الفصل الثامن عشر

أهدي هذا الفصل إلى متجر صوفيا بوكس متعدد اللغات في مدينة فانكوفر، ذلك المتجر المثير والمتنوع الزاخر بأفضل صور الثقافة الشعبية الغريبة والمثيرة من كافة الأنحاء. كان متجر صوفيا بجوار الفندق الذي كنت أقيم فيه أثناء زيارتي لفانكوفر لإلقاء محاضرة في جامعة سايمون فريزر، وأرسل لي القائمون على المتجر رسالة بريد إلكتروني لكي أعرج عليهم وأوقع الكتب التي كانوا يعرضونها بينما كنت في الجوار. عندما وصلت هناك، اكتشفت مجموعة نفيسة من الأعمال التي لم أرها من قبل في مجموعة مذهلة من اللغات، بدءًا من الروايات المصورة ووصولًا إلى الأبحاث الأكاديمية الضخمة، ويشرف عليها فريق عاملين حَسنِي الطباع (بل ومرحين أيضًا)، من الواضح أنهم كانوا يستمتعون بعملهم، الأمر الذي يدركه كل عميل يدخل من الباب.

***

مرَّ عليَّ وقت كانت أحبُّ الأمور فيه إلى قلبي على الإطلاق هي ارتداء حَرمَلة والذهاب إلى الفنادق، متظاهرًا أنني مصاص دماء خفي يحدق فيه الجميع.

الأمر معقد، وليس غريبًا مثلما يبدو لك. جمعت ألعاب تقمص الأدوار في إطار طبيعيٍّ أفضلَ عناصر لعبة «سجون وتنانين» ولعب الأدوار الدرامية ومؤتمرات الخيال العلمي.

أعلم أن ذلك قد لا يجعلها تبدو جذابة لك كما كانت في نظري وأنا في الرابعة عشرة من عمري.

أفضل الألعاب كانت تلك التي نمارسها في معسكرات الكشافة خارج المدينة: المئات من المراهقين من الجنسين، يواجهون ازدحام مرور يوم الجمعة، ويتبادلون القصص، ويلعبون بالألعاب التي تُحمل باليد، ويتفاخرون لساعات. بعد ذلك يترجلون عن المركبات ليقفوا وسط الحشائش أمام مجموعة من الرجال والسيدات الأكبر سنًّا يرتدون دروعًا سيئة مصنوعة في المنزل، متبعجة ومليئة بالخدوش، مثلما كان حال الدروع في الزمن الماضي، ليست كما تصورها الأفلام السينمائية، وإنما كما يبدو زي الجندي الذي ظل شهرًا في الأحراش.

كان هؤلاء الأفراد يتلقون أجرًا مقابل إدارة الألعاب، لكن لا يمكن أن تُعيَّن في هذه المهمة إلا إذا كنت من النوع الذي يمكن أن يؤديها دون مقابل. كانوا يقسموننا إلى فريقين بناءً على الاستبيانات التي كنا نملؤها سلفًا، ثم يخبروننا بمهام فريقنا بعد ذلك، مثل تقسيمنا لفريقَي بيسبول.

تحصل بعد ذلك على تعليمات توجيهية تشبه تلك التي يحصل عليها الجواسيس في الأفلام السينمائية؛ وتتضمن بداخلها هويتك، ومهمتك، والأسرار التي تعلمها عن المجموعة.

يلي ذلك العشاء: نيران متوهجة، لحم يتقلب في الأسياخ، توفو يئز على المقلاة (في شمال كاليفورنيا، النظام الغذائي النباتي ليس اختيارًا)، وأسلوب الأكل والشرب لا يمكن وصفه إلا بأنه شَرَهٌ.

يبدأ بعد ذلك المتحمسون في تقمص الشخصية التي يلعبونها. أول لعبة مارستها أديت فيها دور ساحر، فحملت كيسًا به العديد من أكياس حبات الفول التي من المفترض أن تمثل تعاويذ سحرية. فكنت عندما ألقي واحدًا منها، أصيح باسم التعويذة التي ألقيها (كرة نار، صاروخ سحري، مخروط ضوء)، ويسقط اللاعب أو «الوحش» الذي ألقيه عليه إذا نجحت في الرمية. وإن لم أنجح، كنا نلجأ أحيانًا إلى أحد المُحكِّمين للتسوية بيننا، بيد أننا كنا غالبًا نتحرى النزاهة في اللعب، فلا أحد يحب اللجوء لمُحكِّم وسيط.

وبحلول موعد النوم، نكون قد تقمصنا جميعًا الشخصيات التي من المفترض أن نلعبها. عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، لم أكن على يقين تام من نبرة الصوت التي من المفترض أن يتحدث بها الساحر، لكن كان بإمكاني أن أستشف بعض الأشياء عنها من الأفلام والروايات، فكنت أتحدث بنبرة صوت تتسم بالبطء والروية، مع الحفاظ على تعبير غامض مناسب على وجهي، والتفكير في أمور غامضة.

