الفصل الرابع
آراء الأدباء والمؤرخين
(١) جورج طنوس
في عام ١٩١٧، وبعد وفاة الشيخ سلامة حجازي مباشرة، نشر جورج طنوس كتابًا حوى كل ما
قيل في يوم تأبين الشيخ، تحت عنوان: «الشيخ سلامة حجازي، وما قيل في تأبينه»، وفي
مقدمته قال طنوس: «ظهر التمثيل العربي في هذه الديار. وكانت نشأته الأولى في الإسكندرية
على أيدي الأديبين الشهيرين إسحاق والنقاش، ثم ترسم آثارهما المرحومان سليمان الحداد
وسليمان قرداحي، فعرضا على المرحوم الشيخ سلامة احتراف التمثيل، فأجابهما إلى ما
طلبا،
وكان أول ظهوره على مسرح الأوبرا في العاصمة، فأُعجب به كل من سمعه.»
١
وهذا التأكيد على ريادة سليم النقاش، وأديب إسحاق، دون أي ذكر عن نشاط يعقوب صنوع
كمسرحي؛ يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار؛ لأنه تأكيد جاء من خلال أحد الرموز المسرحية
العربية في ذلك الوقت، ألا وهو الأديب جورج طنوس صاحب التاريخ المسرحي الكبير، وصاحب
العديد من الدوريات المعاصرة لهذه الفترة.
٢
(٢) محمد تيمور
في عام ١٩١٩ كتب الأديب محمد تيمور مقالة بعنوان «التمثيل في مصر»، قال فيها: «…
أتانا التمثيل من إيطاليا عن طريق سوريا وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين
أمثال
النقاش وأديب إسحاق والخياط والقباني، وفدوا إلى مصر مقر العلوم والآداب الشرقية
لينشروا فيها بذور ذلك الفن الجديد، ولقد نجحوا في بناء أساس ذلك الفن نجاحًا كبيرًا.
دع عنك ركاكة أسلوبهم وتعمدهم السجع المُمل في رواياتهم، بل دع عنك مجموعة رواياتهم
التي عفت آثارها ولم يبقَ منها إلا نزر يسير غير صالح للتمثيل أو المطالعة. لقد أرادوا
إحياء فن التمثيل في مصر، وجاهدوا كثيرًا في سبيل ذلك؛ فاقتحموا الصعوبات التي كانت
تلاقيهم غير هيابين ولا خائفين، وأنشئوا بأيديهم فن التمثيل في مصر بعد أن كنا لا
نعلم
من أمره شيئًا كبيرًا، هذه هي نتيجة مسعاهم ونحن مدينون لهم بهذه النتيجة.»
٣
وهذا التأكيد أيضًا على ريادة سليم النقاش وغيره من الشوام، دون أي ذكر لنشاط صنوع
كمسرحي؛ جاءنا — في ذلك الوقت — من أحد أقطاب الأسرة التيمورية — بما لها من باع
طويل
في الأدب والثقافة والتاريخ؛ ألا وهو محمد تيمور، أحد رواد الكتابة المسرحية في مصر.
وبناء على ذلك نقول: ألم يكن في هذه الأسرة الثقافية العريقة من عاصَرَ يعقوب صنوع
في
نشاطه المسرحي، إذا كان لهذا النشاط وجود! — أمثال عائشة التيمورية (١٨٤٠–١٩٠٢)،
وأحمد
باشا تيمور (١٨٧١–١٩٣٠) — ليصحح لمحمد تيمور معلوماته؟!
(٣) خليل مطران
في يوم ٣٠ / ١٢ / ١٩٢٠، تم الاحتفال بافتتاح مسرح حديقة الأزبكية — بعد تجديده —
وبهذه المناسبة ألقى خليل مطران خطبة قال فيها: «… أول من خطر له إدخال هذا الفن
في لغة
الناطقين بالضاد هو المرحوم مارون النقاش لخمسين سنة مضت أو تنيف. جمع فرقة من الشبان
الذين استصلحهم في بيروت، وعرَّب لهم روايات «البخيل» و«الحسود» و«أبي الحسن المغفل»
تعريبًا جاء أشبه بالتأليف؛ لحسن تصرف الرجل فيه مرعاة للذوق العربي. ولم تقدم تلك
الفرقة هذا القطر، ولكن شدة الاشتراك المتصل بين الشام ومصر ولا سيما منذ ابتدأ هذا
العصر لا تدع فرجة للفصل بينهما في تاريخ الأدبيات والمعنويات. ففرقة مارون النقاش
لبثت
حيث نشأت إلى أن انحلت، ولكن رواياتها «البخيل» و«الحسود» و«أبا الحسن المغفل» جابت
التخوم إلى وادي النيل، وما برحت من بهجات مسارحنا إلى هذه الأيام. أعقب مارون قريب
له
معروف بين أدباء المحروسة في زمانه؛ هو المرحوم سليم النقاش، وسليم هذا أول من أنشأ
فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة.»
