(١) كيف دخل صنوع تاريخ المسرح؟
أول من أدخل يعقوب صنوع في تاريخ المسرح العربي — ونصبه فيه رائدًا للمسرح المصري
—
هو المؤرخ الصحفي الفيكونت فيليب دي طرازي.
١ وذلك عندما طبع مسرحية «موليير مصر وما يقاسيه» في بيروت عام ١٩١٢ — وهي
المسرحية الوحيدة لصنوع المطبوعة باللغة العربية في الوطن العربي — وأيضًا عندما
كتب
طرازي (خمس صفحات فقط) عن حياة وأعمال صنوع، في كتابه «تاريخ الصحافة العربية» عام
١٩١٣.
والسؤال الآن: ما هي العلاقة بين صنوع وطرازي التي جعلت فيليب طرازي يقوم بمهمة إدخال
صنوع في تاريخ المسرح العربي؟! الحقيقة أن العلاقة بينهما بدأت قبيل وفاة صنوع وتحديدًا
في عام ١٩١١، ولم تبدأ قبل ذلك. وتحديد تاريخ هذه العلاقة راجع إلى ما قاله فيليب
طرازي
في مقدمة الجزء الأول من كتابه «تاريخ الصحافة العربية» عام ١٩١٣، عندما قال: «منذ
سنتين أَذعتُ نشرة مُعلنًا فيها عزمي على تأليف كتاب شامل لتاريخ الصحافة العربية
في
مشارق الأرض ومغاربها، فصادف مشروعي ارتياحًا لدى روَّام المسائل التاريخية الذين
أتحفوني برسائل التنشيط واستحثوني على إبراز هذا الفكر إلى حيز العمل … ولما كان
قدماء
الصحافيين قد طواهم الزمان وكادت آثارهم تنقرض بمرور الأيام اضطررت إلى التفتيش عن
صحفهم بكل وسيلة فعالة.»
٢
وهذا القول يثبت أن يعقوب صنوع اطَّلع على هذه النشرة عام ١٩١١، وأرسل لطرازي كل
ما
يتعلق بنشاطه الصحفي والأدبي والمسرحي، سواء الحقيقي أو غير الحقيقي؛ والدليل على
ذلك
قول طرازي فيما يتعلق بما أرسله صنوع له، عندما قال: «وقد أُتحف بها قبل وفاته مؤلف
هذا
التاريخ على سبيل الهدية والتذكار. وهي مجموعة أدبية ثمينة يندر وجود نظيرها عند
أحد
الشرقيين الذين لا يكترثون عادة لصيانة الآثار القديمة أو النفيسة.»
٣
ومن المؤكد أن يعقوب صنوع أرسل لطرازي ضمن ما أرسله مخطوطة مسرحية «موليير مصر وما
يقاسيه»، فقام طرازي بنشرها في بيروت عام ١٩١٢. وهناك احتمال كبير أن نشر المسرحية
جاء
باتفاق مسبق بين صنوع وطرازي؛ لأن هذه المسرحية على وجه التحديد هي تفصيل لنشاط صنوع
المسرحي المزعوم في مصر، فإذا لم يكن هناك هذا الاتفاق لكان طرازي نشر أية مسرحية
أخرى
من مسرحيات صنوع الاثنتين والثلاثين! ولكن نشر هذه المسرحية باللغة العربية في جزء
من
الوطن العربي — بيروت — يضمن لصنوع ولطرازي أن نشاط صنوع المسرحي أصبح منشورًا في
الوطن
العربي عام ١٩١٢، وفي نفس الوقت يكون تمهيدًا للقارئ العربي؛ كي يتقبل نشاط صنوع
المسرحي وريادته للمسرح المصري قبل أن يكتب عنهما طرازي في كتابه «تاريخ الصحافة
العربية» عام ١٩١٣!
والدليل على وجود اتفاق مسبق بين صنوع وطرازي — لنشر نشاط صنوع المسرحي باللغة
العربية في الوطن العربي — أن يعقوب صنوع اطلع على ما كتبه عنه طرازي في كتابه «تاريخ
الصحافة العربية»، قبل طبع الكتاب نفسه! ومن المحتمل أن يعقوب صنوع هو الذي كتب الصفحات
الخمس عن نفسه، والتي جاءت في الكتاب!
