شاهد على الصهيونية من يهود
لو كتب كاتبٌ عربي في الصِّهيونية بما يفضحها ويَشينها، لقيل: عدوٌّ كتَب؛ ولو كتب فيها أوروبيٌّ مُحايد بما يُظهِر مواضعَ الخطر والشر والسوء، لقيل: مُناهض للسامية تعصَّب؛ لكن ماذا يُقال إذا كان الكاتب يهوديًّا، بل مديرًا للمجلس اليهودي الأمريكي؟ إنَّ له من يهوديته ما يَعصمه من تُهمة العداوة للجنس السامي، ومن أمريكيته ما يضمن عطفه مقدمًا على إسرائيل؛ وإذن فلِشهادته قيمةٌ مضاعفة؛ لأنَّ يهوديته وأمريكيته معًا لم تستطيعا أن تحجبا عنه الحقَّ حين فتح عينَيه ليراه.
وفيما يلي لمحاتٌ مما ورَد في هذه الرسائل، ومنها يرى القارئ صورةً لإسرائيل بالقياس إلى الوطن العربي، فبينما وجد الزائر اليهوديُّ في أرجاء الأمة العربية سَعة الصدر وسماحة النفس واعتدالَ الرأي وتسامُحَ العقيدة وروحَ الإخاء؛ ما لم يَسَع الزائرَ اليهوديَّ إزاءه إلَّا أن يُعبِّر عن دهشته العميقة للفارق الفسيح بين ما وجده وما سمعه ورآه، وبين ما كان قد تسلَّل إلى وطنه ووهمِه خلال الدعاية الصِّهيونية التي تَطِنُّ في أرجاء العالم بعامة، وفي الولايات الأمريكية بخاصة؛ أقول إنَّه بينما وجد كلَّ هذه الجوانب في البلاد العربية، ما لم يكن يتوقَّع شيئًا منه؛ رأى العنت كلَّ العنت — وهو اليهودي المرموق في يهوديته، والأمريكيُّ البارز في أمريكيته — رأى هذا العنَت كلَّه من إسرائيل، قبل دخوله فيها وبعد دخوله.
فهذا هو خطابه الأول، يكتبه على ظهر السفينة وهي تعبر به المحيط، يذكر فيه حادثتيَن وقَعتا له قبل أن يُغادر بلادَه بأيام قلائل؛ يقول عن إحداهما: … إنَّكما تعلمان ما كنتُ قد لقيتُه من مَصاعب حين أردتُ أن أحصل على تأشيرة الدخول في إسرائيل؛ فقد كتبتُ خطابًا رسميًّا إلى أفرام هارمان — القنصُل العام الإسرائيلي في نيويورك — بالإضافة إلى الطلب العادي الذي كنتُ قد قدَّمتُه قبل ذلك ببِضعة أسابيع، وانتهى الأمر إلى أن دُعيت إلى مقابلة السيد هرمان على غَداء، وبدلَ أن نتحدث على الغداء عن تأشيرة الدخول التي طلبتُها، دار الحديث عن السبب الذي يدعوني إلى الذَّهاب إلى إسرائيل، وما هو إلَّا أنْ تأدَّى بنا الحديث — بما اقتضاه منطقُ السياق — إلى مناقشةٍ طويلة جدًّا حول مسائلَ مذهبية … وأظن أنَّني أستطيع تلخيصَ ما دار بيننا حتى ساعةٍ متأخِّرة من عصر ذلك اليوم، بقولي إنَّه كان حديثًا هادئًا ومنبهًا للتفكير، لكنَّنا انتهينا منه إلى إدراكِنا بأنَّ ما بينه وبيني في الرأي هو ما بين القُطبَين؛ إذ لم يكن بيني وبينه أرضٌ مشتركة على الإطلاق؛ فهو — كأغلبية رجال الحكومة الإسرائيلية — علمانيٌّ إلى أعماقه، لا يسري فيه أدنى شعورٍ بالعقيدة اليهودية؛ وهو يُكرس نفسَه لما يُسميه «الأمة اليهودية» (فلا يكفيه أن يتحدث عن دولة يهودية) … فهو يقول إنَّ مصالح الأمة اليهودية في العالم تأتي أولًا، ومنها تنبثق الدولة؛ لأنَّك — هكذا قال — إذا ضمنتَ أن يتماسك يهودُ العالم في شعب واحد؛ فقد ضمنتَ أن يتكفل هذا الشعبُ الواحد بإعادة دولة إسرائيل، إذا ما أصابها سوء.
