(٢) الكتاب التاريخي
لم يكتفِ د. إبراهيم عبده بهذه الكتب الثلاثة، ولكنه أضاف إليها كتابًا رابعًا في
عام
١٩٥٣، كان بمثابة بوابة التاريخ، التي نُزعت ضلفتياها ليدخل من خلالها يعقوب صنوع
بكل
تاريخه الحقيقي والمُلفق إلى آفاق العالم العربي! وليصبح شخصًا أسطوريًّا لم تنجب
البشرية مثله؛ والسبب في ذلك أن الكتاب كان أول وأضخم كتاب يُكتب بأكمله عن يعقوب
صنوع
في مصر وفي العالم العربي، وكان بعنوان: «أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة
وزعيم المسرح في مصر».
والسؤال الآن: لماذا أقدم د. إبراهيم عبده على تأليف كتاب مستقل عن صنوع، بعد أن كتب
عنه عدة صفحات في كتبه الثلاثة السابقة؟ ومن أين سيأتي الدكتور بمادة تغطي محتويات
كتاب
كامل، على الرغم من عدم وجود أية مادة في ذلك الوقت عن صنوع، غير صفحات كتاب طرازي
الخمس؟!
يجيب د. إبراهيم عبده في تصدير كتابه قائلًا: «قد نشرت فصلًا عن تاريخ يعقوب بن صنوع،
أو «أبو نظارة» كما يسميه التاريخ، ولم أرضَ قط عن هذا الفصل المنشور؛ لأن مراجعي
فيه
كانت شذرات كُتبت عنه هنا وهناك، وبعض أعداد قليلة … من أعداد صحفه التي نشرها في
مصر
وباريس … وكنت حريصًا أشد الحرص على أن أدرس يعقوب بن صنوع إمام الصحافة الفكاهية
المصورة وأستاذ المسرح في مصر، فبحثت عن آثاره في المكتبة الأهلية بباريس حيث أمضى
معظم
حياته منفيًّا عن وطنه، كما بحثت عن تلك الآثار في المتحف البريطاني بلندن والمكاتب
العامة في نيويورك وواشنطن … وشاء حُسن الطالع أن أعلم أن ليعقوب صنوع ابنة في باريس،
تعيش عنوانًا طيبًا للمرأة الفرنسية العالمة، وقد هيأ لي صديقي الأستاذ إسكندر شحاته
—
أحد العاملين في سفارتنا بباريس إذ ذاك — فرصة التعرف بتلك السيدة الوقور. وما طربت
لشيء في بحوثي العلمية طربي لوجود مجموعة صحف المترجم له عند كريمته السيدة «لولي
صنوع»
التي راعني أن يكون بين النساء سيدة مثلها علمًا وفضلًا وأدبًا.»
٣
وبسبب هذا التعارف استطاع د. إبراهيم عبده
الحصول من لولي صنوع على مادة وفيرة لكتابه، قال عنها: «وقد شملتني السيدة لولي صنوع
بعطفها، ومنحتني مجموعة والدها الصحفية كاملة غير منقوصة، فوجدت أخيرًا تحت يدي الجدول
الأصيل لمن يريد أن يغترف من تاريخ يعقوب وفنه، فضلًا عما أهدتني من وثائق وصور وكُتب
مخطوطة متصلة بهذا الموضوع، تكمل تاريخ أبي نظارة وتجعله حيًّا قويًّا جديرًا بالنشر
في
أوسع نطاق وفي مقدمة ذلك تاريخه الذي كتبه عن نفسه بخط يده، وكناشة سجل فيها الأعداد
الخمسة عشر الأولى التي نشرها في مصر ولا يوجد لها نظير في مكتبة عامة أو خاصة.»
٤
وبحصول الدكتور على هذه المادة استطاع أن يكتب كتابه عن صنوع، ليبيِّن حقيقتين، قال
عنهما: «الأولى تتصل بنشأة الصحافة الفكاهية، وهي نشأة مصرية خالصة، لم يسبقنا إليها
أحد من بلاد الشرق الأدنى، كما أثبتنا في بحوثنا من قبل أن الصحافة في مصر من صنع
أيدينا، وليس لغير مصري فضل في إنشائها، بل أثبتنا أننا أسبق البلاد العربية جميعًا
علمًا وفهمًا لهذا الفن الجميل. وتؤكد الحقيقة الثانية أن إنشاء المسرح في مصر سنة
١٨٦٩
قام على كواهل المصريين، ولم يقم به أحد من غير المصريين، وأن الفرق التمثيلية التي
شاهدتها البلاد في عهد إسماعيل بعد ذلك بسنوات، جاءت متأخرة من الشام، وفي أعقاب
وعي
مسرحي مصري ملحوظ.»
٥
إذن محاولة إثبات ريادة المصري في مجال الصحافة والمسرح، كان الدافع الحقيقي وراء
كتابة هذا الكتاب. هذا بالإضافة إلى أن ما جاء في مذكرات صنوع دفع د. إبراهيم عبده
أكثر
ليتحمس لهذا الكتاب؛ لأن المذكرات صوَّرت يعقوب صنوع كبطل مغوار، وكرمز للمصري الثائر،
الذي كافح الاحتلال الإنجليزي لمصر، طوال حياته.
(٣) الشك في مذكرات صنوع
من الملاحظ أن أهمية كتاب د. إبراهيم عبده تتمثل في حديثه عن صنوع، من خلال مذكراته
الخطية. ولكننا نعتقد أن هذه المذكرات، كُتبت قبيل وفاة صنوع، أو كُتبت بعد وفاته
من
خلال أحد الأشخاص المقربين لصنوع، وبالأخص ابنته «لولي». والدليل على اعتقادنا هذا
أن
«لولي» — كما وصفها د. إبراهيم — سيدة لها تاريخ عظيم؛ إذ درست في كلية «سيفينيه»،
وأسست سنة ١٩١٢ اتحادًا للمدرسات، وأيضًا مدرسة للتدبير المنزلي عام ١٩١٦، هذا بالإضافة
إلى إنشائها لمعهد للدراسات التجارية في نفس العام، وأخيرًا تكوينها لمدرسة الإعلان
عام
١٩١٩. هذا بخلاف رحلاتها المتعددة إلى أمريكا والسويد والنرويج وإنجلترا وألمانيا
وإيطاليا.
