العنصرية والعسكرية معًا
١
كثيرًا ما يضيق بالإنسان خيالُه، حتى لينحبسَ في حدود الواقع لا يُجاوزها، فيتعذَّر عليه عندئذٍ أن يتصوَّر إمكان الخروج من هذا الواقع نفسِه إلى واقعٍ آخَر يملأ مكانه؛ كالذي يشخص ببصره إلى جبلٍ راسخ، فلا يتَّسع خيالُه إلى جواز أن تتحولَ صخور الجبل إلى عمائرَ ومعابد تُقام لتُعمَر بها المدن، أو كالذي ينظر إلى البحر فلا يُسعفه الخيال لينفذ خلال اللحظة الحاضرة إلى ما سوف يتولَّد عنها، حين يتبخَّر شيءٌ من ماء هذا البحر ليسقط مطرًا على يابسة، فتَسيل الأنهار، وتلد تربةُ الأرض نباتًا مختلِفَ الطعوم والألوان؛ فأشدُّ المفكرين إخلاصًا للواقع واحترام حدوده، لا ينفي أن يتحولَ الأمر من واقعٍ إلى واقع جديد؛ بل إنَّه بغير هذا التحول الذي ما انفكَّ ساريًا في صُلب الطبيعة منذ الأزل، وسيظلُّ ساريًا في صُلبها إلى الأبد، ما كان ليُصبح للدنيا تاريخٌ يقصُّ قصةَ كائناتها، بل ما كان ليكون لها وجودٌ بالمعنى الذي يفهمه الإنسان ولا يفهم سواه.
لقد شهد التاريخ الإنساني — في رأي توينبي — نحوَ عشرين حضارة، منها ستَّ عشرةَ ذهبَت مع الريح كأن لم تَغْنَ بالأمس، وبقيَت هذه البقيةُ القليلة من حضاراتٍ تحاول أن تُثبِّت أقدامها في الأرض لئلا تزول، وبينها حضارةٌ واحدة واثقة بنفسها شامخة برأسها راسخة بجذورها، هي الحضارة الغربية، وهي كلما سَمَقَت بقامتها؛ ازدادت مُنافِساتها انزواءً في عتمة الخفاء! على أنَّ هذه الحضارة الغربية نفسَها، قد أخذت اليوم تغوص بأقدامها في وحل الطريق، بما يعترضها وما يكتنفها من مشكلاتٍ انبثقَت لها من طبيعة تكوينها، لكنها ما زالت في حيويتها، ولها من القدرة — بعلومها وفنونها — ما يُمكِّنها من تناول هذه المشكلات الطارئة عليها، بمعالجاتٍ تُزيلها أو تُخفف من حِدَّتها، وهكذا دَوالَيك، تتعاقبُ عليها الحالتان، كما تتعاقبان على كل كائن حي: أزماتٌ فانفراجاتٌ لها.
وإنَّ صنوف المشكلات والأزمات التي تعترض الحضارات في طريق صعودها؛ لهي من الكثرة بحيث يستحيل حصرُها، وكل ما يسَعُنا فعله هو أن نستقطبها في أقلِّ عدد ممكن من الرءوس؛ لتسهل الرؤية ويتحدد النظر؛ فإذا أخذنا بما انتهى إليه توينبي في هذا الصدد؛ قلنا إنَّ جميع الحضارات التي سلفَت وزالت، إنَّما تحطمَت على إحدى صخرتين، أو على الصخرتين معًا، وهما: الروح العسكرية التي تميل بأصحابها إلى شنِّ حروب لا تنقطع، حتى ينهدَّ كِيانهم من الداخل، ثم الروح العنصرية التي قد يَشتطُّ بها أصحابُها إلى إيجاد ضروبٍ من التفرِقة بينهم وبين سِواهم من البشر، بحيث يجعلون لأنفسهم المكانةَ العُليا في تلك التفرقات، ولغيرهم المكانة الدنيا؛ فإذا ما طبَّقنا هذه القاعدة الحضارية على الوجود الإسرائيلي، أيقنَّا بمصيرها المحتوم؛ لأنَّها جمَعَت القبيحَين اللذين يعملان على هدمِ الحضارات ومحوِها، إذ جمعَت في كِيانها: العسكرية والعنصرية معًا.