وقد جرَّنا الحديثُ إلى محاولة إسرائيل تهجيرَ اليهود من أوطانهم إليها، وعلمت منه كيف كان خلال الحرب العالمية الثانية (أي قبل نشأة إسرائيل) يُمثل «الوكالة اليهودية» في رومانيا، وكيف حاول عندئذٍ جمع المال والنفوذ، ليستطيعَ بهما أن يُخرج يهودَ رومانيا؛ ليبعث بهم إلى فلسطين، لكنَّه لم ينجح إلَّا بقدرٍ ضئيل، ولَمَّا أبديتُ له رأيي في حوادث شمالي إفريقيا، التي حدَثَت بتحريكٍ من الصهاينة، قال لي إنَّ إسرائيل في الحقيقة ليست بحاجةٍ إلى يهود عرب، ثم قال: «إنَّني لعَلَى استعدادٍ أن أعطيَك عشَرة من اليهود العرب لأستبدل بهم يهوديًّا أمريكيًّا واحدًا»؛ وأضاف ما معناه أنَّ إسرائيل الصِّهيونية إنَّما تفعل ذلك لإنقاذ اليهود ممن يُحيطون بهم، فاعترضتُه متعجبًا كيف تريد إسرائيل الصهيونيةُ هذه أن تجعل من نفسها إلهًا يعمل على تخليص عباده، وتساءلتُ لماذا تظن إسرائيل أنَّ يهود أمريكا مثلًا يُحبون مغادرةَ وطنهم الأمريكي ليُقيموا فيها؟ ولمَّا أبديت له رأيي بأنَّ اليهودي حيث كان، إذا هو أدمج نفسه في أبناء وطنه، يُشاركهم ويُسايرهم كما ينبغي له أن يفعل؛ اختفَت كلُّ مشكلة اليهود كما يتصورها، أقول إنِّي لمَّا أبديتُ له ذلك، أجاب من الفور بأنَّ مِثل هذا الدمج مضادٌّ لأهداف إسرائيل، لأنَّ من شأنه أن يُفتت «الشعب اليهودي»، ولا تصبح بين أفراده تلك الرابطةُ التي هي في رأي الصهيونية جديرةٌ بالاهتمام الأول. ثم دار بيننا حديثٌ طويل عن يهود أمريكا، أمَّا أنا فوجهةُ نظري هي أن تبقى اليهودية بالنسبة إليهم عقيدةً دينية لا تمسُّ ولاءهم لأمريكا في شيء، وأمَّا هو فوجهة نظره — وهي وجهة نظر الصهاينة جميعًا — أنَّ جزءًا من العقيدة الدينية اليهودية نفسها ينبغي أن يكون إقامةَ الرابطة التي تربط بين يهود العالم في أمةٍ واحدة؛ يقول ذلك عن العقيدة الدينية اليهودية مع اعترافه في أثناء الحديث أنَّه لا يعبأ بهذه العقيدة من حيث هي، ولا يريد لها إلَّا أن تكون أداةً لتحقيق أغراض السياسة الصهيونية؛ حتى لقد صارحتُه بوجهةِ نظري، وهي أنَّ إسرائيل تُريد في حقيقة أمرها أن تُباعد بين اليهود وديانتهم، مصطنِعةً لهم موقفًا دُنيويًّا سياسيًّا صِرفًا، وبيَّنتُ له أنَّ انشطار اليهود على هذا النحو، بحيث يصبحون فريقَين: فريقًا يستهدف جمع اليهود تحت راية السياسة، بغضِّ النظر عن العقيدة الدينية، وفريقًا آخر يريد لليهود أن يظَلوا مواطنين حيث هم، مع احتفاظهم بعقيدتهم الدينية، ليس هو بالأمر الجديد، بل ظهرَت بوادره منذ الثورتَين الأمريكية والفرنسية، في القرن الثامن عشر.
كانت تلك المقابلة مع هارمان إحدى الحادثتَين اللتين قال الكاتب في أولِ خطابه إنَّه صادفَهما قُبيل مغادرته نيويورك، وأمَّا الحادثة الثانية فهي أنَّه حضر مع زوجته احتفالًا راقصًا، اكتفَيا فيه بالجلوس والمشاهدة، فشاركَهما على المائدة رجلٌ وزوجته، وسرعان ما دخَلوا معًا في حديث، تبيَّن منه أنَّ هذا الرجل يعمل في وزارة الخارجية الأمريكية، وأنَّه من خُبراء الشرق الأوسط، ولَمَّا علم أنَّ محدِّثه هو مدير الجمعية اليهودية الأمريكية — التي لا تُناصر الصهيونيةُ وجهةَ نظرها بالنسبة لإسرائيل — قال له ما معناه إنَّه لو تُرك لرأيه الحر، لما رأى غيرَ هذا الرأي المعارِضَ للسياسة الصهيونية، وأنَّ الوجود الإسرائيلي لا يقوم على أساسٍ عادل، إلَّا إذ بترَت العلاقة بينهما وبين الصهيونية العالمية.
ونقفز في صفحات الكتاب لنصلَ إلى الرسائل المبعوثة من القاهرة، وأهم ما ورد في الرسالة الأولى (تاريخها ١٤ من أبريل ١٩٥٥م)، لقاء بين الكاتب وحاخام اليهود بالقاهرة، حايم ناحوم، «وهو شيخ جليل في الثالثة والثمانين من عمره، وكان قبل هذا حاخامَ اليهود في الإمبراطورية التركية، وقد لبث في مصر ثلاثين عامًا، وهو اليوم كفيفُ البصر، لكنَّه من نفاذ الرأي ويقظة الوعي في درجةٍ لا تستطيع أن تتخيل درجةً أبعد منها؛ ولأنَّني أعلمُ التضليل الذي يُذاع في أمريكا عن اليهود في البلاد العربية، فإنَّني أؤكد هنا أنَّ الاجتماع بالحاخام كان في منزله، ولم يحضره أحدٌ من رجال الحكومة … وإنَّه لمن باب التَّفْكهة أن أذكر — في مواجهة التفرقة الباطلة التي تُذيعها الدعاية الصهيونية للتمييز بين العربي واليهودي — أنَّ الحاخام يُلقب ﺑ «الأفندي» عند المصريين لولا أنَّ هذا اللقب لم يعد يُستعمل بصفةٍ عامة في كل أنحاء البلاد بعد الثورة، على أنِّي أريدكما أن تعلما أنَّ اللقب كان يُراد به الاحترام؛ ولذلك لم تكن دهشتي عظيمةً حين ذهبنا إلى شقة الحاخام ناحوم، لأراه هناك جالسًا وعلى رأسه الطربوش العربي، وتساءلتُ ماذا يا ترى يكون الرَّجْع إذا ما ظهر الرجل في حفلة يُقيمها الصهاينة في نيويورك؟
تحدثتُ مع الرجل ساعتين، وطرَقْنا بالحديث موضوعاتٍ كثيرة، فوجدتُه عدوًّا للصهيونية، لا يرغب في شيء رغبتَه في التنصُّل منها، وقد قصَّ عليَّ قصةً منذ كان في الماضي مُقيمًا في تركيا، كيف جاء عندئذٍ وفدٌ صِهيوني يطلب منه التوسُّطَ لدى السلطان ليسمح للصهيونيين بشراء الأرضي في فلسطين، فأفهمَهم أنَّ مثل هذه الوساطة تَسُرُّه لو كان يعلم أنَّ الأراضيَ تُباع لليهود من حيث هم «أفراد» يعتزمون أن يكونوا مواطنين في فلسطين، لكنَّه لن يتوسَّط في ذلك ما دام يعلم أنَّ الأراضيَ إنَّما تُشترى تحقيقًا لخطة «جماعية» يُراد بها خدمة الحركة الصهيونية».