كانت المهمة الموكلَة إلينا معقدة؛ إذ كان علينا استعادة أثر مقدس سرقه غول عمد لإخضاع الناس لإرادته. لم يهم ذلك كثيرًا، وإنما ما كان يهم هو أنني لدي مهمة خاصة؛ ألا وهي الإمساك بعفريت صغير ليعمل مساعدًا لي، وهناك أيضًا خَصْمٌ سري عتيد، وهو لاعب آخر في الفريق شارك في غارة قُتِلت فيها أسرتي عندما كنت طفلًا صغيرًا ولا يعلم بأنني سأعود عازمًا على الانتقام. كان هناك، بالطبع، في مكان ما لاعب آخر يكِّن لي الضغينة نفسها، ومن ثم كان عليَّ دومًا الاحتراس من أن أُطعن من الخلف، أو يُدَسَّ لي طعام مسموم.

على مدار اليومين التاليين، مارسنا اللعبة. مرت بعض الأوقات في نهاية الأسبوع كان اللعب فيها مثل الغمضية، وأخرى مثل تمارين النجاة في البرية، وأخرى مثل حل ألغاز الكلمات المتقاطعة. وكان أداء الفائزين رائعًا. ولا بد أن تكون صديقًا للآخرين في المهمة. كان داريل الهدف في أول جريمة قتل أرتكبها، وقد بذلت أقصى جهدي في تلك المهمة، رغم أنه كان صديقي. كان شخصًا لطيفًا، كم كنت آسفًا لاضطراري أن أقتله.

ألقيت عليه كرة النار أثناء بحثه عن الكنز بعد قضائنا على مجموعة من الوحوش، بممارسة لعبة «حجر – ورقة – مقص» مع كل وحش لتحديد من سيفوز في الصراع. هذا أكثر متعة مما يبدو عليه.

كان الأمر أشبه بمعسكر صيفي لعشاق الدراما؛ فقد كنا نتحدث حتى أوقات متأخرة من الليل في الخيام، ونتطلع للنجوم، ونقفز في النهر عند شعورنا بالحرارة، ونضرب البعوض بأيدينا؛ فتجمع بيننا بعد ذلك صداقة حميمة، أو عداء أبدي.

لا أعلم لماذا أرسل والدا تشارلز ابنهما لممارسة ألعاب تقمص الأدوار في إطار طبيعي، فلم يكن من النوع الذي يستمتع حقًّا بهذه الأنشطة، وإنما بأنشطة سادية مثل نزع أجنحة الذباب. وربما لا، لكنه لم يكن من النوع الذي يمارس لعبة في الغابات مرتديًا زيًّا تمثيليًّا. قضى تشارلز وقته في المعسكر متسكعًا في الأرجاء، مستهزئًا بكل شيء وكل شخص، محاولًا إقناع الجميع أننا لا نقضي وقتًا جيدًا كما نظن. لا ريب أنك قد قابلت هذا النوع من الناس من قبل، هذا النوع الذي يسعى دومًا لأن يؤكد أن الجميع غيره يقضون وقتًا سيئًا.

مشكلة تشارلز الأخرى هي أنه لم يكن باستطاعته استيعاب فكرة الصراع الزائف؛ فما إن تبدأ بالجري في الغابة، وتمارس هذه الألعاب الموسعة شبه العسكرية حتى يصبح من السهل للغاية أن تتحمس لدرجة قد تمزق فيها عنق شخص آخر. وليس هذا بالأمر الجيد عندما تحمل سيفًا أو هراوة أو رمحًا أو أية أداة أخرى غير حقيقية؛ ولذلك، لا يُسمَح أبدًا بالضرب في هذه الألعاب تحت أي ظرف. فعندما تقترب من أي شخص لمقاتلته، تبدأ سريعًا دورين للعبة «حجر – ورقة – مقص» مع التعديلات بناءً على خبرتك، وأسلحتك، وحالتك. ويسوي المحكِّمون الخلافات. فالأمر متحضر تمامًا، وغريب بعض الشيء. تركض خلف شخص ما في الغابة، وتمسك به، وتكشر عن أنيابك، ثم تجلسان معًا لتلعبا «حجر – ورقة – مقص»! لكنه ناجح، ويحافظ على المتعة والسلامة للجميع.

ما كان بإمكان تشارلز استيعاب ذلك في الحقيقة. أعتقد أنه كان قادرًا تمامًا على فهم أن القاعدة هي عدم التلامس، لكنه في الوقت نفسه قرر أن القاعدة لا تهم، وأنه لن يتقيد بها. طالبه بها المحكِّمون عدة مرات أثناء نهاية الأسبوع، وظل يعدهم بالالتزام بها، ويحنث بعهده بعد ذلك. كان من أضخمنا بنية هناك، ويحب طرح الآخرين أرضًا «مصادفةً» في نهاية أي سباق. ولا يكون الأمر ممتعًا عندما تقع على أرض غابة تملؤها الصخور.

كنت قد سددت ضربة قاتلة لداريل في أرض صغيرة مقطوعة الشجر في الغابة حيث كان يبحث عن الكنز، وأخذنا نضحك قليلًا على براعتي في التعقب خلسة. وشرع داريل في لعب دور أحد الوحوش كان بإمكان اللاعبين المقتولين الانتقال لممارسة دور الوحوش، ما عنى أنه كلما طالت مدة اللعب، زاد عدد الوحوش التي تطاردك، الأمر الذي عنى بدوره أن الجميع كان عليهم الاستمرار في اللعب، وصارت معارك اللعبة أكثر ملحمية.

