إذا كان اهتمامنا اتجه في الفصل السابق نحو تفنيد نشاط صنوع كمسرحي في مصر — من خلال
كتاب
د. إبراهيم عبده — فإن هذا التفنيد سيكون من نصيب حياة ونشاط صنوع أيضًا، طوال فترة
تواجده
في مصر، من خلال نفس الكتاب، تلك الفترة التي غلفها صنوع بأكاذيب ومبالغات أعطت له
مكانة
كبيرة خدع بها قراءه ونقاده.
ولإثبات ذلك سنقوم بمناقشة هذه الأكاذيب والمبالغات؛ لأنها ستؤكد للقارئ أن مزاعم
صنوع في
صحفه ومذكراته لم تقتصر على محاولته إثبات نشاط مسرحي له في مصر، بل وصلت إلى أكثر
من ذلك!
تلك المزاعم التي أصبحت من أقوى الحقائق عند من تلقاها من النقاد فكتبوا عن صنوع آلاف
الصفحات سنتعرض لها فيما بعد.
(١) المهندسخانة
يقول صنوع — من خلال مذكراته — إن أباه «يتمتع بالحظوة لدى البلاط، ويستشيره الأمراء
في مسائلهم الخاصة.»
١ وإن الأمير أحمد حفيد محمد علي الكبير — الذي كان والد صنوع يعمل عنده —
رأى في صنوع الذكاء، فأرسله على نفقته ليتلقى العلم في أوروبا. «ثم يمضي يعقوب فيقول
إنه أمضى عدة سنوات في أوروبا، فلما عاد نزل قضاء الله في الأمير الكريم الذي أولاه
نعمته وفي أبيه أيضًا، فوجد نفسه رب أسرة، ليس له مال يغنيه، وإن كان له علم تام
بلغات
أربع، كانت هي كل رأس ماله الذي تقدم به إلى إحدى
المدارس الحرة التي قبلته مدرسًا بها، [وأن] بعض الشخصيات المدنية والعسكرية التي
كانت
تحكم مصر في أواخر القرن التاسع عشر تلقت عنه دروسًا خاصة أو تتلمذت عليه في المدارس
الحرة أو الأميرية، فإنه أمضى بضع سنين مدرسًا أول في المهندسخانة وعضوًا في لجنة
امتحان المدارس الأميرية.»
٢
ونستخلص من هذا الجزء أن والد صنوع كان موظفًا عند الأمير أحمد حفيد محمد علي، وأن
يعقوب صنوع تلقى العلم في إيطاليا في هذه الفترة، وبعد عودته أصبح مدرسًا بالمدارس
الأهلية وخصوصًا مدرسة المهندسخانة، وأن تلاميذه أصبحوا من الحكام!
أما فيما يتعلق بعمل والد صنوع عند الأمير أحمد، فلا صحة لهذا الخبر؛ لأن اسم روفائيل
صنوع لا وجود له في سجلات ملفات الموظفين طوال القرن التاسع عشر. علمًا بأن الخادم
في
قصور الأمراء له ملف في هذه السجلات باعتباره من الموظفين،
٣ فما بالنا بوالد صنوع الذي كان مستشارًا عند هذا الأمير، وعند أمراء البلاط
الخديو! بل وكان من أصدقاء محمد علي باشا الكبير شخصيًّا.
وفي ذلك يقول صنوع: «وأما محمد علي جنتمكان صاحب ذاك العصر … فكان كامل الرياسة.
حدثني عنه والدي رفايل أفندي وكان من محاسيبه النجيبة أحاديث عجيبة غريبة. وكان يستشيره
في بعض الأمور لصداقته. كذا مع نجله إبراهيم وحليم وحفيده أحمد استمرت علاقته.»
٤
أما تلقي صنوع التعليم في أوروبا من قبل الأمير أحمد يكن، وعمله بعد رجوعه كمدرس
بالمهندسخانة؛ فهذا أمر يتناقض مع مذكرات صنوع المنشورة في صحفه بباريس، عندما قال
في
عام ١٨٩٩ تحت عنوان «زهرة من تاريخ وطني الغالي ونبذة من ترجمة حالي»: «دخلت في مبادئ
أمري مدرسة المهندسخانة المشهورة، واقتبست من معلميها الفنون والآداب على أجمل صورة،
ومنها انتقلت إلى مدرسة إنكليزية فتحوها بمصر البروتسطان. أتقنت فيها لغة المستر
بول
الخمران. وتعلق بعد ذلك طالعي بالأسفار، فسرت إلى إيطاليا وتعلمت لغتها من نثر وأشعار،
وعدت وعمري خمسة عشر إلى مصر المحروسة، فوجدتها بولاية سعيد باشا مأنوسة.»
٥
وفي هذا الجزء المنشور يعترف صنوع أن سفره لإيطاليا كان من قبل الهواية، ولا دخل
للأمير فيه! بل إنه كان تلميذًا بالمهندسخانة لا أستاذًا بها! والدليل على أنه لم
يمارس
أية وظيفة حكومية، خصوصًا وظيفة مدرس بالمهندسخانة؛ هو عدم وجود اسمه في قائمة ملفات
مدرسي أو موظفي الحكومة المصرية، منذ عهد محمد علي باشا، وحتى وفاة صنوع عام ١٩١٢!
على
الرغم من وجود ملف لفراش بالمهندسخانة، لمجرد أنه موظف!
٦
ومن الممكن أن يقول قائل: إن عدم وجود ملف وظيفي لصنوع راجعٌ إلى نفيه من مصر من
قِبَل الخديو — كما زعم صنوع في مذكراته — وهذا أدى إلى شطب اسمه من قائمة الموظفين.
والردُّ على هذا الاحتمال يتمثل في أن الموظفين المنفيين لا تُشطب أسماؤهم مهما كان
الأمر؛ وأكبر دليل على ذلك وجود الملف الوظيفي لجمال الدين الأفغاني، الذي نُفي بعد
عام
واحد من سفر صنوع لفرنسا، وأيضًا وجود الملف الوظيفي للزعيم أحمد عرابي، مع ملفات
جميع
أعوانه من المصريين المنفيين.
٧
وإذا سلمنا بأقوال المذكرات المخطوطة — التي تختلف عن أقوال صنوع في صحفه — بأن يعقوب
صنوع عاد من إيطاليا وعمره خمس عشرة سنة، سنجد أنه عاد في عام ١٨٥٤ — لأنه وُلد عام
١٨٣٩ — وعمل مدرسًا بالمدارس المصرية خصوصًا المهندسخانة في عهد سعيد باشا!
