ملحق
منذ بداية هذا الكتاب ونحن نؤكد على أن مذكرات صنوع المخطوطة — والتي نقلها د. إبراهيم عبده، ومن ثم باقي الدارسين — هي مذكرات مشكوك في صحتها، ودللنا على ذلك بكثير من الأدلة التي أثبتت إعادة صياغتها مرة أخرى، بمقارنتها بالمذكرات المنشورة في صحف صنوع.
وإذا كانت المذكرات المخطوطة منشورة في كتاب د. إبراهيم عبده، وأيضًا في كتاب د. نجوى عانوس، إلا أن مذكرات صنوع المنشورة في صحفه لم يتطرق إليها أي باحث من قبل؛ لذلك أخذنا على عاتقنا نشر بعض النماذج منها، سواء مذكراته الصريحة، أو مقالاته الصريحة في موضوعات معينة. هذا بالإضافة إلى بعض المقالات التي كُتبت عن صنوع، ونُشرت في صحفه، وأخيرًا بعض صفحات كتبها صنوع كتقديم لبعض سنوات إصدار صحفه.
- (١)
مقالة كتبها صنوع عام ١٨٧٩، بعد عزل الخديو إسماعيل.
- (٢)
ثلاث محاورات جاءت تحت عنوان «ترجمة حال أبي نظارة بالمخاطبة بينه وبين أبي خليل»، عام ١٨٨٧.
- (٣)
ديباجة مدير مطبعة الجريدة عام ١٨٩٠.
- (٤)
مقالة كتبها صنوع بعد وفاة الخديو توفيق عام ١٨٩٢.
- (٥)
مقالة كتبتها جريدة «الحاضرة» التونسية عن صنوع عام ١٨٩٦.
- (٦)
مقدمات صنوع لصحفه في أعوام ١٨٩٧، ١٨٩٨، ١٨٩٩، ١٩٠١.
- (٧)
سلسلة حلقات كتبها صنوع تحت عنوان «زهرة من تاريخ وطني الغالي ونبذة من ترجمة حالي» عام ١٨٩٩.
- (٨)
مقدمة زيارة صنوع للأستانة عام ١٨٩٩، كتبها صديقه محمود زكي.
- (٩)
مقالة كتبتها جريدة «الحاضرة» التونسية عام ١٩٠٠، تحت عنوان «مسامرات الشيخ أبي نظارة».
وسوف يلاحظ القارئ بعد قراءة هذه النماذج أنها تمثل الخطوط العريضة والأساسية في مذكرات صنوع المخطوطة، والمنشورة في كُتب الدارسين، بل إنها تحمل كافة النقاط الأساسية لكل ما هو معروف عن صنوع. ولا ينقصها إلا بعض تفصيلات صغيرة لتكوِّن مذكرات كاملة عن صنوع. وهذه التفصيلات موجودة وبكثرة ضمن معظم المحاورات والنوادر واللعبات المنشورة في صحف صنوع. وهذا يعني أن أي إنسان يستطيع أن يكتب مذكرات صنوع إذا قرأ «فقط» صحفه! وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه فيما سبق بأن مذكرات صنوع المخطوطة ما هي إلا إعادة صياغة للمعلومات المنشورة عن صنوع في صحفه!
- أولًا: تنديد صنوع بكافة أعمال وتصرفات الخديو إسماعيل والخديو توفيق، بعكس ثنائه على أعمال وبعض تصرفات الخديو عباس حلمي الثاني.
- ثانيًا: إطراء صنوع للأمير عبد الحليم بن محمد علي، والتركيز على أحقيته في الخديوية، التي سُلبت منه بسبب فرمان عام ١٨٦٦. لدرجة أننا لم نجد عددًا واحدًا من صحف صنوع يخلو من ذكر هذا الأمير.
- ثالثًا: الحديث عن مبادئ وتعاليم «الماسونية»، والترويج لأفكارها، هذا بالإضافة
إلى أن يعقوب صنوع اعترف كثيرًا في غير هذه النماذج باعتناقه لمبادئ
وتعاليم الماسونية،١ لدرجة أنه وضع رمز الماسونية (المثلث والفرجال) — كتمثيل ﻟ
«نجمة داود» — فوق صورته، في ترويسة جريدته طوال عام ١٨٨٤.
- رابعًا: ننبه على أن يعقوب صنوع هو المصدر الوحيد لكافة المعلومات الواردة في هذه النماذج، لدرجة أن المقالات التي قيل إنها نُشرت في صحف أخرى، وأعاد نشرها صنوع في صحفه، كانت تستقي معلوماتها من مقالات وصحف صنوع السابقة عليها. هذا بالإضافة إلى أن يعقوب صنوع كان دائمًا يتناقض أمام الحدث الواحد، عندما يُعيد كتابته.
- خامسًا: نلفت الأنظار إلى أن الأجزاء الصريحة التي جاءت على شكل مذكرات وكتبها صنوع بنفسه، جاءت غير كاملة؛ فمثلًا محاوراته تحت عنوان «ترجمة حال أبي نظارة»، نشر منها المحاورة الأولى والتاسعة والرابعة عشرة ثم توقف؛ وهذا يعني أنه لم ينشر إحدى عشرة محاورة وقعت بين المحاورات المنشورة! وهنا نتساءل أين هذه المحاورات؟ وما هي ذكريات صنوع فيها؟ وكيف أتى فيها بجديد، على الرغم من أن كل ما نعرفه عن صنوع موجود في هذه النماذج المنشورة؟! وإذا كانت هناك محاورات لم تنشر وبها ذكريات عن صنوع، فلماذا لم يضمنها صنوع في مذكراته المخطوطة؟! أليس هذا دليلًا جديدًا على أن مذكرات صنوع المخطوطة ما هي إلا إعادة صياغة لما هو مُتاح بالفعل عن صنوع في صحفه؟!
