موقف العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة
من أفدَح الكوارث التي يشقى بها المشتغِلون «بالفلسفة» أنَّها — في العصر الواحد — لا تستقرُّ لنفسِها على معنًى واحد، حتى لقد ينظر الرائي فإذا هو أمام ضُروب من النشاط العقلي اختلف بعضُها عن بعض، ومع ذلك فكلُّها «فلسفة» على حدٍّ سواء، ثم جاء عصرُ الناس هذا، فزادت الكارثةُ فداحة؛ لأنَّ ضُروب ذلك النشاط العقلي قد ازدادت تشعُّبًا، وأوشكنا أن نبلغ حدًّا يستحيلُ معه الإجماعُ على رأيٍ واحد، فيما عسى أن يكون مجالُ البحث، عندما نُسمي هذا البحثَ «فلسفة» والباحثَ «فيلسوفًا»؛ وذلك لأنَّ موضع الاختلاف فيما مضى كان ينحصر — عادةً — في موضوع البحث الفلسفيِّ ماذا يكون؟ وأمَّا اليوم فقد اتَّسعَت هُوَّة الخلاف، بحيث تناول منهجُ البحث أيضًا: كيف يكون؟
كان العصرُ الواحد — فيما مضى — يكاد يتفق على هدفٍ واحد، يضعُه المفكرون أمامهم ليشخصوا إليه جميعًا بأبصارهم، ثم يكون التبايُن بعد ذلك في الوسيلة التي يراها كلٌّ منهم محقِّقةً لذلك الهدف، بعبارةٍ أخرى، ربما كانت أوضح: كان لكلِّ عصر مسألتُه الرئيسية يطرحها أمام الناظرين، فيكون الاختلاف بعد ذلك في «الحلول» المقترَحة لتلك «المسألة» المتفَقِ عليها من الجميع.
انظر معي نظرةً عَجْلى إلى مراحل التاريخ الفلسفي:
فعصرُ «ما قبل سقراط» اتفَق على مسألةٍ واحدة؛ هي جوهر الوجود الذي يكمنُ وراء المتغيِّرات، أليس البادي أمامَ حواسِّنا هو أنَّ الموجوداتِ يتحوَّل بعضُها إلى بعض، فما هو اليوم تراب، قد يتحوَّل غدًا ليُصبح شجرةً وثمرة، فما هو ذلك الجوهرُ الثابت الأصيل الذي يلبس اليومَ لبوسًا فإذا هو تراب، ويلبس غدًا لبوسًا آخَر فإذا هو شجرةٌ أو ثمرة؟! كان ذلك هو السؤال، اتفَق عليه الجميع، ثم اختلفَت إجاباتهم عنه.
وذهب ذلك العصر اليوناني الأول، وتلاه عصر، كان سقراط فاتِحتَه، فاختفى سؤالٌ وظهر سؤال، اتفق عليه العصرُ كلُّه، ثم اختلفَت عنه الإجابات، وكان السؤال هذه المرةَ هو هذا: ما حقيقة الإنسان؟ وعلى أي أساسٍ ينبغي أن يُقيَّم سلوكه فردًا ومجتمعًا؟ وهكذا دار البحث حول «الإنسان» في أخلاقه وسياسته، وخيره وشرِّه، وسعادته وشقائه، وفَنائه وخلوده، لكن الرأي اختلَف عندما عرَض رجال الفكر الفلسفي حلولَهم للسؤال المطروح.
وذهب عصرٌ قديم، وجاء عصرٌ وسيط — في الغرب المسيحي، وفي الشرق الإسلامي على السواء — فاتفَق الفلاسفة هنا وهناك على الهدف، واختلفوا على الوسيلة؛ إذ اتفقوا جميعًا على أن يكون هدفُهم تحليلًا لمفهومات الدِّين بحيث يُقام البرهان على أنَّه لا تناقض — عمومًا — بين دينٍ جاء وحْيًا، وبين فلسفةٍ أنتجَها فلاسفةُ اليونان عقلًا، غير أنَّ وحدانية الهدف لم تمنَع أن يكون لكلِّ مفكرٍ فكرتُه التي يعرضُها للحل.
ثم دخلت أوروبا — وحدَها هذه المرة — تاريخَها الحديث بنهضةٍ أخرجَتها من عصورها الوسطى، فكان السؤال الرئيس المطروح طَوال قرونٍ ثلاثة، امتدَّت من عصر النهضة الأوروبية — في القرن السادسَ عشرَ — إلى عصرنا هذا الأخير، الذي بُذِرَت بَذْرتُه في القرن الماضي، هو: كيف يعرف الإنسانُ ما يعرفه عن الطبيعة الخارجية، أو عن نفسِه الباطنية، أو عن الله؟ ولذلك رأينا معظمَ الجهد منصرفًا إلى تحليل «العقل» لنرى كيف يعمل، فنفهم بذلك كيف حصَّل ما حصَّله من معرفة، لكن الاتِّفاق على السؤال لم يكن معناه أن يتَّفق المجيبون على جواب.
