هذه الأفعى .. كيف تسلَّلَت؟!
هل أنسى تلك الساعة الباكرة من ذلك الصباح الصيفي الجميل، في يوم من شهر يونيو سنة ١٩٣١م، عندما نزلنا — شقيقي وأنا — في محطة اللُّد بفلسطين الحبيبة، نستبدل فيها قطارًا بقطار، قاصِدين إلى القدس؛ لنراها لأول مرة؟ هل أنسى تلك الساعة الباكرة من ذلك الصباح الصيفيِّ الجميل، ولم تكن الشمسُ قد ظهرَت بعدُ في الأفق، إلَّا طلائعَ من نورها سبَقَت لتنشر في الفضاء ضوءًا رماديًّا هو أحبُّ أضواء السماء إلى نفسي، وكان الهواء رَطْبًا يُنعش الوجوه بلمستِه الرقيقة، ولم يكن على رصيف المحطة أحدٌ في انتظار القطار — سِوانا — إلَّا رجلٌ يرتدي سروالًا قصيرًا، يبلغ إلى ما فوقَ ركبتَيه، وقميصًا فيه جيبان على الصدر منتفخان. كان معنا حقيبةٌ وضعناها على أرض الرصيف، ولم يكن مع الرجل شيء، أخذنا نحن نَذْرع الرصيفَ بخطوة وئيدة، جَيئةً وذَهابًا، وأخذ الرجل كذلك يذرعه في اتجاهٍ مضاد لاتجاهنا، فكنَّا نلتقي معه عند نقطةٍ يختلف وضعها كلَّ مرة، لاختلاف السرعتَين، نحن في ذَهابنا وهو في جيئته؛ فننظر إليه بأعينٍ مُرتابة، وينظر إلينا بعين تُحملق في شرٍّ وسوء! حتى وقَف ذات مرة عند حقيبتنا، فوقَفنا، وبادَرْناه بتحية الصباح بالإنجليزية؛ إذ حسبناه من القوم، لأنَّ سَمْته من سَمتهم، فأجاب التحية في عبوسٍ يُشيع القُشَعْريرة في البدن، وبدأتُ بسؤاله: بريطاني أنت، أليس كذلك؟ فأجاب: لا، فسألته: وماذا تكون قوميتك إذن؟ فأجاب: يهودي، فقلتُ في دهشة السَّذاجة البريئة: إنَّني لم أسألك ما عقيدتك في الدين، بل سألتك ما قوميتك؟ وهنا قال: نعم، يهوديتي هي قوميتي … تبادلتُ مع شقيقي نظراتِ التعجُّب، وصمتنا وصمَت، وجاء القطار، فاتخذنا منه مكانَنا إلى القدس.
ولم نكد نخلو إلى أنفسنا في القطار، حتى تبادلنا السؤالَ والجواب فيما رمى إليه الرجلُ بقوله إنَّ يهوديته هي قوميته، ولكن هل كان في عِلمنا عندئذٍ ما يُلقي لنا الضوء؟ كان قد مضى على فَراغنا من الدراسة عام، وكان كِلانا ممن يُتابعون ما يُصدره المفكرون والأدباء، حتى لَيُمكن القول إنَّنا كنَّا عندئذٍ خيرَ مثال يُضرَب للمتعلم المثقَّف العليم بما يدور به الفكرُ في بلدنا على الأقل، ومع ذلك فلم يكن لنا من الدراية ما يكفي أن نُدرك أبعادَ هذا التوحيد الذي زعمه الرجلُ بين قوميته ويهوديته؛ ذلك لأنَّنا لم نكن نعلمُ بما يكفينا أن نُلِمَّ بما كان يجري على أرض فلسطين، ولستُ إلى هذا اليوم أدري، أكان التقصيرُ منَّا أم كان من رجال الفكر والأدب؟
