الوعي
ما أهمية الوعي؟ قد ترى أنه حيث إننا واعون، فلا بد أن الوعي له وظيفة تطوُّرية.
للوهلة الأولى، تبدو تلك الفكرة معقولةً على نحوٍ كبيرٍ؛ فنظرية التطوُّر من خلال الانتخاب الطبيعي واحدة من النظريات العلمية المهمة؛ فهي بسيطة لكنها مهمة وقوية على نحو استثنائي، والبعض يقول إنها أفضل نظرية توصَّلَ إليها أحدٌ في العالَم. وكما اعتقَدَ داروين، يمكن لعملية بسيطة متكرِّرة أن تنتج أكثر التصميمات وظيفيةً وتعقيدًا على ما يبدو من لا شيء. إن الأمر سارَ على هذا النحو؛ بدأ من شيء، وصنع نُسَخًا عديدة منه باختلافات بسيطة، واختار واحدة منها ثم كرَّر العملية، وهذا كل ما في الأمر.
يكمن السر في تأثير الاختيار أو الانتخاب. بدأ داروين بشرح الانتخاب الصناعي الذي يختار فيه الناس التهجين من بعض الحيوانات عن الأخرى، وبهذه الطريقة يَزيدون السماتِ المرغوبةَ، لكنه أدرَكَ أن العملية نفسها يجب أن تكون قد حدثَتْ في العمليات العشوائية للانتخاب الطبيعي. يعني هذا أنه في عالَمٍ لا يوجد فيه طعام أو مساحة أو ضوء أو هواء كافٍ للعيش، فلا شَكَّ أن بعض الكائنات ستحيا على نحوٍ أفضل من الكائنات الأخرى، وأيًّا كان الذي ساعَدَها في الصراع من أجل البقاء، فإنه سينتقل إلى نسلها، وهكذا تستمر العملية. فسمات مثل العيون والأجنحة والشعر والأسنان كلها ظهرَتْ وتطوَّرَتْ، وهذه هي عمليات التكيُّف التي ساعدت الحيوانات على البقاء، والتي ستنتقل إلى نسلها إذا تناسَلَتْ.
هل الوعي شكل من أشكال التكيُّف؟ ربما يبدو أنه لا بد أن يكون كذلك؛ لأن السمات التي لا تساعد على التكيُّف سرعان ما تختفي من خلال عملية الانتخاب، لكنَّ هناك احتمالين كبيرين آخَرين، وهما أن الوعي ربما يكون ناتجًا ثانويًّا غير ذي جدوى، أو ربما يكون مكونًا مهمًّا من شيء آخَر يساعد على التكيُّف (حتى إن لم يبد كذلك). هناك نظريات للوعي لكلٍّ من تلك الاحتمالات الثلاثة، لكنها كلها — كما سنرى — تُدخِلنا في حيرةٍ.
دعونا نبدأ بما تبدو وكأنها فكرة طبيعية تمامًا، وهي أن البشر ربما تطوَّروا دون أن يكون لديهم وعي؛ بعبارة أخرى، إن الوعي شيء إضافي اختياري، وربما كنَّا جميعًا من الزومبي. لماذا لا يكون هذا صحيحًا؟ فبإمكان كلٍّ منَّا أن يتخيَّلَ عالَمًا يبدو فيه الناس متماثلين ويتصرفون على نحوٍ مماثِلٍ، لكن دون وجود وعي بداخلهم. إن تلك الفكرة البديهية قد دعمت كلَّ أشكالِ التجارب الفكرية التي تتضمَّنُ توائمَ زومبي، أو حتى كوكب أرض مأهولًا بأفرادٍ من الزومبي بالكامل. لكن ثمة مشكلة مهمة هنا.
تخيَّلْ أن تتمَّ إعادةٌ لعملية التطوُّر بحيث يكون بعض أسلافنا من الزومبي، والبعض الآخَر واعين، وهم الذين يمكن أن نسمِّيهم الكائنات الواعية. إن عملية الانتقاء الطبيعي الآن تعمل على هذا المزيج من الزومبي والكائنات الواعية، فماذا سيحدث؟ لن يحدث أي شيء على الإطلاق؛ لأن الزومبي بالأساس لا يمكن تفريقهم عن الكائنات الواعية؛ فهما يتشابهان في الشكل والفعل والقول، وهذا يعني أن عملية الانتقاء الطبيعي لن تجد شيئًا مختلفًا تعمل على أساسه؛ فأي زيادة أو نقص في أعداد الزومبي عن الكائنات الواعية سيكون عشوائيًّا بالكامل. وهذا الاستنتاج المثير سينقض فكرةَ أن الوعي خيار إضافي، أو منتج ثانوي لا جدوى منه، أو ظاهرة ثانوية؛ فمن الأفضل التخلِّي تمامًا عن فكرة الزومبي والمُضيُّ قُدمًا نحو فهمٍ أفضلَ للوعي.