ثم جاء عصرنا هذا، فلم يكن كسوابقه متفقًا — بشكل واضح ظاهر — على المسألة المطروحة، مختلفًا على حلولها، بل تعدَّدَت فيه المسائلُ الرئيسية نفسُها، فانقسم المفكرون حينها، كلُّ فريق منهم يُؤثِر لنفسه إحداها دون الباقيات، ولم يكن في ذلك من بأس؛ لأنَّه قد يُعدُّ علامةَ غِنًى لا علامةَ فقر، وجئنا نحن — أعني رجالَ الفكر الفلسفيِّ في الأمة العربية — وأردنا أن ننقل عن الغرب في هذا الميدان ما استطَعْنا نقله، فلم نَقْصُر أمر التفرُّق على اختلافٍ في زاوية النظر، بل جاوَزْنا ذلك، فتحوَّل الميدانُ على أيدينا ميدانًا للصراع الفكري، يتبادلُ فيه الأطرافُ ألوانَ السُّباب، فضاع الحقُّ في غمرة النَّقْع المثار، فإذا تذكَّرنا ما لا بدَّ أن يبقى مذكورًا دائمًا، وهو أنَّه لا المسائلُ المثارة مسائلنا نحن أثَرْناها منبعثةً عن أزماتٍ في ضمائرنا عانَيْناها، ولا الحلول المعروضة حلولنا نحن، كَدَدْنا الذهنَ حتى انتهينا إليها، وإنَّما المائدة بكل ما عليها، أعدَّها طُهاةٌ غيرنا، ولم يكن منَّا إلا أن استوينا على المائدة الممدودة لنأكل، كلٌّ من الطبق الذي يشتهيه. عرَفنا كيف أنَّ صِراعنا الفكريَّ كان أجدرَ به سِوانا؛ لأنَّ الأمر كلَّه بالنسبة إلينا كالشعر المستعار، وضَعْناه فوق رءوسنا وضعًا، دون أن ينبتَ من جلودنا، ويتغذَّى بدمائنا، ها هنا يكون التفرقُ تمزقًا هو إلى أن يكونَ علامةَ فقر أقربُ منه إلى أن يكون علامةَ غنًى.
ومع ذلك؛ فقد كان في وُسْع الفكر العربي أن يقفَ أمام اختلافات الفلسفة المعاصرة، ليلتمسَ لنفسه مدخلًا فيها، يكون ذا صلةٍ بحياتنا، وفي هذا المقال محاولةٌ في هذا السبيل، لكنَّنا نريد أولًا أن نرسُمَ للقارئ حقيقةَ الموقف الفلسفيِّ في عصرنا بخطوطٍ عريضة؛ لعله يُشارك في قَبول المحاولة أو رفضِها.
إنَّ مِن الأفكار القديمة ما قد فقَدَ قيمته في الموضوع الذي قيل فيه أساسًا، لكنَّه ربما صلَحَ وسيلةً للتوضيح في موضوعات أخرى؛ من ذلك فكرةٌ مشهورةٌ لأرسطو عن «العلل الأربع»، التي ظنَّ أنَّها السبيلُ إلى تعليل أيِّ شيءٍ نريد تعليله، فافرِضْ مثلًا أننا نُعلل لتمثالٍ مُقام في مَيدانٍ من مدينة؛ فأولًا: نسأل عن الفنَّان الذي نحتَه «وهذا هو ما أسماه أرسطو بالعلَّة الفاعلة»، وثانيًا: نسأل عن الغاية التي من أجلِها صنَع الفنانُ هذا التمثال، فإذا عرَفناها، كانت هي ما أسماه أرسطو بالعلة «الغائيَّة»، وثالثًا: نسأل عن المادة التي صِيغ منها التمثال، فتكون هي العلةَ «المادية»، ورابعًا: نسأل عن أسلوب صياغته، فيُشار لنا إلى مُقوِّمات هذا الأسلوب، فيكون ذلك هو «العلة الصُّورية». بهذه الأسئلة الأربعة، وإجاباتها الأربع، يتمُّ لك تغطيةُ المجال من جميع جوانبه، فيتم لك فَهمُ ما أردتَ أن تفهمه.
هي فكرةٌ أرسطية قديمة؛ إذ لبثَت هذه «العلل الأربع» على مَرِّ الزمن تتآكلُ وتتساقط واحدةً بعد أخرى، كلما وجَد المشتغِلون ﺑ «العلم» أنَّهم لم يعودوا بحاجةٍ إليها في تفسيراتهم العِلمية للظواهر المختلفة، حتى زالت كلُّها الآن، ولم تَعُد فكرة «السببية» نفسُها ذاتَ شأن في ميدان العلم؛ إذ حلَّت محلَّها فكرةٌ أخرى، هي فكرة «القانون العلمي»، الذي يُصاغ في دالَّةٍ رياضية لا تُميِّز بين سببٍ ومُسبب، بل تُحدد المتغيراتِ الداخلةَ في موضوع البحث، وطرائقَ تَجاوُبِها أو تفاعُلِها بعضِها مع بعض … فكرة أرسطية قديمةٌ إذن هي فكرةُ «العلل الأربع»، لكنني سأستعين بها على توضيح الموقف الفلسفي في عصرنا، وإني لأراها تُعين.