حينذاك، خرج تشارلز خلفي من الأحراش، وطرحني أرضًا بقوة، فلم أتمكن من التنفس للحظات. صاح: «أمسكت بك!» لم أعلم أنه هو إلا قبل أن يصيح بلحظات. لم أهتم به كثيرًا قبل ذلك الحين، لكنني كنت على استعداد لقتله آنذاك. نهضت ببطء لأقف على قدميَّ، ونظرت إليه وهو يلهث ويقول مبتسمًا: «أنت هالك لا محالة، لقد نلت منك!»

ابتسمت، وشعرت بألم في وجهي. لمست شفتي العليا، فوجدتها ملطخة بالدماء. كان أنفي يدمى وشفتي مجروحة؛ إذ جرحها جذر وقعت عليه بوجهي عندما طرحني تشارلز أرضًا.

مسحت الدم في بنطالي، وابتسمت. تظاهرت بظني أن ما حدث كان مزحة. ضحكت قليلًا، وسرت نحوه.

لم ينخدع تشارلز بذلك، وبدأ يتراجع بالفعل محاولًا الاختفاء بين الأشجار. تحرك داريل لمهاجمته من أحد جانبيه، في حين هاجمته أنا من الجانب الآخر، لكنه استدار فجأة وركض. عرقله داريل، وأسقطه لينبطح أرضًا. هجمنا عليه سريعًا لنسمع في تلك اللحظة صفارة أحد المحكمين.

لم ير المحكم تشارلز وهو يخالف قواعد اللعبة معي، لكنه رأى أداء تشارلز في عطلة نهاية الأسبوع تلك. أعاد تشارلز إلى مدخل المعسكر، وأخبره أنه خارج اللعبة. احتج تشارلز بقوة، لكن المحكِّم لم يستمع إلى أيٍّ مما كان يقوله، الأمر الذي أسعدنا. وما إن أُبعِد تشارلز حتى أخذ المحكِّم يوبخنا نحن أيضًا، مخبرًا إيانا أن انتقامنا لم يكن مبرَّرًا شأنه شأن هجوم تشارلز علينا.

سار الأمر على ما يرام. وفي تلك الليلة، ما إن انتهت الألعاب حتى حصلنا جميعًا على حمام ساخن في حمامات الكشافة. سرقت أنا وداريل ملابس تشارلز ومنشفته. ربطناها في عقد وألقينا بها في المبولة. سعد الكثير من الفتية بالمشاركة في نقع ملابسه معنا في المبولة؛ فقد كان تشارلز متحمسًا في طرح الآخرين أرضًا.

كم كنت أتمنى أن أراه وهو يخرج من الدُّش ليكتشف ما حدث لملابسه، فالقرار صعب: إما أن تجري عاريًا بأنحاء المعسكر، أو تفك العُقَد المحكَمة المبللة بالبول في ملابسك، وترتديها.

فاختار تشارلز العري. ولعلني كنت سأختار الشيء ذاته لو كنت مكانه. اصطففنا جميعًا على الطريق بين الحمامات والسقيفة حيث الحقائب، وأخذنا نصفق له. تقدمت الصف والتصفيق.

•••

لم تكن معسكرات الكشافة بعطلات نهاية الأسبوع تقام سوى ثلاث أو أربع مرات في العام، ما جعلني أنا وداريل — وكثيرين غيرنا من ممارسي ألعاب تقمص الأدوار في إطار طبيعي — نعاني من افتقار شديد لهذه الألعاب في حياتنا.

لكن لحسن الحظ كانت تُمارَس في فنادق المدينة ألعاب «ضوء الشمس اللعين»، وهي نوع آخر من ألعاب تقمص الأدوار في إطار طبيعي بين جماعات متنافسة من مصاصي الدماء وصائديهم. وكانت لها قواعد غريبة. يحصل اللاعبون على بطاقات لتساعدهم في تسوية المناوشات، ومن ثم فإن كل مناوشة تتضمن القليل من ممارسة لعبة ورق استراتيجية. ويمكن لمصاصي الدماء أن يصبحوا غير مرئيين بتغطية أنفسهم، ووضع أذرعهم متقاطعة على صدورهم، وعلى جميع اللاعبين الآخرين التظاهر بأنهم لا يرونهم، والاستمرار في محادثاتهم بشأن خططهم وما إلى ذلك. والاختبار الحقيقي للاعب الماهر هو ما إذا كنت أمينًا بما فيه الكفاية لتكشف أسرارك أمام المنافس «غير المرئي» دون التصرف وكأنه في الغرفة.

كانت تُقام لعبة «ضوء الشمس اللعين» بشكل واسع مرتين كل شهر، وكان منظمو اللعبة على علاقة جيدة بفنادق المدينة، ويعلنون عن أنهم سيشغلون عشر غرف غير محجوزة ليلة الجمعة، ويملئونها باللاعبين الذين يركضون في أنحاء الفندق، ويمارسون لعبة «ضوء الشمس اللعين» ممارسة هادئة في الأروقة، وحول حوض السباحة، وما إلى ذلك، ويتناولون الطعام في مطعم الفندق، ويدفعون مقابل استغلال شبكة الواي فاي بالفندق. كانوا يغلقون باب الحجز بعد ظهيرة يوم الجمعة، ويرسلون لنا بريدًا إلكترونيًّا، ونتوجه مباشرةً من المدرسة إلى الفندق الذي يختارونه ومعنا حقائب الظهر لننام ستة أو ثمانية أفراد في الغرفة في عطلة نهاية الأسبوع، ونعيش على الأغذية السريعة، ونلعب حتى الثالثة صباحًا. كانت وسيلة متعة جيدة وآمنة حتى إن آباءنا كانوا يشجعوننا على ممارستها.