ونزلنا بالقدس في فندقٍ متواضع، ولم نكَدْ نضَعُ حقيبتنا في الغرفة، حتى خرجنا، إلى أين؟ لماذا لا نجلس قليلًا في هذا المقهى المقابل للفندق وهو يَعجُّ بالناس؟ إنَّ ذِكْرى اللحظة ما زالت ماثلةً في عيني ومسمعي: الضوء ساطع، الظلُّ عميق، فالفواصل حادةٌ بين الظل والنور؛ المكان متفجِّر بالصوت، فالباعة يُعلنون عن بضاعتهم، وروَّاد المقهى يخبطون على المناضد، ويتصايحون، وقوة الحياة بادية. جلسنا، ولعلنا قد أثَرْنا حبَّ السؤال في بعض المشاهدين، عمَّن نكون؛ لأنَّ مشيَتَنا المترددة، ونظراتنا المتطلعة، ووقفتنا المتسائلة، كلها تُعلن أنَّنا قد هبطنا الدار لتَوِّنا، فما هي إلَّا أن قدَّم شابٌّ وسيم إلينا نفسه، نسيتُ الآن اسمه، لكنَّه كان — فيما أذكر — قريبَ التخرج من دراسة القانون، وكان يَشتغل بالمحاماة، واستأذن وجلس، فما فرح أحدٌ بلقاء أحدٍ كما فرحنا به وفرح بنا! وكان أول ما نطق به من سؤال: ما أنباء «القضية» في مصر؟
«قضية»؟! وتبادلت مع شقيقي نظرةً تستفهمُ المعنى؛ أيَّة «قضية» تعني يا صديقي؟ هنا أعاد علينا الشابُّ ذكر «القضية»، ولكن في حرارة المتحمس هذه المرة؛ «قضية العروبة أعني، قضية الوطن العربي ما أعنيه، قضية هذه الأرض الطاهرة فلسطين، التي تكاد تذهبُ نهبَ الناهبين، هي بعض ما أسأل عنه … ما أنباء ذلك كلِّه في مصر؟» فكيف أنسى ما اعتراني من خجل، وما وثب إلى ذهني فورًا — ولم أعلنه — بما يربط حديثَ هذا الشاب المتحمس، بعبارة ذلك المتغطرس في محطة اللُّد، الذي ربط بين قوميتِه ويهوديته؟
وطفق الشابُّ الصديق الجديد يحكي ويحكي ويحكي، وأخذنا نحن نُنصت لنتعلم، ولتضطربَ قلوبنا لما علمناه؛ إذن فها هنا النكبة نازلة بالعرب وبالعروبة ونحن في عمًى وفي صمَم؟! إنَّه لم يكن قد مضى — حينئذٍ — إلَّا عامٌ واحد على ضحايا حادث البُراق؛ وما حادث البراق؟ هو الحادث المفجع الذي كان أشعل أولَ ثورة دامية في فلسطين سنة ١٩٢٨م. والبُراق عند المسلمين هو حائطُ المبكى عند اليهود، وأراد اليهود أن يستولوا عليه بعد أن كان في قبضة المسلمين، فثار المسلمون، وامتدت ثورتهم من القدس إلى سائر مدن البلاد وقُراها، حتى لقد اضطُرَّت حكومة الانتداب البريطاني إلى استخدام القوة لقمع الثورة، وصدَرَت أحكامٌ بالسجن على ثَمانمائة عربي، أحكام بالإعدام على عشرين؛ منهم ثلاثة نُفِّذ فيهم الحكم من عام واحد من تلك الجلسة التي جلسناها نحن في المقهى بالقدس، نستمع إلى زميلنا الشابِّ يشرح لنا الأحداث، وهم الثلاثة الذين خلَّدَهم الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في قصيدته «الثلاثاء الحمراء»؛ لأنَّ إعدام هؤلاء الشهداء الثلاثة قد وقع يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر يونيو سنة ١٩٣٠م. ومضى الزميل الشاب يروي كيف وضع الانتدابُ البريطاني أمورًا خطيرة في أيدي اليهود، مكَّنتهم من النكاية بالعرب، والعبث بحقوقهم.