عصرنا يَعِجُّ بنتائج العلم، ويضطربُ ويموج بتغيراتِ الأنظمة الاجتماعية جميعًا، ومهمةُ «الفلسفة» أن تفهمه، فماذا صنَع الفلاسفةُ في هذه السبيل؟ أريد أن أُصوِّرهم للقارئ وكأنَّما هم جماعةٌ وقفَت أمام الخِضمِّ الهائل الذي هو عصرنا بكل ما فيه، وأخذَت تسأل الأسئلةَ الأرسطية الأربعة، لكنها سألَت تلك الأسئلة من سائلَين متفرِّقَين؛ أعني أنَّ الشخص الواحد لم يسأل الأسئلة الأربعة كلَّها، بل اكتفى لنفسه بسؤالٍ واحد، وترك البقيةَ للآخَرين، فاكتفى كلٌّ منهم بدَوره بسؤال واحد، فكان أنْ سأل فريق: ما الذي أدَّى إلى الموقف الراهن كلِّه؟ (كأنه يسأل عن العلة الفاعلة)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جواب المادية الجدَليَّة، وسأل فريقٌ آخرُ سؤالًا آخر: ما الهدف من هذا أو ذلك مما نقول ونسمع؟ (سؤال عن الغاية)، وكان أشهر الإجابات جوابَ الفلسفة البرَجْماتية، وسأل فريقٌ ثالث سؤالًا ثالثًا: مِمَّ صُنِع هذا العلم كلُّه، وهذه المذاهبُ الفكرية كلُّها؟ بمعنى: على أيِّ نحو نُسِجَت اللُّحمة بالسُّداة ليتكوَّن هذا القماش الفكري الممدود أمامنا؟ (سؤال عن الكيان ومادته)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جوابَ الفلسفة التحليليَّة، ويُلحَق به جوابُ الوضعية المنطقية، وسأل فريقٌ رابع سؤالًا رابعًا: أليس من حقنا أن نفترض بأنَّ وراء هذا الفكر كلِّه، البادي فيما يُقال ويُكتب، «وعيًا» ذا خصائصَ معيَّنة، لا بدَّ من النظر إليه قبل أن ننظر إلى ما نبَع منه (سؤال عن العلة الصورية)، وكان أشهر الإجابات هنا إجابةَ مذهب الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، ويُلحَق به الفلسفة الوجودية.
ذلك مخطَّط تقريبيٌّ لجوانب الموقف، أفلم يكن الإنصافُ يقتضي أن ننظر إلى هذه الوقفات الأربع باعتبارِها مكملةً إحداها لبقيتها، ما دامت كلٌّ منها تقنعُ بجانبٍ واحد وتترك الجوانبَ الثلاثة الأخرى لسواها؟ نعم، ولكن يحلو دائمًا لمن لا يرى الموقفَ في مُجمله أن يقول: إنَّ هناك «صراعًا» مذهبيًّا بين اتجاهاتٍ أربعة تُغطي الميدانَ الفلسفي المعاصر، وحقيقةُ الأمر عندنا هي ألَّا صراع، بل تكامُل، والفهم الكامل يتطلب الإجاباتِ الأربع جميعًا.
لكني أُرسل حديثي وكأنَّما القارئ على علم كافٍ بهذه الاتجاهات الرئيسية الأربعة: المادية الجدَلية، البَرَجماتية، الفلسفة التحليلية، والظاهراتية! وأحسبُني مُطالَبًا بشيءٍ ولو يسيرٍ من الشرح؛ ليُتاحَ لنا جميعًا بعد ذلك أن نشتركَ في التفكير: ما موقفُ الفكر العربي من هذا كلِّه؟
أمَّا المادية الجدلية، فهي «ماديَّة» بمعنى أنَّ مردَّ الكائنات جميعًا إلى مادة، على أنَّ «المادة» هنا لا تعني خصائصَ سُكونية ثابتة لا يُصيبها تغيُّر؛ إذ إنَّ مادة الطبيعة دائبةُ التطور والتغير وَفْقَ قوانين «الجدل» (الديالكتيك)، والمقصود ﺑ «الجدلية» هو أقربُ شيءٍ إلى ما يحدث بين متحاورَين يتعارضان؛ أحدهما يقول الرأي، والآخر يقول نقيضَ ذلك الرأي، حتى إذا ما تصادَمَ النقيضان تولَّد عنهما رأيٌ ثالث، هو الصحيح، أو قُل إنَّ «الجدلية» هي عملية شبيهة بما يحدث إذا أنت «جدَلْتَ» أو ضفَّرتَ خيطَين، ليتكوَّن منهما — آخِرَ الأمر — ناتجٌ يحتويهما معًا، فهكذا الحال في الطبيعة وفي المجتمع، يتصادم في أثناء سَيره النقيضان فيتولَّد وضعٌ جديد، وبذلك يتحقق التطور.
وإنَّهم ليَصوغون قوانينَ السير الجدَلي هذا في ثلاثة: أولها: أن يُعد التناقض مُقوِّمًا أصيلًا في الطبيعة؛ لأنَّه كان يستحيل التغيُّر إلى جديد ما لم يكن في صُلب القديم ما ينقضه، وثانيها: أنَّ هذا النقض الذي ينسخ الحالةَ الأولى لينقلَها إلى حالةٍ جديدة، لا بدَّ بدوره أن يجد هو الآخَرُ ما ينقضه؛ ليدوم السيرُ على طريق التطور، وثالثًا: أنَّه كلما تراكمَت التغيرات من جنسٍ واحدٍ، وصَلَت حدًّا انقلَب معه ذلك الكمُّ المتراكم إلى كيفٍ جديد؛ أي إلى حالةٍ من جنس آخر، وهكذا يسير العالم: من وضع معيَّن قائم، إلى نقيضه، ثم إلى وضع ثالث يؤلِّف بين النقيضَين، وما إنْ يُصبح هذا الوضع الجديد هو الأمرَ الواقع حتى ينسَخَه نقيضُه، فإلى وضعٍ يَجمع النقيضَين، وهلم جرًّا.