والدليل على قولنا هذا أن مسرحية «موليير مصر وما يقاسيه» المنشورة في بيروت عام
١٩١٢
كتب صنوع إهداءها إلى فيليب طرازي بجانب صورته قائلًا: «أهدي كُتيبي ده لأعز الأحباب،
ولألطف وأجل الكتَّاب، من بأقواله البديعة، وأفكاره الرفيعة، وعباراته الجميلة،
وتصوراته الجليلة؛ يسليني في الغربة على الهموم والأكدار، ويحببني في الرياض والأزهار،
ويصبرني على تقلبات الزمان. يحفظهُ ويحرسهُ الرحمن. وهو جناب الكونت فيليب طرازي
الشهير، النجيب الأديب اللبيب النحرير، أبو قلب ملوكاني وروح ملائكية، ما يخرج من
عنده
الفقير إلا وحامل عطية، يسر عين الناظر برؤية وجهه اللي يتلألأ بالكرم والإحسان،
ويطرب
أذن السامع بحلاوة وفصاحة اللسان. أهديه روايتي يا سادة، وأتمنى له طول العمر والإقبال
والسعادة، ده يا ناس أشهرني في سورية، وكتب ترجمة حالي الحقيرة وجعلها بثنائه غالية
غنية. وضعت رسمه الحلو هنا في ابتداء كتابي، شوفوه وتأملوا في جماله يا أصحابي. وقولوا:
تبارك الخالق محب الجمال، طرازك يا سي الشيخ يقينًا
بديع الحُسن والكمال.»
٤
وأمام هذا الإهداء — أو هذه الوثيقة المنشورة — نتساءل: كيف عرف صنوع في عام ١٩١٢
—
وهو تاريخ نشر المسرحية، وأيضًا هو تاريخ وفاة صنوع — أن فيليب طرازي أشهره في سورية،
وكتب ترجمته عام ١٩١٣؟! علمًا بأن هذه الشهرة جاءت بعد نشر ترجمة صنوع في كتاب طرازي
«تاريخ الصحافة العربية» عام ١٩١٣، أي بعد وفاة صنوع بعام واحد؟! لذلك لا يوجد غير
احتمال واحد لهذا التضارب، وهو أن يعقوب صنوع اطلع على مخطوطة ترجمته في الكتاب قبل
نشره، أو أن هناك اتفاقًا مُسبقًا بين صنوع وطرازي على ما سيُكتب عن صنوع في هذا
الكتاب!
وإذا أتينا إلى أسلوب طرازي في ترجماته لأصحاب الدوريات في كتابه «تاريخ الصحافة
العربية» سنجده يترجم كل شخصية بذكر الاسم ومحل الميلاد … وهكذا حتى ينتهي بوفاة
المُترجم له، أو ذكر آخر أعماله. فمثلًا نجده يبدأ ترجمة «رفاعة الطهطاوي» بقوله:
«هو
السيد رفاعة بك بن بدوي بن علي بن محمد بن علي بن رافع … وُلد في طهطا بمديرية جرجا
من
صعيد مصر سنة ١٨٠١»
٥ … إلخ الترجمة. وعندما بدأ ترجمة «أحمد فارس الشدياق» قال: «هو فارس بن
يوسف بن منصور بن جعفر بن فهد الشدياق … وُلد سنة ١٨٠٤»
٦ … إلخ. وعندما بدأ ترجمة «إبراهيم المويلحي» قال: «مُنشئ جريدة «الخلافة»
في نابولي وصحف «الاتحاد» و«الأنباء» و«الرجاء» في باريس، ومؤسس جريدتي «نزهة الأفكار»
و«مصباح الشرق» … يتصل نسبه»
٧ … إلخ. وعندما بدأ ترجمة «الشيخ محمد عبده» قال: «نشأ في قرية صغيرة من
أبوين فقيرين، فلم يمنعه ذلك من الارتقاء بجده واستعداده حتى بلغ منصب الإفتاء وأصبح
علمًا في الشرق.»
٨ … إلخ. وأخيرًا عندما بدأ ترجمة «الشيخ جمال الدين الأفغاني» قال:نشر صنوع
خطابًا ورد إليه، وبه «فيلسوف الإسلام وأحد مؤسسي جريدة «العروة الوثقى» في باريس
ومدير سياستها»
٩ … إلخ.