فبدر من أحدنا سؤال بريء: وما شأن اليهود في هذه الأرض العربية؟ فكان لا بُدَّ للراوية أن يرويَ القصة من بدايتها.
إنَّها رواية تُروى بين قصص المستعمرين؛ لأنَّها روايةٌ عن مستعمر لم يُميزه عن سائر المستعمرين في القرنَين التاسع عشر والعشرين، إلا أنَّه أشدُّهم جبنًا، وأخسُّهم نذالة؛ ففي القرن التاسع عشر شبَّ في قلوب الأُوربيين سُعارٌ مَنهوم تجاه أفريقيا وآسيا، كلٌّ يريد أن يلتهم من الذبيحة قبضة؛ تسابق البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي والبرتغالي، تسابقوا إلى الغنائم، فللأسبقِ الظَّفَر؛ لأنَّ الغنيمة بغير صاحبٍ قوي يحميها .. فدبَّت في نفس الصهيونيِّ عندئذٍ فكرة، لماذا لا يكون بين المستعمرين مستعمرًا، وتلفَّتَ في أرض الغنائم، ووقع بصرُه على فلسطين العربية؛ إذن لتكن هذه نصيبي.
لكن سائر المستعمرين وراءهم حكومات تُئويك وتُئويهم أيُّها الصهيوني، ألستَ بريطانيًّا مع البريطانيين، أو فرنسيًّا مع الفرنسيين؟ لا، لا، إنَّني بريطاني وزيادة، وفرنسي وزيادة، والزيادة هي أني من آل صِهْيون؛ فإذا كان سائر المستعمرين يُخططون لأنفسهم أن يدخلوا هذه الأرضَ أو تلك ليُقيموا بين أهلها مستغلِّين لهم ولها، فهدفي أنا الصهيوني هو استعمارٌ من لونٍ فريد؛ لأنَّني سأحوِّل الأرض المستعمرة وطنًا؛ ولمَّا لم تكن الأرض التي اخترتُها لاستعماري الفريد أرضًا خلاءً، بل هي مأهولة بسكانها، تَحتَّم أن يلحق بالخطة الاستعمارية خطة فرعية، هي أن أحلَّ مكانهم، وأسكن بيوتهم، ولْيذهبوا ما شاءت لهم الأقدارُ أن يذهبوا.
هكذا بُذرت البذرةُ الأولى في رأس الصهيوني، فلكي نزدادَ فهمًا للرواية بكل فصولها؛ فلنفهم الصهيونية على أنَّها حركةٌ استعمارية نشأت مع بقية الحركات الاستعمارية الأوربية في وقتٍ واحد، وإن اختلفَت الدوافع والأهداف، فإذا كان المستعمرون الآخَرون يريدون ثراءً وتجارةً وتسلُّطًا، فالصهيوني في استعماره يريد وطنًا يحوِّله فيما بعدُ إلى دولة، ولاحظ أنَّني أقول «يحوِّله فيما بعد»، لأنَّه بادئ ذي بدء لم يجرؤ أن ينطق ولو مرةً واحدة على الملأ بأنَّه يُريد فلسطين العربية ليجعل منها «دولة» يهودية؛ لأنَّه خشي المقاومة؛ فاكتفى في البداية بقوله إنَّه يُريد فلسطين العربية «وطنًا» له، فها هنا تقلُّ المقاومة؛ لأنَّ الوطن الواحد قد يسَعُه ويسَع الأكثرية العربية، كما يكون البلد الواحد في سائر أقطار الأرض «وطنًا» للأقلية والأكثرية على السواء؛ أمَّا إذا أعلنَت أقليةٌ ما، في أرضٍ ما، بأنَّها تريد أن تجعل من نفسها «دولة» فعندئذٍ تكون المقاومة. وأدرك المستعمر الصهيوني ذلك، فلم يعلن نيته عن «الدولة»، واكتفى برغبته في «وطن».
