الفصل الحادي والعشرون
أهدي هذا الفصل إلى متجر كتب بيدجز بوكس في تورونتو بكندا. يقع هذا المتجر — الذي طالما مثَّل علامة مميزة بشارع كوين ويست — أمام مبنى المحطة التليفزيونية «سيتي تي في» وعلى بُعد بضع خطوات من متجر باكا القديم الذي سبق لي العمل فيه. أحببنا في باكا تواجد متجر بيدجز بوكس بالقرب منا؛ فما كنا نمثله في مجال الخيال العلمي، كان بيدجز يمثله في كل مجال آخر. احتوى المتجر على كل ما لا يمكنك أن تجده في أي مكان آخر؛ أشياء لا تعلم أنك تبحث عنها إلى أن تراها أمام عينيك. يحتوي أيضًا على أحد أفضل أماكن عرض الصحف والمجلات التي رأيتها في حياتي، صفوف يعلو بعضها بعضًا من الصحف والمجلات الرائعة من جميع أنحاء العالم.
***
تركوني مع باربارا في الغرفة، واستخدمت رشاش الدُّش الذي لا يزال يعمل لأنظف نفسي؛ إذ شعرت فجأة بالإحراج لما غطى جسدي من بول وقيء. وعندما انتهيت، وجدت باربارا تبكي.
شرعت في الحديث قائلةً: «إن والديك …»
شعرت بأنني سأتقيأ مجددًا. يا إلهي! والداي المسكينان! لا بد أنهما عانيا كثيرًا.
«هل هما هنا؟»
فأجابت: «كلا، الأمر معقد.»
«ماذا؟»
«أنت لا تزال رهن الاعتقال يا ماركوس. الجميع هنا كذلك. لا يمكن لهذه القوات اقتحام المكان وفتح الأبواب على مصاريعها للجميع. كل المتواجدين هنا سيخضعون لنظام العدالة الجنائية، وقد يستغرق ذلك شهورًا.»
«سأضطر للبقاء هنا شهورًا؟»
أمسكت بيديَّ، وقالت: «لا، وأعتقد أننا سنتمكن من استدعائك للمحاكمة وإخراجك بكفالة سريعًا. لكن «سريعًا» مصطلح نسبي، فلا أتوقع حدوث أي شيء اليوم. ومع ذلك، فلن يكون المكان كما كان تحت سيطرة هؤلاء. سيتسم بالإنسانية، وستحصل على طعام حقيقي. لن تكون هناك تحقيقات، وسيتمكن ذووك من زيارتك.
واستبعاد وزارة الأمن الوطني لا يعني أنك ستخرج من هنا بهذه السهولة. ما حدث هنا هو أننا تخلصنا من الصورة الغريبة لنظام العدالة الذي أسسه هؤلاء الناس، واستبدلنا به النظام القديم؛ النظام الذي يتضمن قضاة ومحامين ومحاكمات علنية.
ومن ثم، يمكننا أن نحاول نقلك إلى إحدى دور تأهيل الأحداث في البر الرئيسي. لكن الحياة في هذه الأماكن شاقة للغاية يا ماركوس. قد يكون هذا أفضل مكان لك إلى أن نخرجك بكفالة.»
خروج بكفالة! بالطبع، لقد كنت مجرمًا. لم توجَّه لي اتهامات بعد، لكن هناك العديد من الاتهامات التي يمكنهم التفكير فيها؛ فأن تراودك أفكار سيئة عن الحكومة أمر مخالف للقانون.
ضغطت على يدي مجددًا، وقالت: «أعلم أن ذلك سيئ، لكن هكذا يجب أن تسير الأمور. الفكرة هنا هو أن ما كنا بصدده قد انتهى؛ فالحاكم طرد رجال الأمن الوطني من الولاية، وألغى جميع نقاط التفتيش. أما النائب العام، فأصدر أوامر بإلقاء القبض على ضباط تنفيذ القانون المتورطين في «الاستجوابات تحت الضغط» والحبس السري. سيدخلون السجن يا ماركوس، وكل ذلك بفضل ما قمت به.»