٦
وهذا النشاط لابنة صنوع يجعلنا نعتقد بأن لها يدًا في إعادة صياغة مذكرات والدها،
المثبوتة في صحفه! وذلك إذا علمنا أن لها مؤلفات عديدة، تحدث عنها د. إبراهيم عبده،
قائلًا: «لقد نهلت السيدة لولي صنوع كثيرًا من علم والدها وأدبه، حتى ذخرت المكتبة
الفرنسية بمؤلفاتها العظيمة، وأصبحت مرجعًا وحجة.»
٧
فإذا وضعنا ما سبق في الاعتبار، وأضفنا إليه أن مذكرات صنوع المخطوطة بدأت بمولده
وانتهت بنفيه إلى فرنسا، وهي نفس الأحداث التي بدأت وانتهت عندها مذكرات صنوع في
صحفه؛
٨ سيتأكد اعتقادنا بأن المذكرات المخطوطة ما هي إلا إعادة صياغة لمذكرات
الصحف بصورة موسعة في الشرح والتفصيل. والفرق بينهما أن المذكرات المخطوطة غير معلوم
تاريخ كتابتها أو تدوينها، بعكس مذكرات صحف صنوع المؤرخة.
وأكبر دليل على إعادة صياغة المذكرات المخطوطة أن د. إبراهيم عبده لم يحصل على النسخة
الأصلية، كما أوحى في حديثه! لأنه بعد عدة صفحات وجدناه يقول: «إن تاريخ ابن صنوع
إلى
يوم نفيه لا يزال مخطوطًا عند ابنته في باريس، وقد سمحت لنا بنقله فاعتمدنا عليه،
بالرغم من أن المترجم له نشر هذا التاريخ في أبيات شعرية باللغة الفرنسية، ولكنه
لم
يذكر هذه التفاصيل الممتعة التي في المخطوط ولا تزال ابنته محتفظة به إلى الآن.»
٩
وأمام هذا الاعتراف نقول: لماذا لم تعطِ لولي صنوع نسخة المذكرات الأصلية للدكتور
إبراهيم عبده، وسمحت له فقط بنقلها، رغم أنها أعطته أشياء أهم بكثير من هذه النسخة؟!
١٠
والإجابة من وجهة نظرنا تتمثل في أن «لولي» قامت بتغييرات في هذه المذكرات، فخشيت
أن
يكتشف الدكتور هذا الأمر، فرفضت إعطاءه النسخة الأصلية، وسمحت له «فقط» بنقلها. هذا
بالإضافة إلى أن هذا التاريخ — كما قال الدكتور — نشره صنوع في أبيات شعرية، ولكن
بدون
تفاصيله الممتعة! وهنا نتساءل: لماذا لم يضمن صنوع أبياته الشعرية ما تضمنه تاريخه
المخطوط من تفاصيل ممتعة؟!
وإذا تطرقنا إلى رأى د. إبراهيم عبده في هذه المذكرات، سنجده في بداية الكتاب يبدأ
بسرد حياة صنوع منذ مولده، قائلًا عن هذه الحياة: «يرويها صاحبها في ذكرياته التي
كتبها
عن تاريخه بخط يده، وأخذنا على عاتقنا إذاعتها وتحقيق ما فيها من بيانات جانَبت الصواب
في قليل من الحوادث والتفاصيل، غير أنها قصة ممتعة، ما كان لأحد أن يعرف دقائقها
لولا
أن صاحبها كتبها في ساعات من التجلي، ولم تسعفه تلك الساعات ليواصل كتابة هذا التاريخ
الجميل، فوقف عند نفيه إلى باريس.»
١١
ونلاحظ على هذا القول أن الدكتور أدان هذه المذكرات، وشكك في صحتها منذ البداية! وهنا
نتساءل: لماذا أخذ الدكتور على عاتقه تحقيق ما جاء في هذه المذكرات؟ ألم تكن مذكرات
صحيحة؟! ولماذا اعتمد الدكتور على هذه المذكرات، رغم ما فيها من بيانات جانبت الصواب
في
قليل من الحوادث والتفاصيل؟! وهذا يعني أنها في الوقت نفسه جانبت الخطأ في كثير من
حوادثها وتفاصيلها! ورغم هذا الشك الذي أوضحه الدكتور، إلا أنه أخذ على عاتقه نشر
المذكرات وإذاعتها، لا لشيء إلا لأنها «قصة ممتعة»!
(٤) المسرح في مذكرات صنوع
إذا تطرقنا إلى مذكرات صنوع المخطوطة — كما سردها د. إبراهيم عبده — فيما يختص بنشاط
صنوع المسرحي في مصر، سنجده يقول إن هذا النشاط بدأ منذ تولي الخديو إسماعيل الحكم،
أي
منذ عام ١٨٦٣. وعن هذا الأمر يقول: «ويحكي يعقوب في تاريخه صلته بالخديو إسماعيل؛
فيذكر
أنه أعجب به قبيل ولايته للحكم، فقد ظن أنه سيكون علمًا على المدنية والحرية … ثم
انصرف
أبو نظارة إلى تأليف التمثيليات باللغة الإيطالية؛ فكتب ثلاثًا منها عن العادات المصرية
لقيت نجاحًا كبيرًا على المسارح الإيطالية في الشرق، بل لقيت النجاح في بلاد دانتي
نفسها.»
١٢
وهذا القول يثبت أن المذكرات المخطوطة التي نقل منها الدكتور غير صحيحة؛ لأن هذا
القول يشير إلى أن يعقوب صنوع بدأ نشاطه المسرحي في مصر قبل عام ١٨٧٠. وهذا الأمر
لم
يقل به أي إنسان حتى صنوع نفسه، الذي أقرَّ — في مسرحيته «موليير مصر وما يقاسيه»
— أنه
بدأ هذا النشاط عام ١٨٧٠، وأقرَّ بذلك أيضًا فيليب طرازي!