- سادسًا: كتب صنوع سلسلة حلقات بعنوان «زهرة من تاريخ وطني الغالي ونبذة من ترجمة حالي»، وفي مقدمتها قال إنه سيروي قصة حياته من بداية مولده وحتى عام ١٨٩٩. ولكننا فُوجئنا بأنه يتوقف في سلسلته هذه عند سفره إلى فرنسا عام ١٨٧٨! وهنا نتساءل: لماذا لم يروِ صنوع قصة عشرين سنة قضاها في فرنسا؟! ولماذا روى فقط قصة حياته في مصر؟! ولماذا لم يضمن مذكراته المخطوطة قصة حياته في فرنسا وتوقف فيها أيضًا عند سفره إلى فرنسا؟! ولماذا توقفت جميع أقوال صنوع — في صحفه وفي مذكراته المخطوطة — بالنسبة لقصة حياته عند السفر إلى فرنسا؟! أليس هذا دليلًا آخر على أن مذكرات صنوع المخطوطة ما هي إلا إعادة صياغة لما نُشر عن صنوع في صحفه؟!
(١) نماذج من مذكرات يعقوب صنوع
(١-١) مقالة كتبها صنوع عام ١٨٧٩، بعد عزل الخديو إسماعيل
أنا مصري ابن مصري، وده لي أعظم افتخار؛ لأن نكران الأصل عندي أقبح عار. فإذا والدي المرحوم شقى وتحصل على حماية، فذا من شوفه الظلم الحاصل على الرعاية. فلله — تعالى — الحمد أني رعية إيطالياني، وإلا فرعون كان في ألف داهية رماني. إنما أنا في الأول كنت مغشوش صحيح، في الجندي وظنيت أنه رجل مليح، وافتكرت إنه يريد صلاح الأهالي، فسميته عزيز مصرنا الغالي، وتبعت قدوة باقي شعراء قطرنا، وكتبت قصايد وأدوار موسيقه، وكُتب مدحًا في والي مصرنا، لأني كنت أصدق أنه يحب التمدن والنجاح، والسعي في خير الفلَّاح.
إنما حينما رأيت أن صار رفتي بعد تعبي، من المدارس الملكية، لكوني كنت أترجم للتلامذة الماهرين الجرايد الأوروباوية، وإن بعد ما نشيت تياترو عربي بالقاهرة، بمساعدة شبان مصر الفاخرة الماهرة، لكوني ذكرت في بعض الروايات إن لا ينبغي على حضرات الذوات بأن يعاملوا بقساوة الفلاحين، بل يسعوا في حرية وتقدم المصريين، حالًا فرعون أمر بقفل التياترو العربي المنحوس، ولا أعطاني اللي صرفته فيه من الفلوس. زعلت برضه، إنما قلت ماعليهش يا جندي، ووفيت ديوني لكوني بِعتْ كل ما كان عندي، وعملت لي جمعيتين علم للشبان، الأولى دعيتها «محفل المتقدمين» والثانية «جمعية الخلان».
وكانوا يحضروا جمعية الخلان ناس عظام ومشايخ الأزهر الكرام، ونور العلم الأستاذ الفاضل، والفيلسوف الكامل، السيد جمال الدين الأفغاني، فصيح اللسان وظريف المعاني. وكان هو وهم يتلوا علينا مقالات عظام، درجت أغلبهم في صحيفتها «الأهرام»، فلما وصل الخبر إلى فرعون، زعق ودبدب كالمجنون، وحرَّج من تحت لتحت على المشايخ والمستخدمين، بأنهم لا يجتمعوا ليلًا في محافل وإلا يصيروا مرفوتين؛ فطبعًا انقفلت الجمعية الداعية للتمدن والحرية.
والفضل لكم يا أبناء مصر يا كرام؛ لأنكم كنتم كل جمعة ترسلوا لي الأخبار العظام، من قبلي وبحري ومصر والإسكندرية، وأنا كنت أدرجها بأعظم الجرايد الأفرنجية، ونعمل عليها مقالات تُتلى في أكبر الجمعيات فحينئذٍ جميع جرانيل محبين الحرية والإنسانية، جبرت بإشمال النظر إلى فعايل الجندي الفرعونية، فقالوا وكلاءهم إلى أبو السباع، اعلم إن من كثرة ظلمك المُلك من يدك ضاع، فينبغي أنك تتنازل ونسعى لك في أمر توفيق، ونتضرع للسلطان بأن يسهل له الطريق، إنما جميع جرانيل أوروبا منذ جملة أيام بتزعق على نفس واحد وبتقول حرام تولوا الولد العبيط ده على وادي النيل؛ لأنه يصير اسمًا والي، والموالي فعلًا برضه إسماعيل.
(١-٢) ترجمة حال أبي نظارة خادم الحرية بالمخاطبة بينه وبين أبي خليل أحد رؤسا الأحزاب الوطنية (إعلان)
كتب أبو نظارة ترجمة حاله وعازم على نشرها بباريس فعندما تطبع يعين ثمنها بجرناله. وللطالبين يرسل كتابها النفيس أما الآن ينقل ثلاث مخاطبات تمام. على هذه الصحيفة لتكون عظا الجرانيل التي صدرت من الابتداء إلى الانتها من العام. ومجموعها لا شك محفوظ عند أبناء وادي النيل.