وتطبيقًا لهذا السَّير المثلَّثِ الخطُوات، على تاريخ الإنسان ونُظمه الاجتماعية، تنشأ ما يُسمُّونها ﺑ «المادِّية التاريخية»، ومؤدَّاها أنَّه لَمَّا كان البناء الاقتصادي للمجتمع هو أهمَّ جوانبه، ثم لمَّا كان هذا البناء الاقتصادي قائمًا على ما ينشط به الناس نشاطًا عمَليًّا، نتج عن ذلك أنَّ جوهر الإنسان ليس هو أنَّه كائنٌ يعقل الفكرة النظرية (الحيوان الناطق، كما كان يُقال عنه)، بل هو الكائن الذي «يعمل» العمَلَ المنتج في زراعةٍ أو تجارة أو صناعة، أو في ما شئتَ من ضروب النشاط في دُنيا الاقتصاد، وبهذا المعيار يتَّحدُ الفكر بالعمل اتحادًا يجعلُهما حقيقةً واحدة ذاتَ وجهين؛ ومِن ثَم جاءت عبارةُ ماركس الشهيرة «لقد حاول الفلاسفة تفسيرَ العالم بطُرقٍ شتى، مع أنَّ المهمَّ هو أن يُغيِّروه.» ورجائي أن يحتفظَ القارئ بهذه النتيجة التي جعَلَت لنا الفكرَ وعمليات التغيير شيئًا واحدًا؛ لأننا سوف نرى هذه النتيجةَ نفسَها، أو ما يقرب منها في المذاهب الفلسفية الأخرى؛ ممَّا يكاد يجعلها هي روحَ عصرِنا وصميمَه، وقد يوحي لنا بالموقف الذي نريده للفكر العربي.
يعتقد أنصارُ المادية الجدلية أنَّ فلسفتهم هي الفلسفة العِلمية؛ لأنَّها هي التي تتناولُ واقع العالم تناولًا عِلميًّا سليمًا، ولعلَّهم في استخدامهم لكلمة «العِلمية» إنَّما يقصدون «المادية»؛ فالمعرفة العلمية كلُّها مرهونةٌ بما هو مادي، وبما هو واقعٌ في التجربة الحسِّية، فإذا كانت هنالك كائناتٌ عُضوية، ردَدْناها جميعًا إلى أصلٍ لا عُضوي، وإذا لحَظْنا في أنفسنا حالاتٍ وعمليات وجدانيةً أو عقلية، أرجعناها كلَّها إلى أساسٍ فسيولوجي، فمهما تكن النظرية العلمية، ومهما يكن موضوعها؛ فما لم تكن قابلةً للردِّ إلى ما هو واقعٌ في التجرِبة الحسية، تجرَّدَت من عِلميَّتها وأصبحَت لغوًا. ومرةً أخرى نرجو القارئَ أن يحتفظَ بهذه النتيجة التي تُحتِّم أن تنبنيَ النظريةُ العِلمية على تجرِبةٍ وتطبيق؛ لأنَّها نتيجةٌ سنُصادفها هي الأخرى في مذاهبَ فلسفية غيرِ المادية الجدلية، مما قد يُشير إلى أنَّها علامة تُميز المعرفة العِلمية اليوم، وممَّا قد يُوحي بما نجعله أساسًا ضروريًّا في الموقف الذي نختاره للفكر العربي.
ويتصل بالبرجماتية اتصالًا وثيقًا مذهبٌ يُقال له «مذهب الإجرائية» في فَهْم المعاني أو الأفكار؛ فالفكرة معناها هو مجموعةُ الإجراءات التي نُجْريها في تحقيقها، وهو قولٌ — كما ترى — مطابِقٌ لما تقوله البرجماتية، لولا أنَّ «الإجرائية» لا تقصرُ الأمرَ على الإجراءات المادية التي تتمُّ في سلوكٍ منظور، بل تُوسِّعه حتى تشملَ به الإجراءاتِ التي تتمُّ في العقل، كما يحدث في تناوُلِنا لمسألةٍ رياضية أو ما يُشبِهها.
ولْنَعُد بالقارئ إلى نتيجتَين أورَدْناهما فيما سبق، ورجَوناه أن يحتفظَ بهما في ذاكرته، وهما: أنَّ الفكر وعمليات التغيير وجهان لشيءٍ واحدٍ، وأنَّ التجرِبة على الواقع المحسوس هي أساسُ التفكير العلمي، فنرى أنَّ البرجماتية برغم اختلافها عن المادية الجدَلية في «اتجاه» النظر؛ فإنَّهما يشتركان في رفْض «التأمُّلات» العقيم، التي لا تلدُ للناس «عملًا» يؤدُّونه، ولا تنسل لهم «تغييرًا» يُبدِّلون به وجهَ الحياة إذا فسد.