وهذا القول أيضًا يشير إلى أن مسرحيات صنوع مُثلت على الأوبرا الخديوية (المسارح
الإيطالية في الشرق)! وإذا تذكرنا ما سبق وقلناه، أن هذه المعلومة لم يقل بها صنوع
في
صحفه، بل أن قائلها هو «أوجين شينيل» محرر جريدة الفولطير، وقد أعاد نشرها صنوع في
صحفه؛
١٣ وهذه المخالفات تدل على أن المذكرات غير موثوق فيها!
ونستمر مع د. إبراهيم عبده، في نقله من المذكرات المخطوطة، عن نشاط صنوع المسرحي،
فنجده يقول:
«ثم أخذ ينشئ التمثيليات ليشبع بها نفسه … وكان نجاح تمثيلياته الإيطالية الثلاث
حافزًا على المضي فيما أهله له طبعه، فعزم على أن يقيم مسرحًا قوميًّا مصريًّا …
متشجعًا بما يبديه الخديو إسماعيل نحو تأييد المسارح الفرنجية وفي مقدمتها «الأوبرا
الإيطالية» و«الكوميدي فرانسيسز»، وهما مسرحان جميلان بالقاهرة. كان ذلك في سنة ١٨٦٩
حين فكر يعقوب صنوع في تأسيس مسرح للوطنيين تُعرض على خشبته تمثيليات عربية … ويقول
المترجم له: «فألفت حينئذ فودفيل قصيرة تتخللها أشعار ملحنة تلحينًا شعبيًّا»، وقد
مُثل
تلك الفودفيل «في القصر أمام باشوات وبيكوات البلاط الخديو فضحكوا لها من أعماق
قلوبهم»، وشجعوه على أن يعرضها في حديقة الأزبكية، وكانت مشهورة بمسرحها القائم في
الهواء الطلق. وتوكل يعقوب — كما يقول — وقرر إنشاء فرقة تمثيلية، واستغرق ذلك أسبوعين
تمكن خلالهما من تكوين تلك الفرقة من بعض تلاميذه الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة
عشرة والعشرين … ثم أُقيمت الحفلة الأولى وحضرها رجال البلاط والوزراء، وأقبل معهم
أكثر
من ثلاثة آلاف مشاهد بين أوروبي مقيم ووطني أصيل ليشاهدوا هذه البدعة الجديدة … تمثيلية
باللغة العربية!»
١٤
وهناك عدة ملاحظات على هذا القول:
- أولًا: أن إقامة صنوع لمسرحه العربي كان بتشجيع من الخديو إسماعيل، فهذا أمر
لم يقل به أي إنسان — غير صنوع — ممن أرَّخوا للخديو إسماعيل، خصوصًا
إلياس الأيوبي في كتابه «تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا».١٥ ولهذا السبب لا يمكن الإقرار بهذا الأمر، الذي جاء من خلال
مصدر واحد، وهو صنوع، ولم يقره فيه أحد!
- ثانيًا: عبارة تمثيل صنوع في عام ١٨٦٩ لفودفيل «في القصر أمام باشوات وبيكوات
البلاط الخديو» تُشير إلى أن التمثيل تم في قصر الخديو إسماعيل. وهذا
التمثيل لم نجد له أية إشارة في هذا العام أو بعده.١٦ وأيضًا هذه العبارة تؤكد أن يعقوب صنوع مثل الفودفيل
«وحده»، وبدون وجود فرقة معه؛ لأنه بعد ذلك تشجع «وقرر إنشاء فرقة
تمثيلية»! وهذا الأمر غير المنطقي الذي لم يقل به أحد حتى صنوع نفسه في
صحفه؛ يؤكد عدم صحة المذكرات، التي يتم النقل منها.
- ثالثًا: وقوع المذكرات في تناقض واضح؛ عندما قالت إن الإعجاب بفودفيل صنوع
عام ١٨٦٩ وصل إلى حد تشجيعه بتمثيلها في «حديقة الأزبكية وكانت مشهورة
بمسرحها القائم في الهواء الطلق». وهذا يعني أن مسرح حديقة الأزبكية
عام ١٨٦٩ كان يعمل وتُعرض على خشبته المسرحيات! والتناقض في هذا الأمر
يتمثل في أن مسرح حديقة الأزبكية بدأ الشروع في بنائه في منتصف عام
١٨٦، وذلك من خلال أمر الخديو إسماعيل الصادر في ٦ / ٥ / ١٨٦٩، والذي
نص على:
«أمر كريم منطوقه هذه المقايسة الفرنساوي تتعلق بالأشغال المقتضى
إجراها بمحل التياترو القديم بالأزبكية
١٧ بمعرفة فرانس بك بمبلغ تسعة وخمسين ألف فرنك وخمسمائة
وخمسة وخمسين فرنكًا، وبما أن المصاريف التي تتعلق بهذه العملية عايد
سدادها في المالية فلأجل هذا يلزم حصرها بحساب مخصوص بالخاصة بمفردها
وبانتهاها وإتمامها يتقدم لطرفنا مجموع عنها ليصدر أمرنا إلى المالية
بقبول المصاريف وسدادهما، إنما المقصود عدم تجاوز تلك المصاريف عن الذي
تقدر بالمقايسة المذكورة، وأما في وجهة المبالغ اللازم صرفها الآن في
الخاصة لإجراء هذه العملية سنخطركم عن الجهة التي تأخذوها منها وأصدرنا
أمرنا لكم للمعلومية والإجراء بموجبه.»
١٨
وإذا تتبعنا وثائق هذا
الموضوع، سنجد وثيقة أخرى تؤكد أن مسرح الأزبكية تم افتتاحه للتمثيل في
١ / ٥ / ١٨٧٣، تحت إدارة المسيو أنريكو سانتيني.