لم يُحدِث ما سمعته أي أثر في نفسي. سمعت الكلمات، لكنها خلت من أي معنى تقريبًا. فبشكل ما، انتهى الأمر ولم ينتهِ.
واصلت حديثها قائلةً: «انظر يا ماركوس، أمامنا ساعة أو ساعتان تقريبًا قبل الانتهاء من كل ذلك، وقبل أن يعودوا ويأخذوك مجددًا. ما الذي تريد فعله؟ السير على الشاطئ؟ تناول الطعام؟ غرفة العاملين هنا مذهلة. لقد مررنا عليها في طريقنا إلى هنا، ووجدنا بها أفضل أصناف الطعام.»
أخيرًا سؤال أود الإجابة عنه. قلت لها: «أريد العثور على آنج وداريل.»
•••
حاولت استخدام جهاز كمبيوتر كنت قد عثرت عليه للبحث عن أرقام زنزانتيهما، لكنه كان بحاجة لكلمة مرور، ومن ثم انتقلنا للسير في الأروقة ونحن نهتف باسميهما. وخلف أبواب الزنزانات، أخذ السجناء يصرخون أو يبكون أو يتوسلون إلينا لكي نخرجهم. لم يدركوا بعد ما حدث، ولم يتمكنوا من رؤية حراسهم السابقين وقد ساقتهم فرق المهام الخاصة التابعة لولاية كاليفورنيا إلى أرصفة السفن بعد تقييدهم بالأصفاد البلاستيكية.
أخذت أهتف بصوت يعلو الضجيج: «آنج! آنج كارفيلي! داريل جلوفر! هذا أنا ماركوس!»
اجتزنا مجموعة الزنزانات بالكامل، ولم يجب أحد. شعرت برغبة في البكاء. لقد رُحِّلا إلى خارج البلاد، لعلهما في سوريا أو مكان أسوأ. لن أراهما ثانية أبدًا.
جلست متكئًا على حائط الرواق، ووضعت يديَّ على وجهي. رأيت وجه السيدة ذات الشعر القصير وبسمتها المتكلفة وهي تسألني عن كلمة المرور الخاصة بي. هي من فعلت ذلك. ستذهب إلى السجن، لكن ذلك ليس كافيًا. لو رأيتها مجددًا، لربما قتلتها؛ فهي تستحق ذلك.
قالت باربارا: «هيا! هيا يا ماركوس، لا تستسلم، لا يزال هناك الكثير من الزنزانات هنا، هيا!»
كانت محقة؛ فجميع الأبواب التي مررنا عليها قديمة وصدئة يعود تاريخها للفترة التي بُنيت فيها القاعدة أول مرة. لكن في نهاية الرواق، كان هناك باب أمني حديث سميك مفتوح بعض الشيء. جذبناه لنفتحه، وغامرنا بالدخول إلى الرواق المظلم بالداخل.
كانت لا تزال هناك أربعة أبواب زنزانات أخرى، ولا تحمل رموز باركود. كل باب عليه لوحة مفاتيح إلكترونية صغيرة معلقة عليه.
ناديت: «داريل؟ آنج؟»
«ماركوس؟»
كان صوت آنج يهتف باسمي من وراء أقصى باب في الرواق. إنها آنج، ملاكي!
صحت: «آنج! هذا أنا!»
فقالت بصوت متهدج، ثم أخذت تبكي: «يا إلهي! ماركوس.»
قرعت الأبواب الأخرى بعنف وأنا أصيح: «داريل، داريل، هل أنت هنا؟»
فسمعت صوتًا ضعيفًا أجشَّ جدًّا يقول: «أنا هنا … أنا آسف، آسف بحق. أرجوك، أنا آسف جدًّا.»
بدا وَهِنًا … محطمًا.
