عندما يَحْلُم العقلاء
للمصور الإسباني فرانسسكو جويا (١٧٤٦–١٨٢٨م) صورةٌ جعل عنوانها «أحلام العقل» أو «رُؤى العقل»، يُصور بها رجلًا منهوكَ القُوى، جلس على كرسيِّه إلى جوار مِنْضَدة، مادًّا ساقَيه على الأرض، ملتفةً منها ساقٌ على ساق، والرأس — مستورًا بالذراعَين — مُنكَبٌّ على سطح المِنضَدة، وحول الجسد المهدود هوَّمَت كائناتٌ غريبة مخيفة، منها ذَوات الجناح كأنها الخفافيش، رُكبَت عليها رءوس البوم، ومنها الرابضُ على الأرض ربضةَ الفهد المفترس يتحفَّز لفريسته ..
تُرى هل رقد الرجل في جِلسته رقْدةَ النعاس، أو غفا غفوةَ السارح في أحلامه؟ لسنا ندري، لكن تأويلات المُؤَوِّلين من نقَّاد الفن، تذهب في تفسير الصورة مذاهبَ شتى، فتأويلٌ منها يقول إنَّ الصورة رمزٌ للعقل إذا غفا، فتدهَمُنا مع غفوته وحوشُ الخرافة والضلال، وتأويلٌ آخر يقول إنَّها رمزٌ للعقل وقد انتصَر بغزَواته، فثَمِلَ مخمورًا بنصره، وظنَّ أنه قد أصبح وحدَه سيدَ الموقف ومالكَ الزِّمام، فما لبث أن أحاطت به أسبابُ الهلع والجزع.
التأويل الأول هو تأويلُ المؤمن بالعقل وقدرته، وهو يحثُّ الناس على أن يَمضوا مع عقولهم قُدمًا في جُرأة وبسالة؛ لتخلوَ الحياة من أوهامها وأشباحها، والتأويل الثاني هو تأويل المُرْتاب في العقل وقدرته، فيرى لِزامًا أن يستندَ العقلُ إلى إيمان حتى لا ينحرفَ عن جادة الهداية والصواب.
والمعنى هو على أي حال في بطن الفنان، لكني لا أعرفُ لماذا ذهب أصحابُ التأويل مذاهبَ شتى، وقد أشار الفنان إلى مراده بعبارةٍ كتبَها على جانب المنضدة التي استلقى عليها الرجلُ برأسه وذراعيه، إذ كتب يقول: «إذا العقل استغنى عن الخيال؛ تولَّدَت أشباحٌ مخيفة .. أمَّا إذا اقتَرَنا فانتظر منهما المعجزات.» وإذن فقد أصاب صاحبَنا المنهارَ ما أصابه؛ لأنَّه أراد أن يعتمدَ على العقل وحدَه غير مُتوكِّئٍ على خيال.
وما العقل؟ وما الخيال؟ قبل أن نمضيَ في الحديث .. لعلَّ أوجز عبارةٍ توضحهما وتُقارن بينهما هي أن نقول إنَّ العقل يُعالج الواقع كما يقع، وأمَّا الخيال فيُصوِّر الممكن، الذي لو أسعَفَته الظروفُ خرج من عالم الإمكان إلى عالم الواقع.
إنك — بالعقل — تشتري وتبيع وتبني البيوت وتنسج الثياب وتتَّقي البرد والحر، وبالعقل يحكم الحاكمون ويُخطِّط الساسة، وبالعقل تَصنع الأجهزةَ العلمية، وتُجري البحوث، وتُركِّب العقاقير، وتهزم المرض .. لكنَّك — بالخيال — تصعد الجبال وأنت على كرسيِّك جالس، وتحيا حياةَ القصور إذا لم تكن من أهلها، وتفتكُ بالأعداء في ميدان القتال، وأنت راقدٌ في مخْدَعِك. إنك — بالخيال — ترسم لنفسك ما شئتَ من صور، وإنَّما يمتاز خيالٌ من خيالٍ بمدى قربه أو بُعده عمَّا يُمكن تحقيقه لو زالت العوائق من الطريق، فإذا شطحتَ بخيالك نحو المستحيل، كان ذلك هو تخليطَ المجانين، وأمَّا إذا قيَّدتَ خيالك بقيود المستطاع، كان هو الخيالَ الذي يحلُم به العقلاء.