وعندما بدأ طرازي ترجمة يعقوب صنوع قال: «لا نظن أحدًا من كتبة الأعارب والأعاجم
في
هذا العصر يجهل اسم الشيخ أبي نظارة المصري الذي اشتهر ذكره في الخافقين ورنَّ صدى
مقالاته اللطيفة من مشارق الأرض إلى مغاربها. فهو الكاتب الانتقادي الكبير الذي علت
شهرته في عالم السياسة، وذاع صيته بين خاصة الناس وعامتهم، وما زال منذ أكثر من نصف
قرن
يدافع قولًا وعملًا عن وطنه المحبوب، بل يجاهد بثبات جأشٍ وحماسةٍ لا تُوصف عن مصلحة
بلاده واستقلالها من نير الغرباء. فنرى من باب العدل تخليدًا لمآثره أن نكيل له بمكيال
أعماله، ونزين صفحات هذا الكتاب برسمه وترجمته. هو يعقوب بن رافائيل صنوع، وُلد في
القاهرة بتاريخ ٩ شباط ١٨٣٩ من أبوين إسرائيليين»
١٠ … إلخ.
وأمام أسلوب طرازي في ترجمته للشخصيات السابقة نتساءل: لماذا كتب طرازي هذه المقدمة
البليغة عن صنوع قبل أن يبدأ ترجمته تبعًا لأسلوبه المعتاد بذكر الاسم والميلاد؟!
ولماذا هذا التأكيد على أهمية صنوع وشهرته طالما أن الكاتب لا يظن أن «أحدًا من كتبة
الأعارب والأعاجم في هذا العصر يجهل اسم الشيخ أبي نظارة المصري الذي اشتهر ذكره
في
الخافقين»؟! ولماذا لم يأتِ طرازي بأي قول أو سند من هؤلاء الكتبة عن صنوع عندما
كتب
ترجمته؟! ولماذا لم يكتب طرازي مثل هذه المقدمة لرفاعة الطهطاوي، والشدياق، والمويلحي،
ومحمد عبده، والأفغاني … نظرًا لأنهم أكثر عملًا وشهرة من صنوع؟!
تساؤلات كثيرة تدل على أن فيليب طرازي أراد — من تلقاء نفسه، أو باتفاق مُسبق مع صنوع
أو غيره — إقحام اسم يعقوب صنوع في تاريخ الثقافة العربية بصفة عامة، وفي تاريخ المسرح
المصري بصفة خاصة! ومن الغريب أن فيليب طرازي لم يكتب تاريخ صنوع إلا من خلال مصدر
واحد
… هو صحف صنوع فقط! ولم يأتِ بأية معلومة خارج هذا المصدر! فقد أعطاه صنوع نسخة كاملة
من صحفه! وبالتالي قرأها طرازي وتأثر بما فيها من مبالغات وتاريخ مُلفق لصنوع، فأثبت
هذه الأمور في الترجمة دون!
يقول طرازي تحت عنوان «معرفة الجميل»: «لما كان بعض الأدباء والأديبات قد مدُّوا
لي
يد المساعدة في إرسال ما لديهم من الصحف القديمة والحديثة تعزيزًا لمشروعي وخدمة
للصحافة؛ تحتم عليَّ هنا أن أسرد أسماءهم … الشيخ يعقوب صنوع المصري المُلقب بأبي
نظارة
وصاحب الجريدة الهزلية المعروفة باسمه في باريز. فإنه أرسل لي المجموعة الوحيدة
الموجودة لديه من كل جرائده الكثيرة.»
١١
ومن خلال صحف صنوع كتب طرازي ترجمة صنوع.
١٢ فتحدث عن ولادته من أبوين إسرائيليين، وإتقانه لتعاليم الأديان السماوية
الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن.
١٣ وعمله كمدرس لغات لأبناء الأعيان،
١٤ وتأسيسه ورئاسته لمحفل التقدم وجمعية «محبي العلم»،
١٥ وإصداره لجريدة أبي نظارة لانتقاد الخديو إسماعيل، الذي أمر بإبطالها ونفي صنوع
١٦ مما جعل يعقوب صنوع يتنبأ بإبعاد الخديو إسماعيل بعد عام من نفيه.
١٧
كما تحدث طرازي أيضًا عن نشاط صنوع في فرنسا من خلال مواصلته لإصدار صحيفته ومهاجمة
إسماعيل، الذي منع دخولها إلى مصر؛ مما اضطر صنوع لتغيير اسمها كل فترة.
١٨ هذا بالإضافة إلى كتابات صنوع في الصحف الفرنسية وخطبه العديدة.
١٩ كما تطرق طرازي لعلاقة صنوع بالخديو عباس كما بيناها. وأيضًا تحدث عن تآليف
صنوع الموسيقية، وإتقانه لرسم الصور التي تزين صحفه، وحصوله على الأوسمة والنياشين
من
رؤساء الحكومات.