ننتقل الآن إلى جماعةٍ ثالثة من أبناء عصرنا؛ هي جماعة «التحليل الفلسفي» و«التحليل المنطقي» (وبينهما اختلافٌ في المعنى، نغضُّ عنه النظر)، فلئن كانَت الماديةُ الجدَلية تنظر إلى «سير التاريخ» وكيف انتهى إلى ما نحن فيه، وكانت البرجماتية تنظر إلى ما يُراد عمله وإجراؤه فيما هو آتٍ من زمان؛ فإنَّ أصحاب التحليل يقِفون حيث هم لِيَرَوا أولًا ماذا تحت أقدامهم! لنضرب مثلًا موضحًا، حتى لا نشطحَ بالقارئ في سَماء التجريد، افرض أنَّ فكرةً عرَضَت لنا، تقول: «حضارة هذا العصر مادية»، فماذا نحن صانعون بقولٍ كهذا؟ أم هل يُراد به أن يمضيَ مع نسمات الهواء حيث تمضي ونحن قاعدون له نستمع؟ كلا، إنَّ الفكرة الجادَّة يُراد بها أن تكونَ مُنطلَقًا لوثبةٍ نَثِبُها في هذا الاتجاه أو ذاك، وها هي ذي فكرةٌ جادَّة كثيرًا ما تُعرَض لنا على أقلام الكاتبين، فماذا نحن صانعون بها؟ فلو كنتُ من أصحاب المادية الجدلية في النظر، لثَنَيتُ عنقي إلى الوراء أنظرُ إلى خُطوات التاريخ كيف كانت، بحيث أنتجَت لنا اليومَ هذه «الحضارة المادية»، ولو كنتُ من أتباع البرجماتية لأرسلتُ بصري إلى أمام، أبحثُ عن النتائج الفعلية التي تترتَّبُ على هذه الفكرة، فإن وجدتُها كانت هي نفسها «معنى» الفكرة، وإن لم أجدها كانت الفكرةُ يُعْوِزُها المعنى. وها نحن أولاءِ مع جماعة ثالثة، هي جماعة «التحليل»، فهؤلاء يُؤثِرون القيامَ بعملية «تشريح» لهذا الجسم اللفظيِّ أولًا؛ لنرى ماذا يمكن أن يكون لهذه العبارة من معنًى، لا على أساس النتائج الفعلية المترتِّبة عليها، كما قال البرجماتيون، بل على أساس منطقِ اللغة نفسه؛ إذ كثيرًا جدًّا ما نرصُّ ألفاظًا بعضَها إلى جِوار بعض، حتى يكتملَ لنا بِناءٌ تقبلُه قواعدُ النحو، لكن منطق العقل يرفضه، ولكي يرفضه منطقُ العقل أو يقبلَه، لا بدَّ بادئَ ذي بدء من تحليله، حتى نتبيَّن عناصرَ بنائه، وما بين تلك العناصر من روابط، وعندئذٍ يتبدَّى اللغوُ الفارغ من الكلام ذي المعنى.
لكنَّ الأمر في هذا التحليل ليس أُلعوبةَ لاعبٍ يلهو، فما تكاد تهمُّ به حتى تتوالى عليك أعوصُ المسائل، وأهمُّها أن ترُدَّ العبارةَ التي بين يدَيك إلى صورةٍ يمكن أن يكون بينها وبين «الواقع» شبَهٌ في التركيب إذا كانت صادقة، وأن يمتنعَ هذا الشبهُ إذا كانت كاذبة، فإذا تذكرنا أنَّ حقائق الواقع هي دائمًا «أفراد» جزئيةٌ ليس فيها تعميمٌ ولا تجريد، بمعنى أنَّك لن تجدَ على أرض الواقع أو في سمائه، إلا مفرداتٍ معيَّنةً محدودة، فهُنالك هذه الشجرة، وهذا الرجل، وذلك الطائر، وتلك السحابة، وهكذا، أقول إنَّنا إذا تذكَّرْنا ذلك، عرَفْنا أنَّ تحويل الجملة المرادِ الحكمُ عليها بالمعنى أو بالخلوِّ منه، يجب أن يتَّجه نحوَ أن نستخرج منها قائمةً طويلة من جُمَلٍ لا تتحدَّث الواحدةُ منها إلا عن «فرد» واحد، وعندئذٍ فقط يُمكن المقابلةُ بين العبارة اللفظية من جهة، ودُنيا الواقع التجريبيِّ من جهةٍ أخرى، ولْنَعُد إلى الجملة التي سُقْناها مثَلًا موضِّحًا، وهي: «حضارة هذا العصر مادِّية»، وأبدأ بكلمة «حضارة»، فما هي مجموعةُ المفردات التي تتكوَّنُ منها حضارةُ هذا العصر؟ إذا قلت مثلًا: هي نتاج العلم، ونتاج الفن، و… و…، كان علينا أن نعود إلى كلِّ واحد من هؤلاء، فما نِتاج العلم بالشيء الواحد الذي تُمسكه دفعةً واحدة بيَديك، وما نتاج الفنِّ بالشيء الواحد الذي تنظر إليه نظرةً واحدة في لمحةٍ بعينيك، بل نتاج العلم هو ألوفُ القضايا، ونتاج الفن كذلك ألوف التماثيل واللوحات والمعزوفات الموسيقية، وبعد هذا التحليل، نعود فنضع كلَّ فرد واحدٍ من تلك الألوف، وألوفِ الألوف، في جملةٍ واحدة، لنقول عنه إنَّه «مادي»، وقد نتبيَّن ساعتَئذٍ أنَّ معظم الجُمل في هذه الحالة سيكون بغير معنًى؛ إذ ما معنى أن نقولَ عن قانونٍ علمي معيَّن إنَّه مادي؟ وما معنى أن أقول عن لوحةٍ فنية أو قطعةٍ موسيقية إنَّها مادية؟ وقد نمضي على هذا النحو من التحليل حتى نستيقنَ من أنَّ العبارة التي تَلوكُها الأفواهُ في استخفاف، وأعني عبارةَ «حضارةُ هذا العصر مادية»، إنَّما هي صفٌّ من ألفاظٍ ينتهي بنا إلى لا شيء، أو قد ينتهي بنا إلى معنًى، لكنَّه معنى يَنتُج لنا بعدَ عناء التحليل الذي يُبيِّن لنا ما نحن قائلوه.