٢
إنَّ ذبول الحضارات وموتها قلَّما تجيء عواملُه من خارج حدودها، وإنَّما تجيء تلك العوامل دائمًا من صُلب كِيانها؛ بل لعل هذه الحقيقةَ العجيبة أن تكون سمةً لكل حياة — حياة الفرد أو حياة المجموع على حدٍّ سواء — فكأنما كلُّ حالات الذُّبول والموت هي حالاتُ انتحار، نبَعَت عواملها من الداخل. ولو فرضنا وجود أمة سليمة من داخلها، فيكاد يستحيل على مثلِ هذه الأمة أن تزول، حتى لو غزاها الغُزاة؛ فهي سرعان بعدئذٍ ما تقوم قائمتها عندما تزول عنها غمَّة الغزو — ولا بُدَّ لها أن تزول — وربما تَعرَّض أولئك الغزاة أنفسُهم، بعد حينٍ يَقصُر أو يطول، للضعف والفناء، إذا ما كانت طَويَّتهم الاجتماعية مصابةً بمرض.
ومَن ذا الذي لا يقفز إلى ذهنه في هذا السياق مَثلُ أثينا وإسبرطة من تاريخ اليونان الأقدمين؟! فقد كانت أثينا معافاةً من الوجهة الحضارية، وأما جارتها إسبرطة فقد لعبَت برأسها الروحُ العسكرية، فما كادت المدنيَّتان تتلاقيان على ساحة الحرب (وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد) حتى حقَّقَت إسبرطة العسكرية نصرًا على أثينا المُتْرَعة بحبِّ الحكمة والتزام الحياة المعتدلة المتزنة المُعْلِية من شأن الحق والخير والجمال: ولكن كم بَقِيَت أثينا في جسم الحضارة الإنسانية على مدار التاريخ وكم بَقِيَت إسبرطة؟ إن ما كان بين أثينا وإسبرطة من اختلاف النظر والتكوين؛ قريب جدًّا مما هو اليوم بين العرب وإسرائيل، وسأنقل إلى القارئ صورةً لمدينة إسبرطة كما صوَّرها المؤرخون، ثم أترك له أن يرى لنفسه كيف أنَّه يقرأ عن إسبرطة القديمة، فيحسب أنَّه إنَّما يقرأ وصفًا لإسرائيل الحديثة، فإذا وجدنا شبه التطابق بين الجماعتين؛ جاز لنا أن نحكم على مصير الثانية بما حكَم به التاريخُ على مصير الأولى.
كان الجيش عمادَ السلطة في إسبرطة، ومناطَ فخرها؛ لأنَّها وجَدَت في شجاعته ونظامه ومهارته أمْنَها ومَثَلها الأعلى وكان كلُّ إسبرطي يُدرَّب تدريبًا عسكريًّا، ويُؤمر بأن يكون على أُهْبة استعدادٍ لدعوة الحرب، وبفضل التدريب العسكري العنيفِ أمْكنَهم تكوين فرقة حربية من المشاة المتراصة الثقيلة قاذفات الحِراب، غايتُها أن تقذف الرعب في قلوب الأثينيين بصفةٍ خاصة، وكان الجيش في إسبرطة هو المحورَ الذي صِيغت حوله قوانينُ الأخلاق؛ فالفضيلة عند الإسبرطي هي أن يكون قاسيًا عنيفًا، والسعادة مكانها ميدانُ القتال.
كانت هذه السياسة الإسبرطية في تدريب المواطنين جميعًا تدريبًا عسكريًّا، وإعدادهم جميعًا للحرب، قد حتَّمَت على القائمين بالأمر فيها أن يَنزعوا الأطفالَ من أمهاتهم وهم بعدُ في أيام الرضاعة؛ لتتولى الحكومةُ تنشئتهم على الخشونة والصرامة ونضوب كلِّ عاطفة من القلوب! ولم يكن أصحابُ السلطان ليتردَّدوا لحظةً في سحق الطفل الضعيف بأن يُلْقُوا به من قمةٍ عالية لِيَهويَ مُهَشَّمًا على سِنان الصخور! ويروي فلوطرخس (بلوتارك) عن الرائد الإسبرطيِّ ليكرجوس أنَّه كان يسخر من احتكار الأزواج لزوجاتهم: ويقول إنَّ من أسخف السخافات أن يُعنى الناس بكِلابهم وجِيادهم، فيبذلوا كلَّ ما في مُستطاعهم ليحصلوا على أقوى السُّلالات وأجودها، ثم تراهم مع ذلك في حياتهم البشرية يعزلون زوجاتهم في حصانةٍ ليختصُّوا بهن في نسل الأبناء، وقد يكونون ضِعافَ العقول ومرضى الأبدان.