يتركنا هذا مع احتمالين آخَرين: إما أن الوعي في حدِّ ذاته شكل من أشكال التكيُّف، وإما أنه يأتي بالضرورة في سياق أشكال تكيُّف أخرى، أو أنه جانب منها.
إذا كان الوعي شكلًا من أشكال التكيُّف، فمن المنطقي أن نقول إننا ربما تطوَّرنا من دونه، لكن في تلك الحالة لو لم نكن زومبيًّا من الفلاسفة؛ لَكُنَّا أكثر شبهًا بالزومبي الهايتي في أفلام هوليوود، وهي كائنات ينقصها شيء مهم ولا توجد لديها قدرة أساسية. فعملية التطوُّر حينها كانت ستفضِّل الكائنات الواعية. وإذا وافقنا على تلك الرؤية، فسيكون علينا تحديد ما يضيفه امتلاكُ الوعي، وسنتذكَّر المشكلات التي صادفناها فيما يتعلَّق بالمفهوم الذي يرى أن الوعي يمكن أن يفعل شيئًا بالفعل. بدايةً، من الصعب تحديد كيف يمكن للتجارب الذاتية أو «كيف يكون الحال لو كنتَ …؟» أن تؤثِّر بالفعل في أي شيء، ثم إن هناك أدلة كثيرة على أن التجارب تحدث على نحوٍ لاحِق جدًّا بحيث لا يمكن أن تكون السببَ في الأفعال وأن تكون لها أشكال التأثير التي كثيرًا ما يُعتقَد أنها ناتجة عنها.
مع ذلك، هناك نظريات عديدة من هذا النوع، وأكثرها تأثيرًا ظهرَتْ في ثمانينيات القرن العشرين على يد عالِم النفس نيكولاس همفري، الذي يرى أن الوعي نشأ في أسلافنا لأنهم كانوا كائناتٍ اجتماعيةً على نحو كبير، وذوي تحالُفات وعلاقات معقَّدة. إن الأشخاص القادرين على التنبُّؤِ بأفعال الآخَرين ستكون لديهم ميزة انتقائية، وأفضل طريقة لفعل هذا هو تطوُّر نوعٍ من «العين الداخلية» أو ملاحظة الذات. بهذه الطريقة، تطوَّرَتِ القدرةُ على تأمُّل الذات، وهكذا أصبحنا واعين. وقد أصبحَتْ تلك النظرية مؤثِّرةً لتأكيدها على الذكاء الاجتماعي وأصول نظرية العقل، لكن فيما يتعلَّق بالوعي، فقد تعرَّضَتِ النظريةُ للنقد على أساس أن التأمُّل الذاتي يُعَدُّ دليلًا ضعيفًا للسلوك، وأن العين الداخلية تقترب بنا على نحو خطير من فكرة الثنائية، كما أن النظرية لا تعطي تفسيرًا للذاتية. قامت نظريات أخرى على نظرية همفري، لكنها واجَهَتِ الصعوبةَ ذاتها، وهي فهم دور الذاتية وسبب توفير التجربة لأي مزايا انتقائية.
إن الاحتمال الثالث والأخير هو التخلِّي عن فكرةِ أن التجارب في حدِّ ذاتها يمكن أن تفعل شيئًا؛ هنا لن يكون الوعي شكلًا من أشكال التكيُّف، ليس لأنه منتج ثانوي عديم الجدوى؛ وإنما لأنه لا يمكن فصله عن الذكاء أو الإدراك الحسي أو التفكير أو التصوُّر الذاتي أو اللغة أو أيٍّ من القدرات الأخرى المتطورة. ربما يفكِّر على هذا النحو غالبيةُ العلماء الماديين؛ فهم يفترضون أنه بطريقةٍ أو بأخرى، عندما يتم تفسير كل تلك القدرات، سنفهم في النهاية الوعيَ. تكمن المشكلة في أن ذلك اليوم يبدو بعيدًا جدًّا؛ فلا توجد حتى الآن نظريةٌ مُقنِعة تفسِّر السببَ وراء أن امتلاكنا لأيٍّ من تلك القدرات يعطينا حياةً عقليةً واعية؛ أي السبب وراء تلازُم وجود الذاتية بالضرورة مع وجود كل تلك القدرات. لا يعني ذلك أنه من المستحيل القيام بهذا، لكن إلى أن يمكننا هذا، سنظلُّ نرجع إلى فكرة الزومبي، ويكون علينا التعامُل مع نفس المشكلة الصعبة.
