الفصل العشرون
أهدي هذا الفصل إلى ذا تاترد كافر، متجر الكتب المستقل المذهل في دِنفر. عثرت على ذلك المتجر بالصِّدفة البحتة؛ إذ كنت أنا وآليس قد وصلنا لتونا إلى دِنفر عائدَين من لندن. كان الوقت مبكرًا، والطقس باردًا، وأردنا بعض القهوة؛ فأخذنا نتجول كثيرًا دون وجهة، وحينذاك لمحت لافتة ذا تاترد كافر. أثار الاسم شيئًا في ذهني … لقد سمعت عن هذا المكان من قبل. توقفنا عند مقهى على الطريق (وحصلنا على القهوة)، ثم دخلنا المتجر … مكان خلاب من الخشب داكن اللون، أركان منعزلة للقراءة تمنحك الشعور وكأنك في المنزل، وأرفف كتب على امتداد البصر.
***
لم يكن هناك أيٌّ من الرجال الثلاثة في هذه اللحظة، فانطلقت هاربًا. شعرت بألم شديد في رأسي حتى ظننت أنني أنزف بالتأكيد، لكنني عندما وضعت يديَّ على رأسي لم تكن هناك أي دماء. تيبس كاحلي الملتوي في الشاحنة، ومن ثم ركضت كدمية متحركة مكسورة، ولم أتوقف سوى مرة واحدة فقط لإلغاء حذف الصورة على هاتف ماشا. وأوقفت تشغيل اللاسلكي للحفاظ على شحن البطارية ولأحول دون استخدامه في تعقبي. وضبطت مؤقت الخمول على ساعتين، أطول فترة متاحة في الإعدادات. وحاولت ضبطه على ألا يطلب كلمة مرور لإيقاف وضع الخمول، لكن ذلك نفسه تطلب كلمة مرور. كان سيلزم عليَّ الضغط على لوحة المفاتيح مرة واحدة على الأقل كل ساعتين إلى أن أتمكن من الوصول إلى كيفية إخراج الصورة من الهاتف. وبالتالي، كنت بحاجة لشاحن.
لم تكن لدي خطة. كنت بحاجة لواحدة، كنت بحاجة للجلوس والدخول على الإنترنت لأكتشف ما كنت سأفعله بعد ذلك. سئمت من السماح للآخرين بوضع الخطط لي. لم أرغب في التصرف بناء على ما فعلته ماشا أو بسبب وزارة الأمن الوطني أو والدي … أو آنج! حسنًا، ربما أفعل شيئًا بسبب آنج. لا بأس في ذلك على الإطلاق في الحقيقة.
نزلت نحو أسفل التل مارًّا في المجازات الضيقة متى استطعت مندمجًا مع الجموع في تِندرلوين. لم تكن لدي أية وجهة في ذهني. ومع كل بضع دقائق، كنت أضع يدي في جيبي، وأمس برفق أحد المفاتيح بهاتف ماشا لأحول دون دخوله في وضع الخمول. كان بارزًا على نحو غريب وهو مفتوح في سترتي.
توقفت، واستندت إلى حائط أحد المباني. شعرت بألم شديد في كاحلي. أين كنت على أية حال؟
«أوفيريل»، شارع هايد، أمام مركز تدليك آسيوي مريب. قدماي الخائنتان أوصلتاني إلى نقطة البداية … لقد أوصلتاني إلى حيث التُقِطت الصورة الموجودة بهاتف ماشا قبل انفجار جسر باي بثوانٍ، وتغيُّر حياتي للأبد.
أردت أن أجلس على الرصيف وأصيح بأعلى صوتي، لكن ذلك ما كان ليحل مشكلاتي. كان عليَّ الاتصال بباربارا ستراتفورد، وإخبارها بما حدث، وإطلاعها على صورة داريل.
فيم كنت أفكر؟ كان عليَّ إطلاعها على الفيديو الذي أرسلته إليَّ ماشا، ذلك الفيديو الذي تأمل فيه مدير مكتب رئيس الجمهورية في حبور الهجمات على سان فرانسيسكو، واعترف بأنه يعلم أين ومتى ستقع الهجمات التالية، وأنه لن يوقفها لأنها ستساعد في إعادة انتخاب رئيس الجمهورية.
كانت هذه هي الخطة إذن: الاتصال بباربارا، وإعطاءها المستندات لتنشرها. لا شك أن تجمع مصاصي الدماء قد أصاب الناس بالذعر، وجعلهم يعتقدون أننا مجموعة من الإرهابيين حقًّا. بالطبع، عندما كنت أخطط لتلك اللعبة، كنت أفكر كم ستكون وسيلة إلهاء جيدة، وليس كيف سينظر إليها الآباء التقليديون في نِبراسكا.
عزمت على الاتصال بباربارا، والتحلي بالذكاء عند فعل ذلك. فكنت سأتصل بها من هاتف عمومي، مع وضع قلنسوة سترتي على رأسي حتى لا تلتقط كاميرات الدوائر التليفزيونية المغلقة المتعذر اجتنابها صورة لي. أخرجت ربع دولار من جيبي، ومسحته في ذيل قميصي لأزيل بصمات أصابعي من عليه.
توجهت أسفل التل إلى أن وصلت إلى محطة بارت والهواتف العمومية هناك. سرت إلى محطة الترام، وهناك لمحت غلاف صحيفة «باي جارديان» لذلك الأسبوع، وقد تكدست نسخ الصحيفة في كومة عالية بجوار رجل أسود متشرد ابتسم في وجهي، وقال: «تفضل، اقرأ الغلاف، فهو مجاني … أما تصفح ما بداخل الصحيفة، فسيكلفك خمسين سنتًا.»
«كيف احتجزت وزارة الأمن الوطني أبناءنا وأصدقاءنا في سجون سرية بالقرب منا.»
«بقلم باربارا ستراتفورد، حصريًّا لصحيفة باي جارديان.»
هزَّ بائع الصحف رأسه، وقال: «هل تصدق ذلك؟ هنا في سان فرانسيسكو. يا لها من حكومة حقيرة!»
نظريًّا، توزع تلك الصحيفة مجانًا، لكن من الواضح أن ذلك الرجل قد حصل مبكرًا على عدد من النسخ من السوق المحلية. كان في يدي ربع دولار. ألقيت به في الكوب الذي كان يمسك به، وبحثت عن آخر. لم أهتم هذه المرة بمسح بصمات أصابعي من عليه.
«لقد أخبرونا بأن العالم قد تغير للأبد بعد تفجير جسر باي على يد مجهولين. لقي الآلاف من أصدقائنا وجيراننا حتفهم في ذلك اليوم. ولم يُنقَذ أيٌّ منهم تقريبًا؛ ومن المفترض أن بقاياهم ترقد في قاع ميناء المدينة.
لكن ثمة رواية مذهلة استمعت إليها هذه الصحفية من شاب ألقت وزارة الأمن الوطني القبض عليه بعد دقائق من التفجير، وهذه الرواية تشير إلى أن حكومتنا قد احتجزت على نحو مخالف للقانون الكثيرين ممن يُعتقَد أنهم قد لقوا حتفهم على جزيرة «تريجر آيلاند»، التي أُخليت ومُنِع دخول المدنيين إليها بعد التفجيرات بفترة قصيرة …»
جلست على أحد المقاعد لأقرأ المقال كاملًا؛ لاحظت ما أصابني بقُشَعْريرة في بدني، وهو أنني أجلس على المقعد ذاته الذي جعلنا داريل يستريح عليه بعد هروبنا من محطة بارت. بذلت جهدًا هائلًا لكي لا أنفجر في البكاء في تلك اللحظة. عثرت باربارا على بعض الصور التي تجمع بيني أنا وداريل ونحن نتسكع معًا، ووضعتها بجانب الخبر. ربما مضى على تلك الصور عام واحد، لكنني بدوت أصغر سنًّا بكثير فيها، كما لو كنت في العاشرة أو الحادية عشرة. لقد كبرت كثيرًا في الشهرين الماضيين.