ومدرسة التحليل هذه لا تجعل «العبارات» التي نقولها مجردُ صور نعكس بها «أفكارًا» في رءوسنا، بل يجعلونها هي هي الأفكار، وبذلك نقَلوا التقابل، الذي كان الفلاسفة يُجْرونه بين «الفكر» و«الواقع»، دون تحديدٍ لطبيعة الفكر، نقَلوا هذا التقابُلَ فجعَلوه بين «العبارة اللغوية» و«الواقع»، وبذلك لم يتركوا مجالًا لكائناتٍ شبَحية تُعرقل سَيرنا نحو الوضوح.
وإني لأرجو القارئ هنا أيضًا أن يحتفظَ بهذه النتيجة، وهي أنَّ الجملة «والجملة = فكرة» لا يكون لها معنًى إلا إذا وجَدْناها — بعد تحليلها إلى عناصرها — على تقابُل مع واقعةٍ مِن وقائع العالم التجريبي، وما لم نجده كذلك من الجُمل «أي من الأفكار» كان لغوًا بغير معنًى، والقارئ إذا احتفظ بهذه النتيجة، ثم ضمَّها إلى ما كان احتفظ به من «المادية الجدَلية» ومن «البرجماتية»، وجد نفسَه أمام وجهةِ نظر مشتركة بين هذه الفلسفات المتباينة، وهي ضرورة أن تكون العلاقة وثيقةً بين الفكر والعمل.
على أنَّ الذي يهمُّنا نحن مِن هذه «الظاهراتية» (وهي التي عنها تفرَّعت بعضُ فروع الفلسفة الوجودية الحاضرة)، هو أنَّ الوعي الذي نعي به الأشياءَ ليس بمنزلة كيانٍ مستقلٍّ قائم بذاته مثل الذراع أو اللسان، وإنَّما الوعي عبارةٌ عن «انتباه» أو «التفات»، ومَن ذا الذي يتصوَّر «الانتباه» كِيانًا له استقلالُه وحدوده؟ إنَّه «اتجاه» أو إشارة، إنَّه كشعاع الضوء، يسقط هنا أو هناك، فيَظهر بسقوطه شيءٌ ما، وأهمُّ ما يُميز الوعيَ هو ما أسماه هوسرل ﺑ «القصدية»؛ أي إنَّه دائمًا يقصد باتجاهه المعيَّن إلى مسقطٍ ما يسقط عليه فنُدركه، وعلى هذا الأساس (وأرجو من القارئ حصْرَ انتباهه هنا؛ لأهميته في موضوعنا) يكون من التناقض أن ندَّعيَ بأنَّنا نعي فكرةً ما، دون أن يكون لهذه الفكرة ما تُشير إليه في دنيا الواقع، إنَّ عملية الإدراك لا تتم إلا بهاتين الشُّعبتَين معًا: لفتة من الوعي، وشيء معيَّن تقصد إليه تلك اللفتة، أمَّا أن يُقال عن اللفتة أنَّها لا تلتفتُ إلى شيء، فذلك ينفي عنها طبيعتَها، أو أن يُقال إنَّنا أدركنا ما أدركناه بلا التفاتٍ إليه، فهو تناقضٌ ممتنعُ الحدوث، لقد كان مما أخذه هوسرل على ديكارت قولُ ديكارت: «أنا أفكر …» كأنَّه جزيرةٌ وحدَه معزولةٌ عن العالم وعن الآخرين، على حينِ أنَّه مُحالٌ أن تحدث عمليةُ تفكير إلا إذا تعلَّقَت بقصدٍ معيَّن يكون هو الشعبةَ الثانية التي يتم بها الموقفُ الإدراكي، فالأمر هنا كالمقص، لا يكون مِقصًّا بإحدى شُعبتَيه دون زميلتها.
وبهذا الجانب من «الظاهراتية» نلتقي مع المذاهب الفلسفية الثلاثة التي أسلفناها، في أنَّها جميعًا تربط الفكرَ بالأشياء، وألَّا تنتفيَ عن الفكر طبيعتُه.