فإعفاء الخيال من قيود الواقع، يخلق للمجنون عالَمًا كعالَم الوحوش المجنَّحة، التي رسَمها جويا في الصورة التي ذكَرناها، كذلك يخلق تلك الوحوشَ أن نضرب في أرض الواقع صُمًّا بُكْمًا، لا نهتدي بفكرةٍ تخيَّلناها ورسمناها في الأذهان لنسيرَ على هُداها.
ونَسُوق مثلًا للعاقل كيف يحلُم بالواقع المرجوِّ قبل وقوعه، فيُرسل لخياله العِنان بمقدارِ ما يُمكِّن ذلك الخيالَ من السير المستقيم الذي لا يكبو معه ولا يتعثر، مثل فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) حين تخيَّل في كتابٍ له صغير، اسمه «أطلنطس الجديدة» ما يتمنَّاه للإنسان من حياةٍ عِلمية عمَلية، يتخلَّص فيها مما كان قد أحاط به إبَّان العصور الوسطى من جوٍّ كلُّه «كلام في كلام». فهذا نص، وهذا تحليله، وهذا شرحٌ لتحليله، وذلك هو الشرح على الشرح، والتحليل للتحليل! فينتقل الدارسُ من فِقرةٍ في كتاب إلى فقرةٍ أخرى في كتاب، ثم من مقدمةٍ على صفحة إلى نتيجةٍ تلزم عنها على صفحة أخرى، وهكذا كانت رحلة الدارسين تبدأ على الورق وتنتهي على الورق: كلامٌ يسبقه كلام ويَلحقُه كلام، ثم يُقال عن أصحابه إنَّهم «علماء».
فحَلَم فرانسيس بيكون بيومٍ يُغير فيه الإنسانُ معنى «العلم»؛ فلا يُطلق هذه الكلمة العظيمة إلَّا على ذلك الضَّرب من الكلام الذي لا يكاد يُثبته صاحبه على صفحات كتابه، حتى يَثِبَ إلى حياة الناس عملًا ينفع، وله في مقارنة «العلم» بمعناه اللفظي القديم، و«العلم» بمعناه التطبيقي الجديد، تشبيهاتٌ رائعة؛ فهو بمعناه القديم كالغانية تكون للمتعة لا للثمر والإنجاب؛ هو بمعناه القديمِ كالطفل في وُسْعِه أن يتكلم، لكن ليس في وُسْعِه أن يَنسُل البنين، أنه بمعناه القديم كالمرأة العاقر، تُناقِش وتُناقَش، لكنَّها لا تلد.
إنَّ العلماء بالمعنى القديم هم كالعناكب، ينسجون النسيج من أجوافهم، وإذا كان ذلك لا يُقدم من الدنيا ولا يؤخر، فكذلك لا يُقدم منها ولا يؤخرُ أن يجيء علماء من طرازٍ جديدٍ، يزعمون لأنفسهم أنهم علماء «تجريبيون»، ثم لا يَزيدون على تكديس المعلومات فوق المعلومات، والإحصاءاتِ فوق الإحصاءات، فذلك التجميع يجعل منهم طائفةً من النمل، تخزن مخزونَها دون أن تُغير منه شيئًا، وأمَّا العلماء الذين كان يحلم بهم بيكون فهم كالنحل، يمتصُّون من الطبيعة رحيقًا، ثم يُصيِّرونه عسلًا حُلوَ المذاق.
العلم قوة — وهذه عبارةٌ قالها بيكون — بمعنى أنه أداةٌ لتغيير البيئة المحيطة بنا على النحو الذي يُحقق أغراضَنا، فإذا كنتَ قد حصَّلت «كلامًا» تُسميه علمًا، ثم لا تعرف كيف تستخدمه أداةً للتغيير والخلق، فاعلم أنَّك لم تُحصِّل من «العلم» شيئًا.
يروي لنا الراوي في هذه «اليوتوبيا» العِلمية، كيف أقلع مع رفقائه من بلاد بيرو، حيث صوَّبوا نحو شواطئ الصين واليابان، لكن الرياح أخذَت تهبُّ عليهم أثناء الطريق، مواتيةً حينًا، مُعاكسةً حينًا، حتى طال بهم الأمر، وقلَّ مِن خزائنهم الزاد، ثم شاءت لهم عناية الله أن يُصادفوا في الطريق هذه الجزيرةَ التي أذهلهم أهلوها بمستوى عيشهم الرفيع، وبمحصولهم العلميِّ الغزير، وسرعان ما استُضيفوا هناك في بيتٍ هو بينَ البيوت آيةٌ فريدة، يُطلق عليه «بيت سليمان»، خُصص للبحوث العلمية، وهي بحوثٌ لم يكن العالم قد سمع بمثلها إلى ذلك الحين، وإنَّما سُمي بيتَ سليمان تذكيرًا للباحثين برسالتهم، وهي أن يدرسوا النبات والحيوان — كما حاول سليمانُ أن يفعل — دراسةً لا تترك من كائنات الأرض والبحر والهواء كائنًا ما دامت فيه حركةُ وحياة، وإنَّهم ليُطلقون على هذا البيت أحيانًا اسمًا آخر، هو «معهد مخلوقات الأيام الستة» — وهي المخلوقات التي خلقها الخالقُ في ستة أيام، أعني أنها هي الكائنات جميعًا.