برعت باربارا في كتابة المقال؛ فشعرت بالغضب من أجل الشباب المساكين الذين كتبت عنهم، ثم تذكرت أنها كانت تكتب عني. ضمت المقالة أيضًا رسالة زيب بعد تكبير حجم خط يده المُبهَم لتشغل نصف صفحة في الصحيفة. توصلت باربارا إلى المزيد من المعلومات عن شباب آخرين فُقِدوا واعتُقِد أنهم لقوا حتفهم. قائمة طويلة. وتساءلت باربارا كم من الشباب احتُجِزوا على تلك الجزيرة والتي تقع على بُعد بضعة أميال فقط من آبائهم.
أخرجت ربع دولار آخر من جيبي، ثم بدلت رأيي؛ فمن المؤكد أن هاتف باربارا مُراقَب. ما كنت لأتصل بها الآن، ليس مباشرةً. كنت بحاجة إلى وسيط للاتصال بها ودعوتها لمقابلتي في مكان ما بالجنوب. عناصر كثيرة لإعداد خطة.
ما كنت بحاجة إليه حقًّا هو شبكة إكس نت.
كيف كان لي أن أدخل على الإنترنت؟ أخذ جهاز البحث عن شبكة الواي فاي في هاتفي يومض بشدة؛ فالشبكة اللاسلكية حولي في كل مكان، لكن لم يكن لدي جهاز إكس بوكس أو تليفزيون أو قرص فيديو رقمي لنظام بارانويد إكس بوكس للبدء. شبكة واي فاي، واي فاي في كل مكان …
حينذاك لمحتهما: شابَّين من نفس عمري تقريبًا، يتحركان بين جمع الناس أعلى سلالم محطة بارت.
ما لفت نظري هو الطريقة التي كانا يتحركان بها. كانت حركتهما خرقاء بعض الشيء، يدفعان المارة والسائحين برفق، وكلٌّ منهما يضع إحدى يديه في جيبه، وعندما تلتقي عيناهما يضحكان ضحكة مكتومة. كان من الواضح تمامًا أنهما يقومان بالتشويش، لكن الناس من حولهما غفلوا عن ذلك. عندما تكون في ذلك الحي، تتوقع أن تصادف مجانين ومشردين؛ لذلك لا تنظر في عين أحد، ولا تنظر حولك على الإطلاق إذا تمكنت من ذلك.
اقتربت من أحد الشابين. بدا صغيرًا للغاية، لكن لا يمكن أن يكون أصغر مني.
قلت له: «مرحبًا! هل يمكنكما المجيء إلى هنا للحظات؟»
تظاهر بأنه لا يسمعني، فلم يلتفت إليَّ مثلما يفعل المرء مع أي شخص مشرد.
قلت له: «هيا! ليس أمامي متسع من الوقت.» أمسكت بكتفه، وهمست في أذنه: «تسعى الشرطة ورائي، أنا أحد أعضاء شبكة إكس نت.»
بدا الذعر عليه الآن، وبدا كما لو كان يرغب في الهرب، وحينذاك اقترب صديقه منا. قلت لهما: «أنا جاد فيما أقوله. لتسمعا ما لديَّ فقط.»
اقترب صديقه، كان أطول منه ومكتنزًا … مثل داريل. سأل: «مرحبًا، ما الخطب؟»
همس صديقه في أذنه، وبدا الاثنان وكأنهما على وشك الهروب.
أمسكت صحيفة «باي جارديان» التي كنت أضعها تحت ذراعي، وحركتها سريعًا أمامهما، وقلت لهما: «انتقلا إلى الصفحة ٥.»
ففعلا، ونظرا إلى العنوان، والصورة … إنها صورتي.
قال الأول: «يا إلهي! نحن تافهان حقًّا!» ابتسم في وجهي كالمجنون، في حين ضربني المكتنز ضربة خفيفة على ظهري.
وقال: «مستحيل! أنت ﻣ …»
وضعت يدي على فمه، وقلت: «هلا تأتيان إلى هنا؟»
اصطحبتهما إلى المقعد الذي كنت أجلس عليه. لاحظت بقعة قديمة بُنِّية اللون على الرصيف تحت المقعد. هل هذا دم داريل؟ أصابتني الفكرة بقشعريرة. جلسنا.
قلت لهما: «أنا ماركوس.» ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أفصح عن اسمي الحقيقي لهذين الشابين اللذين يعرفان أنني مايكي. لقد كشفت عن نفسي، لكن «باي جارديان» كانت قد ربطت بين الشخصيتين بالفعل.
قال ضئيل الجسم: «اسمي نيت»، في حين قال الآخر: «وأنا ليام. يا له من شرف أن نلتقي بك! أنت أعظم الأبطال في نظرنا …»
قاطعته: «لا تقل ذلك … لا تقل ذلك. إن ما تفعلانه كما لو كنتما تعلنان بوضوح: «نحن نمارس التشويش، لتزجوا بنا في سجن جوانتانامو الخليج.» لا يمكن أن تكونا أكثر وضوحًا.»
بدا ليام وكأنه على وشك البكاء.
«لا تقلقا، فلم يُقبَض عليكما. سأعطيكما بعض النصائح فيما بعد.» فابتهج ثانيةً. الأمر الغريب الذي اتضح لي أن هذين الشابين كانا يمجدان مايكي حقًّا، وكانا ليفعلان أي شيء أخبرهما به. كانا يبتسمان كالأغبياء. أزعجني ذلك، وأشعرني بالغثيان.
«اسمعا! أنا بحاجة للدخول على شبكة إكس نت الآن دون أن أذهب إلى المنزل أو أي مكان بالقرب منه. هل تعيشان بالقرب من هنا؟»
فقال نيت: «أنا أعيش بالقرب من هنا، أعلى شارع كاليفورنيا. سنسير قليلًا … أعلى التلال المرتفعة.» كنت قد نزلت عنها لتوي، وماشا لا تزال هناك بأعلى. لكن ذلك أفضل ما يمكنني توقعه على الإطلاق.
قلت لهما: «هيا بنا!»
•••
أعارني نيت قبعة البيسبول الخاصة به، وتبادلنا السترات معًا. لم أكن بحاجة للقلق بشأن التعرف على المشية مع اهتزاز كاحلي؛ فقد كنت أعرج مثل ممثل ثانوي في أحد أفلام رعاة البقر.
كان نيت يعيش في شقة ضخمة بها أربع غرف نوم أعلى نوب هيل، وكان للبناية بواب يرتدي معطفًا أحمر اللون مطرزًا باللون الذهبي. لمس قبعته، وقال لنيت: «سيد نيت!» ورحب بنا جميعًا. كان المكان نظيفًا تمامًا، وفاحت منه رائحة طلاء الأثاث. حاولت ألا أحدق ببله في ذلك البيت الذي يساوي نحو مليوني دولار.
فسر نيت الأمر قائلًا: «كان والدي مصرفيًّا في بنك استثماري، وكان لديه العديد من بوليصات التأمين على الحياة. توفي عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، وحصلنا على قيمة كل هذه البوليصات، وقد جعل أمي المستفيدة منها رغم طلاقهما منذ سنوات.»
ومن النافذة التي تصل من الأرضية إلى السقف، كان بإمكانك رؤية منظر رائع للجانب الآخر من نوب هيل وصولًا إلى منطقة فيشرمانز وارف والهيكل القبيح لجسر باي، وحشد الرافعات والشاحنات. وسط الضباب، تمكنت من أن ألمح جزيرة «تريجر آيلاند». والنظر إلى أسفل من هذه المسافة العالية جعلني أشعر برغبة مجنونة في القفز.