ومضى الكاتب في رسالته ليقول إنَّه لا بُدَّ لمن يريد أن يرى الحقيقة بعينيه، أن يحضر إلى هنا ليرى كيف تُمارَس العقيدة اليهودية بكل شعائرها في حرية تامة، وكيف يُشارك المواطنون اليهودُ سائرَ أبناء وطنهم في نشاط الثورة؛ ثم يؤكد الكاتب — وكأنَّما هو في عجب مما يرى — أنْ ليس في مصر علامةٌ واحدة تدل على اضطهاد السامية (وفاتَه أن يعلم أنَّ العرب هم أنفسهم ساميُّون)، وقد أثبتَ الكاتب في رسالته هذه ما أنبأه به الحاخام ناحوم، من أنَّه في الأسبوع الماضي، دُعِيَ مع قادة المسلمين والمسيحيين، للمشاركة في الاحتفال برفع العلم المصري لأول مرة على مدينة السويس؛ فأين هذه المساواة في المواطنة برغم اختلاف الديانات؟ أين هي مما يُذيعه دعاة الصهيونية في أمريكا؟
وفي رسالةٍ تالية أرسلها من القاهرة (بتاريخ ٢٢ من أبريل ١٩٥٥م) يؤكد الكاتب ما ذكره في رسالته السابقة، وما يغيب عن أذهان الأمريكيين بفعل ضلالات الدعاة، من أنَّ اليهود هنا هم عربٌ من العرب، يتكلمون العربية، ويرتدون ما يرتديه العرب، ويبيعون للعرب، ويشترون من العرب؛ ويقول إنَّه لَتأخذه الدهشة الممزوجة بالعار حين يتذكر كيف يجلس الأمريكيون في جهلهم، بل كيف يُبْدون استحسانهم أحيانًا، كلما وقف بينهم سفراء إسرائيل، ووزراء إسرائيل، يخطبون فيهم لِجَمع التبرعات، مصورين البلاد العربية في حديثهم في صورة بشعة، ما أبعدها عن الحقيقة كما تراها عين الرائي! أفلا يجدر بهؤلاء المنصِتين هنا في إعجابٍ أن يجيئوا إلى هنا لِيَروا كيف يعيش خمسون ألفًا من اليهود، مواطنين عاملين أحرارًا، شارَكوا حياة بلادهم في ماضيها، وفي حاضرها، وفي رسم مصيرها؟
واتَّصل الكاتب بصحفي يهودي في مصر، وطلب منه أن يكتب له تقريرًا عن حالة اليهود في هذه البلاد؛ فكتب الصحفي يقول:
يتمتع اليهود المصريون والأجانبُ في مصر، بحريةٍ كاملة في عقيدتهم، وفي التعبير عن أنفسِهم وفي مُزاولة أعمالهم، وقد شارك اليهودُ في مصر — قبل حملة فلسطين وبعدها — في اقتصاد مصر وتجارتها إلى حدٍّ بعيد؛ وحتى حين نشبت الحرب في فلسطين، لبث اليهود المصريون يتمتعون بحقوقهم كاملة، ويؤدُّون واجباتهم كاملة، من حيث هم مواطنون مصريون، ولم يشعر اليهود المصريون قط بأيِّ اضطهادٍ أو تمييز عنصري؛ فقد كان يُمثلهم نوابٌ في البرلمان المصري، وحدث في أيام الحرب الفلسطينية أنْ كان عنهم نائبان في البرلمان، هما أصلان قطاوي، في مجلس الشيوخ، ورينيه قطاوي، في مجلس النواب.
وبعد ثورة ٢٣ من يوليو ١٩٥٢م، ازداد شعور اليهود باحترام حكومة الثورة لهم؛ إذ إنَّ هذه الحكومة لم تدَعْ فرصة واحدة تمرُّ — دينيةً كانت أو اجتماعية — دون أن تنتهزها لتُبين لليهود المصريين أنْ ليس عندها قط ما تُميز به بين مُواطنيها من المسلمين والمسيحيين عن مواطنيها من اليهود، فرئيس الوزراء يُشارك بنفسه في أعياد اليهود، ويزور معابدهم؛ ولمَّا شكَّلَت حكومة الثورة في مصر لجنةً خاصة لوضع دستور جديد للبلاد، عينت فيها عضوًا يُمثل اليهود، هو الأستاذ زكي العريبي، المحامي المصري المعروف؛ وإنَّك لتجد في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من البلاد المهمة في مصر، مدارسَ يهوديةً يُديرها يهود، حيث يستطيع التلاميذ اليهود أن يتعلموا العبرية بلا تدخلٍ من أي موظف حكومي، بأيَّة صورة من الصور.
وبرغم حالة التوتر القائمة بين الدول العربية عامة، ومصر خاصة، وبين إسرائيل؛ فإنَّ اليهود المصريين يقومون بدورهم في حياةِ مصر الاقتصادية والتجارية، ولهم رءوس أموال ضخمة مستثمَرة في المصانع والشركات، وفي مؤسسات الاستيراد والتصدير، وفي البنوك.