لقد قيل عن الفلسفة المعاصرة إنَّها تتميَّز — عمومًا — بأنَّها جعَلَت مَدارها الرئيسي هو البحثَ عن «المعنى»، وبعض ما يقصد إليه بهذا الوصف، هو أنَّها أصبحت تشترط لكلِّ فكرة تطوفُ بذهن، ولكل عبارةٍ ينطق بها لِسان، مُشارًا إليه، تُشير إليه الفكرةُ أو العبارة، فيكون هذا المُشارُ إليه هو مدلولَ الفكرة، أو معنى العبارة، فإذا لم نجد للفكرة المعيَّنة، أو للعبارة المعينة، مُشارًا إليه في دنيا الواقع — سواءٌ كان ذلك وجودًا بالفعل أو وجودًا بالإمكان — لم نتردَّد في أن نقولَ عن الفكرة المزعومة إنَّها تُشبه الأفكارَ وليست منها، وعن العبارة إنَّها لغوٌ بغير معنًى، ذلك هو موقف الفلسفة المعاصرة بأجمعِها، كائنًا ما كان مذهبها، ماديةً جدلية، أو برجماتية، أو تحليلية، أو ظاهراتيةً ووجودية، فماذا يكون موقف الفكر العربي من ذلك كلِّه؟
إننا لو قصدنا ﺑ «الفكر العربي» أشخاصَ الرجال الذين حمَلوه، تدريسًا في الجامعات، أو تحريرًا في الكتب والمجلات؛ وجَدْنا أمرًا عجبًا؛ لأننا واجدون هؤلاء الرجالَ قد اقتسَموا فيما بينهم تلك المذاهبَ الفلسفية الأربعة، كلٌّ أخَذ منها بما يتفقُ مع تكوينه العقلي، فما من مذهبٍ منها إلَّا وقد كان له الأتباعُ المؤيدون العارضون الشارحون، ثم أُضيفت إلى هؤلاء جميعًا فئةٌ خامسة، انتشر أفرادُها على مَدارج المثقفين، من أعلاها تخصُّصًا إلى أدناها عِلمًا، وهي فئةٌ جمَعَت قومًا لا يكادون يعرفون عن عصرِهم شيئًا، واكتفَوْا بزادٍ كثير أو قليل، يقطفونه من كتب الأقدَمين، وقد اقتضى دفاعُ هؤلاء عن أنفسهم — أحيانًا عن قصدٍ ووعي، وأحيانًا أخرى عن غيرِ قصد ولا وعي — أن يوجِّهوا سهام النقد — والشتم في كثيرٍ من الحالات — إلى ما ليس يعرفون عنه شيئًا، أعني أنَّهم يوجِّهونها إلى العصر وفكرِه وأهله، فلنترُكْهم في كُهوفهم يظلمون.
ولننظر إلى المؤيِّدين لمذاهبِ عصرهم هذا، على اختلافهم بعد ذلك في أي من تلك المذاهب يؤيِّدون، وها هنا سنجد الأمرَ العجب الذي أشرتُ إليه، وهو أنَّه بينما المذاهب المعاصرة جميعًا تتفق آخِرَ الأمر في وجوب ارتباط الأفكار بالأشياء والأفعال، فإنَّ واحدًا منها فقط هو الذي يجعل هذا الارتباطَ الضروري موضوعَه الخاص، وذلك هو مذهبُ التحليل المنطقي، على حينِ يظلُّ ذلك الارتباط مُضمَرًا إلى حدٍّ بعيدٍ أو قريب في سائر المذاهب، ومع ذلك، فلمَّا شاءت المصادفةُ النافعة أن يتصدَّى لمذهب التحليل المنطقيِّ مَن أولاه اهتمامَه وعنايته، فعرَضه محاضرًا وكاتبًا، تألَّب عليه الآخَرون تألُّبَهم على عدوٍّ ظهَر في الميدان، يخشون أن تنقلبَ عصاه حيَّةً تبتلعُ سائر الحيات، لماذا؟ لأنَّ المفكِّر العربي — شأنُه شأنُ الإنسان العربي على إطلاق — يخاف أن تجعلها له صريحة، بأنَّ الفكرة أو العبارة إمَّا تحوَّلت إلى عمل، وإمَّا كانت وهمًا ولغوًا، إنَّه يخاف ذلك لأنَّنا قومٌ نأكل لفظًا، ونشرب لفظًا، ونتسلَّى في أوقات فَراغنا بلفظ، وقد يعمل منَّا العاملون، لكن أعمالهم — مع ذلك — تكون في عالم لا يؤثِّر ولا يتأثَّر بعالم اللافِظين.
وهذا هو أول الإصلاح الفكري في حياتنا: أن نَدمج العالمَين في واحد، فيكون عالم «الكلام» هو جانب «التخطيط» لعالم العمل والتطبيق، إنَّه لم يكن مصادفةً أن أصبَح «التخطيط» علامةً مِن أبرز العلامات المميزة لعصرنا؛ لأنَّ التخطيط تحليله هو أنَّ «الفكر» خُطة لعمل نؤدِّيه أو هو لا يكون فكرًا، فعمليةُ التخطيط التي شاعت إنَّما هي انعكاسٌ لفلسفة العصر كلِّها، أو إن شئتَ فقل إنَّ فلسفة العصر قد استَقَت ماءها من مُيول العصر واتجاهاته.
فالمدخل الذي أقترحُ أن يكون بابَنا الذي ندخل منه إلى ساحة الفلسفة المعاصرة، هو الوصولُ إلى هذه الحقيقة الكبرى بشتى السُّبل، حقيقة أنَّ الفكر لا يستحقُّ أن يكون فكرًا بمعناه الصحيح، إلَّا إذا رسَم الطريق المؤدِّيَ إلى التغيير، وهي حقيقةٌ التقَت عندها كلُّ مذاهب العصر كما أسلفت، فلا ضيرَ على المتفلسِف منَّا أن يختارَ أيًّا ما شاء من تلك المذاهب، لِيدرسه لنا بكل تفصيلاته، ولن يكون في اختلافنا فيما يختاره كلٌّ لنفسه «صراعٌ» بقدر ما ينتج عنه التأييد والتركيز لما نحن في أشدِّ الحاجة إلى تأييده وتوكيده، وهو — وأقولها مرةً ثانية وثالثة وعاشرة بلا ملَل — أنَّ «الفكر» ليس له في عصرنا معنًى إلا أن يكون أداةً لتغييرِ ما نودُّ تغييرَه مما يُحيط بنا: من مواقفَ في السياسة إلى شئونٍ في الاقتصاد، أو في التعليم، أو في نقدِ الفنون، أو فيما شئتَ أن تُغيره.