كانوا يجمعون الناشئة في مراكز التعليم والتدريب، ويُعرِّضونهم لأشقِّ الأعمال وأغلظِ ضروب العيش، لا حبًّا في رياضة الأجسام — فقد كانت أثينا مُولَعةً برياضة الأجسام — بل كان ذلك سبيلًا إلى كَسْب المهارة في القتال … ويستطيع القارئ أن يتعقب صورة الحياة الإسبرطية بتفصيلاتها في أي كتاب يروي عن حياة اليونان (ونذكر له في هذا الصدد كتاب «قصة الحضارة» تأليف ول ديورانت، على سبيل المثال).
وبينما كان الإسبرطي مشغولًا بالحرب والإعداد لها؛ كان على مَقرُبة منه يونانيٌّ آخر، هو ابن أثينا، يحيا حياةً أخرى، مدارها القيمُ العليا التي تَنشُد حياة السلم قبل أن تُفكر في الحرب، وهي إن حاربت؛ فمن أجل سلامٍ يجيء بعد حرب. وشاء الله للمدينة المُتَحضِّرة بقِيَمِها أن يكون لها النصرُ آخِرَ الأمر.
٣
ومن إسبرطة التي ضرَبْنا بها مثلًا لقوةٍ عسكرية بلَغَت مَداها، فلم تلد آخرَ الأمر لأصحابها إلا زوالًا في عالم النسيان، ننتقل إلى مَثَلٍ آخَر نضربه للغاية نفسِها، هو جنكيز خان، وأستأذن القارئَ في أن أنقل أسطرًا كنتُ كتبتها عنه منذ سنين، قُلت فيها:
الرجال الأعلام، والأحداث الجِسام، هي المعالم المضيئة التي يستهديها الرائي، إذا ما كرَّ ببصره راجعًا؛ ليرى كيف سارت الإنسانية في طريقها، منذ فَجْرها حتى بلَغَت هذا الذي بلغَتْه في يومنا الراهن. وعبرةُ التاريخ تأتينا من المصلحين ومن المفسدين على حدٍّ سواء؛ فمن الأوَّلين نأخذ الدرسَ كيف نبني، ومن الآخرين نتعلَّم أيَّ صنف من الرجال نتجنَّب. ولقد كان جنكيز خان من هؤلاء الرجال الذين يهبطون على عباد الله الآمنين، يهبطون وكأنَّهم الإعصارُ المجنون الذي يقتلع النَّبْتَ من جذوره، ويهدم البِناء من أساسه، ثم يمضي والأرض من خلفه بَلْقعٌ يَبَاب! وما ظنُّك بهذا الرجل وقد ظهر مِن لا شيء، ليعدوَ بجِياده وجياد أتباعه الذين أخَذوا يتزايدون في سرعةٍ مذهلة، أقول إنَّه ظهر من لا شيء ليعدوَ بجياده فوق السهول هنا، وعلى متون الجبال هناك، كأنَّه الشيطان المَريد؛ فما هو إلَّا أن بسَط سلطانه من حدود الصين القُصْوى على شاطئ المحيط الهادي شرقًا، إلى قلب أوروبا وإلى عواصم المسلمين غربًا. حتَّى إذا ما استقر له هذا السلطان العريض في سنوات قلائل، سأل ضابطًا من أتباعه ذات يوم: ماذا يعود على الإنسان بالسعادة القُصْوى؟ فأجابه الضابط: جواد سريع يجوب به السهول الخضراء، وعلى رُسغه بازٍ يطير ليعود بطِرَاد الصيد، فقال الطاغية ليُصحح تابعه: كلا، بل السعادة أقصى السعادة هي أن تسحقَ العدو سحقًا، حتى يجثوَ خاشعًا عند قدمَيك، ثم تسلبَه كلَّ ما يملك، ومن حوله نساؤه يُعْولْنَ باكيات!