نعم، إنَّ عددًا من فقراء اليهود، تحت تأثير الدعاية الصهيونية، قد هاجروا من مصر إلى إسرائيل، لكن هذا العدد أخذ يتناقصُ بشكل ملحوظٍ منذ قامت الثورة، ويرجع التناقص أساسًا إلى عاملَين: أولهما التمييز في إسرائيل بين اليهود العرب واليهود الوافدين من أوروبا؛ فقد جاءت الأنباء ممَّن هاجروا إلى إسرائيل بأنَّ اليهود العرب هناك يُكَلَّفون بأداء أحطِّ الأعمال شأنًا، كالعمل في المجاري، برغم أنَّهم قد يكونون ممن ظفروا بقسطٍ عالٍ من التعليم، على حينِ أنَّ اليهود الوافدين من أوروبا يُعامَلون كما لو كانوا سادةً، وكما لو كان اليهود العرب عبيدًا لهم وخدمًا؛ وأمَّا العامل الثاني، فهو ما يشعر به اليهود المصريون — في حكومة الثورة — بمساواةٍ تامة بينهم وسائر المواطنين من مسلمين ومسيحيين، فهم يختارون لأنفسهم من ضُروب الأعمال ما يشاءون، على حينِ أنَّ زملاءهم في إسرائيل يُجبرون على الأعمال التي تختارها لهم السلطات.
على أنَّ الدعاية الصهيونية — برغم هذه الحقائق — ما تزال تجد سبيلها إلى نفوس عددٍ من اليهود الفقراء، الذين قد يتوهمون أنَّهم مُصادِفون ثراءً في إسرائيل، فيُهاجرون بمعونةٍ تأتيهم من عملاء الصِّهيونية، فتُرسل لهم تذاكر السفر مجانًا إلى مرسيليا، كما ترسل لهم إعانات مالية لإعداد أنفسهم بالثياب وغيرها من لوازم السفر. وإنَّ الحكومة هنا لتعلم مقصدَ المهاجرين، ومع ذلك فهي لا تقف في سبيل هجرتهم.
ويقول هذا الصحفي اليهودي المصري في تقرير: إنَّني لأرى — باعتباري مواطنًا مصريًّا يعتنقُ اليهودية دينًا — أنَّ الدول العُظمى قد اقترفَت أفحش خطيئة ضد يهود العالم، بأن أقامت دولة إسرائيل؛ لأنَّها بذلك قد عزلَت اليهود في معظم أرجاء الدنيا، إذ نُظر إليهم على أنَّهم مُوالون لهذه الدولة الوليدة، وأنَّهم ليسوا على ولاءٍ للبلاد التي يعيشون فيها، وحُسبوا كما لو كانوا مواطنين إسرائيليين يُقيمون خارجَ بلادهم. وفي الوقت الذي عارضَت فيه تلك الدول العُظمى بكل قوتها، النازية والفاشية، واتهمَتهما باضطهاد اليهود في ألمانيا، وفي الوقت الذي لم تدَّخر فيه تلك الدولُ العظمى جهدًا في إيواء اللاجئين اليهود الذين طُردوا من ألمانيا؛ فهي لم تصنع — حتى الآن — شيئًا قطُّ لإعادة اللاجئين العرب إلى ديارهم في فلسطين، أو لتعويضهم، وترَكَتهم خلال السنوات السبع الماضية (من ١٩٤٨م إلى ١٩٥٥م، وهي تاريخ كتابة هذا التقرير)، مُشرَّدين في الصحراء، بلا مأوى. وإنَّنا نحن اليهودَ المصريين لَنشعر بالمفارقة حين نرى أنفسنا في مأمنٍ من وطننا، ثم نرى هؤلاء اللاجئين يتجرَّعون العيش المر في حياة متوترة قلقة.
وفي رسالةٍ أخرى من القاهرة، وصَف الكاتب مقابلةً له مع شيكوريل، يقول فيها: قابلنا السيد شيكوريل في مكتبه الكائنِ في متجره — وهو أكبرُ متجر في مصر، مليء بصنوف السلع، جميل البناء، حديثه — وكان معه في مكتبه الحاخام ناحوم ونائب مدير المتجر، الذي هو عضوٌ بارز في الجالية اليهودية. إنَّك حيثما توجَّهتَ هنا في لقاء على ميعاد، كانت أول خطوة في مراحل العمل هي أن تشرب فنجانًا من القهوة التركية، وبهذه البداية بدأتْ زيارتنا للسيد شيكوريل، فقلَّما يبدأ حديثٌ جادٌّ إلَّا بعد أن تكون هذه الشعيرة قد تمت. وبدأتُ أنا الحديث — كما رجاني السيد شيكوريل أن أفعل — بأن أخبرتُهم عن المجلس اليهودي الأمريكي، وعن دهشتي السارَّة التي دُهِشتُها حين سمعت الحاخام ناحوم وهو يحدثني عن اليهود في مصر، والطمأنينة التي يتمتعون بها في حياتهم. وشرحتُ لهم كيف أنَّ ضجة الدعاية الصِّهيونية في أمريكا، والدعوة هناك لجمع المعونات لإسرائيل، قد ضلَّلتْ حتى أولئك الذين أرادوا منَّا أن يحصلوا على معلومات صحيحة عن حالة اليهود في البلاد العربية، فكان كلُّ ما سمعناه تقريبًا هو التُّهَم التي وجَّهَتها الصهيونية وإسرائيلُ إلى العرب بأنَّهم يريدون إبادتهم، وبأنَّهم يضطهدون الساميِّين. فأكد لي السيد شيكوريل صحةَ ما سمعتُه قبل ذاك من الحاخام ناحوم، وأنَّ هذه التُّهم كلَّها باطلة بطلانًا تامًا، نعم، إنَّ هناك شعورًا بالقلق، لكنَّه شعورٌ ناجم من التحوُّل العميق الذي تتحول به البلاد من حياةٍ إلى حياة، لا من اضطهادٍ موجَّه إلى اليهود بأيَّة صورة من الصور. ولئن كان الفقر الشديد شائعًا بين اليهود هنا، فهي حالةٌ تَصدُق على مصريين كثيرين من دياناتٍ أخرى، وإنَّ مِثل هذا الفقر لهو نفسُه أحدُ العوامل الهامة التي أدَّت إلى قيام الثورة. وقد اتهم السيد شيكوريل وكلاءَ الصهيونية باستغلالهم لأمثال هذه الظروف القائمة، مع علمهم أنَّها لا تمتُّ بصلةٍ على الإطلاق بعلاقة اليهود بغيرهم .. ويعتقد السيد شيكوريل أنَّه برغم جهود الصهيونية نحو تهجير اليهود، فليس هنالك إلَّا عددٌ قليل جدًّا من يهود مصر يفكرون أقلَّ تفكير في الهجرة إلى إسرائيل.