٤
ومن الملاحظ أن مقامومن الملاحظ أن مقام الاحتفال مناسب لذكر صنوع كمسرحي، إذا كان
له
نشاط مسرحي حقيقي في مصر! خصوصًا وأن الاحتفال كان بمناسبة افتتاح مسرح حديقة الأزبكية
— بعد تجديده — ذلك المسرح الذي بدأ صنوع التمثيل على خشبته بعد أن أعطاه له الخديو
إسماعيل مجانًا — وذلك تبعًا لأقوال صنوع وأقوال من كتب عنه، كما سيأتي ذكره فيما
بعد. علمًا بأن المتحدث هو خليل مطران، صاحب التاريخ الطويل في الحركة المسرحية وأيضًا
في الحركة الصحفية المصرية،
٥ كما إنه أول مدير للفرقة القومية عام ١٩٣٥.
(٤) محمد شكري
في عام ١٩٢٥ كتب محمد شكري كتابًا بعنوان «مجموعة تياترو». وهو عبارة عن ترجمة حياة
وفن أكثر من مائتي شخصية مصرية وعربية، شاركت بالفعل في الحركة المسرحية المصرية
منذ
نشأتها وحتى عام ١٩٢٥. ورغم هذا الكم الهائل من الشخصيات المسرحية فإن الكتاب لم
يذكر
يعقوب صنوع بأية إشارة تُذكر! علمًا بأن الكتاب حدد أسلوبه في ترجمته لهذه الشخصيات،
قائلًا:
«صفحة من تاريخ الفن سأتلوها عليك، وقصة من قصص البطولة، إذا ما سردتها لك فلا تحسبني
مُغاليًا في القول ولا تحسبني مُبالغًا في التعبير. لقد رأيت الكثيرين من رجال المسرح
وسمعت عن الكثيرين. فأما الذين رأيتهم ففي وسعك أن تصور كلًّا منهم بالصورة التي
ترتضيها عدالتك ونزاهتك. وفي وسعك أن تصدر عليهم ما شئت من أحكامك. وأما الذين سمعت
بهم
فنحن الذين يشرفنا أن نكون واسطة التعارف بينك وبينهم، ونحن الذين يسرنا أن نقدمهم
للجمهور في حقيقتهم المجردة من كل طلاء وتزويق. وبما أننا قد تطوعنا لتأدية الشهادة
أمام محكمة الرأي العام فاعلم بأن لنا ضميرًا هو بيننا وبينك خير الحاكمين.»
٦
ومن الجدير بالذكر أن كاتب هذه الكلمات، الذي لم
يذكر يعقوب صنوع ضمن هذه الشخصيات، هو محمد شكري! الذي يُعتبر من أهم الشخصيات المسرحية
المؤثرة في حركة تاريخ المسرح المصري في ذلك الوقت. هذا بالإضافة إلى عمله في مجال
الصحافة.
٧
(٥) د. محمد صبري
في عام ١٩٢٨ نشر د. محمد صبري السربوني، كتابه «تاريخ العصر الحديث»، وتحت عنوان
«ظهور الصحافة الحرة» قال: «ويرجع لإسماعيل الفضل الأكبر في تشجيع هذه الصحافة ومؤسسيها
الأدباء، سوريين كانوا أو مصريين، الذين اشتغل بعضهم من قبل بالتمثيل ثم أنشئوا الصحف
…
في هذه الآونة أصدر يعقوب صنوع، وهو إسرائيلي مصري، بالاتفاق مع جمال الدين ومحمد
عبده؛
جريدته الهزلية «أبو نظارة» في سنة ١٨٧٧، ووفد أديب إسحاق على الإسكندرية سنة ١٨٧٦
واشترك مع سليم النقاش في تمثيل روايات عربية، وكان يمدها إسماعيل بالمال، ثم قصد
القاهرة حيث اتصل بجمال الدين وأسس في أول يولية سنة ١٨٧٧ جريدة «مصر»، ثم عاد أديب
إلى
الإسكندرية وكان يحرر مع سليم النقاش «مصر» و«التجارة».»