المخاطبة الأولى
المخاطبة التاسعة
المخاطبة الرابعة عشر
(١-٣) ديباجة مدير مطبعة الجريدة٢٦
لما كان طبع جرنال «أبي نظارة» جاري بمطبعتي، وجمًّا غفير من قراءه وأحبابنا بعد مطالعتهم إياه يسلِّفونه لمعارفهم لنشر ما لأفكاره من المحاماة عن الحقوق ثم يستلفه آخر وآخر، حتى إن صاحبه الأصلي لا يراه؛ بعدها سألوني المرة بعد المرة بأن أرسل لهم بعضًا من الأعداد الماضية حتى يحفظوه لديهم، فاستصوبت أن أجمع لهم أعداد السنتين الأخيرتين وأجعله مورقًا؛ لأن فيهما قد ازداد رواجه حتى في بعض الأحيان قد أُعيد طبعه، وإن كان كل دفعة لم يطبع منه أقل من خمسة عشر ألفًا، ولا حاجة بتعريف الناس بأبي نظارة؛ بما ناله من الشهرة بباريس، وكونه صار معلومًا فيها كمعلوميته عند أهل مصر وإسلامبول؛ وذلك لكترة إلقائه الخطب الرنانة بفرنسا وبالأقطار الأجنبية، حتى لم يمر شهر إلا ويكون له خطبة أو اثنين يدافع بهما عن المشارقة والإسلام، وإذا تتبعنا ذكر أسماء الجرانيل على اختلاف لغاتها وبلادها وما قالته في أبي نظارة فهذا شيء يطيل شرحه، ونكتفي هنا بذكر نبذة قالها فيه آنفًا المسيو أوجين شينيل الذي قد ألف كُتبًا عديدة في مدح الشرق وأهله وجميل عوائدهم وخصائلهم، وقوله:
«قد تبادر لنا من أبي نظارة بأنه نادرة زمانه، لا يوجد بين الرجال كثير من أمثاله يتكلم اللغة العربية والإيطاليانية والإنكليزية والفرنساوية ويكتب بهن نثرًا وشعرًا ويلقي بهن الخطب في المحافل العلمية والسياسية، وله دراية بأربع لغات أُخر، خلاف ما له من معرفة اصطلاح لغات بلاد العرب والجزائر وتونس، وهو الذي قد أبدع التياترات العربية بمصر القاهرة، وعمل فيها اثنين وثلاثين قطعة من كوميدية بفصل إلى خمسة فصول، ونال بذلك اسم موليير المصري، وترجم أشعارًا وقصائد وأدوارًا من اللغة العربية نظمًا إلى الإيطاليانية، وذلك خلاف ما كتبه بهذه اللغة من الروايات التي ثلاثة منها شخصت بالتياترات العظيمة الإيطاليانية ببلاد الشرق وواحدة بجنواه بشمال إيطاليا، وحازت شهرة فائقة، وجرائد رسمية إنكليزية وإن كانت لا تألف أهل الذب عن الحقوق قد نشرت عنه خطبًا وحكايات بل وأبيات شعر كتبها بنفسه باللغة الإنكليزية، أما في الفرنساوي فأخونا الشرقي هذا قد نشر في جرائد باريس السياسية والعلمية والأدبية التي عليها المعول أخبارًا وخطبًا نثرًا ونظمًا.»
(١-٤) مقالة كتبها صنوع بعد وفاة الخديو توفيق عام ١٨٩٢
توفيق
إن الليالي والأيام لترينا عجائب لم تكن لنا على خاطر وبال. لا يعلم بما يجري إلا مدبر الأمور وباسطها، قد كنا في حساب والزمان في حساب آخر، وياليت شعري لو أعتبر بهذا الأمر الآتي على حين غفلة من له مكان في العقل وهذا هو أعظم موعظة وأجل انتباه لمن يتعظ ممن سالك طريق الظلم وعدم الوفاء بالعهد، إن كل مرء لا يدري متى يناديه آخره. من كان في علمه أن توفيق مع صحته وتنعيم فكره وعدم اشتغاله بالمشاق تدور عليه رحة الزمان في لحظة ويُعدم كأنه لم يكن. ففيقوا معاشر الناس واعتبروا بهذا الذي سرى أمام عينكم، واعلموا بأن ما جاز على فرد جاز على الآخر بدون استثناء، لا يبالي بعالي ولا واطي. أما أنا فقد احتار فكري وذُهلت من أمري من هذه الحادثة. قد كنت حضرت ما يلزم لجرنالي كجري عادتي من الرسومات، واستعديت لوضعه في قالب الطبع، إذ بالأخبار تواترت بوفاة الخديوي توفيق، فكفيت عن جميع ذلك مراعاة للمتوفي؛ لأن كان مبنى ذلك الرسم ومنطوق بيانه سوء أحوال الوطن وحلول الإنكليز به ومكابدة أهله همَّ المعيشة، إلى آخر ذلك، وكل مضرَّة وكدر بالوطن يكون سببه حلول هذه الطائفة، ولا أحد يجهل أن ما ساقها إلينا سواه. فلذلك لو كان جرى وطُبع وقُرئ كان مذكرًا الناس ومفكرًا لهم بما عسى أن يكونوا نسوه من هذا السبب الأعظم، وعوضًا عن الترحم عليه لربما كان الأمر بخلاف، فهذه لا أدرى إن كانت لسعادتي أو لسعادته؛ لأني وإن كنت أندد غالبًا فما هذا إلا من النخوة العربية والغيرة على الوطن، وإن كان قلبي لم يزل رحيمًا دائمًا وصفوحًا عن أبناء وطني، مهما بلغوا أو كانوا، وليس من عادتي أن أحقد على إنسان، لكن ما كان في قلبي فهو على لساني؛ ولذلك قد أبديت كل ما أعلمه من المتوفى من حسنات ومن مثاوي؛ حتى يكون اعتبارًا لمن يعقبه، فيجتنب الخوض في فعل مثل ذلك، ويعلم أن كل ما صدر من والي حسنًا أو سيئًا لا يُكتم وإن تراءى له مداراته، فهو وإن استيسر الألسن فلا يستطيع أن يستيسر القلوب، وأيضًا أملًا بتكفير مثاويه بترحم من عثر على قرأتها ولذلك سطرته في جرنال «الفيكارو» المشهور، وهو جرنال تنقل عنه معظم جرائد العالم. إنما لضيق المجال لم ندرج هنا من تلك المقالة التي كتبتها في «الفيكارو» إلا بعض جُمَل ومعناها بالعربي هكذا.