قلت وأنا أميل على باب زنزانته: «هذا أنا يا دي، أنا ماركوس. لقد انتهى كل شيء؛ قبضت الشرطة على الحراس، وطردوا رجال الأمن الوطني من هنا. سنخضع للمحاكمات، محاكمات علنية. وسنشهد ضدهم.»
فرد عليَّ قائلًا: «أنا آسف. أرجوك، أنا آسف.»
حينذاك، حضر رجال دورية كاليفورنيا إلى باب زنزانته. كانت كاميرا الفيديو لا تزال تصور ما يحدث. قال أحدهم: «آنسة ستراتفورد؟» كان قناع وجهه مرفوعًا، وبدا كأي شرطي آخر جاء لحبسي وليس إنقاذي.
فقالت باربارا: «كابتن سانشيز! لقد حددنا موقع اثنين من المساجين المهمين هنا. أرغب في إطلاق سراحهما والتحقق منهما بنفسي.»
أجابها: «لم نحصل بعد، يا سيدتي، على شفرات دخول هذه الأبواب.»
فرفعت يدها، وقالت: «لم يكن هذا ما اتفقنا عليه؛ لقد اتفقنا على أن أتمكن من دخول كافة أرجاء هذا المكان، وهذه أوامر مباشرة من حاكم الولاية. لن نتزحزح من هنا إلى أن تفتح هاتين الزنزانتين.» علا الهدوء التام وجهها، دون أي توتر، وقد كانت تعني ما تقول.
بدا الضابط بحاجة للنوم. قطب جبينه، وقال: «سأرى ما يمكنني فعله.»
•••
أخيرًا وبعد نصف ساعة، تمكنوا من فتح الزنزانات. حاولوا ثلاث مرات، لكنهم في النهاية توصلوا للشفرات الصحيحة، وطابقوا بينها وبين شرائح تحديد الهوية بالموجات اللاسلكية الموجودة على شارات الهوية التي نزعوها من على ملابس الحراس الذين ألقوا القبض عليهم.
دخلوا زنزانة آنج أولًا. كانت ترتدي ملابس مرضى المستشفيات المفتوحة من الخلف، وزنزانتها أكثر خلوًّا من زنزانتي؛ فما كان بها سوى حشية واحدة فقط، ولم يكن هناك سرير أو حوض أو إضاءة. خرجت تطرف بعينيها في الرواق، وكاميرا الشرطة مسلطة عليها وضوؤها البراق يرتكز على وجهها. وقفت باربارا بيننا وبين الكاميرا لتحمينا منها. خرجت آنج مترددة من زنزانتها، متثاقلة بعض الشيء في مشيتها. كان بعينيها ووجهها خطب ما. كانت تبكي، لكن ليس هذا هو الخطب.
قالت: «لقد خدروني عندما لم أتوقف عن الصراخ في طلب محامٍ.»
حينذاك احتضنتها. كانت ضعيفة، لكنها بادلتني العناق. فاحت منها رائحة بول وعرق. لم أكن أفضل حالًا منها. لم أرد أن أتركها من بين يدي قط.
وفي تلك اللحظة، فتح رجال الشرطة زنزانة داريل.
كان قد مزق رداء المستشفى والتف حول نفسه عاري الجسد في نهاية الزنزانة، محاولًا حجب نفسه عن عدسة الكاميرا وعيوننا. ركضت إليه.
همست في أذنه: «دي، هذا أنا ماركوس. لقد انتهى كل شيء، وأُلقي القبض على الحراس. سنخرج بكفالة، ونعود إلى منازلنا.»
ارتجف، وأغلق عينيه بقوة، وقال هامسًا: «أنا آسف»، ثم أشاح بوجهه بعيدًا.
أبعدني بعد ذلك شرطي يرتدي درعًا واقيًا ومعه باربارا، وأعاداني إلى زنزانتي وأغلقا الباب لأقضي تلك الليلة فيها.