وهذا القول يُعتبر أكبر دليل على مزاعم المذكرات؛ لأنها اختارت أسوأ فترة تاريخية
مرَّت على مصر في نظامها التعليمي، لتقحم اسم صنوع ضمن مدرسيها، وهي فترة تولي سعيد
باشا الحكم.
وفي ذلك يقول عبد الله النديم عن سعيد باشا: «ألغى ديوان المدارس ومنع إرسال تلامذة
لأوروبا، وأقفل جميع المدارس، ولا ندري أي شيء حمله على ذلك وهو ابن المعارف والآداب
وقد ذاق لذة العلوم!»
٨
وفي تفصيل أكثر يقول جاك تاجر: «أما سعيد باشا فإنه ألغى ديوان المدارس في السنة
التي
تولى الحكم فيها؛ أي سنة ١٨٥٤، كما ألغى المهندسخانة … وفي السنة التالية ألغى مدرسة
المفروزة ومدرسة الطب بقصر العيني … [و]لم يفكر مطلقًا في إعادة ديوان المدارس؛ مما
يدل
على إصراره على عدم تنشيط التعليم في البلاد.»
٩
وبناءً على ذلك نتساءل: هل بعد إلغاء ديوان المدارس وإلغاء مدارس عديدة أهمها مدرسة
المهندسخانة، في نفس العام الذي عاد صنوع فيه من إيطاليا؛ يمكن لأي إنسان أن يصدق
أن
يعقوب صنوع كان مدرسًا بالمهندسخانة، أو حتى تلميذًا بها منذ عام ١٨٥٤؟!
(٢) بين صنوع والشيخين
إذا كانت شكوكنا أحاطت بالمجال الأول لعمل صنوع كمدرس، ومجاله الثاني كمسرحي في مصر؛
فإن الشك أيضًا يحيط مجاله الثالث في حياته العملية، وهو رئاسته وتكوينه للجمعيات
العلمية الأدبية. وعن هذا المجال يقول د. إبراهيم عبده، من خلال مذكرات صنوع:
«كان إغلاق مسرح يعقوب بن صنوع مفرق الطريق في سياسته إزاء إسماعيل؛ فإن إغلاق المسرح
بأمر الخديو أفقد المترجم له النخبة المنتقاة من أنصاره القريبين من القصر، ولم يقف
اضطهاده عند حد، فقد أُغلقت دونه أبواب الوظائف العامة، وتعقبه المسئولون في الصحف
القليلة التي كانت تصدر إذ ذاك، وأشهروا عليه حربًا عوانًا حالت بينه وبين الكتابة
فيها. غير أن يعقوبًا صمد للمحنة فلم يتطرق اليأس إلى قلبه، واتجه إلى نشاط ثقافي
وطني
يلائم ذوقه وحسه، فأسس جمعيتين علميتين أدبيتين، سُميت الأولى «محفل التقدم» وسُميت
الثانية «محفل محبي العلم» وانتخب لهما رئيسًا … وكان أبو نظارة وزملاؤه من أعضاء
الجمعيتين المبرزين، يقومون بإلقاء المحاضرات عن تقدم الآداب والعلوم في أوروبا،
وكان
يحضر اجتماعاتهم ومحاضراتهم المسلمون والنصارى واليهود؛ فقد كان شيوخ الأزهر وأعلام
الدينَين الآخرَين يساهمون فيما يُلقى من محاضرات وخطب، وكانت الصحف المحلية تحتفل
بنشر
أخبار الجمعيتين مفصلة، الأمر الذي مكَّن لهما في نفوس الكثيرين حتى أقبل عليهما
طلبة
الأزهر وكبار الجيش المصري ليغترفوا من منهلها مبادئ الحرية الأوروبية عامة والفرنسية
خاصة. ويحدثنا أبو نظارة عن المتاعب التي صادفته في هاتين الجمعيتين ودور الإنجليز
في
القضاء عليهما، فيقول: «وكان تاريخ فرنسا وآدابها من الموضوعات الرئيسية لمحاضراتي؛
مما
ضايق الإنجليز الذين كانوا يريدون أن أدعوا لنفوذهم وأشجعه بين أبناء وطني، وقد انتقموا
مني ونجحوا بوسائلهم الوضيعة وبدسائسهم الرخيصة في أن يلقوا في روع الخديو إسماعيل
أن
هاتين الجمعيتين إنما هما مركزان للثورة، فما كان منه إلا أن منع التلاميذ والطلبة
والعلماء من حضور اجتماعاتنا، واضطرت الجمعيتان إلى إغلاق أبوابهما.» وهكذا كبت إسماعيل
المتنفس الثاني لابن صنوع في سنة ١٨٧٤.»
١٠
وإذا أردنا أن نناقش هذا القول، المنقول من مذكرات صنوع المخطوطة، سنجد أن السطور
الأولى منه تشير إلى أن يعقوب صنوع كان يكتب في الصحف المصرية قبل إغلاق مسرحه! وأن
هذه
الصحف بعد إغلاق مسرحه هاجمته في كتاباتها هجومًا شديدًا، وهذا يعني أن لصنوع مقالات
وكتابات في الصحف قبل عام ١٨٧٢،
١١ وأيضًا هناك مقالات هاجمته وذكرته بعد هذا التاريخ!
وكما مرَّ بنا أننا لم نجد أية إشارة عن صنوع أو له فيما أوردناه من مقالات الصحف
والمجلات، سواء قبل هذه الفترة أو بعدها، والأغرب أن ناقل هذا الكلام هو د. إبراهيم
عبده، الذي يُعد من أهم المؤرخين الصحفيين لصحف هذه الفترة! وهنا نسأل: لماذا لم
يجد
الدكتور أية مقالة لصنوع أو عنه قبل إغلاق مسرحه عام ١٨٧٢، كي يعضد بها ويثبت أقوال
هذه
المذكرات؟! أليس هو القائل عنها: «وأخذنا على عاتقنا إذاعتها وتحقيق ما فيها من بيانات.»
١٢
أما موضوع تكوين صنوع لجمعيتين أدبيتين، فهو زعم جديد من مزاعم صنوع العديدة؛ لأنه
نشر قصة هاتين الجمعيتين بصورة تفصيلية مرتين في صحفه،
١٣ مع بعض الاختلافات عما جاءت في مذكراته المخطوطة، الأولى في عام ١٨٧٩،
عندما قال:
«وعملت لي جمعيتين علم للشبان، الأولى دعيتها محفل المتقدمين، والثانية جمعية الخلان.