٨
ونلاحظ أن حديث د. محمد صبري عن أصحاب الصحف يعني أنهم عملوا أولًا بالتمثيل ثم
اتجهوا إلى الصحافة. وهذا القول، بهذه الدقة، ينطبق تمامًا على سليم النقاش وأديب
إسحاق
فقط. ومن الممكن أن ينطبق على صنوع أيضًا، إذا سلمنا جدلًا بأقواله عن نشاطه المسرحي
المزعوم! وهنا نتساءل: لماذا لم يُشِرْ الدكتور إلى نشاط صنوع كمسرحي قبل اتجاهه
إلى
الصحافة كما أشار إلى هذا النشاط بالنسبة لسليم النقاش وأديب إسحاق؟!
وإذا علمنا أن د. محمد صبري اعتمد في قوله هذا على عدة مراجع كان كتاب طرازي «تاريخ
الصحافة العربية» من ضمنها؛ سنتأكد من دقة وصدق كتابات الدكتور؛ لأنه يعلم جيدًا
بأن
تاريخ صنوع كصحفي هو التاريخ الصحيح، أما تاريخ نشاطه المسرحي في مصر، فهو تاريخ
وهمي
ومُلفق!
وهذه الدقة في الكتابات التاريخية غير مستبعدة عن د. محمد صبري، الذي لُقب بالسربوني؛
لأنه أول مصري وعربي يحصل على دكتوراه الدولة من السربون في التاريخ الحديث عام ١٩٢٤،
ناهيك عن مؤلفاته التاريخية في العصر الحديث.
٩
(٦) لجنة من العمالقة
في عام ١٩٢٩ ألفت وزارة المعارف بمصر لجنة من عمالقة الأدب العربي لوضع كتاب المُجمل
في تاريخ الأدب العربي وتكونت اللجنة من د. طه حسين، أحمد ضيف، أحمد أمين، علي الجارم،
عبد العزيز البشري، أحمد الإسكندري. وقالت هذه اللجنة في الكتاب، تحت عنوان
«التمثيل»:
«لم يكن لمصر عهد بالتمثيل إلا ما كان من ملاعب المقلِّسين في الأسواق والمواسم
والحفلات الخاصة حتى كان حكم إسماعيل، وكان جد حريص على أن يأخذ
بلاده بجميع أسباب الحضارة الغربية. فشيد الأوبرا
الخديوية في سنة ١٨٦٩ بمناسبة الاحتفال بافتتاح قناة السويس، ودعا إليها بفرقة أفرنجية
مثلت فيها لأول مرة رواية «عائدة» باللغة الفرنسية. وكان السوريون قد سبقوا إلى معالجة
فن التمثيل، فقدمت إلى مصر فرق من ممثليهم تباعًا … وظل المصريون دهرًا لا يرضون
بممارسته؛ لأنهم لم يكونوا يرون فيه بادئ الرأي إلا ضربًا من اللعب والعبث، إلى أن
تقدم
الشيخ سلامة حجازي إلى التمثيل والإنشاد، وذلك في أعقاب الثورة العربية، فتبعه إلى
التمثيل عدد يسير من المصريين، وما زالوا على الزمن يقبلون عليه حتى أصبحوا اليوم
الكثرة الغالبة فيه. وأما المصريات فقد أحجمن عن الدخول فيه بتاتًا إلى وقت قريب
بحكم
التعاليم الدينية والتقاليد المأثورة، ولكنهن أقبلن عليه أخيرًا طوعًا لتطورات الزمان.»
١٠
وهذا القول من هذه اللجنة دليل قوي على عدم ريادة صنوع للمسرح العربي في مصر! وتأتي
قوة هذا الدليل من المكانة الأدبية والفنية والتاريخية التي تحتلها أسماء اللجنة
التي
قامت بتأليف هذا الكتاب. فأي اسم من أسماء هذه اللجنة له تاريخ يشهد به كل إنسان
عربي
في وقتنا الحاضر.