ذلك مثلٌ أعلى عند الهمج الطغاة، ولكنَّه ليس بالمثل الأعلى عند من هذَّبتْه الحضارة وصَقَلَته الثقافة. ولقد كان ذلك هو الحُلمَ الذي طاف برأس هذا الرجل العجيب، منذ أولِ صِباه، حتى لَيُروى أنَّه ما كاد يكون له نفرٌ قليل من الأتباع، حتى جمَعهم في مجلس، ليُعلن فيهم قائلًا: لقد زعم لنا الحكماءُ الكهول أنَّ القلوب والعقول إذا تباينَت استحال عليها أن تجتمع في جسدٍ واحد، لكنَّني سأجعل من حياتي برهانًا على كذبِ ما زعَموه، وسأجمع في شخصيتي شتى أرجاء العالم من حولي، مهما اختلف أهلوها عقولًا وقلوبًا. ثم استمِعْ إليه وهو في بَدْءِ قوته يقول لخُلَصائه: لئن اعتمد التاجرُ على بضاعته التي يعرضها للبيع كسبًا للربح، فاعتمادنا نحن على شيئين: الدَّهاء والقوة — وبالدهاء والقوة امتدَّ له السلطان — وبسَط سلطانه من أقصى اليابس إلى أولِ المحيط! وإنَّنا لنعجب — كما عجب مؤرخٌ فارسي — حين قال: ألم يصل إلى أسماعكم أنَّ عصابة من الرجال، موطنها عند مشرق الشمس، قد نهبَت الأرض نهبًا على ظهور جِيادها، حتى طرَقَت أبواب قزوين؟ لقد نشَروا الدمار بين الشعوب، وبذَروا الهلاك على طول الطريق، ثم عادوا سالمين، يحملون الغنائمَ إلى سيدهم، وكل ذلك قد تمَّ في أقلَّ من عامَين.
لكن هذا البَهْرج لا يخدع مَن آتاه الله حِكمة، فهذا حكيمٌ من الصين، كان الطاغية قد اصطفاه، حذَّره يومًا قائلًا: لقد غزوتَ إمبراطورية وأنت على صهوة جوادك، ولكنَّك لن تستطيع أن تحكمَها وأنت على صهوة هذا الجواد. وقد صدَق الحكيم؛ لأنَّ الحكم قِوامه فكرٌ وبصيرة ورؤية وسياسة وبناء، وهذه كلها لا تجيء خطفًا، كما قد يجيء الغزو خطفًا. ثم حدَث لهذا الطاغية مرةً أخرى أن سمع بحكيم صيني؛ فأرسل إليه يدعوه للشورى، وجاءه الحكيم واثقًا من قوة روحه — وإن لم تكن في يده قوةُ السلاح — حتى مَثُلَ أمام الطاغية؛ فلمَّا استنصحه الطاغية ماذا يفعل وقد غزا ما غزا، وحكَم ما حكم؟ قال الحكيم: النصح عندي هو أن تعيشَ في سلام، وأن تكفَّ عن إزهاق أرواح الناس.
ولكن مَن نشأ نشأةَ جنكيز خان، ومن نجح نجاحه، هيهات أن يعرف الحياةَ المسالِمة، وأن يكفَّ عن سفك الدماء إلَّا مرغَمًا، أفتدري من ذا الذي أرغمه، وأوقفه، وردَّه على أعقابه أو على الأصح: ردَّ أتباعَه؛ لأنَّه كان قد لقي حتفه ورجَع مع الراجعين جثمانًا محمولًا على عربة؟ إنَّهم هم العرب المسلمون، وإنَّه لَفضلٌ لهم يُضاف إلى أفضالٍ في تاريخهم المجيد، أن يكونوا دعامةً للحضارة وللثقافية، كلما أحاق بالحضارة وبالثقافة خطرٌ داهم … فليست عظَمة الإنسان في أن ينتفخ كالفقاعة الفارغة، ثم ينفجر جدارُه الهشُّ، فيذهب كأن لم يكن منذ لحظة، بل عظَمة الإنسان هي في أن يُنتج ما يمكث في الأرض تراثًا للإنسانية خالدًا.