٢٠ واختتم طرازي ترجمة صنوع ببيان معرفته بمشاهير سلاطين الإسلام وأمرائهم
وعلمائهم وشعرائهم، وحصوله على عدة ألقاب منهم.
٢١
وعلى الرغم من أننا سنفند بعض هذه الأمور لاحقًا، إلا أن ما يهمنا الآن هو نشاط صنوع
المسرحي في مصر، كما جاء في هذه الترجمة. وعن هذا النشاط يقول طرازي: «وفي سنة ١٨٧٠
أنشأ أول مرسح عربي في القاهرة بمساعدة الخديو إسماعيل الذي منحه لقب «موليير مصر»
ونشطهُ على عمله وشهد مرارًا تمثيل رواياته. فألف صاحب الترجمة حينئذ اثنتين وثلاثين
رواية هزلية وغرامية منها بفصل واحد ومنها بخمسة فصول لم يزل صداها يرن في آذان الشيوخ
على ضفاف النيل.»
٢٢
وهذه المعلومات ليست جديدة علينا، بل تحدثنا عنها كثيرًا من خلال صحف صنوع، التي
اعتمد عليها طرازي. إلا أن أهميتها تتمثل في أنها أول معلومات عن نشاط صنوع المسرحي
في
مصر تُكتب في كتاب باللغة العربية وتُنشر في أحد الأقطار العربية — بيروت — عام
١٩١٣.
وهذه العبارة الموجزة في كتاب طرازي كانت الباب الذي فُتح على مصراعيه، أمام جميع
من
كتب من الكُتاب والنقاد العرب عن صنوع كرائد مسرحي مصري بعد ذلك. فانهالت المقالات
والدراسات والكتب الضخمة بناءً على هذه العبارة فقط!
وهكذا نجح طرازي فيما فشل فيه صنوع! فبالرغم من أن يعقوب صنوع كتب كثيرًا عن نشاطه
المسرحي في مصر من خلال صحفه، إلا أن هذه الكتابات ظلت مُهملة من جانب النقاد ومؤرخي
المسرح العربي منذ عام ١٨٧٨، وحتى وفاة صنوع عام ١٩١٢، كما بينا سابقًا. ولكن فيليب
طرازي نجح أخيرًا في جعل كتابه «تاريخ الصحافة العربية» أول وأهم مرجع عند كل من
يريد
أن يكتب عن نشاط وريادة صنوع للمسرح المصري … وقد فلح …!
(٢) أثر كتاب طرازي في مصر
(٢-١) سليم قبعين
ظل تأثير كتاب «تاريخ الصحافة العربية»
لفيليب طرازي، فيما يتعلق بصنوع، بعيدًا عن الكتابات المنشورة في مصر لأكثر من عشر
سنوات، وفي عام ١٩٢٤ نُشرت في مصر أول مقالة عن تاريخ صنوع بعنوان «الشيخ أبو نظارة
واضع أساس النقد الصحافي في مصر»، منقولة بالكامل من صفحات طرازي الخمس! وقد نشرتها
مجلة مصرية ماسونية هي مجلة «الإخاء»، وقام بنشرها صاحب المجلة «سليم قبعين»!
٢٣ أما كاتب هذه المقالة، فهو المستشرق الروسي «أغناطيوس كراتشكوفسكي»،
٢٤ وهو صديق حميم لسليم قبعين!
٢٥
وقبل أن يتحدث المستشرق عن صنوع قدم لموضوعه بمقدمة — لا يخفي على القارئ الفطن
مغزاها! — قال فيها: «إن المتتبع لتاريخ ارتقاء اللغة العربية يصادف ظروفًا متعددة
ساعدت على إحياء هذه اللغة الغنية بآدابها … ومن تلك الظروف والحوادث اشتراك كثيرين
من
غير العرب والمسلمين في العمل على إحيائها وترقيتها وتجديد حياتها ومن هؤلاء أسرة
كرنيليوس فانديك الأميركية، ومنهم منصور كارليتي الإيطالي … ثم إن للأتراك والبربر
فضلًا عظيمًا في إحياء اللغة العربية في القرن التاسع عشر. وهناك أمم بعيدة عن الأمة
العربية أنجبت نوابغ خدموا اللغة خير خدمة تُذكر لهم بالفخر والشكر؛ فإن اليهود اشتركوا
في إحياء اللغة العربية، وفي العهد الأخير نجد بينهم أشخاصًا تركوا وراءهم آثارًا
خالدة
في خدمة الصحافة العربية منهم «الشيخ أبو نظارة». وقد رأيت بمناسبة مرور ٨٥ سنة على
ولادته أن أذكر لمحة من تاريخ حياته وأعماله، وكان الواجب على مواطنيه أن يحتفلوا
بإحياء ذكره، ولكن الغربيين سبقوهم إلى هذه المأثرة.»