ولعلَّ أقوى حُجة قدَّمها السيد شيكوريل في حديثه، هي خبرته الشخصية التي صادفها في عمله؛ فقد أُحرق متجره في حريق القاهرة، الذي حدث في يناير سنة ١٩٥٢م — وكان ذلك قبل الثورة — فواجهَ هو وشركاؤه هذا السؤال: هل يُعيدون بناء المتجر في القاهرة؟ أو يُقرِّرون بأنَّ الأمل في المستقبل مسدود أمام اليهود المصريِّين؟ «وإنَّ جوابنا عن هذا السؤال» هكذا استطرد شيكوريل في حديثه «لَتراه قائمًا في هذا البناء الجديد، الذي يُعدُّ من أجمل المباني في مصر؛ فهو كافٍ وحدَه للدلالة على ما نظنُّه بالنسبة إلى مستقبل اليهود في مصر.»
ومضى الكاتب يقصُّ في رسالته هذه عن حديثٍ فرعي دار في مكتب السيد شيكوريل؛ «وذلك أنَّ الجالية اليهودية أرادت أن تُقِيم لنا — زوجتي وأنا — احتفالًا تكريميًّا، وأراد السيد شيكوريل أن يستطلع مسئولًا في الحكومة رأيَه في ذلك، وجاءنا شابٌّ نابهٌ واشترك معنا في الحديث، فأكَّد لنا رغبة أولي الأمر في أن يحضر بعضُهم هذا الحفل؛ لأنَّهم حريصون أشدَّ الحرص على أن يُظهروا للجالية اليهودية ما يُكنُّونه لهم من رعاية لأوجُه نشاطهم الاجتماعي. وإذن فالحكومة لم تكتفِ بمجرد الموافقة على إقامة الاحتفال، بل أرادت المشاركةَ فيه. إنَّ رجال الحكومة هنا يعلمون ما يتَّهمُهم به الصِّهيونيون من اضطهادٍ للسامية، ويريدون أن يُبطلوا الاتهام، وقد كان أروعُ جانب من حديث الشاب اللامع الذي جاءنا مُوفَدًا من الحكومة، حين أخذ الحاضرون يُحدِّدون مكان الاجتماع، فكان رأي شيكوريل أن يكون الاجتماع في مكانٍ ما من ممتلكات الجالية اليهودية، فأصرَّ الشاب على أن يكون الاجتماع في فندق سميراميس، تاركًا الاختيارَ الأخير للسيد شيكوريل، لكن وجهة نظره في تفضيل الفندق للاجتماع، أقامها على أساسِ أنَّه بينما الحرية التامة مكفولةٌ لكل فئة دينية أن تُمارس شعائرها على أيِّ نحو شاءت، فإنَّ الحكومة حريصةٌ على الفصل بين النشاط الاجتماعيِّ والعبادة الدينية، وأنَّ اجتماعًا كهذا إذا ما أُقيم في فندقٍ عام، كان دليلًا على الفصل بين الجانبين.» ويقول صاحب الرسالة إنَّه بعد حوار طريف بين شيكوريل من طرَف، وهذا الشاب النابه من طرَفٍ آخَر، سُئل ماذا تختار لنفسك أنت، وأنت موضعُ التكريم؟ فأجاب بأنَّه برغم أنَّه لا يهتم بمكان الاحتفال أين يكون، لكنَّه يؤيد الشابَّ في وجهة نظره؛ لأنَّها هي نفسها وجهة النظر التي ينظر منها المواطنُ الأمريكي.
ويُكمل الكاتبُ رسالته هذه بوصفٍ لزيارةٍ قام بها لمديرية التحرير، وللجهود التي رآها مبذولةً هناك، واستطرد ليُثني على العزيمة الماضية التي لا تكلُّ ولا تمل، عزيمة الحكومة والزعماء في بعث الحياة بعثًا جديدًا. ثم يصف زيارته للمحلة الكبرى ومصانعها، وللمراكز الاجتماعية في الريف، ويختم بحديثٍ دار بينه وبين دبلوماسيٍّ في وزارة الخارجية، تحدثا فيه عن سياسة مصر تجاه إسرائيل، فوضَع له هذا الدبلوماسيُّ النقطَ فوق الحروف؛ ممَّا جعله على علم تام بموقف العرب من هذه المصيبة التي أُصيب بها العرب على أيدي المستعمرين.
ونخطو خطوًا خلال الرسائل المرسلة من بغداد ودمشق وبيروت، وفيها معلوماتٌ قيمة وملاحظاتٌ جديرة بالنظر، لنصلَ مسرعين إلى رسائل الكاتب من القدس بقسمَيها: العربي والمحتل.