أُخذ الزائرون إلى بيت سليمان، حيث أُدخلوا على رئيس البيت في غرفةٍ جميلة، مُزدانةٍ بما عُلِّق على جُدرانها، وبما فُرشت به أرضُها، وكان الرئيس متربعًا على عرشٍ وَطيءٍ لكنه عُنِي بزخارفه، مُتَّشِحًا بوشاحٍ رسمي على رأسه، صُنع من الحرير الأزرق المُوشَّى، وكان وحيدًا في غرفته إلَّا غلامَين مُعاونين، وقَفا عن يمين عرشه ويساره، وقد ارتَدَيا ثيابًا ناصعة البياض. وبعد أن حيَّاه الزائرون تحية الخشوع، انصرف الجميع إلَّا واحدًا منهم — بحسَب ما أُوصوا بفِعله قبل دخولهم — وأُذِن لهذا الواحد بالجلوس، ثم أخذ الرئيس يُحدثه بالإسبانية عن بيت سليمان، فقال: بارك الله فيك يا بُني، إنني سأقدم إليك الآن أنفَسَ جوهرة في حوزتي، وذلك لأني سأصفُ لك — في سبيل محبة الله والإنسان — بيتَ سليمان، ولكي تكون الصورة التي أقدِّمها واضحة؛ سأسلُك في تقديمها هذا الترتيب الآتي:
سأبدأ بأن أدلَّك على الغاية التي قُصد إليها من إقامة هذا البيت، ثم أعقِّب على ذلك بذِكر ما هنالك من معدَّات وأجهزةٍ نستعين بها على أداء بحوثنا العلمية، وبعدئذٍ أنبِّئُك بمختلِف المناصب والمهامِّ التي يَشغَلُها ويؤدِّيها العاملون في هذا البيت، وأخيرًا أبيِّن لك ما ينبغي لنا اتباعُه هنا في هذا البيت العِلمي من مبادئَ ومن شعائر.
أمَّا الغاية التي قُصد إليها من إقامة هذه المؤسسة العلمية، فهي معرفة الكائنات من حيث عِللُ حدوثها وما يسري فيها من حركات خافية؛ ابتغاءَ أن نوسع من رُقعة السيادة للإنسان على عالم الأشياء.
وأمَّا المعدَّات والأجهزة التي نستعين بها في بحوثنا فهي هذه: لدينا كهوفٌ فسيحة وعميقة، تتفاوتُ فيما بينها سَعةً وعُمقًا، أمَّا أعمقُها فيبلغ ثلاثةَ آلاف وسِتَّمائة قدم، ولقد احتَفَرْنا بعضَ هذه الكهوف تحت التِّلال العالية والجبال، فإذا ما أضفتَ ارتفاع الجبل إلى عمق الكهف؛ وجدتَ قاع الكهف على بُعد ثلاثة أميال وأكثر، فانظر كم يبعد هذا القاع عن ضوء الشمس وتيَّار الهواء، وإننا لنُسمي هذه الكهوف باسم «المنطقة السفلى»، ونستخدمها في أعمالٍ كالتبريد وحفظ الأجسام من الفساد، كما نستخدمها في أن تفعل بالعناصر فعلًا شبيهًا بما يتمُّ في المناجم الطبيعية، وبذلك يُمكن استخراج معادنَ جديدةٍ نبتكرها لأنفسنا ابتكارًا، بما نصنعُه من تركيبات وتكوينات نضمُّ بها العناصر بعضَها إلى بعض في صور جديدة، ثم نتركها في أعماق الكهوف، لتفعلَ هناك فعلها على مرِّ السنين، بل إنَّا لنستخدم تلك الكهوفَ (وقد يبدو هذا غريبًا) في معالجة بعض الأمراض، وفي إطالة أمدِ الحياة لمن شاء من الزهَّاد أن يعتصمَ بتلك الصوامع، وكذلك نستخدم الكهوف في صناعة صُنوفٍ من الخزَف تفوق ما يصنعه أهلُ الصين من ذلك، كما نستخدمها في تكوين مُخصِّبات للأرض مختلفة الشُّكول.