•••
لا أتذكر الكثير عن ذهابي إلى قاعة المحكمة. كبَّلتني الشرطة مع خمسة مساجين آخرين مضى على وجودهم جميعًا في السجن مدة أطول مما قضيتها فيه. أحدهم فقط كان يتحدث العربية؛ كان رجلًا كبير السن، وكان يرتعد. أما الآخرون، فكانوا جميعًا شبابًا. كنت الوحيد الأبيض البشرة بينهم. وما إن تجمعنا على ظهر المعدية حتى لاحظت أن جميع من في سجن جزيرة «تريجر آيلاند» داكنو اللون بدرجات متفاوتة.
لم يمضِ على وجودي بذلك السجن سوى ليلة واحدة، لكنها كانت طويلة للغاية. سقطت علينا بعض الأضواء، كانت من ذلك النوع الذي يجعلني أحني كتفي وأنظر إلى أسفل، لكنني اليوم رفعت رأسي مثل الجميع للنَّظر إلى السماء الرمادية مترامية الأطراف، مستمتعين أثناء ركضنا وصولًا إلى أرصفة المعديات.
نقلتنا الشرطة في حافلات كان من العسير الصعود إليها ونحن مكبلون بالأصفاد، فاستغرق صعود الجميع وقتًا طويلًا. لم يهتم أحد بذلك. لم نكن نحاول حل معضلة كيفية صعود ستة أشخاص مكبلين في سلسلة واحدة على ممشى حافلة ضيق، وإنما ننظر إلى المدينة من حولنا والمباني أعلى التل.
لم يشغل بالي سوى العثور على داريل وآنج، لكنني لم أرَ أيًّا منهما. كان الحشد كبيرًا، ولم يكن مسموحًا لنا بالتحرك فيه بحرية. اتسم رجال شرطة الولاية بالرفق، لكنهم كانوا مع ذلك ضخام البنية ويحملون الدروع والأسلحة. أخذت أتخيل رؤيتي لداريل وسط الجمع، لكنه كان دومًا شخصًا آخر له نفس هيئة الأحدب المرهق التي بدا عليها داريل في زنزانته. لم يكن الوحيد المحطم في ذلك المكان.
وفي قاعة المحكمة، ساقونا إلى غرف المقابلات ونحن مكبلون بالأصفاد. حصلت محامية تابعة للاتحاد الأمريكي للحريات المدنية على إفادتنا، وطرحت علينا بضعة أسئلة — وعندما وصلت إليَّ، ابتسمت في وجهي ووجهت لي التحية بالاسم — ثم قادتنا إلى قاعة المحكمة لنمثل أمام القاضي. كان القاضي يرتدي رداء القضاة المعروف، وبدا في حالة مزاجية جيدة.
كان من الجلي أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه هو أن كلَّ من كان لديه فرد في العائلة يمكنه دفع الكفالة له، سيُطلَق سراحه، في حين يُحبَس الآخرون. تحدثت محامية الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية طويلًا مع القاضي، وطلبت منه السماح ببضع ساعات تُجمَع خلالها أسر السجناء لتحضر إلى قاعة المحكمة. تقبل القاضي الأمر جيدًا، لكنني عندما تذكرت أن بعضًا من أولئك السجناء كانوا رهن الاعتقال منذ تفجير الجسر، واعتبرتهم أسرهم في عداد الموتى، دون محاكمة، وتعرضوا للاستجواب والعزل والتعذيب؛ أردت كسر أغلالهم بنفسي وتحريرهم جميعًا.
عندما مثلت أمام القاضي، نظر لأسفل نحوي وخلع نظارته. بدا مرهقًا، وكذلك محامية الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية وحُجَّاب المحكمة. سمعت خلفي همهمة مفاجئة عندما نطق الحاجب باسمي. دقَّ القاضي بمطرقته مرة واحدة دون أن يبعد نظره عني، ثم فرك عينيه.