وكانوا يحضروا جمعية الخلان ناس عظام ومشايخ الأزهر الكرام ونور العلم الأستاذ الفاضل
والفيلسوف الكامل السيد جمال الدين الأفغاني، فصيح اللسان وظريف المعاني، وكان هو
وهم
يتلوا علينا مقالات عظام، درجت أغلبهم في صحيفتها الأهرام. فلما وصل الخبر إلى فرعون
زعق ودبدب كالمجنون، وحرَّج من تحت لتحت على المشايخ والمستخدمين بأنهم لا يجتمعوا
ليلًا في محافل وإلا يصيروا مرفوتين. فطبعًا انقفلت الجمعية الداعية للتمدن والحرية.»
١٤
والأخرى في عام ١٨٨٧، عندما قال: «كونت جمعيتين علمي للشبان، ودعوتهما «محفي التقدم»
وجمعية «محبي العلم والأوطان»، وكان يحضر جلساتنا ناس عظام من تلامذة المدارس ومشايخ
الأزهر الكرام، وكذلك السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده وأمثالهم من فلاسفة العرب
المشهورين وأذكي شبان طايفة الشوام الفخام وطائفة الإسرائليين، وكانوا يطربوا الحاضرين
بمقالات عظام، نشرت أغلبها جريدة «الأهرام»، فلما وصل الخبر إلى إسماعيل الفرعون،
همهم
ودمدم كالعون، ومنع المشايخ والمستخدمين من الحضور
إلى جمعية محبي العلم وإلا يصير طردهم من المساجد والدواوين. فانقفلت الجمعية، الداعية
للتمدن والحرية.»
١٥
وبمقارنة ما جاء في مذكرات صنوع المخطوطة بما جاء في صحف صنوع المنشورة؛ يتضح لنا
أن
المذكرات لم تذكر أن الأفغاني ومحمد عبده من أعضاء هاتين الجمعيتين كما جاء في الصحف،
واكتفت بالتعميم بكلمتي «شيوخ الأزهر»، كما أنها لم تذكر صراحة أن جريدة الأهرام
كانت
تنشر أغلب خطب الجمعيتين كما جاء في الصحف، واكتفت أيضًا بالتعميم بكلمتي «الصحف
المحلية»!
وأمام هذا الاختلاف يجب علينا عند مناقشة موضوع الجمعيتين ومشاركة الأفغاني ومحمد
عبده فيهما؛ أن ننظر إلى الموضوع بصورة كلية، سواء ما جاء في المذكرات، أو ما جاء
في
الصحف. وتبعًا لهذا نستطيع أن نستخلص من هذا الموضوع في مُجمله أمرين؛ أولهما تكوين
صنوع لجمعيتين أدبيتين، نشرت جريدة «الأهرام» أخبارهما وخطبهما. والأمر الآخر أن
أهم
شخصيتين في هاتين الجمعيتين هما الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.
وعن الأمر الأول، نقول: لا وجود لهاتين الجمعيتين في تاريخ مصر في تلك الفترة، أو
بعدها؛ والدليل على ذلك أن جريدة «الأهرام» لم تنشر خبرًا واحدًا عن هاتين الجمعيتين
—
كما زعم صنوع — وإذا كانت ذكرت إشارة واحدة لكان د. إبراهيم عبده ذكرها في كتابه
عن
الجريدة، خصوصًا وأنه اطلع على جميع أعداد جريدة «الأهرام» منذ صدورها، وكتب عنها
كتابه
«جريدة الأهرام: تاريخ مصر في خمس وسبعين سنة».
١٦
وبنفس المنطق نقول: إذا كانت جريدة «الأهرام» ذكرت أية إشارة عن جمعيتي صنوع لكان
أثبتها د. محمد يوسف نجم، عندما تحدث عن صنوع في كتابه «المسرحية في الأدب العربي
الحديث»؛ لأن اعتماده الأول في مراجع هذا الكتاب كان على جريدة «الأهرام» منذ صدورها.
١٧ هذا بالإضافة إلى أن بعض الكتب التي تحدثت عن الجمعيات الأدبية والعلمية في
مصر في تلك الفترة لم تذكر أية إشارة عن هاتين الجمعيتين.
١٨
أما الأمر الآخر، وهو علاقة الشيخين محمد عبده والأفغاني بجمعيتي صنوع الأدبيتين،
فإننا لم نجد في تاريخ هذين الشيخين — طوال فترة تواجد صنوع في مصر — أية إشارة تدل
على
علاقتهما بصنوع أو بجمعيتيه،
١٩ والعكس صحيح بالنسبة لتاريخ صنوع، وبمعنى آخر: إذا أراد أي قارئ أن يتعرف
على صنوع ضمن ما كُتب عن الشيخين، فلن يجد أي شيء، وإذا أراد أن يتعرف على الشيخين
ضمن
ما كُتب عن صنوع سيجد أشياء، وذلك أثناء فترة وجود صنوع في مصر، وقبل سفره إلى فرنسا.
٢٠
ونحن نعتقد أن يعقوب صنوع أراد أن يثبِّت تاريخ أنشطته المزعومة في مصر، بوجود اسمين
كبيرين كهذين الشيخين في هذا التاريخ؛ وبذلك خدع صنوع كل من كتب عنه … وقد نجح! فمثلًا
فيليب طرازي قال عن هذه العلاقة: «وكان السيد جمال الدين الأفغاني الفيلسوف المشهور
والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقًا متحدين معه بعرى المحبة. وقد درسا عليه
شيئًا من اللغة الفرنسية، فاتفق ثلاثتهم على إنشاء جريدة عربية هزلية لانتقاد أعمال
الخديو إسماعيل، ثم قرَّ رأيهم على أن يتولى إدارتها صاحب الترجمة ويحرر فيها معه
العالمان المذكوران.»
٢١
وهكذا بدأ تاريخ صنوع يتثبت في عقول الناس، ويصبح صنوع شخصًا لا نظير له؛ لأنه بكلمات
طرازي أصبح أستاذ اللغة الفرنسية للشيخين محمد عبده والأفغاني، وأصبح البطل الفذ
الذي
تصدى وتولى إدارة جريدة تهاجم السلطة، بعد أن تخلى عن هذا التصدي وهذه الإدارة الشيخان
محمد عبده والأفغاني، واكتفيا فقط بالكتابة في هذه الجريدة! أليس هذا ما قاله طرازي
وردده كل من كتب عن صنوع بعد ذلك؟! والغريب في الأمر أن هذه المعلومات عن الشيخين
لن
يقرأ عنهما القارئ إلا إذا قرأ ما كُتب عن صنوع فقط!