(١-٥) مقالة كتبتها جريدة «الحاضرة» التونسية عن صنوع عام ١٨٩٦
الشيخ أبو نظارة
«من الأدباء الجديرين بالذكر والثناء الموسومين بالغيرة الوطنية والولاء، المشهود لهم بالبراعة بين الملأ؛ زميلنا الشيخ أبو نظارة. الذي ظهرت في الذب عن بيضة الديار المصرية آثاره، فهو الأديب الذي امتاز بمعرفة اللغات العديدة والأغراض الأدبية والنكات الحماسية، وبرع في قدح زناد الفكر وإبراز منظوم الدر، واستجلاء عرائس البدر من مصون الخدر، فوشح الصحافة بتلك القلائد، وطرز التصانيف المرصعة بتلك الجرائد، وله من ذلك قصيدة لم يسبق لها مثال ولم ينسج فيها على ذلك المنوال، منتظمة عقودها الجمان، ووردها ألحان، في ست لغات ترجمها ناظم عقدها وناسج بردها إلى اللغة الفرنسوية مع مراعاة الأوزان الشعرية، أشعارًا بما لها من الشان والأهمية، وذلك قُدمت إجلالًا لفخامة المسيو كارنو رئيس الجمهورية، بمناسبة افتتاح معرض عام ١٨٨٩ في العاصمة الباريزية، فاستوجب بها جميل الثناء من هذا الرئيس جميل الذكر؛ حيث قال له إن فرنسا ينبغي أن ترمقكم بعين الفخر، وبهمتك يا حضرة الشيخ كانت أول أمة، نشرت مدائحها بلغات جمة.
أما براعته على منبر الخطابة فقد بلغ فيها درجة الإصابة، وظهرت مزاياه فيها نظمًا ونثرًا، أحرز فيها في كثير من عواصم المعمورة ذكرى وفخرًا، امتطى فيها صهوة الإطناب، وعُرف فيها بما فيه الأقطار الشرقية من كريم الأخلاق والآداب التي هي بكل اهتمام وحرية، وخاض فيها بحر المسألة المصرية، وأتى فيها من صنوف الإفادة بما يسحر الألباب، والتزم في خطابته العمومية بمدن أوروبا والقارة الأفريقية تبديد غيوم الأوهام الباطنية الهائلة دون تقارب الإسلام وعالم النصرانية مستدلًّا على ذلك بالشواهد الإنجيلية والآيات القرآنية، وإشعارًا بما له من الفضل الجزيل، شرفه بزيارته بأشبونة سنة ١٨٨٩ وباريس سنة ١٨٩٠ «دون بدرو» إمبراطور البريزيل، وحضر مجالس خطابته كثير من الأعيان والعلماء المحرزين على المقام الجليل. وله فكر ثاقب ورأي صائب اخترق طباق النوائب. فلقد قال يوم خروجه من مصر لأحبائه وخِلَّانه وكانوا يأسفون على ما لحقه من الضر: كما سلكت الآن طريق الإبعاد والغربة يسلكه إسماعيل باشا بعد سنة وتلحقه الكربة؛ لأنه أبعدني عن هذه الديار لوقوفي بالذب عن الحرية في مصاف الأحرار.
(١-٦) مقدمات صنوع لصحفه في أعوام ١٨٩٧، ١٨٩٨، ١٨٩٩، ١٩٠١
مجموع مفردات جريدة «أبي نظارة» عام ١٨٩٧
اسمحوا لي بكلمتين يا أسيادي، أقولهم لحضراتكم بلساننا الاعتيادي، وأختمهم بالعربي الفصيح يا كرام، لرضاء خاطر الخاص والعام. هذا والآن أرجوكم تقبلوه مني بصفة هدية، مجموع أعداد جريدتي الوطنية، اللي صار لي واحد وعشرين سنة بأحارب بها الظالمين، وبأدافع في أعمدتها عن حقوق الشرقيين، مسلمين ويهود ونصارى، اللي صبح لسان حالهم التودد وأبو نظارة، وصدر من المجموع دا ألف نسخة يا إخواني، رايح أهديهم للعربي والتركي والهندي والإيراني، حتى يفرحوا لما يشوفوا المستر بول تارة مهلهل وتارة منغاظ وتارة مذلول، أهو بقى له خمسة عشر عام في وادينا، بيسلب نعمتنا وبيهين خاطر أفندينا، وكلما يرى حبنا بيزيد في السلطان عبد الحميد، وفي عباسنا الغالي، كلما يزيد جوره على الأهالي، إنما ربنا ماينساش عباده، هو ينصر خديوينا على الإنكليز، ويخلص من أيديهم بلاده، حقًّا إذا انجلوا الإنكليز عن وطننا العزيز، ورجع وادي النيل كما كان في عهد محمد علي جنتمكان، كنت أودع قلمي وقرطاسي، وأعود إلى مصر وأعيش بين أهلي وناسي؛ لأن الغربة طالت عليَّ ووحشتني الديار، ونظري ضعف وصبحت اختيار، يعني متقدم بالعمر، يا ربي اعتق مصر من تسلط الحُمر.
أحبائي، قد بذلت عمري في رضاء الوطن وأهله عام بعد عام، وشهدت لي بذلك الخاص والعام، وشُهد لي بالذب عن الأوطان، قدر الإمكان، وإني وإن كنت في عزل عنها، لم يكن لي غناء عنها، ويا هل ترى بعد هذا البعاد الطويل، يسمح لي الزمان بالعودة إلى وادي النيل، وأرى مبانيه، وأتملى بأنس ذويه، أو كيف؟ ولم يكن تمنيِّي ذلك لضيق القماش، ولا لضنك المعاش، ولكن الوطن عزيز، وحبه في الفؤاد عزيز، وكل مرء نقي النطفة، لم يسل ذوق هذه القطفة، وذوقها في فمي أحلى من الشهد، وألذ من طيب المنام بعد طول السهد، فإن كان لي في مجاري الغيب أراه، فقد بلغت من الحظ أوفاه، وإن دنى قبل الرؤية الختام، فمني عليه السلام (الشيخ أبو نظارة).
تقديم صنوع لعام ١٨٩٨
أبتدي تهنئتي يا أولاد بلادي، بلساني الاعتيادي، وأختمها بالعربي الفصيح البديع، لرضاء خاطر الجميع، بقى كل عام وأنتم بخير يا سادة، وبعز وصحة وسعادة، جريدتي دخلت اليوم سنتها الثانية والعشرين، ربنا يحميها من اضطهاد الغايرين، وكما أخبرتكم في مقدمة مجموع العام الماضي يا كرام، صار لي واحد وعشرين سنة بأقاتل بها الظلام، ولله الحمد تودد وجريدة «أبي نظارة»، صبحوا في الشرق لسان حال المؤمنين والذين هادوا والنصارى، والعربي والتركي والهندي والإيراني، بيفرحوا بجرانيلي يا إخواني، خصوصًا لما يشوفوا المستر بول تارة مهلهل وتارة منغاظ وتارة مذلول، حقًّا إذا انجلوا الإنكليز عن وطننا العزيز، كنت أودع قلمي وقرطاسي، وأعود إلى مصر وأعيش بين أهلي وناسي؛ لأن الغربة طالت ووحشتني الديار، ونظري ضعف وصبحت اختيار.