يتَّضِح لنا الآن أن نظريات تطوُّر الوعي تتراوح بين تلك التي يرجع أصل ظهورها مع ظهور الحياة نفسها، وتلك التي تربطه بتطوُّر الإدراك الحسي أو الذكاء أو غيرهما من القدرات العامة، وحتى تلك التي تربطه باللغة أو التقليد أو الميمات. لكن لا يوجد إجماع حتى الآن على أيها هو الصحيح، والأهم أنه لا يعرف أحدٌ كيفيةَ تحديد هذا.
الميمات
تتجمع الميمات معًا لتكون مجمعات ميمات كبيرة، والكثير من تلك المجمعات يعزِّز حياتنا، مثل النظم المالية والنظريات العلمية والنظم القانونية والرياضات والفنون. لكن هناك مجمعات أخرى أشبه بأشكال العدوى أو الطفيليات التي تنتقل من عائل إلى آخَر مثل العلاجات الاعتباطية وغير العلمية، وفيروسات الكمبيوتر؛ فالتركيب الأساسي لتلك الأشياء عبارة عن أمرٍ بالنسخ يكون مدعمًا ببعض التهديدات والوعود.
يستخدم الكثير من الأديان هذا الشكل، وهذا ما جعل ريتشارد دوكيز يُطلِق عليها «فيروسات العقل»؛ فالروم الكاثوليك مثلًا يدعون لنقل ميمات عقائد مذهبهم الديني إلى الآخرين، وخاصةً إلى أولادهم؛ فالدعاء وصلاة الشكر عند الأكل وإنشاد الترانيم والذهاب إلى الكنيسة والتبرُّع للمؤسسات المهمة، كلها من مظاهر تلك الميمات التي يُحَثُّ على أدائها بالتهديد بدخول الجحيم للأبد أو الوعد بدخول الجنة. على نحوٍ مماثِلٍ، فإن الشريعة الإسلامية تحمي الميمات الخاصة بها عن طريق فرْضِ عقوبات شديدة على مَن يخرج عن تعاليم الدين؛ فالاعتقاد دون دليل أمر مرغوب فيه، والشك أمر غير مرغوب فيه؛ ومن ثَمَّ يمكن أن تُنسخ ميمات أي دين على نحو ناجح، سواء أكانت معتقداته الأساسية صحيحة أو ذات قيمة على أي نحوٍ، أم لا. وفي الحالات المتطرفة، نجد ميمات تقتل مَن يحملها، كما هو الحال بالنسبة إلى الشهداء الذين يموتون من أجل عقيدتهم، أو هؤلاء الذين يصرفون الناس عن إنجاب الأطفال من أجل نشر الميمات، كما في حالة القساوسة غير المتزوجين. لقد بقيت الأديان التقليدية إلى حدٍّ كبيرٍ بسبب الانتقال الرأسي (من الوالد إلى الابن). يجب أن تتيح لنا نظريةُ الميمات التنبُّؤَ بكيفية تكيُّف تلك الأديان مع الانتقال الأفقي السريع على نحوٍ متزايدٍ، والتنبؤ بالأديان والمذاهب الناشئة حديثًا التي من المحتمل أن تستمر.
إن الذات من الممكن أيضًا أن تكون مجمعًا للميمات؛ أي مجموعة من الميمات التي تزدهر معًا وتقوى في كل مرةٍ تستخدم فيها كلمة «أنا»؛ فعبارات مثل: «أنا أريد …» و«أنا أعتقد …» و«أنا أعرف …» تؤيد الفكرة الخاطئة بوجود ذات داخلية دائمة تمرُّ بتجارب واعية. في واقع الأمر، إن الكلمات فقط هي التي يتمُّ نسْخُها وتتصارع الميمات معًا لتجعلنا ما نحن عليه؛ أي آلات ميمات مضللة.