(٧) د. محمد فاضل
في أكتوبر ١٩٣٢ نشر د. محمد فاضل كتابه «الشيخ سلامة حجازي»، وفيه تحدث عن ظهور
المسرح العربي في مصر قائلًا: «كان ظهور هذا الفن في مدينة الإسكندرية، حيث كانت
أَصْوِنَة الأدباء إسحاق والنقاش والخياط مخيمة في ميدان المنشية، تقدم للشعب ما
لديها
من الروايات، وتعرض عليه ما عنَّ لفكرهم من تآليفها … وعلى هذا النمط وُلد فن التمثيل
في الإسكندرية ضعيفًا، ولم يشب عن طوقه بعد؛ إذ كانت الرواية وهي أصل أساسه ساذجة
متهدمة لا تكفي لاستغواء شعب لم يتعود هذا الشيء من قبل. وكانت الرواية المنتقاة
في
مسرح إسحاق والنقاش أو الخياط عبارة عن مأساة تبتدئ بالحب ثم تختتم بالفجيعة، ما
بين
صرخات وأناة ومآتم … وقد كان لا يقبل على مشاهدتها إلا أفراد معدودة؛ لأن الشعب كان
ينظر إلى التشخيص كبدعة سيئة تتنافي مع الحرمة الدينية، ومبادئ الخلق.»
١١
وهذا القول أو هذا التأكيد على ريادة سليم النقاش وأديب إسحاق ويوسف الخياط دون أي
ذكر عن صنوع كمسرحي؛ يجب أن يُنظر إليه بكل تقدير؛ لأنه تأكيد جاء من أحد المعاصرين
لهذه الفترة، ومن أحد المُشاهدين لمسرحيات النقاش وإسحاق والخياط، تبعًا لوصفه الدقيق،
سواء في تحديده بأن المسرحيات كانت تُعرض في أصونة مُخيمة بميدان المنشية بالإسكندرية،
أو في وصفه لموضوعات المسرحيات المعروضة، وأخيرًا في حُكمه على جمهور هذه المسرحيات،
تبعًا لزمن عرضها.
(٨) عبد الرحمن الرافعي
في عام ١٩٣٢ أيضًا أصدر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، الجزء الأول من كتابه «عصر
إسماعيل». وعندما تحدث عن الصحف السياسية في هذا العصر ذكر يعقوب صنوع قائلًا: «…
وأنشأ
الشيخ يعقوب صنوع صحيفتين سياسيتين، وهما «مرآة الأحوال» … و«أبو نظارة» صدرت سنة
١٨٧٧
بالقاهرة، وهي صحيفة معارضة لإسماعيل، وكان الشيخ يعقوب صنوع مصريًّا إسرائيليًّا،
متعلقًا بالصحافة، يميل إلى الدعابة في كتابته، وقد نفاه إسماعيل من مصر، فرحل إلى
باريس، واستأنف إصدار جريدته بأسماء مختلفة معارضًا الخديو منتقدًا أعماله … واستمر
الشيخ أبو نضارة يصدر جرائده إلى ما بعد الاحتلال، وكان معاديًا لسياسة الإنجليز،
وتوفي
سنة ١٩١٢.»
١٢
وهذا الجزء نقله الرافعي من كتاب طرازي «تاريخ الصحافة العربية»، طبقًا للهامش، كما
جاء في الكتاب. ولكن الرافعي عندما تحدث عن التمثيل في كتابه، قال: «وقد وفد على
مصر
حوالي ١٨٧٦ جماعة من الأدباء والممثلين السوريين ومنهم يوسف خياط، فمثلوا على مسرح
زيزينيا بعض الروايات، ثم انتقل يوسف خياط بجوقه إلى القاهرة ١٨٧٨، فلقي تعضيدًا
من
الخديو إسماعيل، وأذن له أن يمثل رواياته في دار الأوبرا.»
١٣
وهذا القول تأكيد جديد على ريادة الشوام للمسرح العربي في مصر، دون ذكر لصنوع كمسرحي.
علمًا بأن الكتاب مُحدَّد بعصر الخديو إسماعيل فقط! وهو العصر الذي زعم صنوع بأن
له
نشاطًا مسرحيًّا فيه! وأمام هذا نتساءل: لماذا أغفل الرافعي نشاط صنوع المسرحي، ولم
يثبته، بالرغم من اعتماده على كتاب طرازي؟! ذلك الكتاب الذي نقل منه الرافعي نشاط
صنوع
كصحفي! فلماذا لم ينقل منه «أيضًا» نشاط صنوع المسرحي؟!
ونحن نعتقد أن الرافعي، كأحد كبار المؤرخين المحدثين، يستطيع أن يميز بين الحدث
التاريخي الصحيح، وبين الحدث التاريخي المزعوم. وتبعًا لهذه الميزة عند الرافعي لم
يذكر
نشاط صنوع كمسرحي؛ لأنه نشاط غير صحيح!
(٩) أحمد شفيق باشا
في عام ١٩٣٤ نُشر الجزء الأول من مذكرات أحمد شفيق باشا، الذي عاصر يعقوب صنوع.