دخلت على الإنترنت باستخدام جهاز إكس بوكس الخاص به وشاشة بلازما ضخمة في حجرة المعيشة. أوضح لي كم من شبكات الواي فاي كانت مرئية من موقعه العالي المتميز … فكان هناك نحو عشرين أو ثلاثين شبكة. كانت بقعة جيدة بالنسبة لأي مستخدم لشبكة إكس نت.
امتلأ صندوق بريد مايكي بالرسائل؛ ٢٠٠٠٠ رسالة جديدة منذ غادرت أنا وآنج منزلها ذلك الصباح، والكثير من هذه الرسائل كان من جهات صحفية تطلب مقابلات متابعة، لكن أغلبها كان من مستخدمي شبكة إكس نت، أفراد قرءوا الخبر بصحيفة «باي جارديان» وأرادوا إخباري بأنهم سيفعلون أي شيء لمساعدتي، أي شيء أحتاج إليه.
كان هذا كافيًا. بدأت الدموع تنسال على وجنتيَّ.
تبادل نيت وليام النظرات. حاولت التوقف، لكن دون جدوى. وتحول البكاء إلى نشيج. توجه نيت إلى خزانة كتب من خشب البلوط بأحد الجدران، وأخرج خزانة خمر من أحد أرففها ليكشف عن صف لامع من الزجاجات. صبَّ لي كأسًا من زجاجة ذات لون بني ذهبي، وجلبها إليَّ.
قال: «ويسكي أيرلندي نادر … المفضل لدى أمي.»
كان مذاقه كالنار، كالذهب. رشفته محاولًا ألا أصاب بالاختناق. لم أحب في الواقع المشروبات الكحولية الثقيلة، لكن ذلك كان مختلفًا. أخذت عدة أنفاس عميقة.
وقلت له: «شكرًا يا نيت.» فارتسمت على وجهه نظرة كما لو كنت قد منحته وسامًا للتو. كان فتى صالحًا.
قلت وأنا أمسك بلوحة المفاتيح: «حسنًا!» راقبني الشابان بافتتان بينما كنت أتصفح بريدي على الشاشة الضخمة.
أهم شيء كنت أبحث عنه هو رسالة من آنج، فمن المحتمل أن تكون قد هربت، وهذا احتمال قائم دائمًا.
مجرد الأمل في ذلك كان حماقة مني. لم يكن هناك أي شيء منها. بدأت في تفقد البريد بأسرع ما يمكنني، مستبعدًا طلبات الصحافة، ورسائل المعجبين، ورسائل الكراهية، والبريد غير المرغوب فيه …
حينذاك وجدت رسالة من زيب.
«ليس لطيفًا أن أستيقظ هذا الصباح لأجد الرسالة التي ظننت أنك ستتخلص منها على صفحات الجرائد. ليس لطيفًا على الإطلاق. أشعرني ذلك بأنني … خُدِعت.
لكنني استوعبت بعد ذلك السبب وراء ما فعلته. لا أعلم إذا ما كان بإمكاني الموافقة على خططك أم لا، لكن من اليسير لي أن أرى أن دوافعك كانت سليمة.
إذا كنت تقرأ هذه الكلمات، فذلك يعني أنك قد تمكنت على الأرجح من الاختفاء، وليس ذلك بالأمر السهل. لقد تعلمت ذلك، وغيره الكثير.
بوسعي مساعدتك، وينبغي لي فعل ذلك من أجلك، فأنت تفعل ما بوسعك من أجلي. (وإن لم تكن تفعله بإذن مني.)
رد عليَّ إذا وصلتك هذه الرسالة، وكنت بالطريق ووحدك، أو رد إذا كان مقبوضًا عليك، وتخضع لقبضة أصدقائنا في جوانتانامو، وتبحث عن وسيلة لإيقاف الألم الذي تشعر به. إذا قبضوا عليك، فسوف تفعل ما يملونه عليك. أعلم ذلك، وسأخوض المخاطرة.
من أجلك يا مايكي.»
زفر ليام قائلًا: «يا إلهي!» أردت صفعه. استدرت لأقول له شيئًا بشعًا ولاذعًا، لكنه كان يحدق فيَّ بعينين متسعتين كما لو كان على وشك الجثو على ركبتيه وتقديسي.
قال نيت: «هل أستطيع أن أقول … هل أستطيع أن أقول إن مساعدتي لك هي أعظم شرف لي في حياتي كلها؟ هل يمكنني قول هذا فقط؟»
تورد وجهي خجلًا. لم يكن هناك داعٍ لذلك. هذان الاثنان مفتونان بي بالكامل، رغم أنني لست نجمًا، على الأقل ليس من وجهة نظري.
بلعت ريقي وقلت: «هل يمكن أن … هل تسمحان لي ببعض الخصوصية هنا؟»
خرجا في هدوء من الغرفة كجروين أساءا التصرف، وشعرت بأنني آلة. أخذت أكتب سريعًا.
«لقد هربت يا زيب، وأنا الآن هارب. أحتاج إلى كل مساعدة يمكنني الحصول عليها. أريد إنهاء ذلك الآن.» تذكرت أن أخرج هاتف ماشا من جيبي، وأضغط على أزراره لأمنعه من الدخول في وضع الخمول.
سمح لي الفتيان بالاغتسال، ومنحاني ملابس وحقيبة ظهر جديدة مليئة بجميع مستلزمات الطوارئ من حلوى الطاقة، والأدوية، والكمادات الساخنة والباردة، وحقيبة نوم قديمة. وضعا كذلك جهاز «إكس بوكس يونيفرسال» فائضًا لديهما مزودًا بنظام بارانويد إكس بوكس. كانت لمسة لطيفة منهما.
أخذت أتفقد بريدي الإلكتروني لأرى ما إذا كان زيب قد رد عليَّ. بعثت برد على رسائل الإعجاب، ورسائل الصحافة، وحذفت رسائل الكراهية. توقعت إلى حد ما أن أرى رسالة من ماشا، لكنها كانت على الأرجح في منتصف الطريق إلى لوس أنجلوس، وأصابع يديها تؤلمها، وفي وضع لا يسمح لها بالكتابة. لمست مفاتيح هاتفها ثانيةً.
نصحني الفتيان بالنوم قليلًا. وللحظة قصيرة مخجلة، دفعني جنون الارتياب للظن بأنهما يفكران في تسليمي للشرطة بمجرد أن أستغرق في النوم. كانت فكرة غبية؛ إذ كان بإمكانهما تسليمي بالقدر نفسه من السهولة وأنا مستيقظ. لم يكن بوسعي فقط استيعاب أنهما يبجلانني بشدة. كنت أدرك أن هناك من سيتبعون ما يقوله مايكي. وقد التقيت ببعضهم ذلك الصباح يهتفون «عض عض عض عض عض» ويؤدون دور مصاصي الدماء في مركز المدينة. لكن إعجاب هذين الشابين كان شخصيًّا على نحو أكبر. كانا شابين ساذجين لطيفين، وكان من الممكن أن يكونا من أصدقائي في فترة ما قبل إكس نت، مجرد فتيين يخوضان مغامرات مراهقين. وقد تطوعا للانضمام إلى صفوف جيشي؛ ومن ثم فأنا مسئول عنهما. إذا تُرِكا لحالهما، فسيُقبَض عليهما. وليس ذلك سوى مسألة وقت. فهما ساذجان للغاية.
قلت لهما: «استمعا لما سأقوله يا شباب! ثمة شيء خطير أود أن أخبركما به.»
كادا يقفان من فرط الانتباه. كان ذلك فكاهيًّا، إذا لم يكن مخيفًا للغاية.
«إليكما ما أريد قوله. صار الأمر خطيرًا للغاية الآن بعد أن ساعدتماني. إذا أُلقي القبض عليكما، فسيلقَى القبض عليَّ كذلك، وسيحصلون على ما يريدونه منكما …» رفعت يدي لأستبق اعتراضهما، وواصلت حديثي: «كلا، توقفا، فأنتما لم تمرا بهذه التجربة. الجميع يفصح بما لديه، الجميع ينهار. إذا أُلقي القبض عليكما، فسوف تخبرانهم بكل شيء على الفور، وبأسرع ما يمكنكما، وبأكبر قدر تعرفانه. سوف يحصلون على كل المعلومات في النهاية بأي حال. هذا أسلوبهم.