مستقبل الوعي
إن الحيرة التي وصلنا إليها عميقة وخطيرة، وأظن أنها تشي بوجود أخطاء جوهرية في طريقة تفكيرنا الأساسية فيما يتعلَّق بالوعي؛ فربما نحتاج إلى التخلِّي عن معظم افتراضاتنا الأساسية ونبدأ من جديد.
هناك افتراضان أساسيان جدًّا لدى الجميع تقريبًا، يتمثَّل الأول في أن التجارب يمرُّ بها شخصٌ ما؛ أيْ إنه لا يمكن أن تكون هناك تجاربُ دون وجود شخص يمرُّ بها. لا يفترض هذا وجود ذات ثابتة أو غير متغيِّرة، وإنما يفترض أن الذات الواعية الآن التي تقرأ هذا الكتاب هي نفسها التي ذهبَت إلى السرير للنوم الليلةَ السابقة، والتي استيقظت هذا الصباح. يجب التخلُّص من هذا الافتراض.
أما الافتراض الآخَر، فيتمثَّل في أن التجارب تتدفَّق عبر العقل الواعي على هيئة تيارٍ من الأفكار والمشاعر والصور والإدراكات الحسية؛ قد يتوقَّف هذا التيارُ أو يغيِّر اتجاهَه أو يضطرب، لكنه يبقى عبارة عن سلسلة من الأحداث الواعية في مسرح العقل. المهم هنا هو أنك إذا سألتَ: «ماذا يوجد في وعي جيم الآن؟» فلا بد أن تكون هناك إجابة صحيحة؛ لأن بعض أفكار جيم وإدراكاته الحسية تكون في التيار الواعي، أما الباقي فلا، وهذا الافتراض يجب التخلُّص منه أيضًا.
لذا، سنبدأ ثانيةً ببداية جديدة، وستكون نقطة البداية هذه المرة مختلفة تمامًا؛ فسنبدأ من أبسط الملاحظات الممكنة، فعندما أسأل نفسي: «هل أنا واعٍ الآن؟» ستكون الإجابة دائمًا هي: «نعم.»
لكن ماذا عن باقي الأوقات؟ الشيء العجيب أننا لا نستطيع أن نعرف؛ فعندما نسأل هذا السؤال، نحصل على إجابة بالإيجاب، لكن لا يمكننا أن نسأل عن الحال في الأوقات التي لا نطرح فيها هذا السؤال. إن هذا الوضع يذكِّرنا بعمى التغيير ونظرية «الوهم الكبير» الخاصة بالرؤية؛ فمع الرؤية يمكنك دائمًا النظر ثانيةً، وفي كل مرة تنظر فيها ترى عالمًا مرئيًّا غنيًّا؛ لذا تفترض أنه موجود هناك دائمًا. ويمكنك أن تحاول رؤية شيء ما، لكن لا يمكنك أبدًا رؤية شكله عندما لا تنظر إليه. إن الأمر يشبه فتْحَ الثلاجة بسرعة جدًّا لترى إذا كان الضوء بداخلها مُضَاءً على الدوام؛ فلن يمكنك أبدًا رؤية الضوء والباب مغلق.
وتلك هي الكيفية التي يحدث بها وهم الوعي؛ فنحن البشر كائنات ماهرة ومتحدِّثة ومفكِّرة، يمكنها أن تسأل نفسها «هل أنا واعٍ الآن؟» ثم لأننا نحصل دائمًا على الإجابة «نعم»، فنحن نقفز للاستنتاج الخاطئ بأننا واعون دائمًا، وبقية الافتراضات تنبع من هذا؛ فنحن نتخيَّل أننا في كل لحظةِ استيقاظٍ في حياتنا، يجب أن نكون واعين بشيء أو بآخَر؛ لأننا عندما نسأل عما إذا كنا واعين فإننا نجد الإجابة دائمًا بالإيجاب؛ لذا نختلق الصورةَ المجازية التي تتناسب مع هذا الاستنتاج، مثل المسارح وكشافات الضوء وتيارات الوعي. لكننا مخطئون، مخطئون تمامًا.