مجموع جرائدنا لسنة ١٨٩٩
قراء جرائدنا الثلاث، مجموع جرائدي الثلاث هذا العام ضممته لبعضه راجٍ به إتحاف قُرَّائي الكرام، وإن تفضلوا بقبوله والتأمل فيه، وجدوه مشحونًا بالآداب وفضل الإسلام يكفيه، كذا يجدون أني بذلن الهمة في تآلف العالم بالأخوة بقطع النظر عن مذهب ودين وضعف وقوة، قمت بواجب الإنسانية عليَّ، ألهمني مولاي بذلك وساق هذا العزم إلي، قد اقتفيت أمر هذا القصد تمامًا، منذ خمسة وأربعين عامًا، ثبَّتُّ فيها النفس والجنان، وصرت أدافع عن هؤلاء الخليقة بالقلم واللسان، أشحن عمد الصحف الشرقية والغربية، وألقي الخطب بالمحافل العلمية والسياسية، أشهرت في هذا الزمن الغير وجيز استقامة الشرقيين وظلم الإنكليز، آه كلما أهتف باسم الإنكليز وأسمع سيرتهم بأذني لا تتصوروا يا سادة كيف أضطرب ويقشعر بدني، لكن مولانا كريم متعال، يقتص منهم جميع فظائعهم في حرب الترنسفال، ربنا باري كل زمن وعصر، من حف آل عثمان بالظفر والنصر، قادر على تشتيت شملهم بأي طريقة، ونزعهم من أراضي آسيا وأفريقة، ياما يزداد فرحي تلك الأيام يا خلان، وأعود مطنطنًا لمصر داعيًا بالعز لمولانا السلطان، وأرى وادينا خاليًا من أعادينا تحت سلطة أفندينا (أبو نظارة).
(١-٧) سلسلة حلقات كتبها صنوع تحت عنوان «زهرة من تاريخ وطني الغالي ونبذة من ترجمة حالي» عام ١٨٩٩
أهديكم أيها السادة بما أوعدتكم به غير مرة في مراسلاتي الودادية وجرائدي الحرة، بأنبأكم بتاريخ بلادي، وبقصتي من يوم ميلادي، ما حصل لي وما جرى في الأوطان، وما مر في عصري وما لاقيته في تلك الأحيان، بالقلم الدارج يا كرام سطرته، كي يفهمه الخاص والعام وبالفكاهة عطرته.
آه كم نستني الهموم خرجي، وعملت رمَّالًا فما عثرت في برجي، حتى صرت ساهٍ مما جرى بالأوطان، ونسيت أبتدي بالحمد لمولى له الفضل عليَّ وعلى كل إنسان، فأحمد إلهي القدير المتعال، الذي كم نجاني من أخطار وأهوال في عهد إسماعيل باشا المرحوم، والمستر بول المشوم، ومن شدة حنقهم عليَّ وما أضمروا، فلو رأوا وابور إكسبرس لجهنم لما تأخروا، لكن انظروا يا خلان، كما يدين الفتى يُدان، إسماعيل باشا فاتها ونام وشبع نوم، والمستر بول لا بد عن قريب نرى فيه يوم، ولا دائم إلا المولى الخالق، ولا يسود إلا الرجل الصادق، خلصني من مخالبهم مولاي الجليل، وأبقاني إلى الآن أخدم وادي النيل، وما كان السبب في نفيي من وطني المحبوب، سوى دفاعي لرفع شركهم المنصوب، نعم حُرمت من مشاهدة أقاربي وخلاني، لكن فعل ربي عجب أنزلني في وادي لي فيه اطمئناني وأماني، ومع ذلك ما زال أملي دوم، في رجوعي إلى مصر، ومشاهدتها يوم، وأراها في عز وسعادة وهناء، متمتعة بالخلاص من يد قانصيها بالغة المناء، ما زلت أحمد مولى ستار، نجاني طول عمري من الأخطار.
هذا ومحمد علي باشا المغفور له ياما شيد أركان المجد، وشرَّف أسلافه من أب وجد، حتى إن الحُساد لم يروا فيه عيبًا قالوا يا خسارة أصله تاجر، فنقول لهم لما لم يروا في الورد عيبًا قالوا له أحمر الخدين يا فاجر، ولما علا شأن نابوليون الأول وبلغ السهَى، أراد حواشيه أن يجعلوا له سلسلة نسل وقالوا له يا ذات ابن النُّهى، فقال لا تذكروا لي أهلي ونسبي، إن شرفي بعزمي لا بجدي وأبي، وكذا فخامة الموسيو فليكس فور رئيس جمهورية فرنسا الذي في سيره عادل وصاغ كان يفتخر بقوله أمام الملوك إن أصله دباغ، اكتسب المعالي بعزمه لا بارتكانه على النسب والأهالي.
هذا وقد بلغ محمد علي في القوة حد العنان، حتى إن الدول الأفرنجية تعصبت عليه مذ كسر اليونان، وحرقوا سفنه الحربية بعد النصر، وعاد نجله إبراهيم باشا بجيوشه الجرارة إلى مصر، ولو أن الإفرنج كانت قاعدة لمحمد علي باشا بالمرصاد، لاستولى على الهند وأقطارها وتسبب في سعادة البلاد؛ لأنه كان يرى دائمًا هذا الشأن في أحلامه، بعد انتصاره في حروبه وقدومه في وقائعه وضم السودان إلى مصر ورفع أعلامه، لكن في علم الله ما كان براحه إلا لهذا الحد وجل وسباته، لا سيما حزنه على ولديه إسماعيل الذي قتل بالسودان وإبراهيم بعد توليته على مصر عشرة أشهر في حياته، وإن كان أفنى الغز وأنزل بهم الدمار فما هو إلا لظلمهم وبغيهم ليلًا ونهار.