١٩ وبناءً على هذه الوثائق التاريخية، نقول: كيف تم تشجيع
صنوع ليمثل مسرحياته على مسرح لم يتم بناؤه، ولم يُفتح بعد للتمثيل؟!
وهذه المخالفة التاريخية تؤكد أن المذكرات غير صحيحة.
- رابعًا: عبارة فرقة صنوع المتكونة «من بعض تلاميذه الذين تتراوح أعمارهم بين
السادسة عشرة والعشرين» تتدفعنا لنقول: ألم يَعِشْ أي فرد من هذه
الفرقة المتكونة عام ١٨٦٩ — بعد غلق مسرح صنوع عام ١٨٧٢ — لنعلم منه
حقيقة هذه الفرقة المجهولة؟! فإذا كنا لم نجد أية إشارة عن صنوع
كمسرحي، فمن المؤكد أن نجد إشارات عن أعضاء فرقته، خصوصًا وأنها أول
فرقة مسرحية مصرية، تُقدم المسرحيات باللغة العربية! وهذا إذا صدقنا
أقوال صنوع في مذكراته!
- خامسًا: بخصوص الحديث عن الحفلة الأولى، وحضور رجال البلاط والوزراء، مع أكثر
من ثلاثة آلاف مشاهد، ليشاهدوا بدعة جديدة، وهي «تمثيلية باللغة
العربية»؛ سنجده حديثًا غير صحيح؛ لأننا لم نجد أية إشارة عن هذه
الحفلة.
أما قمة المبالغة في حضور ثلاثة آلاف مشاهد، فهذا أمر لا يحتاج إلى ردٍّ، سوى أن
هذا
العدد هو ما يقرب من نصف سكان القاهرة في هذا الوقت! وأخيرًا نجد وصفه لهذا العرض،
بالبدعة الجديدة لأنها «تمثيلية باللغة العربية» أمرًا غير حقيقي في هذا العام ١٨٦٩؛
لأننا تحدثنا سابقًا عن تمني محمد أنسي عام ١٨٧٠ أن يرى مسرحيات دار الأوبرا معربة؛
كي
تُمثل «في التياترات المصرية باللغة العربية».
٢٠ هذا بالإضافة إلى إثباتنا سابقًا أن سليم النقاش، هو أول من مثَّل
المسرحيات باللغة العربية في مصر.
ورغم هذه الشكوك الواضحة في صحة مذكرات صنوع المخطوطة، فإن د. إبراهيم عبده أصرَّ
على
عدم الشك في صحتها، رغم شعوره به، واعترافه الصريح — بعد حديثه السابق مباشرة — عندما
قال: «ويؤرخ لنا «أبو نظارة» فيما يرويه عن فرقته سيرة المسرح المصري الأولى، وهي
سيرة
لا يعرفها المصريون، ومن حُسن طالع هذا التاريخ أن صاحبه عُني بتفاصيله وأتاح لنا
أن
نقف على كثير من أخباره المستخفية، والتي لم يذكرها مؤرخ من المؤرخين.»
٢١
وهنا نتساءل: لماذا لم يعرف المصريون سيرة مسرح صنوع؟! هل كان هذا المسرح مُقامًا
في
بلد آخر غير مصر؟! ولماذا لم يذكر المؤرخون تاريخ هذا المسرح؟! هل اجتمع المؤرخون
جميعًا واتفقوا منذ عام ١٨٧٠ على عدم ذكر تاريخ صنوع المسرحي؟! وهل طرازي هو المؤرخ
الوحيد الذي لم يجتمع معهم؛ لأنه ذكر هذا التاريخ عام ١٩١٣؟!
والغريب أن قائل هذه العبارة هو د. إبراهيم عبده المؤرخ الصحفي، الذي كتب عدة كتب
عن
تاريخ الصحافة المصرية، غطت معظم فترة تواجد صنوع في مصر.
٢٢ وهذا يعني أنه لم يجد في جميع مصادر ومراجع هذه الكتب أية إشارة عن صنوع
كمسرحي، وإلا لكان أثبتها في أكثر من موضع في كتابه عن صنوع، بدلًا من الاعتماد الكلي
على هذه المذكرات!
ثم وجدنا الدكتور ينقل من المذكرات قصة مسرح صنوع، وكيف حفَّظ أعضاء الفرقة أدوارهم،
وخوف الممثلين من الجمهور قبل رفع الستار، مما اضطر صنوع لإلقاء خطبة! وعن هذا الأمر
يقول الدكتور عن أعضاء الفرقة إنهم «كانوا يرتعدون خوفًا قبل رفع الستار، فرأى زعيمهم
—
أبو نظارة — أن يشجعهم، فوقف على خشبة المسرح وحوله الممثلون وتحدث إلى النظارة ليعطيهم
فكرة عن الفن المسرحي.»
٢٣
وهذا القول غريب حقًّا؛ لأن الجمهور في مصر في ذلك الوقت لا يحتاج إلى هذه الخطبة؛
لأنه يعرف الفن المسرحي؛ لوجود دار الأوبرا ومسرح الكوميدي الفرنسي. بل إن مجلة «وادي
النيل» جاءت بمقالات طويلة باللغة العربية عن العروض المسرحية لهذين المسرحين. هذا
بالإضافة إلى أن أول من خطب من العرب في الجمهور قبل أول عروضه المسرحية هو مارون
النقاش، وخطبته هذه نُشرت عام ١٨٦٩ في كتاب «أرزة لبنان»،
٢٤ أي قبل بداية صنوع المسرحية، إذا سلمنا بأن له أي نشاط مسرحي!