ففي رسالةٍ من القدس العربية، يكتب (بتاريخ ٢١ من مايو (أيار) ١٩٥٥م) قائلًا إنَّه يكتب والشعور يتملكه بأنَّه قد بعدَ عن دنيا الواقع بُعدًا لم يُحسَّ له نظيرًا من قبل. وإنَّه لمن المفارقات الغريبة أن يكون هذا الشعورُ باللاواقع منبثقًا من حقيقةٍ واقعة، وهي أنَّ الكاتب يكتب ما يكتبه، وهو قابعٌ فوق المركز العصبي للمشكلة، التي استنفدَت كلَّ طاقاتهم وقدراتهم العقلية مدى أعوامٍ طِوال: «فها هو ذا حائطٌ بأكمله من حوائط غرفتنا في الفندق مصنوعٌ من زجاج، يؤدي بنا إلى شُرفة رائعة، لو وقفتُ فيها استطعتُ بالفعل أن أنفذَ ببصري خلال نوافذ البيوت في القدس المحتلة. وقد اجتمعتُ هذا المساءَ — في حفل ساهر — بأناسٍ عرب، كانوا فيما مضى يَعبُرون هذه الرُّقعة الصغيرة، عائدين إلى منازلهم: لكنَّهم الليلة لا يستطيعون إلَّا أن ينظروا من بعيد، وأن يتذكَّروا. وإنَّه لَمِن هُراء القول أن يُناقش بعضُنا بعضًا في مَن هو المسئول عن كون هؤلاء الناس واقفين هنا وليسوا هناك؛ لأنَّه إذا كان صندوق الحلوى الزجاجيُّ يَحول بين الطفل والحلوى، فإنَّها عندئذٍ تكون حقيقةً لا تُغيرها حقيقةٌ أخرى، وهي أنَّ ثَمة خلافًا في الرأي عن اسم الصانع الذي صنَع زجاج الصندوق! ويكفي أن تكون الحلوى ممتنعةً على هؤلاء الناس هنا، بعد أن كانوا هم أصحابَها.»
ويمضي الكاتب بعد ذلك في التعبير عمَّا يشعر به في هذه الرقعة المليئة بذكريات التاريخ، التي يمر عليها الزمن وكأنَّما هي في أزليةٍ أبدية لا تُشارك الزمن في عبوره: «فاليوم الذي انقضى عليه الآن ثلاثةُ آلاف عام، واليوم الذي سنصبح عليه غدًا في هذا المكان، موصولان في وحدةٍ زمنية واحدة؛ ففي موضعٍ قريب من قبَّة الصخرة كان العمل قائمًا لرصف طريق يمتدُّ إلى بيت لحم، وعندما أزالت آلاتُ الهرس بعضَ الأنقاض من الطريق، انكشف جزءٌ «جديد» من جدارٍ قديم؛ ممَّا اضطرَّ القائمين بالعمل أن يَدوروا بالطريق في انحناءةٍ بحيث يحافظون على الأثر المكشوف، إلى أن يُقرر علماء الآثار المتخصصون ما إذا كان هذا الجدارُ «الجديد» القديم جزءًا من «المعبد» الأصلي.»
وهنا يستطرد الكاتب ليعودَ إلى بعض ملاحظاته التي وقعَت له في زيارته لسوريا ولبنان. وبعد ذلك يمضي في رسالتَين متتابعتين يشرح ويُحلل ويصف كلَّ ما رآه في معسكرات اللاجئين، بروحٍ ساخطة على الصهيونية التي أحدثَت هذه الفظائعَ على رُقعة كان ينبغي أن تكون آمنةً مطمئنة.
ويدخل القدس المحتلة بإسرائيل، فكان أول ما أثار حيرته ودهشته وغيظه أنَّ ذلك الرجل «أفرام هارمان» قُنصل إسرائيل العامَّ في نيويورك، كان قد أذن له بدخول إسرائيل، لكنَّه فيما يبدو قد سجَّل الإذن على صورةٍ تُثير شكوك الواقفين على الحدود؛ يبدأ الكاتبُ رسالته قائلًا: «هذا ختامُ اليوم الأول — أو على الأصح نصف اليوم — لنا داخلَ إسرائيل؛ لقد عبَرْنا بوابة «مندلبوم» في الساعة الثانية بعد الظهر، وأنَّ هذه «البوابة» في حدِّ ذاتها لظاهرةٍ تُثير الاهتمام، وترمز للموقف كلِّه هنا؛ فبوابة مندلبوم هي «نقطة عبور» تمتدُّ بضع مئات من الياردات على شارعٍ كان يومًا ما شارعًا عامًّا عاديًّا في القدس قبل حرب ١٩٤٨م، وهو شارع يصل المدينةَ القديمة بالمدينة الجديدة، وأمَّا اليوم، فعند مكانٍ معين منه، يقوم منزلٌ كان يسكنه فيما مضى رجلٌ بهذا الاسم «مندلبوم»، وترى هنالك كوخًا صغيرًا لشرطة الأردن. أمَّا المنزل فقد ضُرب أثناء الحرب وهجَره ساكنوه، فإذا ما غادرتَ كوخ الشرطة الأردنية دخلتَ في جزءٍ يمتد بضع مئات من الياردات، هو جزءٌ حرام لا يتبع أحدًا بعينه، لكنَّك لا تسير عبر هذا الجزء إلَّا إذا كنتَ من قبلُ قد أخطرتَ الحُراس على جانبَيه (الأردني والإسرائيلي) حتى إذا ما قطعتَه ألفَيتَ كوخًا صغيرًا آخر، حيث الشرطةُ الإسرائيلية تُراجع أوراقك، داخلًا كنت أو خارجًا.»