أما د. إبراهيم عبده، فيقول عن هذه العلاقة: «وقد ذكر كثير من المؤرخين أن السيد
جمال
الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده حررا طويلًا في صحف يعقوب بن صنوع،
سواء في صحيفته التي أصدرها في مصر أو في صحفه المختلفة التي نشرها في باريس، ورتب
هؤلاء المؤرخون على ذلك أن المترجم له لم يحتمل وحده تحرير صحيفته، والواقع يكذب
ذلك
كله؛ فقد راجعنا مجموعات تلك الصحف نسخة بعد أخرى، فلم نجد مقالًا واحدًا للشيخ محمد
عبده.»
٢٢
والمُلاحظ على هذا القول أن د. إبراهيم عبده أوهم قراءه بأن هناك مؤرخين كثيرين
تحدثوا عن علاقة صنوع بالشيخين! ورغم ذلك لم يأتِ الدكتور باسم واحد من هؤلاء المؤرخين،
ولم يأتِ بأي مرجع في هذا الموضع للاستشهاد على ما يقول، ولكنه وضع إشارة في الهامش
للرجوع إلى كتابين تحدثا عن هذا الموضوع بالنسبة لعلاقة صنوع بالشيخين، وهما «تطور
الصحافة المصرية»، و«أعلام الصحافة العربية» للدكتور إبراهيم عبده.
ومن المعروف أن هذين الكتابين كان اعتمادهما الأساسي على كتاب طرازي في الجزء الخاص
بصنوع، فبدلًا من أن يقول د. إبراهيم عبده إن فيليب طرازي — من بعد صنوع — هو القائل
الوحيد بعلاقة صنوع بالشيخين جَعَلنا نعتقد أن هناك مؤرخين تحدثوا عن هذه العلاقة!
وبالرغم من حماس الدكتور إلا أنه أثبت عدم قيام الشيخ محمد عبده بالكتابة في صحف
صنوع!
وفي هذا الإثبات دليل على عدم صدق علاقة صنوع بمحمد عبده.
أما عن علاقة الأفغاني بصنوع، فيقول عنها د. إبراهيم عبده: «أما السيد جمال الدين
الأفغاني، فله مع يعقوب بن صنوع تاريخ آخر؛ فهو الذي أوحى إليه بإنشاء صحيفته، وشجعه
على ذلك بنشر مقالين فيها جاء ذكرهما في إحدى المحاورات التي نشرتها «أبو نظارة زرقا»
…
إذن فجمال الدين لم يكتب في صحيفة يعقوب إلا مقالتين في عددين من الأعداد الخمسة
عشر
التي صدرت في مصر قبل نفيه.»
٢٣
ومن الملاحظ أن الدكتور أقرَّ بمساعدة الأفغاني لصنوع في إصدار الجريدة، معتمدًا على
ما قاله طرازي في هذا الشأن، كما أنه آمن وتحقق من قيام الأفغاني بكتابة مقالتين
في
جريدة صنوع أثناء إصدارها في مصر، لمجرد ذكر ذلك في إحدى المحاورات! وهنا نسأل الدكتور:
لماذا لم تتحقق من وجود هاتين المقالتين للأفغاني، كما تحققت من عدم وجود أية مقالات
لمحمد عبده في جميع صحف صنوع؟!
وحقيقة الأمر أن د. إبراهيم عبده، لسبب ما، أراد أن يثبت علاقة الشيخين بصنوع بكل
وسيلة ممكنة؛ فبعد أن تحقق من عدم قيام الشيخ محمد عبده بالكتابة في صحف صنوع وجدناه
يقول: «كان يعقوب مؤمنًا بقدر الإمام مقرًّا بفضله وعلمه بالرغم من الخلافات التي
دبَّت
بينهما في ظروف لا داعي لذكرها هنا.»
٢٤
وهذا القول يوحي بوجود علاقات أخرى بين الشيخ محمد عبده وصنوع غير الصحافة! وهنا
نسأل: ما هي هذه العلاقات الأخرى التي أدت إلى هذه الخلافات؟ ولماذا قال الدكتور
«لا
داعي لذكرها هنا»؟! والأغرب أن الدكتور تحدث بهذا المعنى أيضًا أثناء حديثه عن علاقة
الأفغاني بصنوع، عندما قال: «ويبدو أن العلاقات بين الصحفي والفيلسوف لم تكن صافية
دائمًا. وما أكثر ما توترت العلاقات بينهما وسجلت «أبو نظارة زرقا» التوتر في أكثر
من موضع.»
٢٥ وهنا نسأل الدكتور أيضًا: لماذا لم تتحدث عن عدم صفاء العلاقات وتوترها بين
صنوع والأفغاني، كما تحدثت عن صفائها وقوتها بينهما؟!
والحقيقة في اعتقادنا أن د. إبراهيم عبده آمن منذ البداية بقوة علاقة صنوع بالشيخين،
متأثرًا بأقوال صنوع في صحفه، ثم بأقوال طرازي، هذا بالإضافة إلى حماس الدكتور الشديد
بصنوع والكتابة عنه. ولكن الدكتور من المؤكد أنه وجد أشياء تنفي هذه العلاقة، وهذه
الأشياء إذا تحدث بها الدكتور سيقع في تناقض بين حماسه وتأثره بما كتبه صنوع وطرازي
وبين ما وجده من حقائق أقوى من كلام صنوع وطرازي نفسه!