والجزء الأول هو الجزء الخاص بعصري الخديو إسماعيل والخديو توفيق. وعندما تحدث صاحب
هذه
المذكرات عن الصحافة في هذا العصر ذكر يعقوب صنوع، قائلًا: «أبو نضارة زرقاء صاحب
الجريدة المعروفة باسمه، وكانت تُكتب باللغة المتداولة العامية بأسلوب في متناول
الجميع.»
١٤
وعندما تحدث أحمد شفيق عن التمثيل، قال: «… ثم بدأت تفد على مصر بعض الفرق السورية،
فكان ذلك منشأ المسرح العربي الأهلي، وأولى هذه الفرق هي فرقة «سليم النقاش» وتلتها
فرقة «يوسف خياط» التي مثلت في الأوبرا أمام إسماعيل. وكانت الروايات التي تمثل ذات
مغزى اجتماعي إصلاحي.»
١٥ ثم وجدناه يتحدث مرة أخرى عن صنوع كصحفي، قائلًا: «كاتب يهودي فرنسي
التبعية، يُدعى يعقوب رافائيل، ولكنه كان يطلق على نفسه اسم جون سانوا، وكان صحفيًّا
قديرًا، واتصل بجمال الدين وقررا إخراج صحيفة هزلية باللغة العامية.»
١٦
وأمام هذه الأقوال التي تؤكد على ريادة سليم
النقاش ويوسف خياط للمسرح العربي في مصر، دون أي ذكر لنشاط صنوع كمسرح؛ نتساءل: لماذا
لم يذكر أحمد شفيق باشا نشاط صنوع كمسرحي، مثلما ذكر نشاطه الصحفي؟! علمًا بأن شفيق
باشا معاصر لصنوع!
هذا بالإضافة إلى أن شفيق باشا ذكر نشاط صنوع كصحفي في موضعين متفرقين، ذكر بينهما
ريادة سليم والخياط المسرحية! وهذا يؤكد أكثر أن شفيق باشا يعلم جيدًا من هو صاحب
هذه
الريادة!
(١٠) قسطندي رزق
في عام ١٩٣٦، نشر المؤرخ الفني قسطندي رزق الجزء الأول من كتابه «الموسيقى الشرقية
والغناء العربي». وعندما تحدث عن بداية التمثيل العربي في مصر، قال: «أما ما كان
من أمر
التمثيل العربي، فكانت حجر زاوية بنائه فرقتا التمثيل لسليم نقاش ويوسف خياط. ومن
الروايات التي حضر الخديو إسماعيل تمثيلها، أذكر روايات «أبي الحسن المغفل» و«هارون
الرشيد» و«أنيس الجليس»، وبعض روايات أخرى لموليار الشاعر الهزلي الفرنسي مثل روايات
«البخيل» و«الطبيب رغم أنفه» و«الشيخ متلوف» و«النساء العالمات» التي قام بتعريبها
عثمان بك جلال.»
١٧
(١١) محمد لطفي جمعة
ومن الوثائق المهمة، مخطوطة كتاب للكاتب الأديب المسرحي محمد لطفي جمعة، بعنوان «قطرة
من مداد لأعلام المتعاصرين والأنداد» كُتب في عام ١٩٤٤، وطُبع أخيرًا في عام ١٩٩٨.
وهو
كتاب يؤرخ فيه المؤلف لمجموعة كبيرة من الشخصيات الأدبية والسياسية التي عاصرها،
وكانت
له معها مواقف ومقابلات ورسائل متبادلة.
ومن هذه الشخصيات كان يعقوب صنوع، الذي تحدث عنه محمد لطفي جمعة، قائلًا: «كان يسمي
نفسه شاعر الملك، ويقيم في باريس بشارع ريشيه نمرة ٤٣، ويحمل خمسة عشر وسامًا فرنسوية
وأجنبية، ومترجم شرف وزارتي البريد والبرق بباريس، ورئيس جمعيات علمية وأدبية كثيرة،
ويدير جريدتي «أبو نظارة»، و«العالم الإسلامي»، ويراسل جرائد الشرق. هذه الألقاب
كلها
كان يسجلها مطبوعة في بطاقته. أول اتصالي به في مصر سنة ١٩٠١ عن طريق أعداد من جريدته
«أبو نظارة» … وقد عثرت على مائة عدد منها في دولاب مهجور في منزل عزمي بك بمصر العتيقة
… وفي سنة ١٩٠٨ في ليون وصلت إليَّ أعداد جريدته التي استمر في إصدارها … وأرسل إليَّ
كتابًا بخط يده … ولما توجهنا إلى باريس لأجل المؤتمر سنة ١٩١٠ زارنا أبو نظارة …
وقد
قرأت نعيه في جريدة الطان الفرنسية فإذا هو متصل بالقرابة والنسب بأكثر من عشرين
أسرة
من كبار أسر اليهود بفرنسا.»