لكن لن يُلقَى القبض عليكما؛ هل تعلمان لماذا؟ لأنكما لستما مشوشين بعد الآن. لقد توقفتما عن هذا النشاط. أنتما …» أخذت أبحث في ذاكرتي عن مصطلحات من أفلام الجاسوسية، وتابعت حديثي: «… خلية نائمة. توقفا عما تفعلانه، عودا إلى حياتكما الطبيعية. فبطريقة أو بأخرى، سأنهي كل هذا. وإلا فسوف يُقضَى عليَّ في النهاية. إذا لم تسمعا عني أي أخبار خلال ٧٢ ساعة، فاعتبراني مقبوضًا عليَّ، ولكما أن تفعلا أي شيء حينها. لكن على مدار الأيام الثلاثة التالية — وللأبد إذا فعلت ما أحاول فعله — عليكما بالتوقف عن ممارسة التشويش. هل تعدانني بذلك؟»
وعداني بكل إجلال، وسمحت لهما بأن يدلاني على المكان الذي سأنام فيه قليلًا، لكنني جعلتهما يقسمان بأن يوقظاني مرة كل ساعة؛ فقد كان عليَّ الضغط على أزرار هاتف ماشا، والتحقق من رد زيب عليَّ.
•••
كان موعدنا في إحدى عربات قطارات بارت؛ ما أصابني بالعصبية؛ فتلك القطارات مليئة بالكاميرات، لكن زيب كان يعلم ما يفعله. جعلني أقابله في العربة الأخيرة لقطار خرج من محطة شارع باول في وقت اكتظت فيه العربة بالركاب. سار بجانبي وسط الحشد، وأفسح له الركاب مكانًا مثلما تفعل دومًا مع المشردين.
غمغم وهو يواجه باب العربة: «يسعدني لقاؤك ثانيةً.» عندما نظرت في زجاج الباب داكن اللون، رأيت أنه ما من أحد قريب منا بما فيه الكفاية ليسترق السمع — ليس بدون أجهزة ميكروفون عالية الكفاءة. وإذا كانوا بالمعرفة الكافية ليدخلوا هنا بمثل هذه الأجهزة، فنحن في عداد الموتى على أية حال.
فأجبته: «وأنا أيضًا يا صديقي. أنا … أنا آسف، أنت تعلم؟»
«اخرس، ولا تتأسف. لقد كنت أشجع مني. هل أنت مستعد للاختفاء الآن؟»
«فيما يتعلق بهذا الشأن …»
«ماذا؟»
«ليس هذا ما أخطط له.»
«حقًّا؟»
«فلتستمع إليَّ! معي صورة ومقطع فيديو، أشياء تثبت شيئًا ما حقًّا.» أدخلت يدي في جيبي، وضغطت على أزرار هاتف ماشا. كنت قد اشتريت شاحنًا له من ميدان يونيون في طريقي إلى المحطة، وتوقفت بأحد المقاهي، ووضعته في الكهرباء ما يكفي من الوقت لتنشيط البطارية تنشيطًا شبه كامل. «أحتاج إلى توصيل هذه الأشياء إلى باربارا ستراتفورد، تلك السيدة التي تعمل في صحيفة «باي جارديان». لكنهم يراقبونها بالتأكيد ليروا ما إذا كنت سأذهب إليها أم لا.»
«ألا تعتقد أنهم سيكونون في انتظاري أنا أيضًا؟ إذا كنت تخطط لأن أقترب من منزل تلك السيدة أو مكتبها مسافة تقل عن الميل …»
«أريدك أن تقنع فان بالمجيء لمقابلتي. هل أخبرك داريل من قبل عن فان؟ الفتاة …»
«نعم، لقد أخبرني. ألا تظن أنها تحت المراقبة أيضًا، مثلكم جميعًا ممن قُبِض عليهم؟»
«أعتقد أنهم يراقبونها، لكن ليس بالقدر نفسه. هذا فضلًا عن أن فان ليست مدانة بأي شيء؛ فهي لم تشارك قط في أيٍّ من …» بلعت ريقي وواصلت الحديث: «… مشروعاتي؛ ومن ثم، فقد لا يهتمون لأمرها كثيرًا. وإذا طلبت إجراء لقاء مع صحيفة «باي جارديان» لتوضح لهم كيف أنني مليء بالتفاهات، فسيسمحون لها بذلك.»
حدق في الباب فترة طويلة من الوقت.
«أتعلم ما سيحدث عند القبض علينا ثانيةً؟» لم يكن ذلك سؤالًا.
أومأت برأسي.
«هل أنت متأكد؟ بعض ممن كانوا على جزيرة «تريجر آيلاند» معنا تم ترحيلهم على متن مروحيات إلى خارج البلاد. ثمة دول يمكن لأمريكا تصدير معتقليها إليها ليتذوقوا العذاب ألوانًا، دول يمكن أن تمضي فيها ما تبقى لك من عمر، حيث تتمنى أن ينهوا حياتك بسرعة، بأن يأمروك بحفر خندق، ثم يطلقون الرصاص عليك في رأسك من الخلف وأنت تقف عليه.»
بلعت ريقي وأومأت برأسي.
«هل يستحق الأمر المخاطرة؟ يمكننا الاختفاء لفترة طويلة للغاية هنا. ويومًا ما قد نستعيد بلادنا. يمكننا انتظار تلك اللحظة.»
هززت رأسي معترضًا، وقلت له: «لا يمكنك إنجاز شيء بدون فعل أي شيء. هذه بلادنا، وقد سلبونا إياها. الإرهابيون الذين هاجمونا لا يزالون أحرارًا … على عكسنا. لا يمكنني الاختفاء لعام أو عشرة أعوام أو حياتي بأكملها منتظرًا أن تُقدَّم لي الحرية على طبق من فضة. الحرية شيء عليك أن تغتنمه بيديك.»
•••
بعد ظهيرة ذلك اليوم، غادرت فان المدرسة كعادتها، وجلست في المقعد الأخير بالحافلة مع مجموعة من صديقاتها تضحك وتمزح كعادتها دومًا. لاحظها الركاب الآخرون في الحافلة؛ إذ كان صوتها عاليًا جدًّا، وكانت ترتدي تلك القبعة الضخمة الخرقاء خاصتها، والتي بدت وكأنها إحدى قطع ملابس مسرحية مدرسية عن محاربي عصر النهضة حاملي السيوف. وفي لحظة تجمَّعن معًا والتصقن ببعضهن البعض، ثم استدرن لينظرن من النافذة الخلفية للحافلة، وأخذن يشرن بأصابعهن ويقهقهن. والفتاة التي صارت ترتدي قبعة فان الآن كانت في نفس طولها تقريبًا، ومشابهة لها من ظهرها.
لم يُعِر أحد اهتمامًا لفتاة آسيوية هادئة تنزل من الحافلة قبل محطة بارت ببضع محطات. كانت ترتدي زيًّا مدرسيًّا قديمًا بسيطًا، وتنظر لأسفل في خجل وهي تنزل من الحافلة. هذا فضلًا عن أنه في تلك اللحظة، شهقت الفتاة الكورية ذات الصوت المرتفع، وتبعتها صديقاتها، وأخذن يضحكن بصوت عالٍ لدرجة جعلت سائق الحافلة نفسه يبطئ من سرعته، ويستدير في مقعده ليرمقهن بنظرة احتقار.