ولماذا وردَت على الصهيوني عندئذٍ فكرةُ «الوطن» هذه؛ ألم يكن بالفعل قائمًا في وطن؟ ألم يكن مواطنًا في بلدٍ ما؛ في إنجلترا أو في ألمانيا أو في فرنسا، أو في أيَّة داهية تبتلعه من وجه الأرض وتُخفيه؟ لا، إنَّه أراد أن ينفرد وحدَه بحركةٍ استعمارية تُميزه، ولمَّا كانت الموجة الاستعمارية التي عَمَّت أوروبا في القرن التاسع عشر، قد صحِبَتها موجةٌ شقيقة لها، هي موجة التعصب القومي، فلم يكن بُدٌّ أمام الصِّهيوني — حتى تكون محاكاته كاملةً وتامة — أن يقرنَ استعمارَه هو الآخَر بجانبٍ قومي، فكيف يكون ذلك إلَّا أن يجعل الأرض التي اختارها ليستعمرَها وطنًا قوميًّا له في الوقت نفسِه، وبهذا تتم له العناصر كلُّها: استعمار وقومية معًا؟! ولمَّا كان لكل «قوم» ذَوي «قومية» حدودٌ جغرافية، فليجعل هو حدودَ قوميته عنصرًا وديانة، فتكون قوميته هي يهوديتَه، كما قال لنا اليهودي المتعجرف في محطة اللُّد.
الصهيونية حركة استعمارية، فيها مقومات الحركات الاستعمارية التي أنبتتها، ثم زادت عليها أنَّها تخفَّت في جُبن، وخَبُثَت في نذالة، فهي الأفعى تسلَّلتْ مقنَّعةً بعنصر ودين، ولو كان العنصر والدين قِوامَ الصهيونية — مجردًا من الاستعمارية — لاتخذت الصورةَ نفسَها التي تتخذُها مشكلات العنصرية والأقلِّيات الدينية، وهي على وجه الأرض كثيرة.
ثم لم تترك الصهيونية صِلتَها بالاستعمار على هذه الصورة المجردة، فربطتها بمستعمر معيَّن في ظروف معينة، هو المستعمر الذي ربط أواصرَ استعماره بأرض فلسطين، وأعني بريطانيا.
وكانت بريطانيا أولَ الأمر واحدةً من آحاد، كانت ذئبًا من قطيع الذئاب الأوروبية الهاجمة على فرائسها في أفريقيا وآسيا، لكنَّها كانت تختلف عن بقية الذئاب بأنَّها ابتلعَت قارة الهند بأسْرها بين ما ابتلعَته، فإذا كان الآخَرون يبحثون عن فُتاتٍ هنا وهناك، فهي أيضًا تبحث معهم، لكنَّ عينَيها وقلبها وفؤادها موصولةٌ بالغنيمة الضخمة؛ كيف تصونها وتحميها! ومن هنا كانت أهمية كل طريق مؤديةٍ إليها، ومن أهمها قناة السويس. وكمن يمتلك في يده جوهرة نفيسة، يخشى عليها السطو، فيُحيطها بغلاف من ورائه غلاف، ومن وراء الغلاف غلاف، ثم يضع هذا كله في صندوق يحويه صندوق؛ فكذلك أرادت بريطانيا أن تصون الهند بصيانةِ قناة السويس، وأن تصون القناة بصيانةِ ما يُحيط بها، ثم ما يُحيط بالمحيط! ومن هذه الأغطية المحيطة أرضُ فلسطين العربية، لكنَّها أرض — كغيرها من الأراضي العربية — تحت حكم الأتراك؛ فماذا تصنع يا تُرى؟ أتتركها مع الأتراك لتكونَ لها ذريعة تتذرَّع بها كلما طمع طامعٌ أوروبي كفرنسا أو غيرها؟ أم تنتزعها من الأتراك لتطمئنَّ على حوزتها لها؟ لقد أرادت لنفسها البديلَ الأول في بادئ الأمر، حتى نشبت الحرب العالمية الأولى، وانضمَّت تركيا إلى أعداء بريطانيا، فلم يكن لها مناصٌ عندئذٍ من أن تختار البديل الثاني؛ لكنَّها لكي تختار هذا البديل الثانيَ كان يجب أولًا أن تتحرر الأرض العربية من تبَعيَّتها للسلطان التركي؛ ومن ثم كان تحريكها للثورة العربية على الأتراك؛ لتتمهَّد لها الخطوةُ الأولى على أيدي العرب أنفُسِهم؛ فلمَّا تمَّ لها ما أرادت، همَّت بالخطوة الثانية، وهي أن تكون لها هي السلطة، لا في مصر وحدَها — أرض القناة — بل في هوامشها كذلك، ومنها فلسطين.