تاريخي له أمر عجيب وشأن غريب، لما كان القارئ يريد الاستقصاء على الشيء من مبدأه بالتمام، ويرغب معرفة دقائقه بالأحكام، أردت أن أبيِّن سيرتي قبل وجودي في الدنيا لتتم الفائدة، ويكون للمستقصي أسنى استعلام وفائدة، وهو إن والدتي ما كان يعيش لها لا بنات ولا صبيان، ولذلك كانت دائمًا مسربلة بالأحزان، فقدت قبلي صبيين وصبيتين، قبل تعميرهم سن السنتين، فأشارت عليها جارتها بأن تزور الأستاذ الشعراوي — رضى الله تبارك وتعالى عنه — وتقبل يد شيخ الصندوق وتطلب الدعاء منه، ليعيش ولدها القابل، وكانت بي حامل؛ لأنه رجل بالكرامات موصوف، وبصدق النية معروف، فتزيَّرت وقصدت جامع الشعراوي واتكلت على رب البرية، وسلمت على الشيخ وذكرت له قصتها وما أصابها من فقد الذرية، وهي تبكي وعلى فقد أولادها تتحسر، فطيب الشيخ خاطرها وهدَّى حزنها وقال لها: كل شيء بفضل المولى يتيسر، لا تيأسي يا بنت الأكرمين، فكم للمولى فضل وهو أرحم الراحمين، ما يكون هناك إلا الخير، وسيزول الشر والضير، انذري أن رزقك المولى بغلام وعاش، يكون كسوته من الصدقة تشتري له بها قماش. فقالت له: كيف يا سيدي أجسر على الشحاتة وحالتنا من فضل ربي في غاية التيسير، ولا يمد يده إلى الشحاتة إلا المحتاج الفقير؟ فقال لها الشيخ: هذا الأمر يفعله كل من بُلي بفقد أولاده ديمة، ولا تظني أنه فعل يخل بالقيمة، إنما القصد منه خضوع النفس والتواضع للخالق وإنباء بأن المرء لحكمة ربه صابر، أما علمتي ما قيل في الأمثال إن للمنكسرين جابر.
هذا ولما أبصرتني أمي شفيت مما أصابني لفِّتني في قطعة خرقة، وحملتني وسارت بي نحو جامع الشعراوي لشحاتة كسوتي من الصدقة، ووقفت بالباب وسألت الزوار الحسنة، كما شيخ الصندوق عليها أشار، وصارت تقول للجميع: صدقة يا أسياد لأكسي بها هذا الرضيع، كي يعيش يا مسلمين، يعوَّض عليكم ربي الطاق عشرين، وبهذا الثواب يحفظ لكم غيابكم، ويجبركم ويكثر في أموالكم. فأعطاها الزوار ما وفق لهم من الإحسان، ولما انقضى مرور الناس عادت حمدت الحنَّان المنَّان، واشترت لي القماش للكسوة كما هي العادة، وما تبقى من الدراهم فرَّقته على خدم الجامع يا سادة، فثنوا على فعلها الجميل، ودعوا لي بالعمر الطويل، وناولت شيخ الصندوق صرَّة جسيمة، تحتوي على كعك ونقل وبن وسكر وفواكه عظيمة، فقبلها منها ودعا لي بطول العمر والملأ والألطاف في الأمراض والمشاق والولاء.
ثم عادت والدتي المرحومة إلى الدار، حامدة مولاها على جبر الانكسار، هذا ولم يتم عليَّ سنة إلا وقد أُصبت بالرمد، وأقعدني عن السير المعتادة عليه الأطفال مدة أشهر وما همد، أكابد آلامه العديدة ولم أرَ للدنيا ضي، حتى يئسوا من بصري لأني ما كنت أفتَّح في الشمس ولا في الفي، وقد صاحبني بقايا هذا المرض مصاحبة الصديق الذي لا يخشى اللوم، ولم يفارقني مهما قذفته أو طردته إلى اليوم، واعلموا أن ضرر عيني ليس موجبًا لي سخطًا بل علاء؛ لأن ربي كم كافأني على ذلك حُسن الكفاء، فإن كنت أحزن في بعض الأيام على عدم الاستطاعة في السير في جميع السلوك، فإني كم فرحت وسررت بمرضي عند مقابلة الملوك، فإن قلتم لي وما هو الغرض، وهل يُسر إنسان بمرض؟ قلت: نعم هل رأيتم من صعلوك، تنهض لمقابلته الوزراء والملوك؟ نهض لي عند قدومي عليه وأقبل عليَّ إلى باب الديوان، وأخذني من يدي وأجلسني في مقام عالي منصان، السلطان الأعظم، صاحب المقام الأكرم، والشاه الفاخر، صاحب العقل الباهر، وإمبراطور برازيل الأفخم، من كان في سيرته محكم، كذا ملكة أصبانيا الجليلة، ورؤساء جمهورية فرنسا النبيلة، وفِعل جميع هؤلاء لي ليس لعلو قدري أو لكثرة فنوني، ولكن فعلوه شفقة بي ورحمة لضرر عيوني، فانظر كيف كانت السقام موجبة لرفع المقام، ثم لا حاجة بذكر ما طرأ عليَّ من الأمراض العادية، كالحصبة والجدري وما أشبه ذلك من علل الطفولية، وبالجملة فقد قاست والدتي، شر المقاسات في تربيتي، وأدَّت ما وجب عليها نحوي من الفرض، وصدق من قال من فقد أمه فما بقي له صديق شفوق على وجه الأرض، أرضعتني ثلاثة أعوام بلا توان، فقال لها بعض الخلان، من طالت عليه الرضاعة، فلا يكن له قريحة ولا في التعليم براع.