والدليل على ذلك أن في عام ١٨٧٩ خطب الأفغاني — في مصر — خطبة عامة تحدث فيها عن
موضوع «تربية الأمم»، موضحًا الأثر الإيجابي للصحف على الأمة العربية. وفي هذه الخطبة
ذم الأفغاني يعقوب صنوع وصحيفته ذمًّا شديدًا، فقام الشيخ محمد عبده بنشر هذه الخطبة،
وشرح ما فيها — في جريدة «التجارة المصرية» بتاريخ ٣ / ٦ / ١٨٧٩ — حتى وصل في شرحه
إلى
صحيفة صنوع، قائلًا عنها وعن صاحبها:
«ولقد وقفت على مغزى كلامه وحقيقة مرامه، فأيقنت أنه عنى بذلك جرنال أبي نظارة، ذاك
الجرنال الهزأة الذي لم يدع قبيحة من القبائح إلا احتواها ولا رذيلة من الرذائل إلا
أحصاها؛ أتى من العبارات ما لا يستطيع السوقة وأدنياء الناس أن يأتوا به، وجعل ديدنه
السب والثلب وثلم الأعراض وتمزيق حجاب الإنسانية والقدح في السير الشخصية بما لا
يليق
أن يتفوَّه به الصبيان، مما يفسد الأخلاق ويذيب ماء الوجوه خجلًا وحياءً. على أن
ليس
فيه نكتة مضحكة ولا لطيفة مسلية … مع أنه لا يحتوي على سياسة ولا أخبار ولا مضحكات
ولا
فكاهات، بل هو محض الشتم واللطم … ولم يكن ذلك من محرر هذا الجرنال الهزء البارد
إلا
لدناءة الطبع والميل إلى كسب الدنانير والدراهم؛ إذ ينال بهذيانه من زيد أربعين جنيهًا
في الشهر ومن عمر أقل ومن بكر أكثر، وتلك دنيئة تأباها الشيم الكريمة. ولقد تغالى
مُنشئه في الوقاحة حتى أشار في كتاباته وخزعبلاته أن أبناء المجامع المقدسة ذات المقاصد
العالية المبنية على محض الأدب والإنسانية هم مشاركوه في عمله هذا. حاشاهم حاشاهم
أن
تتدانى همتهم لهذه المقاصد السافلة، فقد كذب وافترى واعتسف واعتدى.»
٢٦
وبناءً على هذا الهجوم، أو هذا الاعتراف الصريح «المنشور» من الشيخين معًا (محمد
عبده
والأفغاني)، أيستطيع أحد أن يقول إن هناك علاقة ما بين صنوع والشيخين، أثناء فترة
وجود
صنوع في مصر؟! ولماذا أنكر د. إبراهيم عبده هذا الهجوم من قِبَل الشيخين ضد صنوع،
واكتفى بالإشارة إلى أن العلاقات لم تكن صافية دائمًا بين الأفغاني وصنوع، وأن خلافًا
قد دبَّ بين محمد عبده وصنوع؟! بل إن في هجوم الشيخين على صنوع دليلًا قويًّا على
عدم
قيام صنوع بأي نشاط مسرحي في مصر؛ لأن هذا النشاط لم يُذكر في هجوم الشيخين! وإذا
كان
له وجود حقيقي لكان الشيخان عزفا على وتره الحساس؛ لما فيه من بدعة.
٢٧
ومن الجدير بالذكر أن هذا الهجوم نُشر في ٣ / ٦ / ١٨٧٩! وحتى هذا التاريخ لم يكن
صنوع
قد ذكر اسم الشيخين صراحة في كتاباته الصحفية، ولكن بعد أن قرأ صنوع هذا الهجوم كتب
محاورة دارت بينه وبين أبي خليل، نشرها في عدد كامل من صحيفته في ٢٤ / ٦ / ١٨٧٩.
وفيها
زعم صنوع أن رجال الخديو إسماعيل قبضوا على بائع لصحف صنوع في مصر، ووجدوا معه خطابًا
بخط الأفغاني، وبمواجهة الأفغاني بهذا الخطاب قال: «إن جمس أعز أحبابه إنما حلف أن
منذ
سفره إلى باريز لا كتب له ولا ورد له منه كتاب قط، وإن هو لا ينكر إنه كتب مقالتين
في
النضارة القديمة. فيظهر من ذلك أنه رجل حقاني فنحن قلنا له الجندي [أى الخديو] شاف
الجواب واشتد عليه الغضب، فإن أردت تخلص من القصاص أنت وأصحابك ينبغي عليك بأنك تذم
أبو
نضارة في جرانيل الوطن. فقال لو أقدر أفعل ذلك؛ لكوننا أخوان وحلفنا يمينًا مقدسًا
بأننا نحب بعضنا. فقلنا له اعمل مقالة واذكر فيها واجبات الجورنلجي الصالح وذم فيها
القبيح، وأحد أتباعك يعمل عليها حاشية، ويقول إنك تعني بذلك «أبو نضارة»، فإن لم
تفعل
ذلك فجميع إخوانك وتلامذتك يصير عليهم خطر. فحينئذ قبل الشيخ. والمقالة والشرح صار
نشرهما.»
٢٨
وهذه المزاعم من قِبَل صنوع ضد الشيخين لا تحتاج منا إلى تفنيد، وكفى أن نقول إن هذه
المزاعم إذا كان لها أصل في التاريخ لكانت الكتب الضخمة التي كُتبت عن الشيخين أفاضت
واستفاضت في الحديث عنها! ولكننا لن نجد هذه المزاعم إلا في كتابات صنوع فقط! وما
يهمنا
منها أن يعقوب صنوع أراد أن يوهم القراء بأن هناك علاقات عديدة ربطت بينه وبين الشيخين؛
والدليل على ذلك أن يعقوب صنوع لم يُصرح بهذه العلاقة إلا بعد أن ذمه الشيخان، وكأنه
أراد أن يورطهما معه في علاقات، ولو عن طريق الافتراء؛ لذلك وجدناه أيضًا يصرح بأنهما
من الأعضاء البارزين لجمعيتيه المزعومتين!
هل اكتفى صنوع بذلك؟! بالطبع لا؛ فقد قام بتوريط الأفغاني معه أكثر؛ كي يقنع القراء
بوجود علاقة بينه وبين الشيخ؛ وذلك عندما نشر مخاطبة في جريدته عام ١٨٨٩، وزعم أن
الأفغاني كتبها ونشرها من قبل في صحيفته بالقاهرة، وذلك على الرغم من إنكار الشيخ
محمد
عبده — في قوله السابق — اشتراكه مع الأفغاني في تحرير أي جزء من صحف صنوع في
مصر.
قال صنوع تحت عنوان «إيجاب الطلب»: «ورد لنا كتاب لطيف من صديقنا رئيس محفل الاتحاد
المصري الشريف به يطلب منا بالنيابة عن الإخوان طبع مخاطبة جرت بين الهرة والإنسان،
تلك
مخاطبة كنا نشرناها في العدد الخامس عشر من «النظارة» بمحروسة مصر القاهرة … فالآن
ورد
لنا نسخة من ذلك العدد النفيس مرسلة من جناب الرئيس، عدد من جريدتنا الوطنية الحرة،
التي فيها مخاطبة بين الإنسان والهرة النادر وجودها عند محبي الوطن العزيز، وقال
إن
إشهارها يصلحنا ويضر الإنكليز، فأجبناه وفضلنا تلك المخاطبة الجوهرية على الأخبار
المهمة الواردة لنا من الديار المصرية، أما مؤلفها فلا حاجة لذكر اسمه لكونه معلوم
عند
الإخوان، وهو أستاذنا الجليل فيلسوف الأفغان.»