وبعد هذه المقدمة القصيرة، يذكر لنا الكاتبُ أنَّه لولا شعورُه بواجبه نحو نفسِه، ولولا ما تذرَّع به من عناد، لما اجتاز الحدودَ الإسرائيلية أبدًا. ثم يقصُّ قصةَ ذلك الشعور كيف نشأ عنده، فيقول إنَّه كان قد قضى معظمَ الصباح محاولًا الحصولَ على استمارةٍ معيَّنة تُسجَّل عليها تأشيرة الدخول في إسرائيل؛ لأنَّه لو سُجلت له هذه التأشيرة في جواز سفره، لما استطاع بعد ذلك أن يدخل البلاد العربية بذلك الجواز؛ وهو يشهد بأنَّ الموظفين في الجانب الأردنيِّ كانوا أكثرَ من مجرد معاونين له، فقد تطوَّع أحدُهم بالمجيء من داره لا لشيءٍ إلَّا ليضع له تأشيرةَ الخروج من حدود الأردن، لكنَّه ما إنْ بلغ حدود إسرائيل حتى بدأت المتاعب؛ فبرغم أنَّ الأمر عاديٌّ ومألوف، فقد اضطُرَّ إلى أن يشرح للحراس على الحدود لماذا يُريد أن توضع له تأشيرةُ الدخول على الاستمارة لا في جواز السفر؛ فأعجبُ العجب أنَّ «ضابط الهجرة قد غافلَني لحظةً أدرتُ فيها بصري إلى السيارة التي كانت زوجتي فيها مع القنصل الأمريكي، ووضع التأشيرة على جواز السفر، لا في الاستمارة المنفصلة التي قدَّمتُها له»، وبرغم أنَّ الرجل أخذ يعتذر عن «الخطأ»، فإنَّ الزائر يقول في رسالته: «لكنَّني على يقينٍ من أنَّه خطأٌ متعمَّد.»
يدخل الزائر مع زوجته بسيارة القنصل الأمريكي في إسرائيل، فإذا بمندوبٍ سياحي يلاقيه، ليصحبَه في سيارةٍ أعدَّها له إلى فندق الملك داود، وهنا اقترح القنصلُ أن يأخذه في سيارته هو؛ حتى لا ينقلوا الحقائبَ من سيارةٍ إلى أخرى بغير داعٍ، فما هو إلَّا أن أبدى مندوبُ السياحة غيظَه الشديد، قائلًا إنَّ الزائر على كلِّ حال عليه أن يدفع أجرةَ السيارة التي أُعِدَّت له، سواءٌ استخدمها أو لم يستخدمها. وهنا يُعلق الكاتب بقوله إنَّه عندئذٍ أحسَّ بأنَّ المسألة يستحيل أن تكون مجردَ حسرةٍ على بضعة جنيهات إسرائيلية، خصوصًا أنَّه لم يقل إنَّه ممتنع عن الدفع، بل «لا بُدَّ أن يكون عند المندوب رغبةٌ في أن ينفرد بنا — دون القنصل — حسَب تعليماتٍ وُجهتْ إليه، وقد أثبتَت الحوادث بعدئذٍ صدق ما أحسستُه.»
وأخذ الكاتب يقارن بين ما تمتع به من حرية اختيار لما يراه وما لا يراه حين كان في البلاد العربية جميعًا، وما يجدُه الآن في إسرائيل من شعور بالتوجيه الذي يَرسم له ما يُراد له فعلُه، سواءٌ صادف عنده قَبولًا أو لم يُصادف؛ «إنني لَأشعر بأسفٍ تجاه هؤلاء الإسرائيليين، إنَّهم في الحقيقة لا يفهموننا نحن رجالَ الجمعية اليهودية، ولا يفهمون العرب.» لم يكَد يستقرُّ الزائر في فندقه عشرين دقيقةً حتى جاءه رجلٌ من وزارة الخارجية، ثم ما هو إلَّا أن طَفِق يُلقنه بما أرادوه له من دعاية: كيف أنَّ إسرائيل «يُحاصرها» العرب، وكيف يُهدد «المتسللون» طُمأنينتهم وأمْنَهم، وكيف أنَّ العرب لا يريدون معهم سلامًا، بل يُدبرون أخذًا بالثأر! ولقد صارحَه الكاتب — فيما يروي — بأنَّه إذا كان العرب «يتسللون» لأعمالٍ جزئية محدودة، فإسرائيل «تُقاتل» قتالًا على نطاقٍ واسع، وإنَّه لا يرى أنَّ مِثل هذا الفعل من جانب إسرائيل — وهو متكرر — يُمكن أن يكون طريقًا موصلًا إلى إقناع العرب بحُسن الجوار. وأضاف الكاتب إلى محدثه الإسرائيلي بأنَّه لم يحضر ليسمع محاضرةً عن التسلل العربي، بل حضر ليرى على الطبيعة الجانبَ الصِّهيوني من إسرائيل (يُلاحَظ أنَّ كاتب هذه الرسائل يظن أنْ لو نُزعت إسرائيل من صِلاتها بالصهيونية العالمية، بحيث أصبحَت دولةً مقتصرة على حدودها، وعلى سُكَّانها؛ فربما أمكنَ تثبيتُ السلام بينها وبين العرب).