وها هنا لمحَت الأفعى فريستَها على مَبعدة، فزحفَت زحفًا كان أوله وئيدًا، وكان آخره افتراسًا؛ فلماذا لا تتعاقد الصهيونية مع بريطانيا، كما يتحالف شيطانٌ مع زميله الشيطان على شرٍّ يُدبرانه؟ فتعمل الصهيونية بأموالها ونفوذها على ترشيح بريطانيا في مؤتمر الصلح أن تُعيَّن دولةٌ منتدبة لحماية هذه القطعة من الأرض حتى يَحين الظرف المناسب لاستقلالها، خشيةَ أن تُسارع إليها فرنسا أو غيرها، وماذا في مقابل ذلك؛ في مقابله أن يَعِد بلفور سنة ١٩١٧م، وعدَه المشئوم، بأن تكون فلسطينُ وطنًا لليهود (ولم تكن نية «الدولة» قد كُشف عنها الغطاء بعد)؛ وهكذا حُبكت خيوط المؤامرة بين مستعمِرَين؛ فنفَّذ المستعمر البريطاني ما اتفق عليه، وأصدر إعلانَه ذاك، وبعدئذٍ تقدَّم المستعمرُ الصهيوني فدفع الثمن، وهو أن يسعى في مؤتمر الصلح لتنصيبِ بريطانيا دولة منتدبة على فلسطين.
ولم تكَد بريطانيا تتسلَّم زِمام الأمور هناك، حتى أطلقَت يدها في إفساح الطريق أمام شريك السوء؛ فكان أولُ مندوب سامٍ لها في فلسطين صهيونيًّا، لِيطهوَ الوليمة على مزاجه، وفُتحت الأبواب واسعةً أمام المهاجرين اليهود، وأُعطيت الأرض التابعة للحكومة لبعض هؤلاء الوافدين يستعمرونها، وأذنت لليهود أن يُقيموا لأنفسهم مدارسَهم الخاصة، ومنظماتهم العسكرية الخاصة، وأغمضَت العين عن عصابات الإرهاب. وماذا عن العرب في ذلك الحين؟ لم ينقطعوا عن احتجاجهم، يطلبون من الدولة المنتدَبة أن تُطمئنَهم على مصيرهم، فتردُّ الدولة المنتدبة بحرمانٍ يقع على العرب بعد حرمان! ومضَت السنون، فإذا بالجماعة اليهودية تزداد أضعافًا مضاعفة؛ في العدد، وفي المناصب الرئيسية، وفي النفوذ، بمقدار ما يتضاءل العرب.
وقامت الحرب العالمية الثانية وانتهت، وكان المارد قد نما حتى لم يعد حضن الحاضنة يكفيه، فأعلنَت الحاضنةُ فِطام ربيبها، فانطلق العظيم المارد يبرطع في ظل حاميةٍ أخرى أغنى وأقوى، تمخَّضَت عنها الحرب الثانية؛ هي الولايات المتحدة الأمريكية، فعملت على أن تُعلن إسرائيل «دولة» كسائر الدول.
صُنع المسخ، وقال له صانعوه: كُن «دولة»، فلم يكن؛ لأنَّه يُعوِزُه كل مقومات الدولة السوية، ولذلك النقص في تكوينه؛ لجأ إلى سياسة ذاتِ شُعَبٍ ثلاث، لا يلجأ إلى أيٍّ منها إلَّا مَن رَكِبَته عقدة النقص، فزادته مرضًا على مرض؛ أمَّا هذه الثلاثة الأثافي فهي العنصرية أولًا، والعنف ثانيًا، وشهوة التوسع ثالثًا.