٤
لم يكن السؤال الضخم الذي ألقَته الحضاراتُ البشرية على نفسها هو: كيف يكون النصر في الحروب؟ بل كان: كيف يمكن التغلبُ على الحروب لتزدهرَ الحياة في ظل السلام؟ وهو سؤالٌ جاءت محاولاتُ الإجابة عنه في إحدى صورٍ ثلاث: الصورة الأولى هي أن تُحاول الدولةُ القوية بسْطَ سلطانها على بقية العالمين — إذا أمكنَ ذلك — لِتُسكِت فيها كلَّ صوت للمعارضة، ومن ثَم فهي تخرج من معارك الحروب بحالةٍ من الصمت الأخرس عند المغلوب، وتُخيِّل لنفسها أنَّها في حالة السلام المنشود، ولا عليها عندئذٍ أن تُفرق بين استسلام وسلام. والصورة الثانية هي أن تعقد الدولة الراغبة في كتم أنفاس الآخرين أحلافًا مع مجموعاتٍ من دول تجدُ صوالحها محققةً في التحالف معها، بحيث يكون لتلك الأحلاف من القوة ما يضمن لها أن تظلَّ سيوفُ الأعداء مشلولةً في أغمادها؛ فتَعُدُّ هذا الشللَ سلامًا، ما دام قد كَفل لها امتناعَ القتال. والصورة الثالثة أن تسعى الدولة الراغبة في اجتناب الحرب نحو إقامة حالةٍ من التوازُن بين سائر القُوى؛ لعل هذا التوازن أن يحقق السلام.
ولما كانت روح «العسكرية» هي التي استبدَّت بإسرائيل؛ رأيناها تبدأ شوطها لا بالبحث عن سلام، بل بالبحث عن طريقٍ للنصر في حروب تَشنُّها؛ حتى إذا ما وجدَت حولها عالمًا يسعى إلى السلام، سايَرَت بدَورها هذا التيارَ الساعيَ إلى السلام باللفظ لا بالحقيقة؛ ولذلك اختارت لنفسها الصورة الأولى من الصور الثلاث التي أسلفناها، أعني الصورة التي تفرض بها سيادتها العسكرية المطلقة، فإذا استطاعت بذلك أن تخنقَ أصوات العرب في حناجرهم، فلم يرتفع لهم لفظٌ مسموع، ولم تصطكَّ لهم سيوفٌ بسيوف؛ قالت للعالم: ها هي ذي منطقتنا قد شملها السلامُ المطلوب.
لقد عرَف التاريخ هذه الصورةَ من سلامٍ مفروض بقوة الغالب منذ قديم؛ عَرَفها مثلًا في السيادة التي فرَضَتها روما على العالم بقوة جيوشها، حتى سكتَ الصوتُ وانصرفت الشعوب إلى حقولها تزرع لنفسها ولسيدتها روما معًا. ومثل هذا السِّلْم المفروض بقوة السلاح، كان هو الأملَ الذي راود نابليون، وراود هتلر. وهو نفسُه الأملُ الذي يراود الولايات المتحدة الأمريكية في يومنا الحاضر.
ولهذا الاتفاقِ في تصوُّر السلام بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية؛ نتَج بينهما التحالفُ الذي يوشك أن يكون دمجًا لهما في دولة واحدة! وهكذا تولَّدَت الصورة الثانية — من الصور الثلاث التي ذكَرناها — فأصبح السلامُ الذي تدَّعي إسرائيل أنَّها تسعى إليه سلامًا من الصورتين الأُوليَين معًا؛ فهو سلام يُراد فرضه بقوة السلاح أولًا، وهو سلام يُراد فرضه عن طريق تحالف القُوى ثانيًا.
ونستطيع القول — استطرادًا مع منطق حديثنا هذا — إنَّها في المرحلة الأخيرة التي انبثقَت من حرب أكتوبر ١٩٧٣م، قد تُرغَم على سلامٍ من الصورة الثالثة، وهو السلام الذي يقوم نتيجةً لتوازُن القُوى توازنًا يمنع إحدى الكفَّتَين من الطغيان على الكفة الأخرى، لا اختيارًا منها، بل إرغامًا يجيء أساسًا من القوة الذاتية لتلك الكفة الأخرى، موضوعةً في ظروف دولية متوازنة.
جاء ما يلي في البحث الذي قام به «جانيس تيري» وعنوانه «سياسة إسرائيل تجاه الدول العربية» (وتجده ضمن مجموعة البحوث المنشورة في كتاب «تهويد فلسطين»).
لقد جعلَت إسرائيل مبدأَها في التصرف إزاء الدول العربية المجاورة لها، أن تشتدَّ حالةُ التوتر على تلك الحدود، فيتحقَّق لها بذلك غرَضان: الأول هو أن تتوثَّق الروابطُ بين المواطنين في إسرائيل؛ لأنَّهم من فئاتٍ متباينة، والخطر الخارجي وحدَه هو الكفيلُ بصَهْرهم في شعبٍ موحَّد. والثاني هو أن تحصل على تأييد المؤيدين في الخارج، حينما يرَونها في خطر لم تنقطع أسبابه.