ويستمر د. إبراهيم عبده في حديثه عن مسرح صنوع، قائلًا: «خلق يعقوب بن صنوع بفرقته
فكرة المسرح العربي في مصر الحديثة، وهي فكرة لم يسبقه إليها أحد من المصريين أو
الشاميين الذين نزحوا إلى مصر بعد ذلك واتخذوا من التمثيل مهنة وحرفة، غير أن المترجم
له لم يرضَ أن تعيش فرقته عيالًا على تلاميذه، غير مستكملة أدوات الفِرَق الجديرة
بهذا
الاسم، وقد استطاع أن يؤلف فرقة محترمة ضمت العنصر النسائي ليقوم بالتمثيل بدلًا
من
الرجال المتنكرين في ثياب النساء! فعثر على فتاتين فقيرتين، وتمكن من تعليمهما بنفسه
القراءة في شهر واحد، ومرَّنهما على التمثيل، فأديا أول الأمر أدوارًا قصيرة خصصها
لهما
في تمثيلياته … وكان لظهورهما على المسرح أحسن الأثر في نفس الجمهور الذي استقبلهما
بالتشجيع والتأييد وأحاطهما بالرعاية الملحوظة في إقباله على كل تمثيلية لهما فيها
نصيب.»
٢٥
وهذا الحديث يشير إلى أن يعقوب صنوع كوَّن فرقة محترمة! أي فرقة جديدة بأعضاء جُدد!
وهنا نعيد السؤال السابق للمرة الثانية: إذا كنا لم نجد أية إشارة عن صنوع كمسرحي،
فلماذا لم نجد «أيضًا» أية إشارة عن أي عضو من أعضاء فرقته الأولى أو الثانية
«المحترمة»، تلك الفرقة التي ضمت «فتاتين»؟!
وهنا نقول: إذا سلمنا بأقوال صنوع عن وجود فتاتين في فرقته، لكُنَّا وجدنا كل الصحف،
وكل المعاصرين، وكل المؤرخين، تحدثوا عن هاتين الفتاتين في هذا الزمن! لأنهما أول
ممثلتين في تاريخ المسرح العربي بأكمله، لا في تاريخ المسرح المصري فقط! وللأسف لم
نجد
أي شيء عن هذا الأمر، فيما أوردناه سابقًا! وشتان بين هذا الزعم من صنوع في مذكراته،
وبين صدق التاريخ الذي أثبت أن منيرة المهدية هي أول ممثلة مصرية تقف على خشبة المسرح
عام ١٩١٥!
٢٦
ثم بعد ذلك يقول د. إبراهيم عبده: «ويقص «أبو نظارة» مدارج النصر التي نالها في عمله،
فيذكر أن مسرحه ظل يعمل سنتين عرض فيهما على خشبته اثنتين وثلاثين تمثيلية من تأليفه،
منها الملهاة ذات الفصل الواحد والمأساة ذات الفصول الخمسة، إلى جانب كثير من
التمثيليات التي تُرجمت عن الفرنسية، ثم يقول [أي صنوع]: وبعد مضي أربعة أشهر على
تأسيس
مسرحي، دعاني الخديو إسماعيل وفرقتي لأمثل على مسرحه الخاص في القصر، وقد مثلت ثلاث
روايات وهي: «آنسة على الموضة»، و«غندور مصر»، و«الضرتان». وكانت كلها من نوع الملهاة
الأخلاقية، وبعد أن شاهد الملهاة الأولى والثانية استدعاني وقال لي أمام وزرائه ورجال
حاشيته: «أنت مولييرنا وسيخلد اسمك.» بيد أنه عندما شاهد التمثيلية الثالثة «الضرتان»،
وكانت تُعلن عن مساوئ تعدد الزوجات، وأنه سبب التصدع الذي يحدث في الأسرات، بل سبب
الجرائم التي تغشاها تحول سروره إلى غضبٍ، وأرسل يطلبني قائلًا بلهجة تهكمية: «سيدي
موليير مصر، إن كانت كليتاك لا تحتملان إرضاء أكثر من امرأة واحدة فلا تجعل الغير
يفعل
مثلك!» وقد وجد رجال الحاشية كلام سيدهم في محله فنصحوني بأن أشطب هذه التمثيلية
من
قائمتي على الرغم من تقديمي إياها للجمهور ثلاثًا وخمسين مرة، ولكني اضطررت إلى الرضوخ
إبقاءً على حياة مسرحي.»
٢٧
وأمام هذا القول نتساءل: أَمِنَ المعقول أن تمثل فرقة صنوع ثلاث مسرحيات في قصر
الخديو، وبحضور الخديو نفسه والوزراء ورجال الحاشية، ولم يتحدث عن هذا الأمر أي مؤرخ
أو
معاصر أو مشاهد؟! وهل يُعقل أن تصمت عن هذا الأمر أيضًا جميع الدوريات الموجودة في
ذلك
الوقت، خصوصًا مجلة «وادي النيل» التي تصدر برعاية الخديو؟! تلك المجلة التي أسهبت
في
وصف حفل راقص، لا لشيء إلا لأنه أُقيم في قصر الخديو عام ١٨٧٠!
٢٨ وهل يُعقل أن الأحداث التي وقعت في تلك الليلة — مثل: منح الخديو لصنوع لقب
«موليير مصر»، ثم غضبه عليه بسبب مسرحية الضرتين، ثم طلب الحاشية بشطب المسرحية من
برنامج صنوع — يتغافل عنها التاريخ، وتتجاهلها الصحف، بالرغم مما فيها من مادة تشويقية
للقارئ؟!
وإذا عدنا إلى القول السابق مرة أخرى، سنجد يعقوب صنوع يقول إن مسرحه دام سنتين، عرض
فيهما اثنتين وثلاثين مسرحية، وإن مسرحية «الضرتين» عرضها أكثر من ٥٣ مرة! في أربعة
أشهر «فقط»! وإذا افترضنا أن بقية مسرحياته، مثَّلَ كل واحدة منها «ليلة واحدة فقط»،
على أقل تقدير! سيكون الناتج … أن يعقوب صنوع مثل ٨٤ ليلة عرض في القاهرة، لمدة سنتين!