كان المنظمون جهة خيرية تعليمية شهيرة تقيم ورش عمل تعليم الكتابة والدراما وما إلى ذلك للصغار. واستمرت إدارتهم للألعاب لعشر سنوات دون وقوع أي حادث؛ فلم تكن هناك أية خمور أو مخدرات حتى لا يُلقَى القبض على المنظمين بسبب فساد بعض القُصَّر. وكان عدد اللاعبين يصل ما بين عشرة إلى مائة، حسب نهاية الأسبوع. وبمقابل تكلفة مشاهدة فيلمين سينمائيين، يمكنك الحصول على متعة خالصة لمدة يومين ونصف.

لكن في أحد الأيام، حالفهم الحظ في الحصول على مجموعة غرف في موناكو، وهو فندق بحي تِندرلوين الذي يقدم خدماته للسائحين كبار السن من مدعي المعرفة بالفن؛ حيث تتضمن كل غرفة حوضًا به أسماك ذهبية، ويمتلئ رواق الاستقبال بأناس كبار في السن بهيِّي الطلعة حَسنِي الملبس، يتباهون بنتائج العمليات التجميلية التي خضعوا لها.

عادةً ما كان الأرضيون — الاسم الذي كنا نطلقه على غير اللاعبين — يتجاهلوننا؛ إذ ينظرون إلينا على أننا شباب عابثون. لكن في نهاية الأسبوع تلك، تصادف وجود محرر بإحدى المجلات السياحية الإيطالية، واهتم بما كنا نفعله. أوقفني عند أحد الأركان أثناء سيري خِلسة في الرواق، آملًا في تحديد مكان قائد الفريق المنافس لي، والانقضاض عليه، ومصِّ دمائه. كنت أقف قبالة الحائط مع طي ذراعيَّ على صدري، متظاهرًا بأنني غير مرئي، عندما اقترب مني ذلك المحرر وسألني بإنجليزية بلكنة غريبة عما كنت أنا أفعله مع أصدقائي في الفندق في عطلة نهاية الأسبوع تلك.

حاولت صدَّه، لكنه لم يتراجع؛ لذلك فكرت في اختلاق قصة ما ليرحل عني.

لم أتخيل أنه سينشر ما قلته، أو تتداوله الصحافة الأمريكية بالفعل.

قلت له: «نحن هنا لأن أميرنا مات، فكان علينا المجيء إلى هنا للبحث عن حاكم جديد.»

«أمير؟»

فأجبته متماديًا في التظاهر: «نعم، نحن «الشعب القديم». جئنا إلى أمريكا في القرن السادس عشر، وتأسست منذ ذلك الحين عائلتنا الملكية في غابات بنسلفانيا. نعيش حياة بسيطة في الغابات، ولا نستخدم التكنولوجيا الحديثة. لكن الأمير كان آخر فرد في الأسرة الحاكمة، وتوفي الأسبوع الماضي جراء مرض مسبب للهزال. فخرج شباب عشيرتي للعثور على سلالة عمه الأكبر الذي كان قد ترك العشيرة لينضم للمجتمع المتحضر في عصر جدي. ويُقال إنه أنجب، ومن ثم سنعثر على آخر أفراد سلالته ونعيدهم إلى وطنهم الصحيح.»

لقد قرأت الكثير من روايات الفانتازيا، فاختلقت تلك القصة بسهولة.

«عثرنا على امرأة تعلم أفراد هذه السلالة، وأخبرتنا أن أحدهم يقيم في هذا الفندق؛ ولذلك جئنا للعثور عليه. لكن تتبعتنا جماعة منافسة تسعى لمنعنا من جلب أميرنا للديار، والإبقاء علينا ضعفاء تسهل السيطرة علينا؛ ومن ثم، يلزم علينا الحفاظ على السرية، فلا نتحدث إلى «الشعب الجديد» إذا استطعنا ذلك. والتحدث معك الآن يسبب لي إزعاجًا شديدًا.»

نظر إليَّ نظرة ماكرة. كنت قد حررت يديَّ، ما عنى أنني صرت «مرئيًّا» لمصاصي الدماء المنافسين، وكانت إحدى مصاصات الدماء تتسلل ببطء آنذاك ناحيتنا. وفي اللحظة الأخيرة، استدرت ورأيتها وهي باسطة ذراعيها وتصدر صوت استهجان ناحيتنا مع رفعه بشدة.

فتحت ذراعيَّ، ورددت عليها بصوت استهجان، ثم ركضت عبر الرواق قافزًا فوق أريكة جلدية وملتفًّا حول أصيص جعلها تطاردني. اكتشفت طريقًا للهروب عبر بئر السلم وصولًا للنادي الصحي في الدور السفلي، فسلكته وهربت منها.

لم أر ذلك المحرر ثانيةً في عطلة نهاية الأسبوع تلك، لكنني رويت ما حدث لأحد رفاقي في لعبة تقمص الأدوار في إطار طبيعي، وقد أضاف مبالغات لها ورواها مرات عدة على مدار نهاية الأسبوع.