٢٦
وبعد هذه المقدمة تحدث المستشرق — معتمدًا على طرازي — عن ميلاد صنوع في
٩ / ٢ / ١٨٣٩، ودراسته في إيطاليا، وعلاقة والده بالأمير أحمد يكن، وإنشائه للمسرح
العربي في مصر عام ١٨٧٠، ومؤلفاته المسرحية الاثنتين والثلاثين، وحصوله على لقب «موليير
مصر» من الخديو إسماعيل، وتكوينه لجمعيتين علميتين، وعلاقته بالأفغاني ومحمد عبده،
وإصداره لصحيفة «أبي نظارة»، ومصادرتها التي أدت إلى سفر صنوع إلى فرنسا، ومن ثم
نبوءة
صنوع بعزل إسماعيل. ثم تطرق المستشرق إلى علاقة صنوع بالخديو عباس، وأخيرًا وفاة
صنوع
في ٣٠ / ١٢ / ١٩١٢.
٢٧
وبهذه المقالة أصبح ليعقوب صنوع في مصر أول تاريخ إجمالى منشور عنه! وهكذا بدأ تأثير
كتاب طرازي يتغلغل في تاريخ مصر بصفة عامة، وتاريخها المسرحي بصفة خاصة.
(٢-٢) توفيق حبيب
في عام ١٩٢٧ كتب توفيق حبيب المقالة
الثانية عن صنوع في مصر، تحت عنوان «موليير مصر». وهذه المقالة على وجه التحديد،
كانت
أهم مقالة تُكتب عن يعقوب صنوع كمسرحي؛ لأنها نُشرت في مجلة مصرية مسرحية متخصصة،
هي
مجلة «الستار»، وأيضًا لأنها تحدثت بصورة تفصيلية عن نشاط صنوع المسرحي، وريادته
للمسرح
العربي في مصر، معتمدة في ذلك على أمرين؛ الأول: كتاب طرازي «تاريخ الصحافة العربية»،
فيما يتعلق بنشاط صنوع المسرحي، والآخر: نص مسرحية «موليير مصر وما يقاسيه»!
٢٨
وقد بدأ توفيق حبيب مقالته عن صنوع بقوله: «وفصل تاريخ حياته الأستاذ الفيكونت فيليب
دي طرازي في كتابه «تاريخ الصحافة العربية» ومما قاله عنه»
٢٩ … إلخ ما قاله طرازي عن نشاط صنوع المسرحي في مصر ومؤلفاته المسرحية
الاثنتين والثلاثين. ثم قال — بعد ذلك — توفيق حبيب: «وقد وجدت من روايات الشيخ
أبي نظارة المشار إليها في دار الكتب المصرية، واحدة عربية اسمها: «موليير مصر وما
يقاسيه». وقد رأيت أن أنقل مقدمتها وبعض محادثات لممثليها للتعريف بلغة المؤلف وأسلوبه
وأخبار التياترو في أيام الشيخ وزمرته ودرجة تفكيرهم.»
٣٠
وإذا عدنا لما ذكرناه سابقًا عن موضوع مسرحية «موليير مصر وما يقاسيه» سنجده تفصيلًا
شاملًا لريادة ونشاط صنوع للمسرح المصري، كما توهمه صنوع، أو كما أراده أن يكون!
وبالفعل دخل هذا التفصيل الشامل إلى تاريخ المسرح المصري عبر مقالة توفيق حبيب
المنشورة!
ومن الملاحظ أن المستشرق الروسي اعتمد فقط — في مقالته — على كتاب طرازي، أما توفيق
حبيب فقد اعتمد على نفس الكتاب، الذي جعله يتحمس ويبحث عن آثار صنوع المسرحية العربية،
فلم يجد غير مسرحية «موليير مصر وما يقاسيه» كمسرحية مكتوبة باللغة العربية، فأثبت
ما
فيها من نشاط صنوع كمسرحي في مصر. علمًا بأنها منشورة من خلال طرازي أيضًا، كما بينا
سابقًا. أي إن فيليب طرازي هو المرجع الوحيد لأي أخبار تُكتب عن صنوع كمسرحي في مصر،
ذلك المرجع المُستقي كافة معلوماته من مصدر وحيد هو يعقوب صنوع نفسه!