يذكر الكاتب مضايقاتٍ كثيرةً لاقاها من دليله الإسرائيلي، فإذا طلب منه أن يُدبر له لقاءً مع هذا الشخص أو ذاك، راوغَه ليُقابل غيرَ من يريد، وإذا رافقَه الدليلُ في أماكن سياحية، أخذ يُضيف من الملاحظات الصِّبيانية ما ضاق له صدرُ الزائر، الذي لم يسَعْه إلَّا أن يكتب: «لقد ظننتُ أنَّ اليهود هنا سيتمكَّنون من العيش «العادي» خالين من العُقَد التي لاحقَتهم من هتلر ومن اضطهاد السامية؛ لكنَّني — بعد يوم ونصف — أشهد بأنَّني لم أجد ما توقَّعتُه؛ فهُم إذا حدثوك، فإمَّا أن يُبرروا سياستهم العدوانية تجاه العرب، بأنَّ «العرب يَكرهونهم»، وإمَّا أن يُبرروا لك ضرورةَ اعتمادهم على اليهود الأمريكيين، ليُزوِّدوهم بالمال الذي يُخلِّصون به اليهود من هذا البلد أو من ذاك .. إنَّه لَواضحٌ غاية الوضوح أنَّ هؤلاء الناس ليسوا هم الشعبَ العادي الصحِّي المتفتح الذي قيل لنا إنَّ الدولة «اليهودية» كفيلةٌ بأن تُنشئه؛ بل هم بالِغو الحساسية لشتى المُرَكَّبات النفسية التي تعتملُ في حياتهم، وليس أقلُّ تلك المركبات شأنًا شعورَهم بالذنب تجاه اللاجئين العرب، وإدراكَهم لضرورة اعتمادهم على صدقات الأمريكيين.»
يذهب الزائر مع دليله إلى جبل صِهْيَون، الذي يُقال إنَّ داود قد دُفن فيه، ويصعد إلى القمة سلالمَ كثيرة، حتَّى إذا ما بلغها لم يجد ما توقَّعه من عنايةٍ ونظافة، فيسأل دليلَه عن سبب ذلك، فيُجيبه الدليل بأنَّ روَّاده على الأغلب هم من اليهود الذين وفدوا من بغداد، ثم يُضيف إضافةً يسخر منها الكاتب، إذ يقول: «إنَّنا نحن (الغربيِّين) لم نعُد نقصد إلى هذا المكان إلَّا نادرًا.» وهنا يُعلق الكاتب بقوله إنَّ ما أغاظه من هذه الملاحظة وأمثالِها من الدليل، هو هذا التناقضُ المنطقي في أقوال الإسرائيليِّين؛ لأنَّهم كلما نقَلوا يهودًا من وطنهم، وعَدُوهم بجنة إسرائيل، فإذا ظلَّ اليهود الوافدون من هذا البلد أو ذاك على عاداتهم القديمة، فأين إذن الجنة التي وعَدتُموهم بها في إسرائيل؟! فيمَ هذا التفاخر عند الإسرائيلي الوافدِ من الغرب، على زميله الوافدِ من الشرق، ما دام الزعمُ الأساسي هو أنَّ إسرائيل ستضمُّ اليهود إخوة، وتُخلصهم من اضطهادِ غير اليهود؟ ويُلاحظ الكاتبُ في رسائله بأنَّه كلما وقع في رحلاته على جزءٍ نظيف، قال له الدليل إنَّ هذا من صنعهم هم — يقصد اليهود الغربيين — وكلما وقع على جزءٍ قذر، قال له الدليل إنَّه مُستقَرٌّ لجماعةٍ من يهود الشرق؛ مثال ذلك حين مرَّ بأحد «الكيبوتزات» — أي أماكن الحياة الجماعية — (ولاحِظ أنَّ الكيبوتزات هي موضع الفخر عند الإسرائيليين) فهاله أن يرى ما رآه من كآبةٍ وقذارة، فالساحات تنتثر في أرجائها القُمامةُ والصفائح الفارغة وبقايا السيارات القديمة المهجورة؛ ولمَّا دخل قاعةَ الطعام المشتركة، وجدها من القذارة بدرجةٍ لم يكن يتصوَّرُها قط؛ فعندئذٍ سارع الدليلُ بقوله: إنَّ هذا ليس هو الكيبوتز المثالي، وسأُريك غيره لترى النظافةَ وجمال التنسيق، ومرَّ الزائر بقريةٍ قديمة يسكنها يهودٌ من اليمن، ولما لحظ الدليلُ على وجه الزائر دهشةً مِن تأخر الحياة، أسرع بتعليقه على الموقف بأنَّ أهل اليمن هكذا عاشوا في بلدهم، وهكذا يُحبون أن يعيشوا! وهنا يسأل الكاتبُ في خطابه: هل يسَعُ الإنسانَ سوى أن يتساءل في تعجُّب: ففِيمَ إذن زعمتم أنَّكم ستُخلصون هؤلاء الناسَ مما كانوا فيه من مرض وفقر، وطلبتم المعونةَ المالية لتتمكَّنوا من عملية الخلاص هذه؟! ثم يُضيف الكاتبُ من عنده أنَّه لا يشكُّ في أنَّ الإسرائيليين حين وضَعوا هؤلاء اليمنيين في تلك القرية، وتركوهم بغير عناية، فإنَّما فعلوا ذلك صُدورًا عن تعصبٍ عنصري من ناحية اللون؛ لأنَّ هؤلاء اليهودَ الوافدين من اليمن — كما يقول الكاتب — يكادون يكونون سُودَ البشَرة، ولم يُرِد الإسرائيليون «البيض» أن يمزجوهم مع سائر المجتمع؛ فماذا إذن بَقِيَ للصِّهيونية من دعوى تدَّعيها بأنَّها هي البلسم الشافي الذي سيقلب أرضَ اليهود جنة ونعيمًا، بالمعنى الماديِّ والمعنى النفسي على السواء؟
إنَّه كتابٌ صغير، فيه ستٌّ وعشرون رسالة، بعَث بها مُدير المجلس اليهودي الأمريكي إلى صديقَين له من رجال ذلك المجلس، تقرؤه فتجد بين سطوره نكهةً لم نألفها عند الأمريكيِّين خاصة، فيأخذك شيءٌ من الأمل إلى الاعتقاد بأنَّ الإنسانية لن تَعدِمَ صوتَ الصدق يرتفع آنًا بعد آنٍ، فتطوي الكتاب وأنت تُردِّد لنفسك عُنوانه الدالَّ: على من يعرف الحق أن يُعلنه.