إشارات صنوع المسرحية
كتب صنوع أول إشارة في صحفه عن نشاطه المسرحي في ١٧ / ٤ / ١٨٧٨ من خلال إحدى المحاورات بين أبي خليل وأبي نظارة، وفيها جاء هذا الحوار:
وعلى الرغم من أن هذه المعلومات معروفة للجميع، وتكررت عند جميع من كتبوا عن صنوع، إلا أنها معلومات جاءت من مصدر وحيد وهو صنوع نفسه! ولم يقره فيها أي ناقد أو كاتب ممن عاصروه في هذه الفترة — كما سنبين ذلك في موضعه — خصوصًا فيما يتعلق بريادته للمسرح العربي في مصر. هذا بالإضافة إلى أن هذه الإشارة جاءت من خلال إحدى المحاورات! أي من الممكن اعتبارها نوعًا من الهزل؛ تبعًا لأسلوب صنوع في محاوراته عمومًا.
- الدليل الأول: أن يعقوب صنوع نشر في عدد جريدته الصادرة بباريس في ٢١ / ١٠ / ١٨٨٩
مخاطبة كان قد نشرها في عدد من أعداد صحيفته الأولى في مصر، وهذه المخاطبة
أرسلها له أحد الأصدقاء بمصر وفرح بها صنوع؛ لندرة وجود هذه الأعداد.٤
وهنا نتساءل: لماذا وصلت إلينا جميع نسخ صحف صنوع الصادرة في باريس بصورتها المطبوعة، ولم تصلنا نسخ أعداد صحيفته الصادرة في مصر في نفس الصورة المطبوعة لا المخطوطة؟
وبناء على هذا نقول: إن الاحتمال الأرجح أن يعقوب صنوع حصل على هذه الأعداد بصورة من الصور بعد عام ١٨٨٩، ووجد بها أشياء تناقض ما قال به بعد ذلك، فقام بإعادة صياغتها مرة أخرى بناءً على موقفه عام ١٨٨٩، لا بناء على صورتها الأصلية التي كُتبت بها في عام ١٨٧٨.
- الدليل الثاني: ويتمثل في قول د. إبراهيم عبده، عندما قال عن هذه الأعداد الصادرة في
مصر: إن صنوع كتبها في «كناشة سجل فيها الأعداد الخمسة عشر الأولى التي
نشرها في مصر ولا يوجد لها نظير في مكتبة عامة أو خاصة.»٥ وهذا القول يثبت أن الأعداد الأصلية المطبوعة لصحف صنوع في مصر
فُقدت بصورة غريبة، لدرجة عدم وجود أثر لها في المكتبات العامة أو الخاصة!
ويجب أن نلاحظ أن الذي قال بذلك هو د. إبراهيم عبده، أحد مؤرخي الصحف
العربية في العالم العربي، خصوصًا كتاباته عن هذه الصحف في القرن التاسع
عشر، أي في نفس فترة إصدار صنوع لصحفه! وهذا الأمر ربما يجعلنا نشك في أن
إخفاء أصول صحف صنوع في مصر كان مقصودًا ولم يأتِ مصادفةً.٦
وأمام هذا نتساءل: أين الأصول التي نقل منها صنوع مواد هذه الأعداد في كراسته الخاصة (الكناشة)؟ ولماذا نقلها صنوع ولم يتركها في صورتها الأصلية في بيته مع باقي أصول صحفه في فرنسا؟ ولماذا لم تعطِ «لُولِي صنوع» هذه الأصول إلى د. إبراهيم عبده ضمن ما أعطته من وثائق والدها، خصوصًا وأنها أعطته جميع أعداد صحف والدها المطبوعة في فرنسا بصورة كاملة غير منقوصة عددًا واحدًا؟
- الدليل الثالث: نشر صنوع في أول عدد من صحيفته بباريس إعلانًا قال فيه: «نعلم حضرات
الأصحاب محبي أبي نظارة زرقا بأننا باشرنا بتصحيح الخمسة عشر عددًا التي
ظهرت قبلًا وطبعها بمطبعة الحجر نظير هذا العدد الحاضر، ونزينها بتصاوير
ظريفة وعلى ورق جميل ونجعلها كراسًا واحدًا ثمنه عشرة فرنكات. فالذي يرغب
مشتراه يكرم علينا بإرسال اسمه وعند إنجاز طبعها نرسل بها إليه.»٧
ونلاحظ على هذا الإعلان قول صنوع بأنه بدأ في «تصحيح» الأعداد المصرية وطبعها! وهنا نسأل: لماذا «يُصحح» صنوع هذه الأعداد؟! وهل من حقه أن يصحح ما جاء في صحيفة تم نشرها بالفعل قبل أشهر معدودة؟! وما الداعي لهذا التصحيح؟! وماذا حدث لصنوع في فرنسا كي يقوم بتصحيح أقواله السابقة في مصر والمنشورة في تلك الأعداد التي يريد أن يصححها؟! أسئلة عديدة تؤكد عدم مصداقية صحف صنوع الصادرة في مصر، والتي جاءتنا في «كناشة»!