(٢-٣) د. إبراهيم عبده
في عام ١٩٤٤ نشر د. إبراهيم عبده
كتابين؛ الأول: «تطور الصحافة المصرية وأثرها في النهضتين الفكرية والاجتماعية»،
والآخر: «أعلام الصحافة العربية». وفي هذين الكتابين كتب الدكتور عن صنوع كصحفي وكمسرحي
معتمدًا على كتاب طرازي، الذي كان من أهم مراجعه. ثم وجدناه يعتمد في كتابه الأول
على
مرجع آخر هو كتاب بول دوبنيير «مصر الساخرة: ألبوم أبو نظارة» المطبوع في باريس عام
١٨٨٦.
٣١
والدكتور إبراهيم عبده كمؤرخ صحفي وأحد المتخصصين في هذا المجال، لم يكتفِ بالنقل
من
كتاب طرازي، بل قام بإعادة صياغة عبارات طرازي، وأضاف إليها تفسيرات بأسلوب بليغ،
يدل
على إعجاب وانبهار بتاريخ صنوع. ومثال على ذلك قوله:
«وهو ناقد مر النقد، قاسٍ في أسلوبه وحواره … تعلم في إيطاليا الرسم والنحت والموسيقى
فأجادها جميعًا وكسب بها معاشه في مصر، وازدلف بها إلى قصور الأمراء والباشوات حيث
علمها لأولادهم … وله في التمثيل مسرحيات مترجمة ومؤلفة، جادة وهازلة، وقد ضمنها
الملاحظة الدقيقة والسخرية اللاذعة والبسمة الطبيعية والدمعة الصادقة. وفي أثناء
عمله
المسرحي وجد في مصر رأيًا عامًّا يميل إلى النضج فاتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني
والشيخ محمد عبده … وكان للأفغاني رأي في إحياء الفكرة الحرة عن طريق الصحف، فاتفق
الثلاثة على إنشاء صحيفة هزلية يديرها صنوع … وفيها تُنقد أعمال الخديو وتُشرح تصرفات
بطانته … وما كان يمكن أن يحتمل إسماعيل وبطانته صحافة من هذا اللون؛ فأغلق جريدة
يعقوب
صنوع، وعالج أمر بقائه في مصر، واستطاع أن ينال موافقة إيطاليا على نفيه.»
٣٢
هذا ما اعتمد عليه الدكتور من كتاب طرازي. أما اعتماده على كتاب بول دوبنيير —
المطبوع في فرنسا، عام ١٨٨٦ — فقد نقل منه هذا الجزء عن صنوع: «كان أبو نظارة إلى
جانب
عمله الصحفي أديبًا يجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة وخطيبًا لا يُشق له غبار ومحاضرًا
ساحرًا، وله محاضرات مهمة هزت الرأي العام الأوروبي، وخصومته ظاهرة جدًّا للإنجليز
في
هذه المحاضرات.»
٣٣
ولحُسن الحظ أننا حصلنا على هذا الكتاب،
٣٤ فوجدناه تفريغًا موضوعيًّا منظمًا لصحف يعقوب صنوع! وموضوعات هذا الكتاب
تتمثل في: «أبو نظارة في مصر، ص٦–٨»، وهو تاريخ صنوع
في مصر كما سرده بنفسه في صحفه. «أبو نظارة في باريس،
ص٩–١٨»، وهو أيضًا تاريخ صنوع ونشاطه في فرنسا، كما استخلصه بول دوبنيير من مقالات
صحف
صنوع. «صحف أبو نظارة في باريس، ص٢١–٣٨»، وهو وصف وتحليل موجز لمنهج صنوع في صحفه.
«ألبوم أبو نظارة، ص٣٩–٨٨»، وهو أكبر جزء في الكتاب، وهو عبارة عن نقل أهم الرسومات
الكاريكاتيرية، بما صاحبها من تعليقات، كما جاءت في صحف صنوع. «خطب الشيخ أبو نظارة،
ص٨٩–١١٢»، وهو انتقاء لأهم خطب صنوع كما جاءت في صحفه.