وبِناءً على هذا المبدأ؛ رأت القيادةُ الإسرائيلية أنَّ التفوق العسكري الساحقَ هو وحدَه الذي يُرغم الدول العربية على الرضوخ. ومما يلاحَظ أنَّ الفترة الممتدة من ١٩٤٨م إلى ١٩٥٤م، قد تميَّزَت ببناء إسرائيل لقوتها العسكرية التي قدَّرَت لها أن تُنزل الهزيمة بأيِّ هجمة عربية محتمِلة الحدوث؛ ذلك فضلًا عن اعتقاد القيادة الإسرائيلية بأنَّ الجيش أداةٌ فعالة في مَيدان التأهيل الاجتماعي للمهاجرين اليهود الوافدين من بيئاتٍ متباينة. ومن أقوال بِن جُوريون: «إنَّ العَدَاء المستمرَّ من جانب العرب قبل إنشاء دولة إسرائيل، هو الذي أدى إلى قيام مجتمعٍ يهودي أكثرَ تماسكًا في إسرائيل.» وما دامت هذه عقيدتَهم؛ فقد حرَصوا أشدَّ الحرص على أن تظلَّ حالةُ التوتر على الحدود قائمة، مع ضمان قوتهم العسكرية في كلِّ ما عسى أن ينشبَ بين الجانبَين من قتال؛ ولم ينقطع بن جوريون عن تَكْرار مبدئه في فرض حلٍّ للنزاع بالقوة، وهو مبدأ أخَذه عنه أتباعُه، ومنهم جولدا مائير، وموشي ديان، وغيرهما من الأسماء التي حفظناها عن ظهر قلب؛ فلَطالما ردَّد موشي ديان قولَه بأنَّ النصر العسكري الحاسمَ هو وحدَه الطريقة التي تحمل العربَ في نهاية الأمر على قَبول إسرائيل، مستندًا في ذلك إلى عقيدةٍ عنده بأنَّ العرب لا يحترمون إلا القوة.
هكذا حاوَلَت إسرائيل أن تُحقق «سلامًا» بالصورة الأولى، أعني سلامًا مفروضًا على أعدائها بقوة السلاح، ولما أنْ باءت بالفشل، لأنَّ مثل هذا السلام المنشودِ لم يتحقَّق لها برغم انتصاراتها العسكرية المتوالية، فلا الفلسطينيُّون استناموا ولا الدول العربية المقهورة اعترفَت بالأمر الواقع؛ فطَفِقَت الحروبُ تتوالى، ولكن لا سلامَ كما ظنُّوا لأنفسهم أولَ الأمر! فكان لا بُدَّ من تجرِبة السلام من الصورة الثانية؛ بالبحث عن حليفٍ قويٍّ في مستطاعه أن يُحرك الدنيا على هواه. وأخذ هذا الحليفُ يتبدل معها بتبدُّل الظروف؛ فآنًا كان الحليفُ بريطانيا، وآنًا كان بريطانيا وفرنسا معًا، وأخيرًا ألقَت السفينةُ الحائرة رواسيَها على الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فلم يجِئْ يومُها خيرًا من أمسِها.
انعقدَت أواصر الحلف بينها وبين أمريكا لأنهما شبيهتان في عدةِ وجوهٍ جوهرية؛ فكِلتاهما أرادت أن تنزع شعبًا من أرضه لتأخذَ مكانه؛ وفي ذلك أفلحَت أمريكا بالفعل، وفي ذلك أيضًا أرادت إسرائيل أن تُفلح، وعاونَتها الفالحة الكبرى على أن تظفرَ بمِثل ما ظفرَت به هي من قبل، وكأنَّما عَمِيَت أبصارهم عن الفرق الشاسع بين الموقفين! وكِلتاهما عنصريٌّ حتى الصميم، فقصةُ التفرقة العنصرية في أمريكا أمرُها معروف، وأرادت الأخت الوليدة أن تُحاكيَ أختها الكبرى في عُنصريتها، وها هنا أيضًا قد عميَت أبصارهم عن اختلاف الوضع بين الموقفين؛ إنَّ بين الأشباه في النزعة العنصرية تحالفًا خفيًّا أو ظاهرًا، وهو تحالفٌ ظاهر بين أمريكا وإسرائيل، وكِلتاهما يَدين باصطناع القوة في كتم الأنفاس؛ ليُتاح لهما بعد ذلك أن يَصِفُوا حالةَ الصمت بأنَّها حالةُ سلام، وكِلتاهما ينطوي على شعارٍ يُوجِّه خُطَى سيره، وهو أن تزدهرَ له تجارتُه متوسلًا بذريعة الدين! هل تذكر ما قاله الرحَّالة فاسكو دي جاما عندما وصل إلى الهند، حين قال لمن لقيه من أهل البلاد: لقد أتينا إلى هنا بحثًا عن المسيحيِّين والتوابل؟ إنَّ هذا القول يمكن ترجمته فإذا هو مطابقٌ لما فعَلَته أمريكا طَوال أعوامٍ مديدة حين كانت شديدةَ الحرص على إرسال بعثاتها التبشيرية، كأنَّما هي المسيحُ الثاني على الأرض؛ فلِسان حالها عندئذٍ كان يصرخ بعبارة فاسكو دي جاما أو ما يُشبهها. وأما إسرائيل فلو نطقَت بما جاءت هنا من أجله، لقالت — على غرار ما قاله دي جاما — لقد جئنا بحثًا عن الصهيونية والبترول.