وإذا تركنا هذا الأمر وسألنا: هل طبع صنوع هذه الأعداد؟ والإجابة ذكرها قبلنا د. إبراهيم عبده الذي أكد على عدم طبعها. وإذا سألنا: لماذا لم تُطبع هذه الأعداد كما أعلن عنها صنوع؟ سنجد الإجابة جاءت بعد أكثر من شهرين على نشر الإعلان، ضمن محاورة قال فيها صنوع لأبي خليل: «إن جميع الناس بتطلب الخمسة عشر نمرة القديمة اللي الآن من كثرة أشغالي كما ترى مانيش قادر أطبعهم. إنما عند تمام ثلاثين نمرة رحلتي دي اللي أوعدت بنشرها أبقى فاضي ورايق وفي وقتها أشرع في طبع النمر القديمة.»٨ونلاحظ على هذا القول أن يعقوب صنوع يتهرب من طباعة هذه الأعداد؛ لأنه في الإعلان قال إنه بدأ بالفعل في الطباعة! وهنا نجده يقول إنه سيشرع في طباعتها في المستقبل! وهذا التهرب دليل على أن يعقوب صنوع لم يرد أن يطبع الأعداد المصرية في صورتها الأصلية — بدليل أنها لم تُطبع مطلقًا — واكتفى «فقط» بإعادة صياغتها في «كناشة» بصورة مختلفة عن أصلها!
- الدليل الرابع: ويُعتبر أقوى الأدلة على قيام صنوع بتغيير أعداد صحفه في مصر، خصوصًا موضوع ريادته للمسرح المصري، ويتمثل هذا الدليل في أن الأسطر الأربعة عن ريادة صنوع للمسرح التي جاءت في الإشارة السابقة كُتبت بخطٍّ مختلفٍ عن بقية الصفحة! ويستطيع القارئ أن يتحقق بنفسه من ذلك في صورة الوثيقة التالية. وسيلاحظ أن عبارة الريادة المسرحية كُتبت بطريقة مختلفة عما قبلها وعما بعدها، رغم تماثل الخط فيما قبلها وفيما بعدها؛ أي إن عبارة الريادة المسرحية مُقحمة على الصفحة!
وبعد أن وضع صنوع إشارتيه السابقتين ليدلل بهما على وجوده كمسرحي في مصر جاءته فرصة كبيرة لتثبيت هذا الوجود، عندما قام السلطان العثماني بعزل الخديو إسماعيل من منصبه. وبناءً على هذا التغيير السياسي قام صنوع — في إشارته الثالثة بتاريخ ١ / ٧ / ١٨٧٩ — باختلاق قصص وهمية عن علاقته بالخديو إسماعيل، نشرها في صحفه بباريس في مقال كبير. ومن أهم هذه القصص قصة إنشائه للمسرح العربي في القاهرة، وكيف أغلق الخديو إسماعيل هذا المسرح! ذلك الخديو الذي لقبه صنوع — في مقالته — بشيخ الحارة تارة وبفرعون تارة أخرى. وفي ذلك يقول صنوع:
ومن الغريب أن علاقة صنوع بالخديو إسماعيل — كما جاءت في هذه المقالة — خصوصًا نشاطه المسرحي في مصر، وغلق الخديو لهذا المسرح وأسباب الغلق؛ لم يَقُلْ بها صنوع من قبل، وتحديدًا قبل عزل إسماعيل، رغم أن المناسبات كانت كثيرة لإثارة هذا الأمر، خصوصًا وأن يعقوب صنوع كان في باريس ويصدر صحيفته المخصصة للهجوم على الخديو إسماعيل!
وبعد أن أثبت صنوع نشاطه المسرحي سواء بالنسبة لفرقته المسرحية، أو بالنسبة لتآليفه المسرحية عاد مرة أخرى لهذا النشاط وأضاف إليه أمورًا جديدة لم يَقُلْ بها من قبل؛ وذلك من خلال محاورة بينه وبين أبي خليل في ٢٨ / ٢ / ١٨٨٧ كإشارة خامسة:
والجديد في هذه الإشارة أن فرقة صنوع المسرحية كانت متكونة من ممثلين وممثلات مصريات، استطاعوا في عامين أن يعرضوا اثنتين وثلاثين مسرحية، ووصل الأمر بهذه الفرقة أن عرضت بعض مسرحياتها أمام الخديو إسماعيل في قصره الخاص المعروف باسم «قصر النيل»، ومن شدة إعجاب الخديو بنشاط صنوع المسرحي، خلع عليه لقب «موليير مصر»؛ تشبهًا بموليير الفرنسي! مما جعل صنوع يحتل مكانة كبيرة وسط كبار القوم.