هذا هو الوصف التفصيلي لكتاب بول دوبنيير. ومن الملاحظ من مقدمة الكتاب أن بول
دوبنيير من أصدقاء صنوع، وقد أستقي كافة معلوماته من صنوع نفسه، بالإضافة إلى صحف
صنوع
في فرنسا! بل ووجدنا أن يعقوب صنوع بنفسه قام بنشر كتاب بول دوبنيير، وطبعه في المطبعة
الخاصة بجريدته «أبو نظارة»! وإن دلَّ هذا فإنما يدل على أن بول دوبنيير كتب كتابه
بإيعاز من صنوع، ومجاملة له؛ حيث إن يعقوب صنوع هو مصدر معلومات بول دوبنيير الوحيد!
وهو أيضًا صاحب المطبعة التي طبعت الكتاب! وهو أخيرًا صاحب دار النشر التي نشرت
الكتاب!
ومما سبق يتضح لنا أن د. إبراهيم عبده، ساهم في إثبات تاريخ صنوع المسرحي في مصر،
عندما قام بتفسير ما جاء في كتاب طرازي عن صنوع كمسرحي. وأيضًا عندما اعتمد على أول
كتاب كُتب باللغة الفرنسية عن صنوع عام ١٨٨٦. وأخيرًا قيامه بنشر هذه الأمور في أول
كتابين مطبوعين في مصر، ويُذكر فيهما نشاط وريادة يعقوب صنوع كمسرحي في مصر. وذلك
على الرغم من أن «صحف يعقوب صنوع»، هي المصدر الوحيد
لكتاب طرازي، وأيضًا لكتاب بول دوبنيير.
(٢-٤) زكي طليمات
في عام ١٩١٩ كتب محمد تيمور مقالة
بعنوان «التمثيل في مصر»، وهي عبارة عن تأريخ لبدايات المسرح العربي في مصر. وفي
هذه
المقالة ذكر تيمور ريادة سليم النقاش وأديب إسحاق للمسرح العربي في مصر، ولم يذكر
أية
إشارة عن يعقوب صنوع.
٣٥ وبعد وفاة محمد تيمور تم نشر هذه المقالة ضمن آثاره المسرحية والنقدية في
كتاب «حياتنا التمثيلية». وقد كتب زكي طليمات مقدمة نقدية مستفيضة لهذا الكتاب، وعندما
وصل في نقده إلى هذه المقالة نقدها نقدًا شديدًا في كثير من تفاصيلها! وبالرغم من
ذلك،
وجدناه لم يُعلق على عدم ذكر تيمور لريادة صنوع.
٣٦ وهذا يدل على موافقة طليمات على ريادة سليم النقاش وأديب إسحاق. أو أن هذه
الريادة حقيقة واقعة مُتفق عليها في ذلك الوقت.
والسبب في إثارة هذا الأمر أن زكي طليمات — بعد كتابته لمقدمة كتاب تيمور — كتب عام
١٩٤٦ مقالة كبيرة تحت عنوان «كيف دخل التمثيل بلاد الشرق». وعندما وصل في حديثه إلى
مصر، قال تحت عنوان فرعى «القافلة الأولى إلى وادي النيل»: «ومن لبنان سارت قافلة
التمثيل هذه، يقودها إلى النيل سليم النقاش، في وقت كان يتربع على عرش الوادي الخديو
إسماعيل، الذي يرحب بكل جديد وافد يحمل في طياته أقباس نور وإلهامات هداية وحرية.
ولم
تخرج حمولة هذه القافلة الوافدة من لبنان عما سبق ذكره من مسرحيات
٣٧ إلا ما هو على طرازها من حيث المصدر والأسلوب. فالمسرحيات الأولى التي
طالعها الجمهور، وشغلت أذهان أهل الأدب في مصر، إنما هي مسرحيات مأخوذة من الأدب
الفرنسي خاصة.»
٣٨
بعد ذلك مباشرة، قال طليمات تحت عنوان «أول محاولة مصرية للكتابة المسرحية»: «ولقد
عاصر مجيء هذه القافلة الأولى من لبنان قيام محاولة أخرى لكتابة المسرحية باللسان
العربي الإقليمي في وادي النيل، قام بها أديب مصري من بني إسرائيل، وهو الشيخ يعقوب
بن
روفائيل المعروف باسم الشيخ سانوا أبو نضارة. والفقرة التالية، وهي مقتطفة من كتاب
«تاريخ الصحافة العربية» لمؤلفه الفيكونت فيليب طرازي، تلقي ضوءًا على ماهية هذه
المحاولة وصاحبها.»