قال: «ترى جهة الادعاء، يا سيد يالو، أنك قد تغادر البلاد وتشكل خطرًا على العدالة، وأعتقد أن لديهم حقًّا في ذلك؛ فمما لا شك فيه أن لديك ما يمكن أن نطلق عليه «تاريخًا» أطول من باقي المتهمين هنا؛ ومن ثم، فستظل محجوزًا لتخضع للمحاكمة مهما كانت الكفالة التي يمكن لوالديك تقديمها.»
شرعت المحامية تتحدث، لكن القاضي أسكتها بنظرة، وفرك عينيه.
«هل لديك ما ترغب في قوله؟»
أجبته: «كانت لدي فرصة للهرب. كان ذلك الأسبوع الماضي عندما عرضت عليَّ فتاة تهريبي وإخراجي من المدينة ومساعدتي في الحصول على هوية جديدة. لكنني سرقت هاتفها، وهربت من الشاحنة. وسلمت الهاتف — الذي احتوى على دليل عن صديقي داريل جلوفر — إلى إحدى الصحفيات، واختفيت هنا في المدينة.»
«أسرقت هاتفًا؟»
«لقد قررت عدم الهروب، وأن عليَّ مواجهة العدالة … قررت أن حريتي لا تساوي شيئًا إذا كنت رجلًا مطلوبًا من العدالة، أو كانت المدينة تحت سيطرة وزارة الأمن الوطني وأصدقائي محتجزين. قررت أن حريتي ليست بقدر أهمية حرية البلد.»
«لكنك سرقت هاتفًا.»
فأومأت برأسي، وقلت: «نعم، فعلت. عزمت على إعادته لصاحبته إن وجدتها.»
قال القاضي: «حسنًا، شكرًا على هذه الخطبة، سيد يالو. إنك لرجل مفوَّه حقًّا»، ثم حدق في ممثل الادعاء، وواصل حديثه: «وقد يراك البعض شجاعًا أيضًا للغاية. بثت الأخبار هذا الصباح مقطع فيديو يوضح أنه كان لديك سبب مشروع للهروب من السلطات. وفي ضوء ذلك، وحديثك الآن، سأسمح لك بالخروج بكفالة، لكنني سأطلب من ممثل الادعاء إضافة جنحة سرقة بسيطة لحساب الكفالة بسبب سرقتك للهاتف. وبذلك، أتوقع زيادة الكفالة بمبلغ ٥٠٠٠٠ دولار.»
دقَّ بمطرقته مرة أخرى، وأمسكت المحامية بيدي بقوة.
نظر القاضي إليَّ مجددًا، وارتدى نظارته. ظهر قشر شعره على كتفَي الرداء الذي كان يرتديه، ونزل المزيد منه على نظارته عندما لمست شعره المتجعد.
«يمكنك المغادرة الآن أيها الفتى، وابتعد عن المشكلات.»
•••
استدرت لأغادر، فأمسك بي شخص ما، كان أبي. حملني — بكل ما تحمله الكلمة من معنى — وعانقني بقوة حتى صرَّت ضلوع جسدي. عانقني كما كان يعانقني عندما كنت صبيًّا صغيرًا، ويدور بي في ألعاب الطيران الباعثة على القيء، والتي كانت تنتهي برميه لي في الهواء ثم التقاطه لي وعناقي بقوة تكاد تؤلمني.
انتزعتني برفق من بين ذراعيه يدان أكثر نعومة. كانت أمي. أمسكت بي على بُعد للحظات، باحثةً في وجهي عن شيء ما دون أن تنطق بأية كلمة، والدموع تغرق وجهها. ابتسمت وعلا صوت بكائها، ثم عانقتني هي أيضًا، وأحاطنا والدي بذراعيه.
وعندما تركاني، تمكنت أخيرًا من أن أنطق قائلًا: «داريل؟»
«التقيت بوالده في مكان ما؛ إنه في المستشفى.»
«متى يمكنني رؤيته؟»
فأجاب أبي بوجه متجهم: «سنذهب إليه الآن. إنه لا …» ثم توقف، واستطرد قائلًا بصوت مختنق: «إنهم يقولون إنه بخير.»