٢٩
وإذا عدنا إلى هذه المخاطبة، عندما نُشرت لأول مرة في صحف صنوع في مصر، سنجده يقول
عنها: «محاورة بين إنسان وهرة، يعني قطة. بقلم أحد فضلاء الإسكندرية.»
٣٠
وأمام هذا التناقض نقول: لماذا أنكر صنوع اسم الأفغاني عند نشره لهذه المخاطبة لأول
مرة، بالرغم من شهرة الأفغاني وتشريف الصحيفة بوضع اسمه عليها؟! ولماذا صرَّح صنوع
باسم
الأفغاني عندما أعاد نشر هذه المخاطبة بعد ١١ سنة؟! أليس هذا توريطًا جديدًا من صنوع
للإيحاء بوجود علاقة بينه وبين الأفغاني؟!
وبالرغم مما سبق، إلا أن يعقوب صنوع لم يكتفِ
به، وقام بالطامة الكبرى؛ عندما قام بتزوير خط الأفغاني، وكتب إهداءً إلى نفسه خلف
إحدى
صور الأفغاني؛ ليوهم الناس بأن الصورة والإهداء من الأفغاني نفسه، دلالة على هذه
العلاقة الحميمة بينهما!
وهذه الصورة نشرها د. إبراهيم عبده في كتابه السابق، كما نشر الإهداء الموقع من
الأفغاني، ونصه: «هدية مني إلى الطريف اللطيف حبيبي الشيخ جمس أبو النظارة. [توقيع]
جمال الدين الحسيني الأفغاني.»
٣١ والدليل على هذا التزوير من قبل صنوع يتمثل في أمرين؛ أولهما: أن الخط
المكتوب به الإهداء هو خط صنوع نفسه ذلك الخط الرديء
الذي طالما اعترف صنوع في صحفه بأنه «خط رديء»، كلما كتب به عندما يغيب ناسخ صحفه
عن العمل.
٣٢ أما خط الأفغاني فهو من أجمل الخطوط نسخًا في ذلك الوقت.
٣٣
أما الأمر الآخر للدلالة على قيام صنوع بالتزوير؛ أن توقيع الإهداء جاء هكذا: «جمال
الدين الحسيني الأفغاني»، علمًا بأن جميع توقيعات الأفغاني على جميع وثائقه الأصلية
المحفوظة بالقلعة، وكذلك وثائقه المنشورة في الكتب
٣٤ كانت تُكتب هكذا: «جمال الدين الحسيني» دون ذكر لكلمة «الأفغاني»!
وأيضًا غرابة كلمات الإهداء، مثل «الطريف … اللطيف … حبيبي»، تلك الكلمات التي لا
يستطيع أن يكتبها على إهداءٍ إنسانٌ سوي، فما بالنا بأنها للأفغاني! هذا بالإضافة
إلى
أن كلمتي «حبيبي الشيخ»، وكلمات التوقيع كُتبت بخط مختلف عن بقية الإهداء! ويستطيع
القارئ التحقق من هذا الموضوع برمته، عندما يرى صور الوثائق التالية:
(٣) بين المصادرة والنفي
تُعتبر الصحافة هي المجال الرابع الذي تطرق إليه صنوع أثناء تواجده في مصر، بعد قيامه
بالتدريس وريادته للمسرح وتكوينه ورئاسته للجمعيات الأدبية — تبعًا لمزاعمه في صحفه
ومذكراته. وهذا المجال هو المجال الوحيد الموثق لعمله في مصر، بل هو المجال الذي
عصف
بصنوع؛ لأن الخديو إسماعيل صادر جريدته المصرية، ونفاه من مصر إلى فرنسا، وظل بها
حتى
وفاته عام ١٩١٢. هذه هي نهاية صنوع في مصر كما جاءت في صحفه ومذكراته. ولنا ملاحظتان
على هذه النهاية؛ الأولى تتعلق بمصادرة جريدة صنوع في مصر من قِبَل الخديو، والأخرى
تتعلق بنفيه من مصر إلى فرنسا.
فأما بخصوص مصادرة الجريدة فإننا نجد يعقوب صنوع يؤكد هذه المصادرة في أكثر من موضع
في صحفه المنشورة بباريس.
٣٥ ومن الغريب أن المصادرة جاءت من قِبل الخديو! وكما هو معروف أن أية مصادرة
لأية صحيفة في مصر كانت جميع الصحف — وبالأخص الوقائع المصرية — تنشر خبر هذه المصادرة
في اليوم التالي مباشرة، مع تعليقات عن أسلوب الصحيفة المصادَرة وأسباب مصادرتها،
خصوصًا وإن كانت المصادرة من قبل الخديو!
فهل يتصور القارئ أن خبر مصادرة صحيفة صنوع لا وجود له في أية صحيفة مصرية طوال عام
١٨٧٨ وما قبله وما بعده؟!
وأكبر دليل على ذلك ما ذكره د. إبراهيم عبده عن هذه المصادرة قائلًا: «وما كان يمكن
أن يحتمل إسماعيل وبطانته صحافة من هذا اللون؛ فأغلق جريدة يعقوب … وقد بقي وحده
[أي
صنوع] في فرنسا إلى أن زامله أديب إسحاق في عهد الخديو توفيق، فقد أُغلقت صحيفتاه
«مصر» و«التجارة».»
٣٦
وعندما ذكر الدكتور خبر إغلاق صحيفتي أديب إسحاق وثَّق هذا الخبر من خلال جريدة
«الوطن» في ٢٢ / ١١ / ١٨٧٩. وهنا نتساءل: لماذا لم يوثق د. إبراهيم عبده أيضًا خبر
مصادرة صحيفة صنوع أسوة بصحيفتي أديب إسحاق؟! والإجابة تتمثل في أن هذه المصادرة
لم
تتحدث عنها أية صحيفة؛ لأنها كانت من مزاعم صنوع نفسه، وليس لها أي أساس أو تاريخ
في
مصر.
أما مسألة النفي، فنجد يعقوب صنوع يتناقض أمامها أكثر من مرة؛ فتارة يقول بنفيه من
قبل الخديو، وتارة أخرى يقول إنه سافر إلى باريس! وأقواله هذه جاءت من خلال محاوراته
ولعباته التياترية في صحفه.