٣٩
وهنا نسأل زكي طليمات: كيف عَاصَرَت قافلة التمثيل الأولى بقيادة سليم النقاش قيامَ
صنوع بنشاطه المسرحي في مصر؟! ألم تأتِ فرقة سليم النقاش إلى مصر عام ١٨٧٦، بعد أن
توقف
صنوع عن نشاطه المسرحي — تبعًا لأقواله — بأربع سنوات؛ حيث إن نشاط صنوع المسرحي
في
مصر، تحدد من عام ١٨٧٠ إلى عام ١٨٧٢، فمن أين تأتي هذه المعاصرة؟! بل ونسأله أيضًا:
ألم
توافق على ريادة سليم من قبل، عندما كتبت مقدمة كتاب محمد تيمور «حياتنا التمثيلية»،
فلماذا هذا التناقض؟!
والإجابة يسيرة، وتتمثل في أن زكي طليمات كان مؤمنًا بريادة سليم النقاش من قبل،
ولكنه بعد ذلك اطلع على كتاب طرازي فتأثر به وأقرَّ بنشاط صنوع المسرحي، ومن هنا
جاء التناقض.
٤٠
وأثر كتاب طرازي على طليمات، في هذه المقالة، كان كبيرًا؛ لأن زكي طليمات لم يكتفِ
بإثبات أقوال طرازي، بل وأثبت بالشرح والتحليل نشاط صنوع المسرحي، كما جاء في نص
مسرحيته «موليير مصر وما يقاسيه»، واستخدم فقرات كبيرة منه. ووصل تأثر طليمات بهذه
المسرحية إلى عقد مقارنة بين مسرحيات مارون النقاش وسليم النقاش وأديب إسحاق، وبين
مسرحيات صنوع، وصل فيها إلى: «أن مسرحيات أبي نضارة تتميز بأنها تنحو نحوًا ظاهرًا
نحو
«المصرية»، وغايتها انتقاد شئون المجتمع المصري خاصة. وبهذه الميزة الأخيرة يصح لنا
القول بأن مسرحيات أبي نضارة هي الأساس الأول للمسرحية الفكاهية المصرية الانتقادية،
المكتوبة باللهجة العامية.»
٤١
ومما سبق يتضح لنا أن نشاط صنوع المسرحي في مصر — كما سرده بنفسه في صحفه، وفي
مسرحيته «موليير مصر وما يقاسيه» — أصبح له وجود ملموس منشور في الكتابات المصرية.
ولكنه وجود محدود بمقالات معدودة، لا تتناسب مع الفترة الزمنية، منذ صدور كتاب طرازي
عام ١٩١٣. حيث إن تأثير هذه المقالات كان ضعيفًا على النقاد ومؤرخي المسرح العربي
في
مصر حتى عام ١٩٥٣. ولم يشذ عن هذا الأمر إلا كتاب د. إبراهيم عبده «تطور الصحافة
المصرية وأثرها في النهضتين الفكرية والاجتماعية»، الذي سيكون النواة الأولى لكتابة
أول
وأضخم كتاب عن صنوع، عام ١٩٥٣، وهو كتاب «أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة
وزعيم المسرح في مصر»، لنفس المؤلف د. إبراهيم عبده! ذلك الكتاب الذي سيحفر اسم صنوع
كمسرحي مصري في التاريخ، وفي عقول جميع النقاد، وفي معظم الكتابات التي أرخت للمسرح
العربي حتى الآن!
والسؤال الآن: إذا كان عام ١٩٥٣ هو العام الذي دخل فيه صنوع تاريخ المسرح المصري من
أوسع أبوابه، وأصبح الرائد الأول فيه بلا منازع — كما سيتضح لنا فيما بعد. وإذا كنا
فيما سبق لم نجد أية إشارة عنه كمسرحي منذ عام ١٨٧٠ وحتى صدور كتاب طرازي عام ١٩١٣؛
فما
هو موقف الكتابات التي أرَّخت للمسرح المصري ولصنوع كصحفي منذ صدور كتاب طرازي عام
١٩١٣، وحتى عام ١٩٥٣؟!
والسؤال بمعنًى آخر: هل هناك كتابات تأريخية للمسرح المصري لم تطلع على كتاب طرازي؟
وما هو موقف هذه الكتابات من مسألة ريادة المسرح العربي في مصر؟ وهل هناك كتابات
اطلعت
على كتاب طرازي ورغم ذلك لم تقر بريادة صنوع للمسرح المصري؟ وما تفسير ذلك؟