«ماذا عن آنج؟»
«اصطحبتها والدتها إلى المنزل. أرادت انتظارك هنا، لكن …»
تفهمت ما حدث. فقد صرت متفهمًا ما تشعر به أسر جميع المحتجزين. ملأ المحكمة العناق والدموع، وما تمكن الحُجَّاب أنفسهم من إيقافه.
قلت لهما: «لنذهب لزيارة داريل. وهل لي في استخدام الهاتف؟»
تحدثت إلى آنج ونحن في طريقنا إلى المستشفى حيث احتُجِز داريل — كان مستشفى سان فرانسيسكو العام في نفس الشارع الذي نحن فيه — واتفقت على مقابلتها بعد العشاء. تحدثت بهمس سريع؛ فوالدتها لم تقرر بعد ما إذا كانت ستعاقبها أم لا، لكن آنج أرادت المخاطرة.
وقف اثنان من شرطة الولاية في الرواق الذي توجد به غرفة داريل. كانا يمنعان حشدًا من الصحفيين الذين وقفوا متأهبين جدًّا ليسترقوا النظر من حول الضابطين ويلتقطوا الصور. برقت أضواء الكاميرات في عيوننا، فهززت رأسي للتخلص منها. كان والداي قد أحضرا لي ملابس نظيفة ارتديتها في المقعد الخلفي بالسيارة، لكنني شعرت بالاشمئزاز من نفسي، حتى بعد أن نظفت نفسي في حمامات المحكمة.
نادى بعض الصحفيين عليَّ؛ فقد صرت مشهورًا الآن، ونظر إليَّ ضابطا الولاية أيضًا، إما لأنهما تعرفا على وجهي أو لهتاف الصحفيين باسمي.
قابلنا والد داريل عند باب غرفته بالمستشفى وهو يتحدث بصوت هامس تعذر على الصحفيين سماعه. كان يرتدي ملابس مدنية: بنطال جينز وسترة اعتدت رؤيته بهما، لكن ظلت أوسمة خدمته معلقة على صدره.
قال: «إنه نائم، استيقظ منذ فترة بسيطة وبدأ يبكي، ولم يستطع التوقف؛ فأعطاه الأطباء دواءً لمساعدته على النوم.»
تقدمنا إلى داخل الغرفة حيث كان داريل. كان شعره نظيفًا وممشطًا، وينام وفمه مفتوح. كانت هناك مادة بيضاء عند جانبي فمه. رقد معه في الغرفة ذاتها رجل أكبر سنًّا ذو ملامح عربية في الأربعين من عمره. أدركت بعد ذلك أنه الرجل الذي كان مقيدًا معي عند رحيلنا من جزيرة «تريجر آيلاند». لوح كلٌّ منا للآخر بخجل.
تحولت بعد ذلك إلى داريل، وأمسكت بيده. كانت أظافره مقضومة عن آخرها. كان يحب قضم أظافره عندما كان طفلًا، لكنه أقلع عن ذلك عند دخولنا المدرسة الثانوية. أعتقد أن فان هي من جعلته يتوقف عن هذه العادة بأن أخبرته أن وضعه لأصابعه في فمه طوال الوقت أمر مثير للاشمئزاز.
سمعت والديَّ ووالد داريل يبتعدون عنا ويغلقون الستائر من حولنا. وضعت رأسي بجوار رأسه على الوسادة. كانت له لحية شعثة مرقعة ذكرتني بزيب.
قلت: «مرحبًا دي! لقد نجوت، وستصير بخير.»
غط في نومه قليلًا، وكدت أقول له: «أحبك!» وهي العبارة التي لم أنطق بها إلا لشخص واحد ليس من أفراد العائلة، عبارة كان من الغريب قولها لشاب مثلي. وفي النهاية، ما كان مني إلا أن أمسكت يده الأخرى وضغطت عليها. داريل المسكين!