كانت هناك محررة في المجلة الإيطالية أعدت رسالة الماجستير الخاصة بها عن جماعات الآميش المناهضة للتكنولوجيا في ريف بنسلفانيا، ورأت قصتنا مثيرة للاهتمام بشدة. واعتمادًا على الملاحظات واللقاءات المسجلة على شرائط لرئيسها في العمل أثناء رحلته بسان فرانسيسكو، كتبت تلك المحررة مقالًا مذهلًا ومحزنًا عن أهالي العشيرة المراهقين غريبي الأطوار الذين قطعوا أمريكا باحثين عن «أميرهم». يا إلهي! يمكن نشر أي شيء هذه الأيام.

لكن الفكرة أن مثل هذه القصص يتم تداولها وإعادة نشرها. أولًا: المدونون الإيطاليون، ثم بعض المدونين الأمريكان. أبلغ الناس بجميع أنحاء البلاد عن رؤيتهم لأفراد «الشعب القديم». ولا أعلم ما إذا كانوا يختلقون ذلك، أم أن آخرين كانوا يمارسون اللعبة ذاتها.

انتشرت القصة في وسائل الإعلام وصولًا لصحيفة «نيويورك تايمز» التي تهتم كثيرًا — لسوء الحظ — بالتحقق من حقيقة الأخبار. والمحرر الذي تولى الخبر فيها وصل في النهاية إلى فندق موناكو الذي أوصله بمنظمي ألعاب تقمص الأدوار في إطار طبيعي، والذين أفصحوا له عن كل شيء وهم يضحكون.

عندئذٍ، صارت ممارسة تلك الألعاب أقل إثارة للاهتمام. وصرنا نُعرَف بأكبر المخادعين في البلاد، وبأننا نعاني من كذب مرضي وبأننا غريبو الأطوار. والصحافة التي خدعناها دون قصد وتناولت قصة «الشعب القديم» صارت آنذاك مهتمة بتبرئة نفسها عن طريق الإخبار عن مدى غرابتنا كممارسين لهذه الألعاب. حينذاك، أخبر تشارلز الجميع في المدرسة أنني وداريل أهم لاعبين لتلك الألعاب في المدينة.

لم تكن تلك الفترة جيدة بالنسبة لي. بعض أعضاء الفريق لم يهتموا بما حدث، لكننا اهتممنا. فكانت المضايقات عديمة الرحمة، وتزعمها تشارلز. فعثرت على مخالب بلاستيكية في حقيبتي، وأخذ بعض الشباب في المدرسة يصدرون أصواتًا كأصوات مصاصي الدماء في أفلام الكرتون استهزاءً بي كلما مررت بهم، أو يتحدثون بلهجة أهالي ترانسيلفانيا (موطن دراكولا) عند وجودي بجوارهم.

بعد ذلك بفترة وجيزة، انتقلنا لألعاب الواقع البديل. كانت أكثر متعة من نواحٍ عدة، وأقل غرابة جدًّا. لكنني كنت أشعر بحنين، بين الحين والآخر، لارتداء حرملة مصاصي الدماء وقضاء عطلات نهاية الأسبوع في الفندق.

•••

إن المضاد لمفهوم «روح السُّلَّم» هو عودة المواقف المحرجة في الحياة لأذهاننا كثيرًا، حتى بعد مرور فترة طويلة على وقوعها. يمكنني تذكر كل شيء أحمق قلته أو فعلته، وبوضوح كامل. فعندما كنت أشعر بالإحباط، كنت أبدأ في تذكر اللحظات الأخرى التي راودني فيها الشعور ذاته، وتتتابع صور الإهانات واحدة تلو الأخرى في عقلي.

فبينما كنت أحاول التركيز على ماشا وهلاكي الوشيك، ظلت تطاردني ذكريات حادثة «الشعب القديم». فراودني آنذاك شعور غامر مماثل بالهلاك، فبتزايد تداول الصحافة لقصتي، تزايد احتمال اكتشاف شخص ما لحقيقة أنني من اختلقت القصة التي أخبرتها للمحرر الإيطالي الغبي الذي كان يرتدي بنطال جينز يحمل اسم مصمم أزياء شهير به درزات معقوفة، وقميصًا منشًّى بلا ياقة، ونظارة كبيرة الحجم بإطار معدني.

ثمة ما يمكنك فعله بدلًا من التركيز على أخطائك؛ ألا وهو التعلم منها.

نظرية جيدة على أية حال. فلعل سبب استعادة عقلك الباطن لكل هذه الذكريات البائسة هو رغبته في التخلص منها حتى لا ترد على ذهنك ثانيةً. ظل عقلي الباطن يعيد عليَّ هذه الذكريات على أمل أن أفعل شيئًا لأنساها تمامًا.

طوال الطريق للمنزل، سيطرت عليَّ تلك الذكرى، وفكرة ما كان عليَّ فعله بشأن «ماشا» في حال كانت تتلاعب بي. أردت تأمينًا ما.

وعندما وصلت إلى المنزل — وغمرتني الأحضان الحزينة من أبي وأمي — توصلت إلى الحل.

•••

تمثلت الحيلة في ضبط الوقت لكي يحدث ذلك سريعًا على نحو لا تتمكن معه وزارة الأمن الوطني من الاستعداد له، لكن مع تحديد فترة انتظار طويلة بما فيه الكفاية ليكون لدى مستخدمي شبكة إكس نت ما يكفي من الوقت للتجمع معًا في مكان واحد.