أمَّا العنصرية فهي علةٌ كامنة في صُلب الصهيونية؛ لأنَّها هي الدعامة التي على أساسها زعمَت أنَّ لها كِيانًا قائمًا بذاته، فإذا كانت الجماعات في مختلِف جهات الأرض يربط أفرادَها لغةٌ أو حضارةٌ أو تاريخ، أو وحدة اقتصادية، أو وحدة ثقافية، أو غيرُ ذلك من العوامل التي تربط الأفرادَ في جماعة؛ فإنَّ إسرائيل وحدَها، دون خلق الله جميعًا، هي التي لا يرتبط أفرادها بشيءٍ من ذلك، وإنَّما تتخذ رِباطها من عُنصريتها، زاعمةً أنَّ اليهود جميعًا يَرتدُّون إلى أصلٍ واحد، فلا الديانة نفسُها ولا اللغة عند الصهيونية بكافيةٍ للترابط، وإنَّما الرابط عندها هو انتماء الأفراد إلى أصلٍ عرقي واحد، وهو الشيء الذي لا تجد على وجه الأرض واحدًا من علماء الأجناس يعترف بوجوده؛ فالجنس النقي الخالص من الأخلاط، خرافةٌ خلَقَتها أوهامُ الطامعين تحقيقًا لأطماعهم، وحُقَّ لهم أن يلوذوا بهذا الوهم؛ لأنَّهم لو قالوا إنَّ رباطنا هو العقيدة الدينية، وجدوا أنَّ العقيدة متباينة فيما بينهم أشدَّ التباين، ولو قالوا إنَّها اللغة العبرية، وجدوا أنَّ العبرية لم يكَدْ يتكلم بها أحدٌ ولا أن يكتبها أحد قبل مولد الصهيونية.
وقد تولَّدت نتائجُ عن العنصرية الصهيونية، منها أن يتكتَّل اليهود تكتلًا يترك فجوةً بينهم وبين سِواهم، كأنَّهم أثَرٌ خَرِبٍ أحاط به خندق. ومنها أنْ شطح المنعزلون مع الوهم فظنُّوا أنَّ انعزالهم ذاك علامةُ تفوق، وإذا بدأتْ جماعةٌ من الناس بعزلِ نفسها بنفسها تعذَّر عليها بعد ذلك أن تنسابَ في جسم الأمة التي يعيشون بين ظهرانَيها. ولكن ها هنا العجب أشد العجب؛ فقد صنع اليهود الصِّهيَونيون هذه العزلةَ بأيديهم عامدين متعمدين، ليقولوا للناس انظروا كم تضطهدنا الشعوب الحاقدة، لكنَّهم في الوقت نفسِه يُسِرُّون لأنفسهم قائلين: إيَّاكم والاندماجَ في سائر الناس؛ فالعدو الأكبر للصهيونية ليس هو الاضطهادَ العنصري كما يزعمون، بل عدوُّهم الأكبر هو مَن يقول لهم: ها نحن أولا قد فتحنا لكم صدورنا لتُخالطوا وتختلطوا وتَفْنَوا فينا ونَفْنى فيكم! هذا هو عدوهم، وإن حسب أنَّه هو الصديق؛ لأنَّ تجارتهم كلَّها قائمةٌ على أساس العزلة العنصرية، لقد حدث لكاتبِ هذه السطور في أثناء مقامه في أمريكا، وبعد أن ألقى محاضرة عن موقف العرب وإسرائيل، أن سُئل: لماذا تضطهدون العنصر السامي؟ فقال للسائل: لكنَّنا نحن العربَ ساميُّون فكيف نضطهد السامية؟! فأخذت الحاضرين دهشة، كأنَّما هم يسمعون هذه الحقيقةَ لأول مرة، غير أنَّني لا أعلم كم من هؤلاء الحاضرين قد أدرك بأنَّ اضطهاد السامية هذا بضاعةٌ زُيِّفَت عليهم؛ وإنما زُيفَت عليهم البضاعة ليجدوا الأساسَ الذي ترتكز عليه الصهيونية في إقامة دولةٍ لهم هم وحدَهم، تجمع أشتاتهم، كأنَّ للمسيحيين دولة، وللمسلمين دولة، وللبوذيِّين أو للهندوكيين دولة!