الحقيقة أننا عندما لا نطرح السؤال، فلا توجد محتويات بالوعي ولا يوجد شخص ليمرَّ بها، وإنما يستمر الدماغ في فعل الأشياء على نحو متوازٍ — كما في نظرية دينيت الخاصة بتعدُّد قوى التأثير — ولا يكون أيٌّ منها داخل دائرة الوعي أو خارجها. في واقع الأمر، يمكن التخلِّي بالكامل عن فكرة كَوْنِ نشاط الدماغ واعيًا أو غير واعٍ، وتذهب معها مشكلة «الفرق السحري» بين الأمرين.
إذن الوعي عبارة عن وهم كبير؛ فهو ينشأ عبر طرح أسئلة مثل: «هل أنا واعٍ الآن؟» أو «ما الذي أنا واعٍ به الآن؟» في لحظةِ السؤال تلك يتمُّ اختلاقُ إجابة؛ يكون هناك تيارٌ آنيٌّ من التجارب، وذات تلاحظ هذا التيار، وتجاربه تظهر كلها معًا، وتكون هناك لحظة لاحقة يختفي فيها كل هذا. في المرة التالية التي تسأل فيها مثل هذه الأسئلة، تكون هناك ذات جديدة وعالَم جديد يتم اختلاقه، على نحوٍ رجعيٍّ من الذاكرة. وإذا استمررت في الاعتقاد أنك تكون واعيًا دائمًا، وأخذتَ في ابتكار الصور المجازية الخاصة بالتيارات والمسارح، فأنت تزيد أكثر فأكثر من حيرتك.
بهذه الطريقة الجديدة في التفكير بشأن الوعي، ستختفي معظمُ المشكلات القديمة؛ فلن نكون في حاجةٍ إلى تفسير كيف أن الوعي ينتج عن النشاط المادي للدماغ أو ينشأ عنه؛ لأن الأمر ليس كذلك. ولا يكون علينا تفسير الفرق السحري بين نشاط الدماغ الواعي ونشاط الدماغ غير الواعي؛ إذ ليس هناك فرق. ولا يكون علينا أن نتساءل عن كيفية تطوُّر التجارب الذاتية أو إن كانت لها وظيفة؛ لأنه لا يوجد تيار من التجارب؛ يوجد فقط حدث عابر يؤدِّي إلى وَهْمٍ.
في تلك الرؤية، إن الكائنات القادرة على أن يتمَّ تضليلها على هذا النحو هي فقط التي يمكن أن تكون واعيةً بالطريقة التي يعي بها البشر؛ ربما يعني هذا أن البشر مميزون أو قريبون جدًّا من تلك المكانة؛ لأنهم الوحيدون الذين لديهم لغة ونظرية للعقل وتصوُّر للذات، وكل العوامل الأخرى التي تساعد على إنشاء هذا الوهم، أما الحيوانات الأخرى، فتعيش حياتها وهي تنشئ عوالم مدركة عابرة وهي تمر في الحياة؛ هي تنشئ تجارب — إذا جاز لنا أن نقول هذا — لكنها ليست تيارات من التجارب التي تحدث لأيٍّ منَّا؛ فهي لا تسأل نفسها أبدًا أسئلةً صعبةً تدخل بها في حيرة شديدة.
لذا، كيف يكون الحالُ بالفعلِ عندما نكون مثلهم؟ ربما يكون هناك حال معيَّن عندما نكون أي كيان عابر؛ الأفرع المتشابكة وهي ترتد بسرعة إلى مكانها خلف طائر بعد أن يهبط على مَجْثَمِه، وألم العضلات المشدودة لحصان وهو يركض، أو لأرنب وهو يقفز ليصل إلى مكان آمِن، أو شعور الإحاطة بالكامل بحشرة من جانب الخفاش ونظام السونار يرشده في طيرانه. لكن لا توجد إجابة صحيحة لسؤال: «كيف يكون الحال لو كنتَ خفاشًا؟» تمامًا مثلما لا يوجد هناك حال معين لأن نكون نحن في معظم الوقت؛ فهناك فقط إجابة عندما نسأل السؤال.