هذا ولما اشتديت، وفي التمييز ابتديت، قامت والدتي بوفاء ما ألزمت نفسها من النذور المرضية، وسلمتني للشيخ على الإبياري لتعليم اللغة العربية، فطالعت علم التواريخ والآداب، وأصبحت مغرمًا في مطالعة كتب القدماء وأخبار العرب، ورغبت في مدح علماء الإسلام وحكمائه وشعرائه وقولهم الصائب، وإشهار براعتهم وما لهم من الفضائل على الأجانب، ثم نرجع إلى ما كنا بصدده من الحديث والكلام، ونسوق تاريخ مصر وما وقع للمرحوم عباس باشا من الحوادث والأحكام، فنقول إن عباس باشا الأكرم، هو حفيد جنتمكان محمد علي باشا الأعظم، ووالده طسُم ثاني أولاد محمد علي، شواه حيًّا نمرشندي الجبار النوبي وأمره جلي، فتولى عباس ولد طسُم ولاية مصر ولم يتبع قدوة جده، في مساعدة الإفرنج على انتظام بلده، مع ما كان عليه من النباهة والخبرة بالأمور وما رزقه من الهمة، ولذلك لم ترق في عهده معارج الفلاح مصالح الأمة، إلا أنه أتقن من اللغات العربية والتركية، واستمر محافظًا على الديانة الإسلامية، وكان إذ ذاك الناس أسلم سريرة يا زين، معضدة بالتقوى ومتمسكة باليقين، ومع ذلك لم يسلم من الأقاويل ورموه بالحيف على أملاك الغير، ومعاملة أربابها بالاغتصاب والضير، أما طاعته للسلطان الأعظم عبد المجيد، فكانت محفوفة بالخلوص وما عليها من مزيد، أظهر الغيرة والحيدة الإسلامية، بتكوين جيش مصري جرار لإعانة الدولة العثمانية، حين مقاتلتها مع الروس في حرب القرم الأعظم، ففاز المصريون بالفخر ونالوا النصر الأقوم، وكان عباس يحب قنية الطيور والحيوانات، وكثيرًا ما كان اختلاطه بأولاد البلد والعلماء والسادات، أما حياته فكان جلها مشوَّب بالأكدار، لتوهمه المخاوف من كيد الفجار وغدر الأشرار، بيد أنه ما تحذر منه مات به يا آل العبر، ولم يُغْنِه الحذر من القدر، أُعَرى به وهو نائم ينهاء في أمن وأمان، ومُحجب بحجب قوية من غدرات الزمان، لأن المكتوب لا بد أن يستوفاه، ولو تحصن بكل ما اصطفاه، أما مكارم عباس باشا على الرعية لا تُنكر، جلب لها مبادي التمدن الحالي وعلى طول المدى يُذكر، صرح للإنكليز في ذلك العصر، بمد السكك الحديدية والأسلاك بمصر، أما مدة حكمه فكانت خمس سنوات، وتولى بعده عمه سعيد باشا وكل ما هو آتٍ آت، هكذا سيرة المرحوم عباس باشا يا كرام، ألقيت ما عرفته منها بالتمام، أما ما حصل لي في أيامه من خير وشر يا سادة، أجمل القول فيه أولًا ثم أسرده لكم بالتفصيل كالعادة؛ دخلت في مبادي أمري مدرسة المهندسخانة المشهورة، واقتبست من معلميها الفنون والآداب على أجمل صورة، ومنها انتقلت إلى مدرسة إنكليزية فتحوها بمصر البروتسطان، أتقنت فيها لغة المستر بول الخمران، وتعلق بعد ذلك طالعي بالأسفار، فسرت إلى إيطاليا وتعلمت لغتها من نثر وأشعار، وعدت وعمري خمسة عشر إلى مصر المحروسة، فوجدتها بولاية سعيد باشا مأنوسة، سعيد الذي كانت أيامه هناء وسرور.
(١-٨) زيارة الشيخ أبي نظارة للأستانة العلية (بقلم صديقه محمود بك زكي)
لا أحتاج في هذا المقام إلى تقديم حضرة الهمام الخطير والكاتب النحرير الشيخ «أبو نظارة» للقارئين الكرام؛ لأنه قد تكفلت بذلك جرائد العالم على اختلاف لغاتها وتباين غاياتها، وأجمعت على أن هو الرجل الوحيد الذي امتاز بالثبات في خطته والدفاع عن وطنه، فاتجهت إليه الأنظار، وتزينت بنشر ترجمته صحف الأخبار، وتسابقت الجرائد الخطيرة على إثبات رسمه الشائق بين صفحاتها، لا سيما وهو بتلك العمامة الضخمة المحبوكة الأطراف التي كأنها قبة الفلك، والجبة القطيفة والقفطان الآلاجة اللطيف، وصدره المرصع بالنياشين الذي كأنه وجهة محل أحد تجار الوسامات المختلفة الأشكال المتنوعة الألوان، حيث إنك ترى فيها الأبيض الناصع والأحمر اللامع والأصفر الفاقع والأخضر السندسي والأزرق الفيروزي وغير ذلك من الألوان الكثيرة التي تهيج الناظر وتشرح الخاطر، وهي تتلألأ على صدره الرحيب كأنها الدراري، فلا تظن أيها القاري الكريم أن قصدي من ذكر نياشين الأستاذ التفاخر بها؛ كلا، وإنما أنا قصدت بذلك المراح والكلام المباح، وإلا فجناب الشيخ لا يفتخر إلا بعلو همته، ولطالما سئل عن ذلك فقال ما قلناه، أليس هذا شأن أرباب الفضل والكمال؟
ولقد سمعت أحد الوجهاء يسأله عن وطنه فقال: أنا من أغنى خلق الله في الأوطان؛ لأن لكل واحد وطنًا واحدًا وأما أنا فلي ثلاثة أوطان؛ الأول مصر مسقط رأسي وأول أرضٍ مس جسمي ترابها، والثاني الأستانة العلية التي هي غاية أمالي ومنتهى قصدي في إنقاذ وطني الأول، والثالث فرنسا التي لها عليَّ حقوق الضيافة، ولذا فأراني محبًّا لهذه الأوطان الثلاثة.