تمثلت الحيلة في إعداد ذلك بحيث يحول عددنا الكبير دون القبض علينا جميعًا، وأن يكون ذلك في مكان ما يستطيع الصحافة والبالغون رؤيته، وبذلك لا تتمكن وزارة الأمن الوطني من مهاجمتنا بالغاز ثانيةً.

تمثلت الحيلة في التوصل إلى شيء يؤيده الإعلام مثل رفع البنتاجون في الهواء، وفي إعداد شيء يمكننا التجمع حوله، مثل طلاب بيركلي البالغ عددهم ٣٠٠٠ طالب، الذين رفضوا السماح بأن يعتقل أيٌّ منهم ويُزج به إلى داخل سيارة شرطة.

تمثلت الحيلة في وضع الصحافة هناك لتكون على استعداد لأن تعلن عما فعلته الشرطة مثلما فعلت في عام ١٩٦٨ في شيكاجو.

وسوف تكون هناك خدعة ما.

غادرت المدرسة مبكرًا ساعة في اليوم التالي، مستخدمًا أساليبي الاعتيادية للخروج منها، مع عدم الاهتمام بما إذا كان ذلك سيثير نوعًا جديدًا من أساليب مراقبة وزارة الأمن الوطني من شأنه أن يؤدي لحصول والديَّ على إخطار ما.

على أية حال، آخر ما كان سيفكر فيه والداي بعد الغد هو ما إذا كنت أعاني من مشكلة في المدرسة أم لا.

التقيت بآنج في منزلها. كان عليها الخروج من المدرسة في موعد أسبق مني، لكنها تظاهرت بإصابتها بمغص مؤلم وأنها أوشكت على أن يغشى عليها، فأرسلوها إلى المنزل.

بدأنا في نشر الخبر على شبكة إكس نت. أرسلناه بالبريد الإلكتروني إلى أصدقائنا موضع الثقة، وأرسلته في رسائل فورية إلى قوائم أصدقائنا المقربين. تجولنا بجميع أرجاء لعبة «كلوك وورك بلاندر» وأطلعنا رفاقنا في الفريق. كانت هناك صعوبة في منح الجميع معلومات كافية ليحضروا الحدث، لكن ليس بما فيه الكفاية لفضح أنفسنا أمام وزارة الأمن الوطني، لكن أعتقد أنني حققت التوازن الصحيح:

«تجمع مصاصي الدماء غدًا.»

«إذا كنت قوطيًّا، فلترتدِ ملابس مبهرة. وإذا لم تكن قوطيًّا، فاعثر على قوطي، واقترض منه بعض الملابس. لتفكر كما لو كنت مصاص دماء.»

«يبدأ اللعب الساعة الثامنة صباحًا بالضبط. لتحضروا جميعًا وتتأهبوا للتقسيم إلى فرق. تستمر اللعبة لمدة ثلاثين دقيقة، ومن ثم سيكون لديكم متسع من الوقت للرجوع للمدرسة بعد ذلك.»

«سنعلن عن المكان غدًا. لترسلوا مفاتيحكم العامة على العنوان التالي: [email protected]، وتتحققوا من رسائلكم الساعة السابعة صباحًا للاطلاع على أي تحديث. وإذا كان ذلك مبكرًا للغاية في نظركم، فلتظلوا دون نوم طوال الليل. هذا ما سنفعله.»

«ستكون هذه أفضل متعة تحصلون عليها طوال العام … أضمن لكم ذلك.»

«صدقوني.»

«مايكي»

أرسلت بعد ذلك رسالة قصيرة إلى ماشا:
«غدًا»
«مايكي»
فأرسلت لي الرد بعد دقيقة:

«هكذا ظننت. تجمع مصاصي دماء، أليس كذلك؟ إيقاعك سريع. ارتدِ قبعة حمراء، وخفف من أمتعتك.»

ماذا تحمل معك عند الهروب؟ حملت من الحقائب الثقيلة في معسكرات الكشافة ما يكفي لأن أعرف أن كل جرام زائد يضيف لما يقع على عاتقك من حمل بكل ما يعنيه ذلك من قوة جاذبية ساحقة تزيد مع كل خطوة تخطوها … لا يكون ذلك جرامًا واحدًا، وإنما جرام تحمله لملايين الخطوات. إنه طن.

قالت آنج: «نعم، معك حق. ولا يجدر بك أن تأخذ من الملابس ما يكفي لأكثر من ثلاثة أيام، فيمكنك غسل ملابسك في أي حوض. فأن تكون هناك بقعة على التي شيرت الخاص بك أفضل من أن تحمل حقيبة أكبر وأثقل من أن تستطيع إخفاءها تحت مقعد الطائرة.»

كانت قد خلعت حقيبة كتف من النايلون الباليستي، والتي كانت تمر حمالتها على صدرها بين نهديها — ما جعلني أتعرق قليلًا — وتتعلق بانحراف على ظهرها. اتسمت تلك الحقيبة باتساعها من الداخل. وضعتها على السرير، وأخذت تكدس الملابس بها الآن.