٣٧
أما قوله الصريح في هذه المسألة فقد ذكره في مقدمة كتابه «البدائع المعرضية بباريس
البهية» عام ١٨٩٩، عندما قال: «… كل إنسان له مشرب لا يشبه الآخر، وإن كان من أب
وأم
واحدة، وكان مشربي القيام بالدفاع عن الإنسانية؛ ولذلك لما لم يرضني الاستبداد الذي
كان
جارٍ بالديار المصرية هجرت أوطاني واخترت عاصمة باريس مستقرًّا ومسكنًا، وكان إذ
ذاك في
زمن معرض سنة ١٨٧٨ مضى عليه عشرون عامًا.»
٣٨ وهذا يعني أن يعقوب صنوع لم يُنْفَ من مصر، بل سافر إلى باريس بمحض
إرادته.
وقد شعر بهذا التناقض د. إبراهيم عبده، عندما قال: «كيف نُفي الكاتب الكبير؟ لهذه
الواقعة أكثر من وجه، فالذي يقصه علينا التاريخ يبين أن الخديو تدخل عند قنصل إيطاليا
وانتزع منه الموافقة على إغلاق الصحيفة وطرد صاحبها من مصر،
٣٩ ويقول بول دوبنيير ومن جرى في فلكه من الكُتاب الفرنجة الذين كتبوا عن
المترجم له إن «أبو نظارة» نصح له أصدقاؤه القريبون من السلطة بالسفر من مصر، فأجاب
محذريه قائلًا: يجب إذن أن أغادر البلاد … وليعقوب في تاريخه الذي كتبه بنفسه حديث
آخر؛
فيقول: لما كنت في حماية الماسونية التي كان يخشاها الخديو إسماعيل كثيرًا، وفي رعاية
جميع القناصل الأوروبيين الذين كانوا يتلقون عليَّ دروس اللغة العربية؛ فإن مضطهدي
— أي
إسماعيل — لم يكن في استطاعته قتلي، ولكن بوصفه خديو مصر كان في مقدوره أن ينفيني،
ذلك
ما فعله بعد أن أفقدني، بغضبه عليَّ، كل تلاميذي، وقد ذهب إلى حد منعهم من دفع ما
عليهم
لي، فلم يكن ينتظرني في وطني بعد ذلك سوى الفقر، أما في الخارج فقد يبتسم لي القدر
ثانية، وهكذا يممت وجهي شطر المنفى.»
٤٠
ولا نعلم لماذا لم يحسم الدكتور هذا الأمر عندما وجد تناقضًا بين أقوال التاريخ وبين
أقوال المذكرات المشكوك في صحتها؟! وحسم الأمر في غاية البساطة؛ فمذكرات صنوع تقول
إنه
نُفي إلى فرنسا يوم ٢٢ / ٦ / ١٨٧٨.
٤١ وإذا علمنا أن العدد الأول من صحيفته في باريس صدر بتاريخ ٧ / ٨ / ١٨٧٨،
سيتضح لنا أن يعقوب صنوع سافر ولم يُنف؛ لأن من غير المعقول أن منفيًّا إلى فرنسا
يستطيع إصدار صحيفة بعد نفيه بشهر ونصف؛ فهذه الفترة من الممكن أن تمر على المنفي
دون
أن يجد له عملًا أو مأوًى!
هذا بالإضافة إلى أن الصحف المصرية في ذلك الوقت لم تأتِ بأية إشارة أو خبر عن نفي
صنوع، فمن المؤكد أن يعقوب صنوع سافر بمحض إرادته، ومن غير المستبعد أن يكون وهو
في مصر
قد اتفق مع آخرين على عمله وإصدار صحيفته في فرنسا.
٤٢ والدليل على ذلك أنه في آخر عدد من صحيفته في مصر بتاريخ ١٨ / ٥ / ١٨٧٨ —
وقبل سفره لفرنسا — قال «إنه مسافر باريس»، فكيف عرف صنوع أنه سُينفي قبل مصادرة
جريدته؟! هل كان يعلم الغيب؟!
وبالرغم من كل ما أوردناه، وبالرغم من شعور د. إبراهيم عبده بتناقض الأخبار بين نفي
صنوع وسفره، فإنه أقرَّ بالنفي رغم شكه الذي عبر عنه قائلًا: «إن يعقوب بن صنوع يروي
قصة نفيه في بساطة ووضوح، ويميل بي الخاطر إلى تصديق كثير من تفاصيلها، وإن كنت أعتقد
أنه بالغ فيما بعد في وصف وداعه وحزن الشعب له، وأجمل ما في هذه القصة الدقائق التي
سجَّلها صاحبها، فهو لا يعرض فيها قصته مع الخديو وحده، بل يمضي بنا إلى أشخاص آخرين
ما
كان يدور بخلدنا أن لهم به هذه الصلات الوثيقة.»
٤٣
وعندما يذكر الدكتور قصة بداية النفي، يقول: «… ويقول صنوع: من كتب قصة حياتي من
الوطنيين أن أيام سفري من القاهرة والإسكندرية كانت حدثًا وطنيًّا.» ويعلق الدكتور
في
الهامش على هذه العبارة قائلًا: «لم أعثر على مواطن كتب شيئًا من هذا الذي يرويه
أبو نظارة.»
٤٤
وعندما بدأ د. إبراهيم عبده سرد قصة النفي نفسها، وجدناه يقول: «ويحسن بنا ونحن نختم
هذا الفصل عن سيرة يعقوب بن صنوع في مصر أن نأذن له بكتابة سطوره الأخيرة، دون أن
نقتحم
عليه تفكيره أو دون أن نعترض سبيله غير أن من واجب المؤرخ أن يذكر في هذا الصدد رأيه
فيما نسبه المترجَم له إلى نفسه من مبالغات، وما نراه في السطور التالية لا يخلو
— في
رأيي — من المبالغة.»