فهو تشابهٌ شديد في الأهداف والوسائل، بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، كان من شأنه حتمًا أن يقفا معًا في معسكر واحد.
قال الرئيس سوكارنو في خطبته التي افتتَح بها مؤتمر باندونج سنة ١٩٥٥م: «إنَّنا — نحن الإندونيسيين وإخواننا من مختلف الشعوب الآسيوية والأفريقية — نعلم جيدًا بأنَّ الاستعمار قد استحدثَ لنفسه أساليبَ جديدة ينفُذ بها إلى بلداننا، وذلك عن طريق السيطرة الاقتصادية والعقلية والجسمية، بواسطة مجموعة صغيرة ولكنها دخيلة …» وهو قولٌ ينطبق انطباقًا كاملًا على موقف الاستعمار الأمريكي الجديد، الذي جاء يطرق أبوابَ الشرق العربي، ليحلَّ محل الاستعمار بصورته الكلاسيكية، الذي كانت أقامَتْه من قبلُ بريطانيا وفرنسا في هذا الوطن العربي. ولقد كانت «المجموعة الصغيرة الدخيلة» التي اختارها الاستعمارُ الجديد هي إسرائيل! وجاءت الأداةُ متلائمةً مع الذراع الممسِكة بها؛ للتشابه الذي ذكرناه بينهما.
ولقد فات الذراع وأداتها معًا (أمريكا وإسرائيل) أن تُدركا أهمَّ عناصر الموقف، وتصرَّفَتا كما لو كان ذلك العنصرُ الجوهري المهمُّ ليس له وجود، ألَا وهو الشعب وقوته، وأعني بالقوة هنا — أولَ ما أعني — قوةَ العقيدة التي قِوامها — بالإضافة إلى الإيمان بالدين والوطن — أفكارٌ ملأَت الرءوس عمَّا ينبغي أن يكون من حقها في العصر الجديد. نعم، فقد توهَّمَت الذراع وأداتها أنَّ القوة لا تكون إلا مُركَّبًا من قوة الجيش والطيران والأسطول، وقوة السلاح الذرِّي وغير الذري من نِتاج العلم التكنولوجي الجديد، وقوة الأحلاف العسكرية، وقوة المواد الخام والصناعة ووسائل المواصلات والمواقع الاستراتيجية وما إلى ذلك؛ وفي ذلك يقول «تشستر بولز» في كتابه «الأبعاد الجديدة للسلام» (وله ترجمة عربية بعنوان: الآفاق الجديدة للسياسة العالمية)؛ يقول إنَّه سأل يومًا أحدَ عشر رجلًا من صانعي السياسة في أمريكا، ماذا يفهمون من كلمة «القوة»، وكان السؤال واردًا في سياق الحديث عن عوامل الصراع بين القوتين الكُبرَيَين في العالم، فلفَت نظره أنَّ أحدًا من الأحدَ عشر رجلًا لم يطرأ بباله أن يذكر لا قوة «الشعوب» ولا قوة «الأفكار»، فلم يذكروا إلا عواملَ من قبيل ما أسلفناه، فإذا غَضُّوا أنظارهم — فيما يختص بالشرق العربي — عن قوة الشعب العربي في عقيدته، وفي إيمانه بوطنه وبتاريخه، وفي الأفكار الثورية الجديدة التي تسلَّلَت إلى حياته الثقافية، فلم يكن مستبعَدًا بعد ذلك أن تظنَّ الذراعُ الأمريكية وأداتها الإسرائيلية بأنَّ السيطرة على هذه البلاد بقوة السلاح والعلم والصناعة أمرٌ سهل ووشيك الوقوع.