(١-٩) مقالة كتبتها جريدة «الحاضرة» التونسية عام ١٩٠٠، تحت عنوان «مسامرات الشيخ أبي نظارة»
قالت جريدة «الحاضرة» الغراء، دامت لأبناء تونس الخضراء: لا حاجة لنا لتعريف حضرة القراء بالشيخ أبي نظارة وبترجمته، فقد طالما ذاكرناهم بخطبه ومسامراته السياسية وإفاداته الأدبية، ولا شك أن ذكره لم يبرح عن خاطرهم بما قام به في الحاضرة التونسية، من المذاكرة التي حضرها بعض آل البيت الحسيني ورجال السفارة وجم غفير من أعيان التونسيين وأدبائهم، وقد كتب الشيخ المومأ إليه على نفسه من نحو ٤٠ سنة عهدًا يعلمه الخاص والعام، وهو دحض الأباطيل والأراجيف ومقاومة الأفكار الباطلة التي يشيعها أهل الضلال بين الأمم والأقوام، من التعصبات الدينية التي حالت دون الوفاق، وكانت داعية الخلاف والشقاق بين أبناء البشر، فهو القائل: لو تواخت الأمم والأقوام لساد الأمن بين أفرادهم بالتمام. ولذلك تراه كلما تكلم في المجامع الأوروباوية أعلن بفضل القرآن العظيم ولكمال أئمة الإسلام وعلمائها، كما أنه كلما تكلم عن الإنجيل أمام جمع الإسلام صرح بما في هذا الكتاب من المكارم والآداب وبما بلغته الأمم المسيحية من الترقي في مضمار المدنية، فهو يؤمل من سعيه هذا التوفيق والتحايب بين الفريقين لا على معنى الرجوع من دين إلى آخر بل على معنى التقارب والتوادد؛ ولذلك طار صيته في الأقطار الشرقية والغربية، وبلغ ذكره الملوك والأمراء، واعتنى «دون بدره» سلطان البرزيل بالحضور للخطب التي ألقاها في هذا الغرض بلشبونه سنة ١٨٨٩، وبباريز سنة ١٨٩٠، فإنه خاطبه بقوله: «أنت إمام الأخوة الفعلية بين الأقوام البشرية، وأنت شاعر الملوك.» فهو أول من نظم قصيدة بست لغات مختلفة، وقد نظم منها ثلاثًا قدمها للرئيس كارنو وللرئيس لوبي ولجلالة السلطان عبد الحميد خان، وقد قال له الرئيس كارنو بهذه المناسبة: يا شيخ، بفضلك أصبحت فرنسا أول أمة مُجدت بست لغات.
أما الحضرة السلطانية فلا زالت تفيض عليه صنوف العناية وتغمره بالإحسان، وقد أنهت سنة ١٨٩١ سلامها العالي على يده للرئيس كارنو، ولما حظي العام الفارط بمواجهة فخامة مسيو لوبي ذكره بعهد السفر للأستانة، وأنهى على يده واجبات الاحترام للحضرة السلطانية، وبعد ذلك بشهر أهدى مولانا السلطان أعظم نشانًا عثمانيًّا يُهدى للملوك لفخامة رئيس الجمهورية، وكذلك جلالة شاه العجم لما كان بحمام كونتركبيل هذه السنة أحله ضيفًا عنده، وأجلسه بإزائه، وتبادل معه شعار الوداد، وأحسن إليه بالصنف الثاني من وسام الأسد والشمس، وكذلك أمراء أفريقيا وآسيا لهم مواصلة تامة معه، وقد قاموا فيها بشكره على نشره فضائل الإسلام في معرض باريز العام.
مجموع جرائدنا سنة ١٩٠١
سلامي عليك يا حضرة القاري، يا مطلع على جرائدي وداري بأخباري، أهدي إليك شكري على أقوالك الرفيعة، في خطاباتك الأنيقة وألفاظك البديعة، مدحًا في جرائدي الشرقية، وفي عربيتها الدارجة المصرية، وإن لم تكن مقالاتي الوطنية ورسوماتي الرونقية وعباراتي المسلية أهلًا لاعتناءاتك المرضية، وامتداحاتك الأخوية، ولم أبلغ من ذلك قيراطًا من أربعة وعشرين في جانب ظرائف أساتذتنا الشرقيين، ولكن هذا من فضل ربي ما قد وجدته لديك ولديهم من القبول، وعساه كما سخر لي القلوب أن يريحنا وإياكم من المستر بول.
واليوم أتشرف بإهدائكم يا كرام ما صدر من مجموع جرائدي طول العام، ترونه يا إخوان قد حوى نوادر عجب وصورًا مطبَّعة على المعاني طرب، فسَّرْتها بلسان الوز الإنكليزي، لتكون غيظًا للمستر بول وشفاء من كل داء لأبناء وطني العزيزي، وإن تفضلتم بالسؤال عني يا سادة كالعادة فأقول إني في هناء وسعادة، ونسيت ما مرَّ من المصائب التي كانت كالجمر، ولم أطلب من المولى سوى الستر إلى آخر العمر، كما قيل في الأمثال السائرة «انس الهم ينساك، وإن افتكرته أضناك.» هذا وإن رمتم الوقوف على أحوال جرايدي الثلاث يا خلان، فأقل إنها رائجة رغمًا عن أنف الإنجلشمان، طُبع من الأعداد التي ترونها في هذا الكتاب، مائة وخمسون ألف نسخة تصفحها أولوا السياسة والكُتَّاب، أما من قبل الخُطَب العلمية والسياسية التي ألقيتها بباريس والبنادر الفرنساوية فهي عشرون خطبة تمام، مدحها في صحفهم شرقًا وغربًا رصفائنا الفخام، وفي هذه الأعداد الوجيزة ترون دفاعي عن حقوق مصر العزيزة، وعن جميع إخواننا الشرقيين بلا التفاف إلى ملة ولا دين؛ لأن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، حب الجميع كإنسان واحد في صدر أبي نظارة، هذا وأنبئكم يا خلان بأن مولانا السلطان بتعطفاته الشاهانية صبحني على الشان، ولقبني بشاعر الملك وأشهرني جلالة شاه إيران، وشرفني برفيع الوسامات، وحلاني بجميل الكرامات، ملوك الزنجبار وتجرة وأنجزيجة والهنزوان.