سارت فان سريعًا خافضة رأسها، وشعرها مربوط من الخلف، وأنزلت ياقة سترتها قديمة الطراز. كان كعب حذائها عاليًا؛ ما جعلها أطول ببوصتين على نحو غريب. خلعت العدسات اللاصقة، وارتدت نظارتها ذات العدسات الضخمة التي لم تكن تفضلها، والتي غطت نصف وجهها. رغم أنني كنت أنتظرها في محطة الحافلات، وأتوقع رؤيتها، بالكاد تعرفت عليها. نهضتُ، وسرت خلفها لنعبر الشارع ونتجاوز مسافة نصف مربع سكني.
من كانوا يمرون بجانبي تحاشوا النظر إليَّ بأسرع ما يمكن؛ فقد بدوت كشاب متشرد يحمل لافتة كرتونية قذرة ويرتدي معطفًا مكسوًّا بسخام الشوارع، ويحمل حقيبة ظهر ضخمة مليئة بالأغراض وشريط لاصق يرأب شقوقها. لا أحد يرغب في النظر لفتى مشرد؛ لأنه إذا لقيت عيناه عينيك، فقد يطلب منك بعض الفكة. سرت في أرجاء أوكلاند طيلة ظهيرة ذلك اليوم، ولم يتحدث معي أحد سوى أحد شهود يهوه وأحد أتباع حركة العِلمولوجيا، وكلاهما كان يحاول إقناعي بتغيير مذهبي. كان شيئًا مثيرًا للاشمئزاز مثل أن يتحرش بك شخص منحرف جنسيًّا.
اتبعت فان الإرشادات التي كتبتها لها بعناية. أعطاها لها زيب بالطريقة نفسها التي أعطاني بها الرسالة خارج المدرسة؛ فاصطدم بها أثناء انتظارها للحافلة، واعتذر لها كثيرًا. كتبت الرسالة بوضوح وبساطة: «أعلم أنك لن توافقي، وأتفهم ذلك. لكن هذه أهم خدمة سأطلبها منك على الإطلاق. أرجوك، أرجوك.»
وجاءت. كنت أعلم أنها ستفعل؛ فنحن يجمعنا تاريخ طويل، ولم يكن يروق لها أيضًا ما حدث للعالم. بالإضافة إلى ذلك، أخبرني صوت شرير في رأسي بأنها صارت محل شبهات الآن بعد نشر مقال باربارا.
ظللنا سائرين على هذا النحو حتى تجاوزنا ستة أو سبعة مربعات سكنية، مع الانتباه للأشخاص والسيارات التي كانت تسير بجوارنا. أخبرني زيب عن أسلوب في التعقب يتناوب فيه خمسة أفراد مختلفين تعقبك؛ ما يجعل تعيينهم أمرًا شبه مستحيل؛ ومن ثم، ينبغي الذهاب إلى مكان مهجور تمامًا بحيث يتضح فيه أي شخص وضوحًا تامًا.
كان الممر الفوقي للطريق السريع ٨٨٠ على بعد بضعة مربعات سكنية فقط من محطة كوليسيم التابعة لشبكة بارت. ورغم كثرة اللف والدوران الذي كانت تفعله فان، فلم يستغرق الأمر طويلًا لنصل إليه. كانت الضوضاء من أعلى تصم الآذان. لم يكن هناك أحد آخر في الجوار على حد علمي. كنت قد حضرت إلى ذلك المكان قبل أن أقترحه على فان في الرسالة، مع الاهتمام بالتحقق من الأماكن التي يمكن لأحد الاختفاء فيها. لم يكن هناك أي أماكن من هذا القبيل.
ما إن توقفت عند المكان المتفق عليه حتى تحركت سريعًا للحاق بها. نظرت إليَّ والذعر يملأ عينيها من وراء نظارتها.
شهقت باسمي واغرورقت عيناها بالدموع. اكتشفت أنني كنت أبكي أنا أيضًا. كنت أشبه بالهاربين شَعِثي الهيئة حقًّا، الأمر المثير للغاية للمشاعر.
عانقتني بقوة لدرجة جعلتني لا أقوى على التنفس، وعانقتها على نحو أقوى.
ثم قبلتني.
ليس على وجنتي وليس كأختي، وإنما على شفتيَّ. قبلة ساخنة ملتهبة بدت وكأنها ستستمر للأبد. غمرتني العاطفة تمامًا …
كلا، هذا كذب. فقد كنت أعرف بالضبط ما كنت أفعله؛ لقد قبَّلتها بدوري.
توقفت بعد ذلك، وتراجعت دافعًا إياها تقريبًا بعيدًا عني. نطقت لاهثًا: «فان!»
فقالت: «آسفة!»
كرَّرت ثانيةً: «فان!»
فقالت: «آسفة! أنا …»
ثمة شيء حدث لي حينها، شيء أظن أنه كان ينبغي لي أن أراه منذ زمن طويل جدًّا.
«أنتِ معجبة بي، أليس كذلك؟»
أومأت برأسها في خزي، وقالت: «منذ سنوات.»
يا إلهي! داريل كان مغرمًا بها طوال هذه السنين، بينما كانت هي واقعة في حبي وتريدني أنا طوال هذا الوقت. وفي النهاية، ارتبطتُ بآنج. قالت آنج إنها كانت على خلاف دائم مع فان. وأنا أركض هنا وهناك موقعًا نفسي في المشكلات.
«آسف للغاية يا فان.»
فقالت وهي تشيح بنظرها بعيدًا: «فلتنس الأمر. أعرف أنه ما من أمل. أردت فقط أن أفعل ذلك لمرة واحدة، وذلك في حالة ألا …» ثم قطعتْ حديثها.
«فان، أريدك أن تفعلي شيئًا من أجلي، شيئًا مهمًّا. أريدك أن تقابلي باربارا ستراتفورد، الصحفية في «باي جارديان» التي كتبت المقال. أريدك أن تعطيها شيئًا ما.» وشرحت لها ما يتعلق بهاتف ماشا، وأخبرتها بشأن الفيديو الذي أرسلته لي.
«وما نفع ذلك يا ماركوس؟ ما الفائدة؟»
«كنت مُحِقَّة يا فان، جزئيًّا على الأقل. لا يمكننا إصلاح العالم من خلال تعريض الآخرين للخطر. أريد حل المشكلة بالإفصاح عما أعرفه. كان ينبغي لي فعل ذلك من البداية، كان ينبغي أن أتوجه مباشرة من الحجز إلى منزل والد داريل لأخبره بما أعلم. لكنني الآن معي أدلة. وهذه الأدلة من شأنها تغيير العالم. هذا أملي الأخير، الأمل الوحيد في أن أحرر داريل، وأنعم بحياة لا أقضيها متخفيًا هاربًا من الشرطة. وأنتِ الشخص الوحيد الذي يمكنني الوثوق به لفعل ذلك.»
«لماذا أنا؟»
«تمزحين، أليس كذلك؟ انظري كيف تمكنت من الوصول إلى هنا. أنتِ محترفة، والأفضل منا جميعًا في هذا الشأن. أنتِ الشخص الوحيد الذي يمكنني الوثوق به؛ لهذا اخترتك أنتِ.»
«لماذا لم تعهد بذلك لصديقتك آنج؟» نطقت اسمها دون أي تغيير في نبرة صوتها على الإطلاق، وكأنها قالب طوب.
نظرت لأسفل، وقلت لها: «ظننت أنكِ تعلمين. لقد ألقي القبض عليها، وهي الآن في جوانتانامو على جزيرة «تريجر آيلاند». لقد مر على وجودها هناك أيام إلى الآن.» حاولت ألا أفكر في ذلك، وما قد يكون يحدث لها. لكنني لم أستطع التماسك في تلك اللحظة، وبدأت أبكي بحرقة. شعرت بألم في بطني كما لو كنت قد تعرضت للركل. أمسكت بخصري لأحاول التماسك. انحنيت هناك، ووجدت نفسي بعد ذلك ملقى على جانبي على الحجارة المتكسرة تحت الطريق السريع، محاولًا التماسك وأنا أبكي.