وهذا يعني أننا لا بد أن نجد، على الأقل، نصف هذا العدد من المقالات أو الإعلانات
التي
غطَّت هذه العروض! ولكننا لم نجد «سطرًا» واحدًا، بل ولم نجد «كلمة» واحدة تشير إلى
هذه
العروض، أو تشير إلى صنوع كمسرحي!
ثم يقول د. إبراهيم عبده، من خلال مذكرات صنوع: «وبعد أكثر من مائتي عرض لمسرحياته
طلب منه إسماعيل أن يمثل ثلاث قطع في حفلة ساهرة كبرى، وقد نال إعجاب الحاضرين وعلى
رأسهم الخديو الذي صفق له، غير أن كبار الجالية الإنجليزية الذين حضروا السهرة لاحظوا
السخرية اللاذعة التي أطلقها كبير الممثلين على جون بول وهو يؤدي دوره على المسرح،
فحفظوها له ومضوا بالدس عند الأمير حتى أقنعوه عن طريقهم المباشر أو عن طريق صنائعهم
في
القصر بأن التمثيليات التي يقدمها «أبو نظارة» تتضمن تلميحات وإيماءات خفية ضد سياسته
وسياسة حكومته، وفيها خطر عاجل على نظام الحكم ومقدرات البلاد، فأمر إسماعيل بإغلاق
المسرح، وبدأ منذ ذلك العهد اضطهاد يعقوب صنوع.»
٢٩
وبالرغم من المبالغة الواضحة، بأن فرقة صنوع مثَّلت أكثر من مائتي عرض، وأنها مثلت
—
مرة أخرى — أمام الخديو! وبالرغم من تفنيدنا لهذه المبالغات سابقًا؛ فإن ما يهمنا
الآن
هو «خبر إغلاق الخديو لمسرح صنوع»! وهذا الإغلاق — تبعًا لأقوال صنوع — كان في عام
١٨٧٢. فإذا كانت جميع الصحف لم تنشر كلمة واحدة عن بداية صنوع المسرحية أو استمرار
نشاطه المسرحي من ١٨٧٠ حتى عام ١٨٧٢، فعلى أقل تقدير تنشر خبر إغلاق هذا المسرح،
خصوصًا
وأنه أُغلق بأمر الخديو!
وكما هو معروف أن جريدة «الوقائع المصرية» كانت تنشر كل ما يتعلق بأوامر وتعليمات
وتوجيهات الخديو، فلماذا لم نجد خبر إغلاق هذا المسرح في هذه الجريدة أو في أية جريدة
أخرى؟! ولماذا لم يجد د. إبراهيم عبده نفسه هذا الخبر، عندما كتب كتابًا ضخمًا عن
جريدة
الوقائع المصرية؟!
والأغرب من ذلك كله أن د. إبراهيم عبده أوضح شكوكه في مسألة غلق الخديو لمسرح صنوع،
قائلًا: «لم يكن عجبًا أن ينشأ في مثل تلك الظروف مسرح «أبو نظارة»، ولم يكن غريبًا
أن
يضيق بمسرحه الخديو إسماعيل وتضيق به بطانته من رجال السوء، إنما العجيب الغريب حقًّا
أن يرضى الخديو عن وجود هذا المسرح سنتين كاملتين.»
٣٠ ونردُّ على هذا قائلين: إذا كان د. إبراهيم عبده استغل عجبه واستغرابه من
هذه المذكرات، ما كان نقل منها!
(٥) الشيخ محمد عبد الفتاح
وإذا عدنا إلى المذكرات مرة أخرى سنجد الدكتور، وقبل أن يختتم حديثه عن مسرح صنوع؛
يقول في انبهار شديد: «وقبل أن نسدل الستار على قصة الممثل الكبير نتركه يحدثنا عن
الطرائف التي صادفته في أثناء عمله المسرحي، فهي وإن تكن تفكهة لقارئها، إلا أنها
عند
المؤرخ شيء جدير بالتسجيل وهو يروى سيرة المسرح المصري، حتى يلاحظ المختصون على ضوئها
التطورات التي حدثت لهذا الفن في بلادنا، ويزنوا المجهودات الضخمة التي انتهت بمسرحنا
إلى شيء قريب من النضج والاستواء.»
٣١
وبهذا الحماس أورد الدكتور تلك الطرائف، في صفحات زادت على صفحات تاريخ مسرح صنوع
نفسه!
٣٢ فنجده يتحدث فيها عن: غياب مُلقن الفرقة، وقيام أحد الشباب بهذا العمل، وما
ترتب على ذلك من مفارقات. ثم تدخل الجمهور في تأليف وتمثيل المسرحيات. ثم نجده يتحدث
عن
وجود كراهية شديدة بين ممثل وممثلة في الفرقة، ورغم ذلك دورهما في العرض يتطلب كلمات
الحب والعشق، وما يترتب على هذا التناقض في المشاعر من مفارقات … إلخ هذه
الطرائف.
ولكن ما يهمنا من هذه الطرائف ما قاله الدكتور أن يعقوب صنوع: «قال وهو يحدثنا عن
متاعبه إنه عرض رواية «ليلى» لأول مرة على مسرحه التياترو الوطني، وهي مأساة كتبها
له
صديقه الشيخ محمد عبد الفتاح، وحضرها الوزراء وكثير من العلماء والشعراء.»
٣٣
وأهمية هذا القول تتمثل في أن هناك مؤلفًا مسرحيًّا اسمه «الشيخ محمد عبد الفتاح»،
ألَّف لصنوع مسرحية «ليلى»! فهل في تاريخ المسرح المصري منذ عام ١٨٦٩ وحتى عام ١٨٧٢
مسرحية باسم «ليلى»، مؤلفها شيخ يُدعى «محمد عبد الفتاح»؟ وللوصول إلى حقيقة هذا
الأمر،
كان لا بد من البحث أولًا في تاريخ المؤلفات والمؤلفين، وثانيًا البحث في صحف
صنوع.