٤٥
ورغم هذا الشك إلا أن الدكتور أصرَّ على سرد قصة النفي بصورة تفصيلية من خلال مذكرات
صنوع، قائلًا: ويقول صنوع: «كانت الجماهير مضطربة على غير عادتها، ولكن الذي أثر
في
نفسي حتى اغرورقت عيناي بالدموع هو وصول القطار إلى المحطات التي تقع بين القاهرة
والإسكندرية؛ حيث كان يقف بين الخمس والعشر دقائق، فكانت النساء تحضر الفاكهة ويرفعن
أولادهن إلى نافذة العربة لكي أباركهم، وكان الفلاحون يصيحون: «لا تسافر وتتركنا
بين
مخالب شيخ الحارة.» وهو الاسم الذي أطلقته على الخديو إسماعيل، ولما بلغت الإسكندرية
نزلت في ضيافة صديقي ألبير ماير … وفي التاسع والعشرين من يونية ١٨٧٨ رجاني مواطني
المصريون أن أتوجه إلى تمثال محمد علي الكبير الكائن في ميدان القناصل لأتقبل وداع
الشعب. إن ذلك المنظر المؤثر لن يمحوه كر الأيام. وأمام عيون جواسيس إسماعيل أخذ
سكان
المدينة من رجال وسيدات، أغنياء وفقراء، يمرون أمامي صامتين محيين متمنين لي السعادة
بصوت خفيض، وفي اليوم التالي حوالي الظهر ركبت السفينة «فريسينيه
FREYCINET» التي أقلعت بي إلى مارسيليا. لقد كان المشهد جليلًا، وقد
أراد الخديو أن يراني بنفسه وأنا أغادر البلاد؛ فمر راكبًا عربته وقد أحاط به حراسه،
في
الوقت الذي نزلتُ فيه إلى الزورق الذي سينقلني إلى السفينة. ولم تجرؤ الجماهير على
الهتاف ﺑ «يسقط إسماعيل» لكثرة عدد رجال الشرطة، فأخذت تصيح: «ليحيى أبو نظارة.»
وتعالت
النداءات بعد ذلك: «نريد نبوءة منك أيها الشيخ.» وأعترف أنني احترت فيما يجب عليَّ
أن
أقوله، ولكني شعرت كأن وحيًا ألهمني ووضع في فمي تلك العبارة: سوف يُنفى إسماعيل
بعد
سنة كما أُنفى أنا اليوم. وقد شاءت المصادفات أن تتحقق نبوءتي حرفيًّا؛ مما جعل الناس
في الشرق كله يلقبونني بالولي.»
٤٦
هكذا روى صنوع قصة طريقه إلى المنفى، وكأنه يروي قصة سفر زعيم من الزعماء، أو وليٍّ
من الأولياء، أو أحد أنداد الخديو، لدرجة أن الخديو ذهب بنفسه كي يتشفى من صنوع!
وشتان
بين هذا الوصف، ووصف الأفغاني لطريقة نفيه، بعد عام واحد من سفر صنوع.
٤٧
ومن الجدير بالذكر أن د. إبراهيم عبده شكك في تعليقه على وصف صنوع لقصة نفيه، قائلًا:
«زعم المترجَم له أن الناس خرجوا لوداعه رجالًا ونساء من جميع الطبقات، وما أظن أن
السيدات في سنة ١٨٧٨ كان في مقدورهن الخروج إلى الميادين والشوارع في مظاهرة أو شبه
مظاهرة، وقد نسي تقاليد بلاده … ثم تبدو المبالغة واضحة إذا دققنا في روايته عن وداع
الناس له في «ميدان القناصل» قبيل سفره بيوم أمام عيون إسماعيل من الجواسيس؛ فقد
ذكر أن
الناس حيَّوا بصوت خفيض خشية آذان أولئك العيون، ثم ذكر لنا أن اليوم التالي كان
حافلًا، فهتفت الناس له بحضور إسماعيل، وما أظن أن القوم الذين يخشون عيون الأمير
لا
يخشون الأمير نفسه! وربما تخيل الرجل قدره، وأنه كان جديرًا بهذا الوداع … وقد أيد
وجهة
نظرنا هذه بول دوبنيير فقال عنه: إن موليير مصر خلق لنفسه دورًا لا يخلو منه الزهو
والغرور. ويبعث على الاعتقاد بأن صنوع هو وحده قائد الحركة وواضعها والمتنبئ بحوادثها،
وهذه كلها أقوال لا تخلو من المغالاة والمبالغة التي تكثر عند الكُتاب.»
٤٨
وبالرغم من شكوك الدكتور العديدة،
٤٩ إلا أنه آمن بتاريخ صنوع إيمانًا عجيبًا، وصل إلى حد إعادة نشر كتابه «أبو
نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة وزعيم المسرح في مصر» بعد عامين فقط! بعد أن
قام
بحذف صفحات عديدة منه، وتلخيصه، ونشره تحت عنوان «الصحفي الثائر» عام ١٩٥٥. ليكون
الكتاب الخامس الذي يشير فيه الدكتور إلى صنوع، وأيضًا ليكون الكتاب الثاني الكامل
المنشور عن صنوع في مصر!
والغريب أن الدكتور لم يُشِرْ في مقدمة هذا الكتاب إلى أنه نسخة مُصغرة من كتابه
السابق، وتحدث في مقدمته وكأنه كتاب جديد، قائلًا: «هذا الكتاب سيرة لصحفي ثائر نادر
المثال في تاريخ الصحافة المصرية، ولم يكن في المقدور نشر هذه السيرة قبل ٢٣ يوليو
سنة
١٩٥٢؛ ذلك أن صاحبها كان سوط تأديب لبيت محمد علي، ومؤرخًا دقيقًا لفضائح العصر ومباذل
القصر.»
٥٠
وهكذا ظل تاريخ صنوع مُهيمنًا على كتابات د. إبراهيم عبده، حتى عام ١٩٧٨، عندما كتب
كتابه «الديمقراطية بين شيوخ الحارة ومجالس الطراطير»، ليكون الكتاب السادس في إنتاج
الدكتور الذي يتحدث فيه عن صنوع.
٥١
وبالرغم من هذه الكتب الستة، إلا أن كتاب «أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة
وزعيم المسرح في مصر» هو الأساس القوى، الذي جاء بعد كتاب طرازي، وأدخل يعقوب صنوع
في
تاريخ المسرح العربي؛ حيث إن هذا الكتاب كان أهم مرجع اعتمدت عليه جميع الكتابات
التي
جاءت بعده، وتحدثت عن صنوع.
وإذا كنا فيما سبق ناقشنا بشيء من التفصيل أول كتاب كُتب عن صنوع في البيئة العربية
من قِبَل د. إبراهيم عبده، إلا أننا سنتوقف عند محطات معينة أمام الدراسات التي كُتبت
عن صنوع بعد ذلك — تبعًا لتاريخ نشرها — وتحديدًا أمام المعلومات الجديدة التي تطرق
إليها أصحاب هذه الدراسات، مع الإشارة إلى الدراسات الأخرى، التي لم تأتِ بجديد.