لم تكن الدنيا على هذا الاهتمام كلِّه بالجانب التطبيقي العملي من الفكرة في أيِّ عصر مضى؛ لأنَّ فكرتنا عن «العلم» نفسَها قد تغيَّرَت مع العصور: كان «العلم» عند اليونان الأقدَمين هو أن تُصنف الكائنات أنواعًا وأجناسًا، ثم تُرتب تصوراتك الذهنية عن تلك الأنواع والأجناس ترتيبًا يصعد بها من الأخصِّ إلى الأعم على صورةٍ هرَمية، وتستطيع أن تُلِمَّ بالعالم كلِّه — على هذا النحو — دون أن يكون في يدِك جهازٌ واحد، ودون أن تُحرك من كائنات العالم جناحًا لبَعوضة، وجاء العصرُ الوسيط، فكان «العلم» هو ما مهَّد الطريق إلى السعادة في الآخرة، وإذا شئتَ فاقرأ — مثلًا — كتابَ الغزالي «إحياء علوم الدين»، لترى كيف يكون العلمُ في تصوُّره رسمًا لكلِّ خطوةٍ يخطوها مَن أراد نعيم الآخرة، أو اقرأ له «ميزان العمل»، وكانوا جميعًا على هذا المنوال نفسِه في تصوُّرهم «للعلم»، ثم جاءت النهضةُ الأوروبية وما بعدها، فنشأ العلم الطبيعيُّ نشأةً متكاملة بعد أن اجتاز مراحلَ التمهيد قبل ذلك، لكنَّه كان أيضًا علمًا نظريًّا إلى حدٍّ كبير، فقد ينشر نيوتن — مثلًا — نظريتَه عن الجاذبية، فيعلمها دراسو العلم، لكنَّ شيئًا من أوضاع الحياة العَملية لا يتغير، وأمَّا في مرحلتنا التاريخيةِ هذه فقد تغيَّر الموقفُ من أساسه، وأصبح العلمُ ممزوجًا بالأجهزة التي تُعين على إنتاجه، مزجًا جعل النظر والعمل وجهَين لكلِّ خطوةٍ نخطوها في مجاله، ثم لا تكاد النتيجةُ العِلمية الجديدة تظهر حتى تنبنيَ عليها أدواتٌ للحياة العمَلية نراها في كل ركن من أركان الدنيا ماثلة .. هذا هو «العلم» الذي فلسَفْناه في المذاهب الفكرية التي اختلفَت منهجًا، واتفقَت في نتيجةٍ عُظمى، هي أنَّ الفكرة أداةٌ للعمل، وهي النتيجة التي تُلزمنا — أعني الأمة العربية — أكثرَ مما تُلزم سِوانا، للإسهال اللفظي الذي أُصيبت به ثقافتنا، دون أن يَحُدَّ اللفظَ إنجازٌ في دنيا العمل.
وقد يسألني سائلٌ ممَّن يحبون القولَ ويكرهون العمل: أتريدنا على أن نُقيد كلَّ لفظ نلفظه بعملٍ يتبعُه؟ وأجيب مسرعًا بالنفي؛ فلك مَجالات كثيرة تستطيع فيها أن تمرحَ بلفظٍ غير مسئول، أمَّا حيث تقف أمامَنا مشكلاتُ الحياة تتحدى مُطالِبةً بالحلول، فها هنا لن يُزحزحَ اللفظُ جبالَها مهما زخرفتَه ببيانٍ وبديع، وضبطتَ له الوزنَ والقافية، ها هنا لا بدَّ أن يرسم خُطة للعمل الذي نؤدِّيَه حيال المشكلة القائمة. ذلك هو الدرس الذي نتعلَّمُه من مذاهبِ الفلسفة المعاصرة جميعًا، وذلك وحدَه هو جواز المرور، الذي لا يُمكنك الدخولُ في أجواء هذا العصر إلا به.
وهل في هذا الذي يتطلَّبُه منَّا العصرُ شيءٌ جديد كلَّ الجِدَّة على ما ورثناه عن تراثنا الفكريِّ من مبادئ؟ إنَّ القرآن الكريم كلَّما وجَّه الخِطاب إلى «الذين آمنوا» أضاف إلى ذلك قولَه: «وعملوا الصالحات»، كأنَّ الإيمان لا يكون إيمانًا كاملًا إلا إذا اقترَن بالعمل الصالح، وصلاحية العمل إنَّما تكون بالنسبة إلى الهدف المنشود، وإلى نوع الموقف الذي نُواجهه، كالمفتاح لا يكون «صالحًا» للباب إلا إذا نفَع في فتحه وإقفاله، والسيارة لا تكون صالحةً إلا إذا دارت آلتُها على النحو المطلوب للسير، وكذلك السياسيُّ لا يكون صالحًا إلا إذا رسم لقومه خُطةً للعمل الناجح، والاقتصاديُّ لا يكون صالحًا إلا إذا عرَف الطريقَ الذي يُنقذنا من التخلُّف … وهكذا، كل هؤلاء عامِلون للصالحات، التي وإن بدأتْ بدُنيا الناس؛ فهي الطريق إلى مرضاة الله، فليست تُعوِزُنا المبادئُ النظرية في ثقافتنا الموروثة، ولكن ماذا تُجدي المبادئُ إذا لم تنسكب في سلوك الناس «عادات» يَحْيَون على أساسها؟ بمِثل هذه العادات، ننشأ عليها في ربط القول بصلاحيته في دنيا العمل، ننخرط في تيَّار عصرنا، وفي الوقت نفسِه نلتزم ميراثًا كريمًا ورثناه.