ركعت فان بجانبي، وقالت بصوت غاضب: «أعطني الهاتف!» أخرجته من جيبي، وأعطيته لها.
شعرت بالخجل، توقفت عن البكاء واعتدلت في جلستي. أعرف أن المخاط كان ينزل على وجهي. نظرت إليَّ فان باشمئزاز واضح. قلت لها: «يجب أن تمنعيه من الدخول في وضع الخمول. معي شاحن هنا.» بحثت في حقيبتي. لم أنم طوال الليل منذ حصلت عليه. ضبطت المنبه ليدق كل ٩٠ دقيقة، ويوقظني لأتمكن من إيقافه من الدخول في وضع الخمول. «ولا تغلقيه أيضًا.»
«ومقطع الفيديو؟»
قلت لها: «هذا أصعب. لقد أرسلت نسخة منه لنفسي بالبريد الإلكتروني، لكن لم يمكنني الدخول على شبكة إكس نت بعد ذلك.» إذا كانت هناك ضرورة ملحة، كان بإمكاني العودة إلى نيت وليام، واستخدام جهاز إكس بوكس الخاص بهما ثانيةً، لكنني لم أرد المجازفة بفعل ذلك. واصلت حديثي معها قائلًا: «سأخبركِ باسم المستخدم وكلمة المرور لحسابي على خادم بريد حزب القراصنة. سيكون عليكِ استخدام أحد موجهات الاتصال المجهول (تور) للدخول عليه … تعمل وزارة الأمن الوطني على التحقق ممن يسجلون الدخول على بريد حزب القراصنة.»
قالت وقد بدت عليها الدهشة بعض الشيء: «اسم المستخدم وكلمة المرور!»
«أنا أثق بكِ يا فان. أعلم أنه بإمكاني الوثوق بكِ.»
هزَّت رأسها، وقالت: «أنت لا تفصح عن كلمات مرورك أبدًا يا ماركوس.»
«لا أعتقد أن ذلك يهم بعد الآن. إذا لم تنجحي في مهمتك، فستكون تلك نهايتي … نهاية ماركوس يالو. لعلي سأحصل على هوية جديدة، لكنني لا أظن ذلك. أظن أنهم سيمسكون بي. أعتقد أنني عرفت دومًا أنهم سيقبضون عليَّ يومًا ما.»
نظرت إليَّ بغضب الآن: «يا لها من خسارة! وما الهدف من ذلك كله على أية حال؟»
جرحتني تلك العبارة أكثر من أي شيء آخر كان من الممكن أن تقوله. كانت أشبه بركلة أخرى في البطن. الأمر كله غير ذي جدوى ولا طائل منه. داريل وآنج مفقودان، وقد لا أرى أسرتي ثانيةً، ولا يزال الأمن الوطني يخضع مدينتي وبلادي لجنون لا حدود له يمكن في خضمه فعل أي شيء تحت اسم إيقاف الإرهاب.
بدت فان وكأنها تنتظر مني قول شيء ما، لكنني لم يكن لدي ما أقوله. فرحلتْ وتركتني هناك.
•••
وجدت زيب قد أحضر البيتزا لي عندما عدت إلى «المنزل». كان المنزل عبارة عن خيمة نصبها زيب لقضاء الليلة تحت ممر فوقي لطريق سريع في حي ميشن. كان لديه خيمة صغيرة من مخلفات الجيش، مطبوعة عليها عبارة «مجلس التنسيق المحلي لمساعدة المشردين بسان فرانسيسكو».
كانت البيتزا من مطعم «دومينوز»، باردة ومتخثرة، لكنها لذيذة رغم كل ذلك. «هل تحب الأناناس على البيتزا؟»
ابتسم زيب بلطف في وجهي، وقال: «ليس أمام من يحصلون على الطعام المجاني خيار.»
«طعام مجاني؟»
ابتسم ثانيةً وقال: «نعم، طعام مجاني … من متجر الطعام المجاني.»
«هل سرقت هذه؟»
«لا يا أحمق. إنها من المتجر الآخر. ألا تعرف ذلك الصغير الموجود بالخلف، ومصنوع من الصلب الأزرق؟ ذلك الذي تفوح منه رائحة كريهة؟»
«هل أحضرتها من القمامة؟»
دفع رأسه للخلف وقهقه، ثم قال: «نعم، بالطبع. كان عليك أن ترى وجهك. لا بأس يا صديقي. إنها ليست متعفنة أو أي شيء من هذا القبيل. لقد كانت طازجة … مجرد طلب خاطئ، ورُمي في صندوق القمامة. إنهم يرشون سم فئران فوق كل شيء في وقت الإغلاق، لكنك إذا أسرعت في الوصول إلى هناك، فستكون بأمان. عليك أن ترى ما يتخلص منه متاجر البقالة! انتظر حتى موعد الفطور. سأعد لك سلطة فواكه لن تصدقها! فما إن تصاب إحدى ثمرات الفراولة في الصندوق بالعطب حتى يتخلصوا من الصندوق بالكامل …»
تجاهلت حديثه. كانت البيتزا جيدة، فوجودها في صندوق القمامة ما كان ليلوثها أو أي شيء من هذا القبيل. إذا كان هناك ما يثير الاشمئزاز فيها، فهو أنها من مطعم دومينوز … أسوأ مطعم بيتزا في المدينة. لم أحب طعامه قط من قبل، وقاطعته تمامًا عندما علمت أنه يمول مجموعة من الساسة المخابيل الذين يظنون أن الاحتباس الحراري والتطور مخططان شيطانيان.
رغم ذلك، كان من الصعب التخلص من شعور الاشمئزاز.
لكن كان ثمة سبيل آخر للنظر إليه. كشف لي زيب سرًّا … شيئًا لم أتوقعه؛ وهو أن هناك عالمًا كاملًا خفيًّا في الخارج، أسلوب حياة دون المشاركة في النظام.
«طعام مجاني من القمامة، ها؟»
فقال وهو يومئ برأسه بقوة: «وزبادي أيضًا … لسلطة الفواكه. إنهم يلقون به في القمامة في اليوم التالي لانتهاء تاريخ صلاحيته، لكنه ما كان ليتحول للون العفن الأخضر بحلول منتصف الليل. أعني أنه زبادي؛ أي لبن متعفن في المقام الأول.»
بلعت ما بفمي. كان طعم البيتزا غريبًا. سم فئران. زبادي تالف. فراولة عطبة. سيستغرق ذلك وقتًا إلى أن أعتاد عليه.
تناولت قضمة أخرى. في الواقع، تكون بيتزا دومينوز أقل بشاعة عند الحصول عليها مجانًا.
كانت حقيبة النوم الخاصة بليام وثيرة دافئة بعد يوم طويل مرهق انفعاليٍّ. لا بد أن فان قد اتصلت بباربارا الآن، وصارت الصورة ومقطع الفيديو بحوزة باربارا. سوف أتصل بها في الصباح، وأعرف منها ما يجب عليَّ فعله بعد ذلك. سيكون عليَّ المشاركة بعد أن تنشر الخبر لكي أدعم كل ما فيه.
فكرت في ذلك وأنا أغلق عينيَّ. فكرت ما سيكون عليه الحال عندما أسلم نفسي، والكاميرات تتابع مايكي سيئ السمعة في كل مكان حتى يصل إلى أحد تلك المباني الكبيرة ذات الأعمدة في مركز المدينة.
وبغيابي عن الوعي، تحول صوت السيارات على الممر الفوقي إلى ما يشبه صوت المحيط. كانت هناك خيام أخرى في الجوار بها أفراد مشردون. قابلت بعضهم بعد ظهيرة ذلك اليوم قبل حلول الظلام، وتراجعنا جميعًا لنربض بالقرب من خيامنا. كانوا جميعًا أكبر مني سنًّا، ومظهرهم فظ قاسٍ. لكن لم يبدُ أيٌّ منهم مجنونًا أو عنيفًا، بل مجرد أشخاص تعسر حظهم أو اتخذوا قرارات خاطئة أو كلا الأمرين.