وإنَّه لَمما يَلفت النظر في هذا السبيل؛ أنَّ اليهود حينما فُتحت لهم أبوابُ فلسطين يهاجرون إليها أفواجًا أفواجًا — قبل أن تكون فكرةُ الدولة اليهودية لأحدٍ في حساب — مضَوا في مَبدئهم إلى نهايته، وصمَّموا على ألَّا يُخالطوا عربَ فلسطين، وحرَّموا على أنفسهم أيَّ شيء مما يُنتجه العرب، بما في ذلك الأيدي العاملة؛ فبدا للغافلين عندئذٍ أنَّ انعزال اليهود في فلسطين ليس كانعزال المستعمرين في البلاد التي استعمَروها عن أهل البلاد؛ فانعزالُ هؤلاء المستعمرين عن الأهالي كان غطرسةً وكبرياءً وترفُّعًا، وأمَّا اليهود النازحون إلى فلسطين — هكذا بدا للغافلين — فلو أرادوا غطرسةً كتلك لَاستخدموا الأيديَ العاملة من العرب، أمَّا وهم يتولَّوْن أعمالَ أنفسهم بأنفسهم؛ إذن فالمسألة مسألة «عنصرية يهودية» اعتزلَت لا أكثرَ ولا أقل، ولكن لم يكد يُحقق اليهودُ أمَلهم في قيام دولتهم، حتى أبْدَوا للعرب الذين ظلُّوا بأرضهم لم يهجروها، كلَّ صنوف الغطرسة والكبرياء والترفُّع، أعني أنَّهم اصطنَعوا نحو هؤلاء العرب كلَّ ما يصطنعه أيُّ مستعمر نحو «الأهالي» الوطنيِّين في البلد الذي يستعمره؛ لا، بل كانوا أنكى من أيِّ مستعمرٍ آخَر وأضلَّ سبيلًا؛ لأنَّ الأول يُبقِي على مَن يستعمره ليستخدمه، على أقلِّ تقدير، وأمَّا الثاني فقد أراد أن يمحوَ أبناء البلد المستعمَر (بالميم المفتوحة) محوًا، ويستأصلهم استئصالًا من الأرض؛ تمامًا كما أراد أن يصنع النازيُّون باليهود حلًّا لإشكالهم، فإذا ما بَقِيَ منهم أحدٌ على أرضه، عُومل بأشنعِ ما عرَف العالم من تفرقة واضطهاد.
لقد بَقِيَت في فلسطين المحتلةِ جماعةٌ من أهلها لم ينزحوا عنها، فكيف تظنُّهم يُعامَلون هناك على أيدي اليهود، سادة آخر الزمن؟ إنَّهم أولًا ينحصرون في مناطق لا يتعدَّونها، وهم وحدَهم هناك خاضعون للأحكام العسكرية؛ يتولى الأحكامَ في مناطقهم ضباطٌ عسكريون، لا قضاة مدنيون، ومِن أيسر الأمور أن يُحكَم على مَن يريدون الحكمَ عليه بالنفي عن البلاد، والبقية العربية هناك هي وحدَها — دون سائر سُكان البلاد — لا ينتقل أفرادُها من مكان إلى مكان إلَّا بتصريح، وهي وحدَها التي لا يُسمح لها بحريةِ الكلمة، ولا بحرية الاجتماع، ولا بإصدار الصحف، ولا بتكوين الأحزاب السياسية، وهي وحدَها التي يقف التعليمُ لأبنائها عند حدٍّ محدود لا يَعْدُوه، وهي وحدَها التي تُقام أمامها العراقيلُ في ميادين العمل، حتى ينالَ منهم التعطلُ قبل أن ينال من سِواهم! والخلاصة أنَّ تلك البقية العربية هناك لا تتمتَّع بحقوق المواطنة الكاملة.