١٨
وأمام هذا القول الذي ذكر فيه لطفي جمعة ألقاب صنوع وعنوانه، وأوسمته، ووظائفه، وصحفه
… إلخ؛ نتساءل: لماذا لم يذكر لطفي جمعة ضمن ما ذكره نشاط صنوع المسرحي؟! علمًا بأن
بينهما رسائل وبطاقات
١٩ متبادلة! بل وبينهما لقاء في عام ١٩١٠ بفرنسا، أثناء انعقاد المؤتمر الوطني
المصري الثاني بباريس! والأغرب من ذلك أن لطفي جمعة من الكُتاب المسرحيين القدامى!
٢٠ فإذا كان لصنوع نشاط مسرحي، ما كان أنكره لطفي جمعة، الكاتب
المسرحي!
(١٢) الدليل الفني
في عام ١٩٤٥ صدر الدليل الفني لمصر وفيه مقالة كبيرة بعنوان «المسرح المصري … نشأته
وتطوره»، ومما جاء في هذه المقالة: «كانت مصر ترفل في العهد الذهبي، عهد مُجددها
وباعث
نهضتها المغفور له الخديو إسماعيل، وكانت الأوبرا الخديوية قد تم بناؤها ومُثلت على
المسرح أول رواية شهدتها مصر في العصر الحديث، وهي «ريجولتو» وشهدها ضيوف مصر في
حفلة
تدشين قناة السويس سنة ١٨٦٩، ثم «عايدة» التي أُلفت خصيصًا بأمر أفندينا ولحنها «فردي»
الموسيقي المشهور. هنا وجد المرحوم «النقاش» من مصر صدرًا رحبًا ومنزلًا كريمًا فأوى
إليها ولقي من عاهلها العظيم ومن شعبها الكريم تعضيدًا ورعاية، فاندفع إلى العمل،
وكانت
فرقته ليس فيها شيء من المصرية مطلقًا، فرواياتها أجنبية مترجمة. وموضوعاتها لا تمت
إلى
مصر ولا إلى الشرق عامة بسبب من الأسباب، وممثلوها من جيراننا السوريين، ولكننا لا
ننكر
فضلهم في نقل فكرة المسرح إلينا، وتوجيه أنظارنا إلى ما يحمله من خير وما ينشره من
ضياء.»
٢١
(١٣) عدد الأهرام التذكاري
في عام ١٩٥٠ صدر عدد تذكاري لجريدة «الأهرام» بمناسبة مرور خمسة وسبعين عامًا على
إصدارها. وهذا العدد جمع أهم الأخبار التي جاءت في الجريدة منذ صدورها عام ١٨٧٥،
في شتى
المجالات، مع توثيق لها. وفي الجزء الخاص بنشأة المسرح في مصر، جاءت هذه
العبارة:
«يرجع إلى الخديو إسماعيل فضل توجيه مصر إلى هذا الفن الجميل، بإنشائه مسرح الكوميدي
ثم الأوبرا الملكية. وقد ظل يشمل هذا الفن برعايته؛ فجعل يستقدم الفرق التمثيلية
من
أوروبا؛ فأتاح للمصريين أن يشهدوا أروع الأوبرات العالمية وأرقاها من صفوة الفرق
التمثيلية. أما التمثيل العربي، فقد حمل لواءه إخواننا السوريون وعلى رأسهم سليم
نقاش.»
٢٢
وبناء على منهج هذا العدد التذكاري في نقل المعلومات من أخبار الجريدة منذ عام ١٨٧٥؛
نقول: إن القائمين على إعداد هذا العدد لم يجدوا أية إشارة تُذكر عن صنوع كمسرحي.
٢٣
(١٤) د. عبد اللطيف حمزة
في عام ١٩٥٠ أيضًا تحدث د. عبد اللطيف حمزة — من خلال كتابه «أدب المقالة الصحفية
في
مصر» — عن صنوع كصحفي، قائلًا: «ومن أمثلة الصحف المصرية التي صدرت في القارة الأوروبية
صحيفة «أبو نظارة» لصاحبها يعقوب بن صنوع، وكانت في أول الأمر صحيفة مصرية، صدر عددها
الأول في مصر سنة ١٨٧٨، ثم صادرتها الحكومة، فانتقل بها صاحبها إلى باريس، حيث قضى
نحوًا من ثلاثين عامًا يعمل بحرية واسعة.»