وبعد ذلك لم يستطع صنوع أن يضيف شيئًا جديدًا على تاريخه المسرحي في مصر، واكتفى بما قاله سابقًا، منتظرًا أثره على القراء من الصحفيين والكُتاب. وبالفعل أثرت أقوال صنوع فيهم؛ فوجدنا «أوجين شينيل» محرر جريدة «الفولطير» يكتب مقالة طويلة عن تاريخ مسرح صنوع — كما ذكره صنوع بنفسه في صحفه — وأضاف عليه تفصيلات جديدة لم يثبتها صنوع في أقواله السابقة!
والملاحظ على قول هذا الصحفي أنه استقى معلوماته من صنوع نفسه، فخُدع بها، وزاد عليها أشياء غير حقيقية؛ فمثلًا وصفه بأن مسرحيات صنوع الإيطالية الثلاث تم تمثيلها «بالتياترات العظيمة الإيطاليانية ببلاد الشرق»؛ لا ينطبق إلا على الأوبرا الخديوية في مصر؛ لأن الأوبرا هي المسرح الوحيد العظيم في البلاد الشرقية الذي يعرض المسرحيات الإيطالية في هذا الوقت. ولم نجد أية إشارة — كما سنبين ذلك في موضع آخر — تدل على أن يعقوب صنوع مثل أو مُثلت إحدى مسرحياته في الأوبرا.
وبالرغم من مبالغات صنوع الكبيرة، إلا أنه لم يقل بذلك! ولكن الصحفي توهم أن يعقوب صنوع له مكانة مسرحية كبيرة — تبعًا لأقوال صنوع عن نفسه — مما جعله يضيف إلى مقالته مسألة تمثيل مسرحيات صنوع في الأوبرا الخديوية وكأنها أمر واقع لا بد أنه حدث، طالما أن لصنوع هذه المكانة المسرحية الرائدة.
وإذا كان صنوع نشر مقالة جريدة «الفولطير» كنموذج للصحافة الأجنبية وتأثرها بتاريخه المسرحي؛ نجده بعد ذلك ينشر مقالة أخرى نشرتها جريدة «الحاضرة» التونسية كنموذج للصحافة العربية، وهذه المقالة تُعتبر الإشارة السابعة والأخيرة في صحف صنوع التي جاءت عن تاريخ مسرحه.
ومن الملاحظ أن الإشارات السبع السابقة هي كل ما كُتب في صحف صنوع عن نشاطه المسرحي في مصر، وبالرغم من أن هذه الإشارات هي خطوط عريضة وأساسية لخطوات صنوع في ريادته للمسرح المصري، إلا أنه وقبل وفاته أراد أن يضع هذه الخطوط في إطار تفصيلي على شكل مسرحية يروي فيها تفاصيل هذه الريادة، أو تفاصيل نشاطه المسرحي في مصر. فقام بذلك عام ١٩١٢، عندما نشر في بيروت مسرحيته «موليير مصر وما يقاسيه»، وفي مقدمتها قال:
وبالرغم من اعتراف صنوع أن هذه المسرحية ظل عرضها لمدة شهرين، إلا أنه لم يذكر هل هذا العرض تمَّ في القاهرة أو في باريس؟ ولكننا إذا عدنا إلى الإشارة الرابعة فيما سبق — في ٢٠ / ٢ / ١٨٨٠ — سنجد أن هذه المسرحية كانت تُمثل في القاهرة؛ أي إنها كُتبت في القاهرة أثناء نشاط صنوع المسرحي؛ والسبب في إثارة هذا الأمر أننا سنثبت — فيما بعد — أن هذه المسرحية كُتبت في باريس، ولم تُكتب ولم تُمثل في مصر!
هذه هي الخطوط الرئيسية لمُجمل تاريخ صنوع المسرحي كما سرده بنفسه — في صحفه وفي مسرحيته «موليير مصر وما يقاسيه» — ذلك التاريخ الذي توارثه النقاد والكُتاب جيلًا بعد جيل، منذ عام ١٩١٣، حتى وقتنا الحاضر، لدرجة أن أي ناقد أو كاتب من المحدثين لا يستطيع أن يكتب عن بدايات المسرح العربي في مصر أو في العالم العربي، دون أن يذكر ريادة صنوع المسرحية التي بدأت في عام ١٨٧٠.
ومن الغريب أن جميع كتابات صنوع عن ريادته ونشاطه المسرحي في مصر لم تأتِ إلا من خلاله هو فقط. وبمعنى آخر إن يعقوب صنوع هو المصدر الوحيد لتلك الريادة وذلك النشاط المسرحي! والأغرب من ذلك أن جميع النقاد والكُتاب لم يكتبوا عن صنوع كمسرحي إلا من خلال هذا المصدر؛ أي من خلال صنوع نفسه! وبالرغم من شكوكنا حول هذه الريادة وحول هذا النشاط المسرحي المزعوم لصنوع؛ إلا أن التاريخ سيكون الفيصل في حسم هذا الأمر!