لا بد أنني استغرقتُ في النوم؛ إذ لا أتذكر أي شيء آخر حتى انعكس ضوء براق على وجهي. كان براقًا لدرجة أعمتني.
نطق صوت من خلف الضوء قائلًا: «هذا هو.»
فرد صوت آخر: «ضعوا الكيس على وجهه.» كان صوتًا سمعته من قبل، سمعته مرارًا وتكرارًا في أحلامي يوبخني ويطلب مني كلمات المرور الخاصة بي. لقد كانت السيدة ذات الشعر القصير.
غطى الكيس وجهي سريعًا، وأُحكِم ربطه عند عنقي ما جعلني أشعر بالاختناق وأتقيأ ما تناولته من بيتزا مجانية. ومع إصابتي بالتشنج والاختناق، ربطت أيادٍ عتية معصميَّ، ثم كاحليَّ. وُضِعت على نقالة، ورُفِعت، ثم حُمِلت إلى داخل سيارة صعودًا على بعض الدرجات المعدنية التي تصدر رنينًا عند الصعود عليها. ألقوني على أرضية مبطنة. لم يكن هناك أي صوت على الإطلاق في مؤخرة الشاحنة عند إغلاقهم للأبواب؛ فالتبطين بالعربة غطى على كل الأصوات فيما عدا صوت اختناقي.
قالت: «حسنًا، مرحبًا بك ثانيةً.» شعرت بتمايل العربة عند دخولها إليَّ. كنت لا أزال أختنق، محاولًا التقاط أي نفس. ملأ القيء فمي وسال في قصبتي الهوائية.
تابعت حديثها قائلةً: «لن ندعك تموت. إذا توقفت عن التنفس، فسنحرص على أن تعاوده ثانيةً؛ لذلك لا تقلق!»
شعرت بتزايد الاختناق. حاولت استنشاق أي هواء، وبعضه كان يدخل بالفعل إليَّ. السعال العميق والمهلك رجَّ صدري وظهري، وطردت المزيد من القيء. التقطت مزيدًا من الأنفاس.
قالت: «أرأيت؟ ليس الأمر شديد السوء. مرحبًا بك ثانية، مايكي. لدينا مكان مميز للغاية سننقلك إليه.»
استلقيت على ظهري، وشعرت باهتزاز الشاحنة. كانت رائحة قيء البيتزا نافذة في البداية، لكن مع جميع المنبهات القوية الأخرى، اعتاد عليها مخي تدريجيًّا، وأخذ يخرجها من نطاق أنفي إلى أن صارت رائحة ضعيفة فقط. واهتزاز الشاحنة يكاد يبعث على الراحة.
حينذاك، طغت عليَّ حالة من الهدوء العميق المذهل كما لو كنت أتمدد على الشاطئ، ومياه المحيط وصلت إليَّ وأخذت تهدهدني برقة كأب يهدهد ابنه، وحملتني عاليًا لتجرني إلى البحر الدافئ تحت أشعة الشمس الدافئة. بعد كل ما حدث، قُبِض عليَّ، لكن ذلك لا يهم. لقد أوصلت المعلومات إلى باربارا، وأسست شبكة إكس نت. لقد ربحت. وإذا لم أكن قد ربحت، فقد فعلت كل ما بوسعي، بل أكثر مما تخيلت يومًا أنه بوسعي فعله. أخذت أسترجع كل ما حدث أثناء تحرك السيارة، متذكرًا كل ما حققته، بل حققناه. المدينة والدولة والعالم كله مليء بأناس لا يقبلون بالحياة التي تريدنا وزارة الأمن الوطني أن نحياها. سنظل نناضل إلى الأبد، ولن يمكنهم حبسنا جميعًا.
تنهدت وابتسمت.
ما أدركته بعد ذلك أنها كانت تتحدث طوال تلك الفترة. كنت غائبًا تمامًا في خيالي السعيد حتى إن صورتها تلاشت تمامًا من أمامي.
«… فتى ذكي مثلك، من المفترض أن تعلم أنه من الأفضل لك ألا تعبث معنا. نحن نراقبك منذ أطلقنا سراحك. وكنا سنقبض عليك حتى وإن لم تذهب لتبكي لتلك الصحفية السحاقية الخائنة. إنني لا أفهم فحسب ما حدث … لقد كان بيننا اتفاق، أنا وأنت …»
مرَّت الشاحنة على لوح معدني، واهتزت، ثم تغير الاهتزاز. صرنا فوق الماء، نتوجه إلى جزيرة «تريجر آيلاند». يا إلهي! آنج هناك، وكذلك داريل … ربما.
•••
لم ينزعوا الكيس عن رأسي إلى أن وصلت إلى الزنزانة. ولم يهتموا بفك الأصفاد عن معصميَّ وكاحليَّ، فما كان منهم إلا أن ألقوني من النقالة على الأرض. كان المكان مظلمًا، لكنني تمكنت من أن أرى في ضوء القمر — الذي يدخل إلى الغرفة من نافذة واحدة عالية صغيرة — أن المرتبة قد نُزِعت من على السرير. لم تحتوِ الزنزانة إلا على مرحاض وهيكل سرير وحوض وأنا فقط.
أغلقت عينيَّ، وتركت خيالي يأخذني بعيدًا. كان بوسعي توقع ما سيحدث بعد ذلك؛ التبول في ملابسي … مجددًا. كنت أعرف ما يكون عليه الأمر؛ فقد حدث لي من قبل. فاحت مني رائحة كريهة، وشعرت بحكة وخزي، مثل الأطفال الصغار.
لكنني تعايشت من قبل مع كل ذلك.
ضحكت … بدا الصوت غريبًا، فأعادني إلى واقعي من جديد. أخذت أضحك وأضحك. لقد وصلت إلى أسوأ ما يمكنهم فعله بي، ونجوت منه، بل وتغلبت عليهم لشهور عدة وجعلتهم يظهرون بمظهر الحمقى والمستبدين. لقد انتصرت.
أطلقت العنان لمثانتي؛ فقد كانت موجعة وممتلئة على أية حال، وما من وقت أفضل من الآن.
أخذني خيالي بعيدًا ثانيةً.
•••
وفي الصباح، فك حارسان يتسمان بالكفاءة والتجرد من المشاعر الأصفاد عن معصميَّ وكاحليَّ. ظللت غير قادر على السير … عندما وقفت، كنت أشبه بالدمية المتحركة بلا خيوط. فقد جلست في وضعية واحدة لفترة طويلة للغاية. جذب الحارسان ذراعيَّ ليضعاهما على كتفيهما، وسحباني كما لو كانا يحملانني في الرواق المألوف. التفت وتدلت رموز الباركود الموجودة على الأبواب بفعل الهواء المحمل بالأملاح.
خطرت لي فكرة؛ فهتفت: «آنج! داريل!» فأسرع الحارسان في جذبي. كان من الواضح أنهما انزعجا، لكنهما لم يعلما ما ينبغي لهما فعله. واصلت الهتاف: «هذا أنا، ماركوس! تمسكا بالحرية!»
سمعت نشيجًا خلف أحد الأبواب، وصاح شخص آخر بلغة بدت كالعربية، ثم علت أصوات متنافرة، الآلاف من الأصوات المختلفة تدوي عاليًا.
جلبني الحارسان إلى غرفة جديدة كانت في السابق مخصصة للاستحمام؛ إذ كانت لا تزال رشاشات الدُّش معلقة فيها.
قالت السيدة ذات الشعر القصير: «مرحبًا يا مايكي! يبدو أن صباحك كان مليئًا بالأحداث.» وأبدت اشمئزازًا من الرائحة.
فقلت مبتهجًا: «لقد تبولت في ملابسي. ينبغي أن تجربي ذلك.»