وإلى هذا الحد، ومن أجل هذه الأهداف، يستغلُّ اليهود مبدأهم المصطنَع بأنَّهم مجموعةٌ من البشَر اضطرَّها الناسُ إلى التقوقع، فكان أنْ أصبحَت في عُزلة عن الناس، هي عزلةٌ اختاروها اختيارًا ليتَّخِذوا منها منطلَقًا ينقضُّون منه في سِتْر الخفاء على فرائسهم، ما لم تكن تلك الفرائس منهم على يقظةٍ وتنبُّه.
التقوقع اليهوديُّ — إذن — هو أحد الأسلحة التي تستخدمها الصهيونية تحقيقًا لأغراضها، وأمَّا المبدأ الثاني فهو اصطناعُ وسيلة الإرهاب والعنف عندما تُتاح لهم أول فرصة لاصطناعها؛ وهم إذ يستخدمون العنفَ لا يستخدمونه استخدامَ الباسل الجريء، بل يستخدمونه كما يستخدمه الذليل الجبان؛ فهم بعد أن استغلُّوا موقف العرب الأعزل من السلاح، وانقضُّوا عليهم بجماعاتهم الإرهابية المسلحة أيام الانتداب البريطاني، بل تحت رعاية ذلك الانتداب، لم يتردَّدوا حين سنحَت لهم الفرصةُ في أواخر أيام الانتداب أن يستديروا بإرهابهم نحو مَن كانوا بالأمس حُماتَهم من الإنجليز أنفسِهم؛ ولمَّا قامت دولتُهم ونشب القتال بينهم وبين الدول العربية، وتدخَّلَت منظمةُ الأمم المتحدة، لجَئوا إلى رَصاصهم الغادر يُسكِتون به كلَّ من تُحدثه نفسه الشريفة من رجال الأمم المتحدة أن يميل نحوَ الإنصاف والصدق. ولمَّا عُقدت الهدنة بينهم وبين جيرانهم العرب، أغوَتْهم نذالتُهم حينًا بعد حينٍ بهجماتٍ في الظلام، يعقبها هروبٌ واختفاء. ثم تَوَّجت خستها في تواطُئها مع شريكَتيها على العدوان على مصر، فيما يُسمى بحرب السويس سنة ١٩٥٦م.
ويبقى من مبادئهم الثلاثة مبدأ التوسع على حساب الآخرين، بتخطيطٍ مدبَّر في الخفاء؛ فكما أخذوا يُدبرون سطوهم على فلسطين العربية خطوة فخطوة، حتى أصبح الوهم حقيقة في أعينهم، مضَوا في تدبيرهم للتوسُّع في أرض جيرانهم؛ ومبدَؤهم هنا هو كمبدئهم في أيِّ ميدان آخر؛ أي إنَّهم يُخططون في ظلمة الليل، ويُنكرون ويكذبون إذا ما كان ضوء الصباح، ويظلون كذلك إلى أن يظنُّوا أنَّ الغدر قد تكاملَت لهم أسبابه، فعندئذٍ يُفاجِئون ويُباغِتون! أمَّا إلى أي حدٍّ يريدون أن يتَّسعَ مُلْكُهم على الأرض؛ فجواب ذلك بحسب الظروف، حتى لقد يلجَئون إلى التوراة يستخرجون منها أحيانًا ما ينبغي لهم أن يمدُّوا مُلكَهم إليه، لكن عبارة «من النيل إلى الفرات» كثيرًا ما تَرِد في غضون أحلامهم.
وما درَوْا أنَّ لحظة واحدة من لحظات العزيمة العربية، قد تُقوِّض بنيانهم فوق رءوسهم، إن لم يكن اليوم، ففي الغد القريب.