٢٤
وعندما تحدث الدكتور عن أديب إسحاق، قال: «وفي بيروت كان الفتى قد ترجم رواية
«أندروماك» لراسين، وذلك بإشارة من قنصل فرنسا هناك، بل إنه نظم أشعار هذه الرواية،
وقام بتدريب الممثلين على أدوارها، وذلك في مدى ثلاثين يومًا، ثم مُثلت الرواية،
وخُصص
ربحها لمساعدة البنات اليتيمات في المدينة. وسافر الشاب بعد ذلك إلى الإسكندرية بمشورة
بعض أصدقائه. وهناك ترجم رواية «شرلمان»، وأعاد النظر في «أندروماك»، ولقيت الروايتان
رواجًا عظيمًا … وأخيرًا هاجر أديب إسحاق إلى بيروت في جملة من هاجروا إليها من
السوريين. وهناك تولى تحرير «التقدم» للمرة الثالثة في حياته. وهناك أيضًا قام أديب
إسحاق بطبع رواية «الباريسية الحسناء»، وكان قد ترجمها في أوائل صباه.»
٢٥
وأمام هذه الأقوال نتساءل: لماذا ذكر د. عبد اللطيف حمزة، نشاط صنوع كصحفي «فقط»،
ولم
يذكر نشاطه المسرحي؟! على الرغم من اعتماده على كتاب طرازي «تاريخ الصحافة العربية»!
ومن الممكن أن يجيب القارئ قائلًا: إن هذا الأمر طبيعي؛ لأن الكتاب تأريخ للصحافة
وللصحفيين.
وأمام هذه الإجابة نتساءل أيضًا، ونقول: ولماذا لم يتحدث الدكتور عن نشاط صنوع كمسرحي
وكصحفي، مثلما تحدث عن نشاط أديب إسحاق المسرحي، بجانب حديثه عن نشاطه الصحفي؟! بل
واتبع الدكتور هذا الأسلوب أيضًا عندما تحدث عن النشاط الصحفي لعبد الله النديم،
وأيضًا
عن نشاطه المسرحي من خلال مسرحيتيه «الوطن»، و«العرب».
٢٦
والتفسير الوحيد لهذا التناقض في أسلوب د. عبد اللطيف حمزة أنه لم يجد أي سند أو قول
يثبت قيام صنوع بأي نشاط مسرحي عربي في مصر، غير كتاب طرازي، الذي لم يعتمد عليه
في
معلوماته المسرحية غير الصحيحة عن صنوع، واعتمد فقط على ما فيه من معلومات صحفية
صحيحة!
(١٥) عبد الرحمن صدقي
في عام ١٩٥١ كتب عبد الرحمن صدقي مقالة كبيرة تحت عنوان «المسرح العربي»، أرخ فيها
للحركة المسرحية في مصر منذ افتتاح الأوبرا الخديوية عام ١٨٦٩، حتى وقت كتابة المقال
عام ١٩٥١. ومما قاله عبد الرحمن صدقي في هذه المقالة:
«كانت بداية المسرح في مصر الحديثة في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر على عهد
الخديو إسماعيل؛ فبأمر هذا المُجدد العظيم كان بناء دار الأوبرا عام ١٨٦٩ بمناسبة
الاحتفال بافتتاح قناة السويس، حيث مُثلت على مسرحها في أول يوم من نوفمبر المسرحية
الغنائية «ريجولتو» للموسيقار الإيطالي الأشهر «فردي»، وإليه عَهِدَ الخديو تلحين
أول
مسرحية غنائية مصرية «عايدة» التي مُثلت على مسرح الدار لأول مرة في الرابع والعشرين
من
ديسمبر سنة ١٨٧١. ثم كان على يديه مطلع التمثيل العربي في القاهرة في هذه الدار
التاريخية نفسها عام ١٨٧٨ حين وفدت فرقة للتمثيل العربي من لبنان قوامها سليم النقاش
وأديب إسحاق ويوسف خياط، فأمدها الخديو بالمال، ورخص لها بدار الأوبرا زمنًا في كل
عام
لتقدم رواياتها للجمهور المصري وأشهرها: «الظلوم»، «مي وهوراس» …»
٢٧
ونلاحظ أن هذا القول يؤكد على ريادة سليم وأديب والخياط للمسرح العربي في مصر، دون
أي
ذكر لصنوع كمسرحي! رغم أن المقالة تتحدث عن بدايات المسرح في مصر!