وبالبحث في التاريخ وجدنا أن أول عمل فني باسم
«ليلى» كان فيلمًا مصريًّا بدأ تصويره عام ١٩٢٧،
٣٤ والعمل الفني الثاني تحت اسم «ليلى» كان للمازني عام ١٩٥٣، كما هو معروف.
أما البحث عن اسم «محمد عبد الفتاح» كمؤلف أو كاتب، في هذه الفترة، فلم نجد غير شخص
واحد، توفي في أواسط القرن التاسع عشر،
٣٥ أي وصنوع عمره عشر سنوات! ثم وجدنا شخصًا آخر بنفس الاسم، ولكنه
عاش في فترة بعيدة عن فترة صنوع، وقد ترجم قصة «ابنة
أستريا» المنشورة في مصر عام ١٩٣٥.
٣٦ وبناءً على هذه النتيجة، لم يبقَ أمامنا إلا البحث في صحف صنوع. وبالفعل
بحثنا فوجدنا «الشيخ محمد عبد الفتاح»!
في مارس ١٨٩٢ نشر صنوع خطابًا ورد إليه، وبه بيت من الشعر في مدح الخديو عباس. ويقول
صنوع، عن هذا البيت، وعن قائله، وعن فحوى خطابه: «… وقائل هذا البيت الذي لا أظن
أن
أحدًا مدح بمثله الخديو الحالي محمد أفندي عبد الفتاح مدرس اللغة العربية بباريس،
أوصله
إلينا في جواب ذكر فيه هكذا: أني قد اطلعت على جريدتك مع أحد الإخوان فرأيتك قد عدلت
عن
الذم وأخذت في مدح عباس باشا خديوينا البارع ذي العزم والهمة المحكم للسياسة الذي
ستبلغه ذروة المجد، وأراه سيسبي الرعية بعدله، ويسحرهم بإنصافه، ولذلك أخذتني الغيرة
الوطنية، فقلت هذا البيت، وأرسلته إلى حضرتك لتدرجه في أحد أعدادك ويكون لكم الفضل
الجزيل.»
٣٧
وبناءً على هذا الخطاب، الذي يوحي ببداية تعارف
محمد عبد الفتاح بصنوع! نقول: إذا كان صنوع على علاقة صداقة بهذا الرجل منذ بداية
نشاطه
المسرحي في مصر، وإذا كان هذا الرجل مؤلف مسرحية «ليلى» الذي مثَّلها صنوع أمام الوزراء
والعلماء والشعراء! أليس من المنطقي أن يذكر صنوع هذه العلاقة والصداقة القديمة،
وهو
ينشر أول خطاب لهذا الصديق؟! أليس من المنطقي أن يُعرف صنوع قراءه بهذا الصديق، قائلًا
مثلًا: «محمد أفندي عبد الفتاح مؤلف مسرحية ليلى»، بدلًا من أن يقول «محمد أفندي
عبد
الفتاح مدرس اللغة العربية بباريس»، خصوصًا وأنه يذكر اسم هذا الصديق لأول مرة في
صحفه؟!
وبسبب مدح محمد عبد الفتاح لصنوع، في هذا الخطاب، وجدنا يعقوب صنوع بعد عدة أشهر
من
نفس العام ينشر في صحيفته مقالة لمحمد عبد الفتاح.
٣٨ والمقالة عبارة عن قصة دخول أحد الفرنسيين إلى الإسلام، وأطلق على نفسه
اسمًا مسلمًا، هو «محمود سالم عبد الهادي». وكان محمد عبد الفتاح شاهدًا على إشهار
إسلامه. وقد وجدنا في نهاية المقالة، وبعد ذكر اسم كاتبها، عبارة بين قوسين، تقول:
«تعلم محمود سالم عبد الهادي اللغة العربية عند أبي نظارة.»
والواضح أن كاتب هذه العبارة هو صنوع؛ لأن محمد عبد الفتاح قال في مقالته عن محمود
سالم: «ولما وصل موطنه باريس لم يكن له اشتغال بشيء سوى تعلم اللغة العربية.» وهنا
نسأل: لماذا لم يذكر في هذا الموضع أن أستاذه هو صنوع؟! ألم يكن كاتب المقال (محمد
عبد
الفتاح) صديقًا لصنوع منذ كان صنوع في مصر؟! وإذا كان صنوع صديقًا له لماذا قال عنه
في
نهاية المقال على سبيل التعريف: «بقلم الأستاذ البارع محمد أفندي عبد الفتاح خادم
العلم
الشريف بالأزهر»! ولم يذكر هذا التعريف في أول مرة عندما نشر خطابه السابق؟!
ثم توالت بعد ذلك في صحف صنوع كتابات محمد عبد الفتاح، فنجد له خطبة تحت عنوان
«المحامد الحميدية»، ألقاها في يوم العيد السلطاني عام ١٨٩٩، ثم كلمة له بمناسبة
زيارة
الخديو عباس للسلطان، ثم قصيدة تهنئة لصنوع بمناسبة تلقبه ﺑ «شاعر الملك»، وقصيدة
أخرى
في مدح صنوع عام ١٩٠٠. وأخيرًا تقديمه لأعداد صحف صنوع لعام ١٩٠٥.
٣٩
هذا ما وجدناه عن الشيخ محمد عبد الفتاح، في صحف صنوع. ذلك الشيخ الذي بدأت معرفته
بصنوع عام ١٨٩٢! ذلك الشيخ الذي كان يعمل في هذا التاريخ مدرسًا للغة العربية في
باريس!
ذلك الشيخ الذي كتب النثر والشعر ولم يكتب المسرحيات! … ذلك الشيخ الذي جاء ذكره
في
مذكرات صنوع المخطوطة على أنه مؤلف مسرحية «ليلى» التي مثلها صنوع أثناء نشاطه المسرحي
في مصر! ذلك الشيخ الذي يثبت أن مذكرات صنوع المخطوطة مذكرات غير حقيقية!