«أعتقد أن ثلاثة تي شيرتات وبنطالًا وبنطالًا قصيرًا وثلاث قطع ملابس داخلية وثلاثة أزواج من الجوارب وسترة واحدة؛ ستفي بالغرض.»

أخرجت محتويات حقيبة الألعاب الرياضية خاصتها، والتقطت مساحيق التجميل، وقالت: «سأتذكر وضع فرشاة الأسنان صباح غد قبل التوجه إلى مركز المدينة.»

كانت مشاهدتها أثناء حزمها لحقائبها مثيرة للإعجاب؛ فقد اتسمت آنج بقوتها. كان أمرًا مخيفًا أيضًا؛ إذ جعلني أدرك أنني سأرحل في اليوم التالي. وربما يكون ذلك لفترة طويلة، وربما للأبد.

سألتني: «هل أحضر جهاز إكس بوكس الخاص بي؟ فثمة أمور كثيرة أحتفظ بها على محرك الأقراص الصلبة: ملاحظات ومسودات وبريد إلكتروني. لا أريد أن تقع هذه الأشياء في الأيدي الخطأ.»

فأجبتها: «جميعها أمور مشفرة. هذا المعتاد مع نظام «بارانويد إكس بوكس». فلتتركي جهاز الإكس بوكس، سنجد الكثير من هذه الأجهزة في لوس أنجلوس. عليكِ فقط بإنشاء حساب بحزب القراصنة، وإرسال رسالة بريد إلكتروني لنفسك تحمل نسخة من محرك الأقراص الصلبة. هذا ما سأفعله أنا أيضًا عندما أعود للمنزل.»

ففعلت ما أخبرتها به، وانتظرت إرسال الرسالة. كان الأمر سيستغرق بضع ساعات لتُضغَط البيانات عبر شبكة الواي فاي الخاصة بأحد جيرانها، وتصل إلى السويد.

أغلقت بعد ذلك غطاء الحقيبة، وأحكمت غلق أربطة الضغط. وبذلك، صار يتدلى على ظهرها شيء بحجم كرة القدم. حدقت فيه بإعجاب. يمكنها السير في الشارع وهذه الحقيبة تحت كتفها، ولن يلتفت أحد إليها؛ فهي تبدو كما لو كانت في طريقها للمدرسة.

«بقي شيء واحد»، قالت ذلك وتوجهت ناحية الطاولة الموجودة بجوار السرير، وأخرجت كيس العوازل الذكرية. أخرجتها من الكيس، وفتحت الحقيبة ووضعتها بداخلها، ثم ضربتني على مؤخرتي.

قلت لها: «والآن، ماذا؟»

«الآن، نذهب إلى منزلك، ونحزم أغراضك. حان الوقت لألتقي بوالديك، أليس كذلك؟»

تركت الحقيبة وسط أكوام الملابس والأشياء المهملة المبعثرة على الأرض، وكانت مستعدة لأن تترك كل شيء وتهرب، فقط حتى تبقى معي، حتى تدعم قضيتنا. وقد جعلني هذا أشعر بالشجاعة أيضًا.

•••

كانت أمي لا تزال في المنزل عند وصولنا، وكانت قد فتحت الكمبيوتر المحمول الخاص بها على مائدة المطبخ، وأخذت ترد على البريد الإلكتروني أثناء التحدث في سماعة الرأس المتصلة بالكمبيوتر. كانت تساعد أحد الرجال من يوركشاير وعائلته في التأقلم مع العيش في لويزيانا.

دخلت من الباب، وتبعتني آنج، وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهها كالمجانين، لكن مع إحكام قبضتها على يدي في الوقت نفسه حتى إنني شعرت بطحن عظامي لبعضها البعض. لم أعلم ما كان يقلقها إلى هذا الحد، فما كانت ستقضي وقتًا طويلًا مع والدَيَّ بعد ذلك، حتى وإن لم تنجح الخطة.

أنهت أمي الحديث مع الرجل عند دخولنا.

قالت لي وهي تقبلني على وجنتي: «مرحبًا يا ماركوس. من هذه؟»

«أمي، هذه آنج. آنج، هذه أمي ليليان.» وقفت أمي وعانقت آنج.

وقالت وهي تنظر لها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها: «سعدت للغاية بلقائك عزيزتي.» أعتقد أن مظهر آنج كان مقبولًا للغاية؛ فقد كانت ملابسها جيدة وبسيطة، ومظهرها يعكس ما هي عليه من فطنة.

قالت آنج بصوت تملؤه الثقة بالنفس: «سعدت بلقائك يا سيدة يالو.» كانت أفضل مني بكثير مقارنة بما كنت عليه عندما التقيت بوالدتها.

فردت عليها أمي قائلةً مع تفحصها جيدًا: «لتناديني ليليان يا عزيزتي. هل ستتناولين العشاء معنا؟»

«أحب ذلك.»

«هل تأكلين اللحم؟» تأقلمت أمي للغاية مع العيش في كاليفورنيا.

«آكل أي شيء لا يأكلني أولًا.»

فقلت: «إنها مدمنة صلصة حارة. يمكنكِ أن تقدمي لها إطارات قديمة، وستأكلها إذا طهوتها في صلصة حارة.»

فلكمتني آنج لكمة خفيفة في كتفي.

قالت أمي: «كنت سأطلب طعامًا تايلانديًّا. سأضيف إلى الطلب طبقين حارين.»