هذا بالإضافة إلى أن عبد الرحمن صدقي — كاتب المقالة — في ذلك الوقت كانت له مكانة
مسرحية كبيرة؛ كوكيل لدار الأوبرا، بما تحويه من مكتبة تراثية، تحمل بين جنباتها
أنفس
الكتب والوثائق المسرحية! ناهيك عن مكانة عبد الرحمن صدقي الأدبية كأديب وكاتب وشاعر،
ومؤرخ للمسرح العربي والعالمي!
٢٨
(١٦) د. محمد غنيمي هلال
نشر د. محمد غنيمي هلال — الطبعة الأولى من — كتابه «الأدب المقارن» عام ١٩٥٣. وفي
هذا الكتاب ذكر الدكتور ريادة الشوام المسرحية في مصر، دون أي ذكر عن نشاط صنوع كمسرحي،
قائلًا: «أتت إلى مصر [في] الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ جماعة تمثيل سورية
على
رأسها «سليم النقاش» ابن أخ مارون النقاش، ومن هذه الجماعة «أديب إسحاق»، «يوسف
الخياط». وقد قدَّم هؤلاء، منذ عام ١٨٧٦ وما وليه من أعوام مسرحيات في القاهرة أو
الإسكندرية، أكثرها مُترجم عن الفرنسية الكلاسيكية.»
٢٩
ومن الجدير بالذكر أن د. محمد غنيمي هلال لا يحتاج منَّا إلى تعريف بمكانته الأدبية،
أو مؤلفاته، خصوصًا في مجال النقد والأدب المقارن. ولكن ما يهمنا من هذه المكانة
أنها
تُصقل قول الدكتور السابق على ريادة سليم النقاش للمسرح العربي في مصر! وفي نفس الوقت
تؤكد على عدم وجود أي نشاط مسرحي عربي لصنوع في مصر!
وأخيرًا … وبعد هذا المسح لمعظم الأقوال التي أرخت لبدايات المسرح العربي في مصر منذ
عام ١٨٧٠ — أي منذ بدأ صنوع نشاطه المسرحي المزعوم تبعًا لأقواله — وحتى عام ١٩٥٣،
نستطيع أن نقول: إن تاريخ نشاط صنوع المسرحي العربي في مصر تاريخ لا وجود له إلا
في
خيال يعقوب صنوع وحده! ذلك الخيال الذي نشره صنوع في صحفه، وأوهم به فيليب طرازي،
فنشره
في العالم العربي من خلال كتابه «تاريخ الصحافة العربية» عام ١٩١٣!
ذلك الكتاب الذي اعتمد عليه جميع من كتب عن صنوع كمسرحي في مصر، وعلى رأسهم
د. إبراهيم عبده! وكفى بنا أن نستقرئ هذا المسح مرة أخرى، لنرى أن أقوال المصادر
والمراجع والدوريات والمؤرخين والمسرحيين والمعاصرين، لم تثبت ذلك النشاط المسرحي
لصنوع، ولو بإشارة واحدة!
والسؤال الآن: لماذا توقف كتابنا هذا عن مسحه للأقوال المؤرخة للمسرح العربي في مصر
عند عام ١٩٥٣؟ ألم يتطرق الكُتاب والنقاد والدارسون في كتبهم ودراساتهم ومقالاتهم
إلى
تاريخ صنوع المسرحي في مصر، بعد عام ١٩٥٣؟! وإذا كانوا تطرقوا إلى هذا الموضوع، هل
اعتمدوا «فقط» على كتاب طرازي، أم اعتمدوا على مصادر ومراجع ووثائق أخرى، وجدوا فيها
أن
يعقوب صنوع رائد للمسرح العربي في مصر؟!
ولكي نجيب عن هذه التساؤلات، يجب علينا أن نناقش بالنقد والتحليل كل ما توصلنا إليه
من كتابات عن صنوع كمسرحي في مصر منذ عام ١٩٥٣ وحتى الآن؛ لأن بدايةً من عام ١٩٥٣
وجدنا
أن معظم هذه الكتابات أقرَّت صراحة بنشاط صنوع في المسرح المصري!
وهذا سيجعلنا نتساءل: ما السر في أننا لم نجد أية إشارة عن صنوع كمسرحي في مصر — منذ
عام ١٨٧٠ وحتى عام ١٩٥٣ — إلا في الكتابات التي اعتمدت «فقط» على كتاب طرازي! ثم
نجد
بعد عام ١٩٥٣ كمًّا هائلًا من الكتابات التي أقرَّت وأجمعت على نشاط صنوع في المسرح
المصري!