وآخر عبارة نقلها د. إبراهيم عبده، من المذكرات المخطوطة، فيما يخص نشاط صنوع المسرحي
في مصر؛ هذه العبارة التي ذكرها صنوع قائلًا: «وعندما أسست المسرح في القاهرة جاءني
في
أسبوع واحد ثلاث تراجم لكي أمثلها على خشبته وهي تراجم: «البخيل»، و«المريض بالوهم»،
و«ترتوف».»
٤٠
وأمام هذه العبارة، نقول لصاحب المذكرات، ولمن نقل منها: إن مسرحية «البخيل»، أول
من
ترجمها أو عربها ومن ثم مثلها كان مارون النقاش، في لبنان عام ١٨٤٨. وأول من أتى
بها
مُعربة إلى مصر ومثلها أيضًا كان سليم النقاش عام ١٨٧٦. أما مسرحية «المريض بالوهم»،
فأول من مثَّلها باللغة العربية كان سليمان القرداحي عام ١٨٨٧.
٤١ وأما مسرحية «ترتوف»، فأول من ترجمها — أو عربها — فكان محمد عثمان جلال
عام ١٨٧٣. وبناءً على ذلك نسأل: كيف جاء في مذكرات صنوع المخطوطة أنه تلقى ترجمات
هذه
المسرحيات عام ١٨٦٩، أو عام ١٨٧٠؟!
(٦) مؤلفات صنوع المسرحية
ويختتم د. إبراهيم عبده، حديثه عن صنوع، قائلًا: «وجدنا من المناسب أن نختم سيرته
ببيان عن الكتب التي ألَّفها، ولا يعني هذا البيان أن هذه الكتب هي كل ما ألَّفه
المترجم له بل إنها — فيما نعتقد — أكثر الكتب التي أمكننا حصرها، بعضها مطبوع وبعضها
مخطوط ينتظر النشر على أوسع نطاق، ومن بين الكتب التي افتقدناها بعض رواياته التمثيلية
التي عرضها على مسرحه في القاهرة قبيل نفيه، وإن كنا قد أشرنا في الفصول الأولى إلى
أسماء بعضها. ومؤلفات يعقوب بن صنوع متفرعة متباينة، بعضها يتصل بالشئون العامة،
وبعضها
الآخر يتحدث عن الكاتب وما مرَّ بحياته من ألوان الكفاح والجهاد، والبعض الآخر تمثيليات
لم ترَ خشبة المسرح.»
٤٢
وبناءً على هذا نقول: لماذا لم يعثر د. إبراهيم
عبده على نصوص المسرحيات التي عرضها صنوع على مسرحه بالقاهرة قبل نفيه؟! ولماذا عثر
على
ما كتبه صنوع في فرنسا؟! ولماذا عثر على مسرحيات زعم أنها لصنوع ورغم ذلك لم يأتِ
لها
ذكر في مذكرات وصحف صنوع؟! أليس هذا دليلًا على أن نشاط صنوع المسرحي في مصر نشاط
مزعوم
لا وجود له إلا في خيال صنوع؟ ومن أعاد صياغة مذكراته المخطوطة!
فمثلًا نجد الدكتور يقول: ««فاطمة»: كوميدية من ثلاثة فصول، ألَّفها جيمس سانوا —
أي
أبو نظارة — باللغة الإيطالية، ولم نعثر على تاريخ تأليفها، غير أن المترجم له حدثنا
في
موضع آخر عن هذه التمثيلية، فتبين أنها مُثلت على مسرحه بين سنتي ١٨٦٩ و١٨٧٠، ومعنى
ذلك
أنها أُلفت في تلك الفترة من نشاطه المسرحي، ومما يُذكر أنها تُرجمت إلى اللغة الفرنسية
ومُثلت بها أيضًا.»
٤٣ ونلاحظ أن الدكتور ليس بين يديه أية معلومات عن هذه المسرحية، سوى ما قاله
صنوع في مذكراته، أو ما ورد عنها في صحف صنوع. مما جعله ينسبها لنشاط صنوع المسرحي
في
مصر!
والأغرب من ذلك أن د. إبراهيم عبده حصر مسرحيات كثيرة بصورة مبهمة! فلم يذكر — مثلًا
— هل هي مسرحيات مخطوطة أو مطبوعة؟! وما هو تاريخ كتابتها، أو تاريخ تمثيلها؟! وهل
كاتبها هو صنوع نفسه أو غيره؟! وكل ما ذكره عن هذه المسرحيات — في الهامش — عبارة:
«هذه
بعض تمثيلياته التي أمكنَّا حصرها.»
٤٤
وهذه المسرحيات هي: «غزوة رأس نور»، غنائية باللغة العامية، «شيخ البلد»، «زوجة
الأب»، «زبيدة»، «راستور وشيخ البلد والقواص»، تمثيلية «حلوان والعليل والأميرة
الإسكندرانية»، تمثيلية «البورصة»، تمثيلية «البربري»، تمثيلية «الحشاش»، «الصداقة»
…
إلخ. ومن المؤكد أن هذه المسرحيات عبارة عن مخطوطات مجهولة، لم يُكتب عليها اسم كاتبها!
ولا أي تاريخ يدل على وقت كتابتها أو تمثيلها!
ونحن نعتقد أن سبب قيام الدكتور بنسبها إلى صنوع راجع إلى أمرين؛ الأول: أن بعض أسماء
هذه المسرحيات وردت في مذكرات صنوع المخطوطة، المشكوك في صحتها، وأيضًا وردت في صحف
صنوع، فيما يخص أخبار نشاطه المسرحي المزعوم في مصر.
والأمر الآخر: أن هذه المخطوطات أخذها الدكتور من ابنة صنوع «لولي»! والفرق شاسع
بين
حصر الدكتور لهذه المسرحيات المبهمة التوثيق، وبين حديثه عن مسرحية «السلاسل المحطمة»،
عندما قال عنها: «وهي تمثيلية وطنية عثمانية، نشرها يعقوب بن صنوع باللغة الفرنسية،
وأهداها إلى الصدر الأعظم حسين حلمي باشا، وقد طُبعت بباريس في سنة ١٩١١.»
٤٥