شكرتها آنج بأدب، وانطلقت أمي في ابتهاج بأنحاء المطبخ لتحضر لنا كوبي عصير وطبقًا من البسكويت. وسألتنا ثلاث مرات إذا كنا نريد بعض الشاي. ارتبكت قليلًا.

قلت لها: «شكرًا يا أمي. سنصعد إلى أعلى قليلًا.»

ضاقت عينا أمي لحظات، ثم ابتسمت ثانيةً، وقالت: «بالطبع، سيأتي والدك في خلال ساعة، وحينها سنأكل.»

كانت جميع أغراض لعبة مصاصي الدماء مكوَّمة في الجزء الخلفي من خزانتي. سمحت لآنج بفحصها واختيار الأنسب منها بينما أنا فعلت ذلك مع ملابسي. لم أكن ذاهبًا لمكان أبعد من لوس أنجلوس حيث المتاجر وكل ما قد أحتاج إليه من ملابس. وبالتالي، كل ما كنت بحاجة إليه هو جمع ثلاثة أو أربعة تي شيرتات أفضِّلها، وبنطالي المفضل، ومزيل للعرق، وخيوط لتنظيف الأسنان.

صحت: «مال!»

فقالت آنج: «نعم، سأسحب كل ما في حسابي المصرفي أثناء عودتي للمنزل من إحدى ماكينات الصرف الآلي. تبلغ مدخراتي نحو خمسمائة دولار تقريبًا.»

«حقًّا؟»

«علام سأنفقها؟ منذ استخدامي لشبكة إكس نت، ولم أعد بحاجة لدفع أي رسوم خدمة.»

«أعتقد أن معي نحو ثلاثمائة دولار.»

«حسنًا! لتسحبها في طريقنا إلى مركز المدينة صباحًا.»

كانت لدي حقيبة كتب كبيرة أستخدمها عند التنقل بأغراض كثيرة بأنحاء المدينة، فكانت أقل وضوحًا من حقيبة التخييم خاصتي. فحصت آنج أكوام أغراضي بعنف، واختارت من بينها ما تفضله.

وما إن حزمنا الحقيبة ووضعناها تحت السرير حتى جلسنا معًا عليه.

قالت آنج: «يلزم علينا الاستيقاظ مبكرًا للغاية غدًا.»

«نعم، الغد يوم مهم.»

كانت الخطة هي إرسال رسائل توضح مجموعة من المواقع الزائفة لتجمع مصاصي الدماء غدًا، مع بعث اللاعبين إلى مواقع معينة تبعد عن مركز المدينة بضع دقائق سيرًا على الأقدام. أعددنا روسمًا للطلاء بالرش، عليه عبارة «مركز المدينة لتجمع مصاصي الدماء». وعزمنا على طلائه في تلك المواقع الساعة الخامسة صباحًا تقريبًا. كان ذلك من شأنه أن يحول دون إغلاق وزارة الأمن الوطني لمركز المدينة قبل أن نصل إلى هناك. كان نظام الرد الآلي على رسائل البريد الإلكتروني الخاص بي مستعدًّا لإرسال الرسائل في السابعة صباحًا، وكل ما عليَّ هو الإبقاء على جهاز إكس بوكس الخاص بي قيد التشغيل عند خروجي.

قالت آنج: «كم من الوقت …» ثم تراجعت عن إكمال حديثها.

فأجبتها: «هذا ما كنت أفكر فيه أيضًا. أعتقد أن الأمر قد يستغرق وقتًا طويلًا. لكن من يعلم؟ بنشر مقال باربارا …» كنت قد أعددت رسالة بريد إلكتروني لتُرسَل إليها في الصباح التالي أيضًا … واستطردت: «وكل ذلك، ربما سنكون أبطالًا في غضون أسبوعين.»

فقالت: «ربما»، وتنهدت.

طوقتها بذراعي، وشعرت بارتعاد كتفيها.

قلت لها: «إنني مذعور. أعتقد أنه من الجنون ألا نصاب بالذعر.»

«نعم، نعم.»

استدعتنا أمي لتناول العشاء. صافحت آنج أبي. بدا قلقًا غير حليق الذقن. هكذا كان حاله منذ ذهبنا لمقابلة باربارا. لكن عند التقائه بآنج، عادت بعض ملامحه القديمة. قبَّلَته على وجنته، وأصر على أن تدعوه درو.

كان العشاء جيدًا حقًّا. وتلاشى التحفظ عندما أخرجت آنج رذاذ الصلصلة الحارة وأضافتها إلى طبقها، وأخذت تشرح ما تعنيه وحدات السكوفيل. حاول والدي تذوق ملء شوكة من طبقها، وترنح سريعًا إلى المطبخ ليشرب قدرًا كبيرًا من الحليب. العجيب أن أمي حاولت ذلك بعد أبي، وعبَّرت عن حبها له. واتضح أن أمي كانت لها قدرة عجيبة على تناول الطعام الحار لم يُكشَف عنها بعد … قدرة طبيعية.

قبل أن تغادر آنج، أصرت على منح والدتي رذاذ الصلصة الحارة، وقالت لها: «لدي زجاجة أخرى بالمنزل.» كنت قد رأيتها وهي تضعها في حقيبة ظهرها. واستطردت قائلةً: «يبدو أنك من نوع السيدات التي يجب أن تحصل على هذه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