وفي مقابل تلك الكهوف، أقمنا «الأبراج العالية» يبلغ أعلاها نحوَ نصف ميل. وكما حفرنا الكهوفَ تحت الجبال ليُضاف ارتفاع الجبل إلى عمق الكهف، فكذلك أقمنا الأبراجَ فوق قمم الجبال لتزدادَ بها ارتفاعًا، وبذلك يصلُ أعلى الأبراج أكثرَ من ثلاثة أميال، ونُطلق على هذه الأبراج اسم «المنطقة العليا»، ونعدُّ المنطقة التي تقع وسطًا بين «العليا» و«السفلى» منطقةً وُسْطى، وإنا لنستخدم هذه الأبراجَ بما يتناسب مع تفاوتها في الارتفاع وتباعُدِها في الموقع؛ نستخدمها في عمليات العزل والتبريد والحفظ، ونستخدمها مراصدَ فلَكيةً نرصد بها مسارَ الشهب، ومهبَّ الريح، وسقوطَ المطر والصقيع، وكما صنعنا في الكهوف فكذلك نصنع في الأبراج، بأن نجعلها ملاذًا للزهاد، وإنَّنا في كِلتا الحالين لَنُمِدُّهم بما يتطلبون في عزلتهم، لقاءَ أن نُوصِيَهم بملاحظة ما نريد لهم أن يُلاحظوه.
ولدينا بحيراتٌ فسيحة، بعضها ملح الماء، وبعضها عَذْب، وفيها نُربي الأسماكَ والطير، كما ندفن في قاعها بعضَ الأجسام الطبيعية؛ فقد وجدنا أنَّ حالة الجسم الدفين تتغير على نحوٍ وهو تحت تربة الأرض المعرَّضة للهواء، وتتغير على نحوٍ آخَر وهو تحت الماء، وعندنا بِرَك (جمع بِرْكة) أعدَدْناها لنستخلص الماء العذْب من الماء الأُجَاج، بعزلها المِلْحَ عن الماء، أو لتُحوِّل الماء العذب إلى ماء مِلْح، بحسَب ما نريد. وكذلك أقمنا صخورًا وسَط البحر، وصنعنا خُلْجانًا على شاطئه؛ لنجعلَ من هذه وتلك معاملَ للتجارِب العِلمية، إذا ما كانت تلك التجارِبُ بحاجةٍ إلى هواء البحر وبَخْرِه، كما أنَّ لدينا تياراتٍ مائيةً قوية الدفع، سريعة الجريان، وشلالات؛ لنستخدمَ هذه وتلك في إدارة الآلات، أو لإحداث السرعة في حركة الرياح إذا ما أردنا استخدامَ الريح السريعة القوية في إدارة الآلات أيضًا.
واحتفرنا آبارًا على نحوٍ يجعلها قريبةً من الينابيع الطبيعية؛ لتكون لها من الفوائد ما ندبر لها، كما أعدَدْنا المراصد، ومعاملَ التفريخ التي نفحصُ فيها توالد الحشرات والزواحف، ومصحَّاتٍ مكيفةَ الهواء بالدرجة الحرارية التي نحتاج إليها لمختلِف صنوف المرضى، وحمامات للاستشفاء، وكذلك عندنا حدائقُ وبساتين على أنواع مختلفة، لا نقصد فيها إلى التمتُّع بالجمال، قَدْرَ ما نبغي لها أن تكون معاملَ تجريبية لزراعة صنوف الشجر والعُشب، وفي هذه الحدائق والبساتين تُستخلَص عيناتٌ تجريبية لأنواع العصير والشراب، المستخرَجة من النبات والثمر، كما نستغلُّ تلك المعامل التجريبية في خلقِ أنواع جديدة من النبات عن طريق التهجين، وكذلك نتحكمُ بالنسبة إلى بعض الزهر والثمر في توقيتِ نضجه، فنجعله ينضج قبل أوانه الطبيعي أو بعد أوانه، كما نجعله يحمل محصولًا أوفرَ وأغزر مما أرادَت له الطبيعة أن يحمل. ونَزيد من حلاوة الثمر إذا أردنا ذلك، ونَزيد من حجمه، ونُنوِّع درجاتِ الطَّعم كما نشاء لكلِّ فاكهة، كما نُنوع من الشكل واللون والرائحة، وأضِفْ إلى هذا كلِّه أنَّنا نستخرج من تلك المزارع التجريبية ما نراه يصلح في باب الطبِّ والعلاج.