هل يمكن لأجهزة الكمبيوتر أن تكون واعيةً؟ هذا سؤال لغز آخَر له تاريخ طويل ومتشعِّب ومعقَّد. يرى البعض أن الكائنات البيولوجية فقط هي التي يمكن أن تكون واعيةً، في حين يدَّعِي آخَرون أن الوظائف التي يقوم بها الكمبيوتر هي المهمة، وليس المادة المصنوع منها. في النظرية التي تنظر إلى الوعي على أنه وهم، ستكون الإجابة بسيطة؛ إذا كان لأيِّ آلةٍ لغةٌ أو ميمات أو أي شيء يمكِّنها من أن تمتلك القدرة على طرح سؤال: «هل أنا واعٍ الآن؟» وتبتكر نظرياتٍ عن ذاتها الداخلية وعقلها، فإنها ستُضلَّل مثلنا وتعتقد أنها واعية بالطريقة المضللة نفسها التي نعتقد بها أننا واعون، وإلا ستنشئ — مثل الحيوانات الأخرى غير البشر — عوالمَ مدركة مؤقتة من خلال تفاعلاتها مع البيئة، لكنها لن تتخيَّلَ أبدًا أنها تختبرها.
إذا سلكنا هذا النهج الجديد، فسيبرز سؤال واحد كبير يتعلَّق بطبيعة التساؤل: ما الذي يعنيه بالنسبة إلى أي كائن، أو آلةٍ على النحو الذي طرحناه، أن يسأل نفسه سؤالًا؟ إحدى طرق التحقيق في هذا ربما تكون دراسةَ ما يحدث في دماغ الشخص الذي يطرح سؤالًا بتلك الطريقة العميقة. هل يمكن أن تتجمع معًا أنماط التدفُّق والرقص الخاصة بنشاط الدماغ على نحوٍ ما، أو تكون هناك أنماط أو روابط خاصة؟ يمكن أن نستخدم في هذا الشأن طرقًا مماثِلة لتلك المستخدَمة في فحص الملازمات العصبية للوعي.
هناك أمر آخَر، وهو معرفة إن كان يمكن للبشر أن يتخلَّصوا من الأوهام ويعيشوا العالم دونها. يدَّعِي هؤلاء الذين يمارسون أنواعًا معينة من التأمُّل أو اليقظة العقلية أنهم يمكنهم ذلك؛ فهم يقولون إن العالم العادي مفكَّكٌ، وإن هناك فقط تجاربَ دون أن يختبرها أحد. كيف سيبدو نشاط الدماغ لشخص في تلك الحالة؟ إذا أجبنا على هذا السؤال، فربما نكون أقرب إلى فهم سبب حدوث الأوهام، في حين أنه لا يوجد ما يضمن أن يكون هذا النهج بالضرورة أسهل أو حتى ممكنًا، فمن المؤكد أنه مختلف عن النهج الحالي المتبع.
يجب أن يكون المشاركون بالأبحاث ماهرين على نحوٍ كبيرٍ؛ أحد الأساليب الممكنة هو تأمل زن، الذي يستخدم — باستخدامه قصصًا أو أسئلةً خاصةً تُسمَّى الكوانات — نمطَ الأسئلة نفسه ذا الصلة هنا، مثل: «من أكون؟» أو «متى الآن؟» أو «ما هذا؟» إن ممارسي تلك الطريقة يمكنهم على نحوٍ منتظم أن يحافظوا على إطار عقلي ذي قدرة على التساؤل العميق ويستكشفوه، في حين يمارس آخَرون اليقظةَ العقلية التي يحاولون من خلالها أن يبقوا متيقظين ومنفتحين ومتعقِّلين بالكامل في اللحظة، سواء أكانوا يتأمَّلون أم لا. يمكن لهذا الأسلوب البسيط في ظاهره، مع الممارسة الطويلة، أن يؤدِّي إلى حالة تظهر فيها ظواهر وتختفي لكن دون أي إحساس بالوقت أو المكان، ودون أي ذات تمرُّ بها.
في هذا النهج لاستكشاف الوعي، قد يدرس العلماءُ ممارسي تلك الأساليب، لكن من الممكن أن يفعل الشخص نفسه الأمرين معًا؛ ففي واقع الأمر، هناك بالفعل بعض العلماء الذين يمارسون تلك الأساليب، وبعض الممارسين الذين يقومون بدراسة الوعي. يحمل هذا في طيَّاته الأملَ بأن العلم والممارسة الشخصية قد يجتمعان معًا في النهاية ليجعلانا نرى بوضوح — مع تخليصنا من ضلالاتنا، وإسقاط أوهام الذات والآخَر، وجَعْلنا نُسلِّم بوجود عالم واحد — أنه لا توجد هناك ثنائية، ولا يوجد من يطرح سؤالًا بهذا الشأن.