قالت: «لعله ينبغي لنا السماح لك بالاغتسال.» أومأت برأسها، فحملني الحارسان لنقالة أخرى. احتوت هذه النقالة على أشرطة مُقيِّدة بطولها. ألقيا بي عليها، كانت باردة كالثلج ومبللة تمامًا. وقبل أن أدرك، كانا قد أحكما الأربطة على كتفيَّ وفخذيَّ وكاحليَّ. وبعد لحظات، ربطا ثلاثة أربطة أخرى. أمسكت يد رجل الحواجز الموجودة عند رأسي، وفكت بعض السقَّاطات. وبعد لحظات، كنت قد انحنيت لأسفل، وصار رأسي أسفل قدميَّ.
قالت السيدة ذات الشعر القصير: «لنبدأ بشيء بسيط.» رفعت رأسي لأراها. كانت قد جلست على مكتب يعلوه جهاز إكس بوكس متصل بتليفزيون مسطح الشاشة يبدو باهظ الثمن. واصلت حديثها قائلةً: «أريدك أن تخبرني، رجاءً، باسم المستخدم وكلمة المرور لبريدك الإلكتروني بحزب القراصنة.»
أغلقت عينيَّ، وجُلت بخيالي بعيدًا.
أعادني صوتها إلى الواقع، وهي تسألني: «هل تعلم ما التعذيب بالغمر بالماء يا مايكي؟ هو أن تُقيَّد على هذا النحو، ونصب الماء فوق رأسك إلى أن يصل إلى أنفك وينزل في فمك. لا يمكنك الحيلولة دون حدوث المنعكس البلعومي، ويُعرَف ذلك بالإعدام الزائف. ومن موقعي هذا بالغرفة، يمكنني القول بأنك لن تتمكن من مقاومة الشعور بأنك تموت.»
حاولت الابتعاد بخيالي، لكنني كنت قد سمعت من قبل عن التعذيب بالغمر بالماء. لقد كان هذا هو، تعذيب حقيقي. ولم تكن هذه سوى البداية فقط.
لم أستطع الابتعاد بخيالي، فشعرت بضيق في صدري، وارتعشت رموش عينيَّ. وكان بإمكاني الشعور بمياه البول على ساقيَّ والعرق في شعري. وشعرت بحكة في جلدي بسبب البول الجاف.
ظهرت فوقي، وقالت: «لنبدأ باسم المستخدم.»
أغلقت عينيَّ بقوة.
قالت: «فلتغمراه بالمياه.»
سمعت صوت أشخاص يتحركون، فأخذت نفسًا عميقًا وحبسته.
بدأت المياه تتقاطر على رأسي، ملء مغرفة من الماء يُسكَب برقة على ذقني وشفتيَّ وصولًا إلى فتحتي أنفي المرتفعتين لأعلى. نزلت المياه في حلقي، وبدأت تخنقني، لكنني لم أسعل أو ألهث، وأدخلتها في رئتيَّ. حبست أنفاسي، وأحكمت إغلاق عينيَّ على نحو أقوى.
كان هناك اضطراب خارج الغرفة، صوت أشخاص يرتدون أحذية عالية الرقبة، وصيحات غاضبة حانقة. سُكِبت المغرفة على وجهي.
سمعت السيدة ذات الشعر القصير تقول شيئًا لشخص ما في الغرفة، ثم وجهت حديثها لي قائلةً: «اسم المستخدم فقط يا ماركوس، هذا طلب بسيط؛ فما الذي يمكنني فعله باسم المستخدم الخاص بك على أية حال؟»
هذه المرة، كان ما نزل عليَّ مرةً واحدة دلو كامل من الماء، فيض لا يتوقف، لا ريب أنه كان دلوًا ضخمًا. لم أستطع التحمل؛ فلهثت ولفظت الماء في رئتيَّ. سعلت وسحبت المزيد من الماء. كنت أعلم أنهم لن يقتلوني، لكنني لم أستطع إقناع جسمي بذلك. كل ذرة في كياني علمت أنني سأموت. لم أستطع حتى أن أبكي … فلم يتوقف صب المياه عليَّ.
توقفت بعد ذلك، وأخذت أسعل. لكن من الزاوية التي جلست فيها، سعلت المياه لتعود إلى أنفي ثانيةً، وجعلتني أشعر بحريق في جيوبي الأنفية.
كان السعال عميقًا حتى إنه أشعرني بالألم في ضلوعي وفخذيَّ عندما التوى جسدي في اتجاه معاكس له. لكم كرهت خداع جسمي لي، وعجز عقلي عن التحكم في جسمي، لكنني لم أستطع فعل شيء حيال ذلك.
وأخيرًا، خفَّ السعال بما يكفي لأن أستوعب ما كان يحدث حولي. علا صياح كما لو كان هناك من يتشاجر ويتصارع. فتحت عينيَّ وطرفت في الضوء البراق، ثم رفعت عنقي، وأنا لا أزال أسعل قليلًا.
زاد عدد من كانوا في الغرفة عما كان عليه عند بدء التعذيب، وكان أغلبهم يرتدون دروعًا واقية للجسم، وخوذات، وأقنعة من البلاستيك رمادي اللون. كانوا يصيحون في حراس الجزيرة الذين أخذوا يصيحون بدورهم وقد برزت العروق في أعناقهم.
قال واحد ممن ارتدوا دروعًا واقية: «سلموا أنفسكم! وارفعوا أيديكم لأعلى، فأنتم رهن الاعتقال!»
كانت السيدة ذات الشعر القصير تتحدث في هاتفها. لمحها أحد الرجال ذوي الدروع الواقية، وتحرك سريعًا إليها ليدفع الهاتف بعيدًا بيديه اللتين غطاهما القفاز. خيم الصمت على الجميع بينما الهاتف يطير في الهواء عبر الغرفة الصغيرة ليرتطم أخيرًا بالأرض ويتهشم تمامًا.
قُطِع الصمت بدخول ذوي الدروع الواقية إلى الغرفة. أمسك اثنان منهما بمن كانا يعذبانني. وتمكنت بالكاد من الابتسام عند رؤيتي وجه السيدة ذات الشعر القصير عندما أمسك بها رجلان من كتفيها، وأداراها، وكبَّلا معصميها بأصفاد بلاستيكية.
تحرك أحد الرجال ذوي الدروع للأمام من مدخل الباب. كان يحمل على كتفه كاميرا فيديو. كانت كاميرا ثقيلة تصدر ضوءًا أبيض يعمي العيون. كان يصور الغرفة بأكملها، ودار حولي مرتين أثناء تصويره لي. وجدت نفسي أنتظر ساكنًا تمامًا كما لو كان أحد يرسم لي صورة.
كان أمرًا سخيفًا.
تمكنت من التحدث ولكن بصوت مختنق بعض الشيء: «هل يمكنك تحريري؟»
تحرك اثنان من ذوي الدروع نحوي، أحدهما سيدة، وبدآ في فك الأربطة عني. رفعا الأقنعة عن وجهيهما وابتسما في وجهي. لاحظت وجود صلبان حمراء على كتفيهما وخوذتيهما.
وتحت الصلبان الحمراء شارتان أخريان، كانتا شارتي «دورية كاليفورنيا للطرق السريعة». لقد كانا من شرطة الولاية.
بدأت أتساءل ما كانت هذه القوات تفعله هناك، حينذاك رأيت باربارا ستراتفورد. كان من الواضح أنها قد مُنِعت من التقدم وظلت واقفة في الرواق، لكنها أخذت تدفع من أمامها وتشق طريقها بصعوبة في تلك اللحظة. قالت وهي تركع بجانبي وتمسك بي لتعانقني أطول وأقوى عناق شهدته في حياتي: «ها أنت ذا!»
عندئذٍ علمت ما حدث؛ جوانتانامو الخليج وقع في أيدي أعدائه. لقد نجوت.