وقُل هذا نفسَه بالنسبة إلى ما عندنا من مَرابي الحيوان التي لا نقصد فيها إلى جَمال الجِلد والريش، بقدرِ ما نقصد إلى التشريح وإلى التجارِب على الكائنات الحية، لنهتديَ بالنتائج إلى ما يُمكن تطبيقه على الإنسان، وإلى جانب ما نُجريه من تجارِب العقاقير وما إليها، هنالك التجارِب نُجريها على إحداث التغيُّرات في أطوال الحيوانات وأحجامها، وفي الزيادة أو القلة من إخصابها، وفي تنويع ألوانها وأشكالها ودرجةِ الفاعلية فيها، فضلًا عن المزاوَجة بينها؛ ما يُخْرِج لنا صنوفًا جديدة، ولسنا في شيءٍ من هذا كلِّه نركنُ إلى المصادفات، بل إننا — في مَجرى التجارِب العِلمية — لنكونَ على يقين من أي شيء نضيفه إلى أيِّ شيء لينتج لنا كذا أو كَيْت من الكائنات.
ولن أطيل بك الوقوف عند ما لدينا من معاصرَ ومَخابز ومطاعم، نُخْرِج بها المآكلَ والمشارب بكل ما يشتهيه المذاق، لأنتقلَ بك إلى ما قد بلَغْناه في صنع الآلات وما نصنعه بها: الورق، وأنسجة التيل والحرير، والطَّنافس، وغير ذلك من أسباب الترف، كما أنَّ لدينا من المعامل العِلمية ما تعلو فيه درجاتُ الحرارة وما تهبط، ومن المراصد ما يُمكِّننا من دراسة الضوء والإشعاع واللون والشفافية، وكل ما يتصل بهذا الأصل من فروع، كالبحث في الأحجار الكريمة، وفي المنشورات الزجاجية، وغير ذلك، ولدينا كذلك من المعامل ما يُمكِّننا من دراسة الصوت على اختلافِ درجاته وتنوُّع مصادره، ويدخل هذا البابَ دراسةُ النطق، وأصداء الصوت، وانعكاساته، ووسائلِ تقويته، وطرائقِ توصيله إلى مسافات بعيدة، وشبيهٌ بذلك ما عندنا من معاملَ لإجراء التجارِب على الروائح، فنستخرج العطور، وفي هذه المعامل نفسِها تُجرى التجارِب على الطُّعوم، وهكذا لا نترك شيئًا مما تراه العين، أو تسمعه الأذن، أو يذوقه اللسان، أو يشَمُّه الأنف، إلَّا وأخضعناه للتجارِب التي تُمكِّننا من الإمساك بزِمامه، ومن إنتاج الجديد فيه.
وبعد أن أفاض الرئيس في وصفِه لما يحتوي عليه بيتُ سليمان من أجهزةٍ علمية ومن تجارب، ختَم حديثَه بموجز عن إدارة هذا البيت، وما يُتَّبَع فيه من أوضاع، وبارَك لزائره، وتمنى له ولبلاده التقدُّم والصعود.
كان ذلك حُلْمًا حَلَم به عاقلٌ عاش في القرن السادس عشر، حين لم يكن يعرف الناسُ من أمور دنياهم إلَّا قليلًا، جاءهم عن طرق خِبرات القرون الطويلة، ولم يكن قد طاف برءوسهم أنَّه هو العلم الطبيعي وتطبيقُه الذي في يده أن يَثِبَ بالحياة طيرانًا إلى أجواز الفضاء، وغوصًا إلى جوف الأرض وأغوار الماء، بهذا وحدَه وبأمثاله يتغيَّر وجهُ الدنيا.
لكن هذا كله كان عند فرانسيس بيكون خيالًا يتخيَّله، لا واقعًا يعيشه، ثم جاء العلم بعدَئذٍ ليُصيِّر الخيالَ علمًا وعملًا، وفي هذا التكامل بين الخيال المقيَّد البنَّاء، والعلم الذي يتحول إلى عمل، يُقيم الإنسان لنفسه حياةً مُطَّرِدةَ السير إلى أمام، وإلى أعلى، ناجيًا من أشباح الخرافة والجهالة التي رسمها «جويا» في صورته «أحلام العقل»، رسمها خطرًا مخيفًا يَدْهم الإنسانَ إذا ما عقله غفا، حالمًا كان ذلك العقل، أو صاحيًا.