كان لا بُدَّ للشعب العربي العريق المتحضِّر أن يثور، ولم تكن ثورتُه وليدةَ الأمس القريب، بل هي ثورةٌ تستطيع أن ترتدَّ بها إلى ما يقرب من أوائل القرن الماضي، ولكنها خلال تلك الفترة الطويلة — التي هي فترةُ ولادةٍ جديدة للأمة العربية المعاصرة — تردَّدَت في ثورتها بين درجاتٍ متفاوتة من العنف والهدوء، وفي لحظات هدوئها كانت تتخذ صورةً عمَلية تطويرية بطيئةً لكنها بعيدةُ الأثر، إلى أن ظهرَت الحركة الصِّهيونية على مسرح الأحداث، وظهرَت معها بعد الحرب العالمية الثانية راعيتُها الكبرى أمريكا؛ فمنذ ذلك الحين، لم تهدأ الثورة العربية يومًا واحدًا، تظهر في جوِّ العلانية مرة، وتتأجَّجُ نيرانها خفيةً في الصدور مرة، وتشتدُّ حتى تبلغ درجة الحرب مرة ثالثة.
ولئن كانت عُدَّة إسرائيل هي قوةَ السلاح وقوةَ العلم والصناعة؛ فقوة الأمة العربية مَكمنُها إيمانٌ بعقيدة، وإيمانٌ بمجد قديم، ثم إيمانٌ بفكر اشتراكي جديد، وجَدَت فيه وسيلةً تؤدي بها إلى مرحلةٍ جديدة من تاريخها الطويل. نعم، إنَّه لا بُدَّ من قوة السلاح وقوة العلم والصناعة، لكننا إذا كنا لِنُوازن بين طرَفَين من حيث القدرةُ على البقاء الطويل: أحَدُهما هو قوة الوسائل المادية، والآخر هو قوة العقائد والأفكار، كان السَّداد في اختيار الطرَف الثاني (وهذه موازنة نظريةٌ صِرف، نسوقها لتوضيح الموقف) فقد كانت لبريطانيا جيوشٌ في مصر والعراق والسودان والهند وغيرها، وكانت لهذه البلاد عقائدُ وأفكار، فذهبت الجيوشُ وبقيت الأفكار. وكانت لفرنسا جيوشٌ في لبنان وسوريا وتونس والجزائر والهند الصينية وغيرها، وكانت لهذه البلاد عقائدُ وأفكار، فذهبَت الجيوش وبقيت العقائد والأفكار. ووقفَت أمريكا بجيوشها مع كاي شيك ضد ماوتسي تونج المؤيَّد بالفكر والعقيدة، فذهب الأول وبقي الثاني … هذه هي حركة التاريخ، لن يشذَّ فيها صراعُ الأمة العربية مع إسرائيل؛ فمع إسرائيل القوةُ التكنولوجية الأمريكية مضافةً إلى أساطير، ومعنا التراث التاريخي الحيُّ والفكر الثوري، أضَفنا إليهما القوةَ التكنولوجية، فلأيِّ الكِفَّتين يكون الرُّجحان في المدى الطويل، إذا لم يكن في المدى القريب؟
ويسألُني السائل (وقد أتي السؤال من الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة المعرفة)، يسألني الرأيَ في هذه القِسمة بين شطرَين: العرب والقُوى التقدمية من جهة، وإسرائيل والاستعمار من جهة أخرى، وإني لأحسبُها قسمةً كان محالًا أن يحدث نقيضها؛ لأنَّ الجوهر الأساسي في موقف الأمة العربية هو قوة الشعب وقوة الفكر عند هذا الشعب، وهو جوهرٌ يتجانس مع الموقف التقدُّمي في أهم دعائمه؛ أي أن يكون الاعتمادُ الأساسي على الشعب وفكرته، وكذلك من الناحية الأخرى يتجانس الجوهر الأساسي في موقف إسرائيل ومَثيلُه في موقف أمريكا، فكِلاهما يرتكز أساسًا على إهمال الشعب وفكرته، مكتفيًا بالسلاح وسطوتِه، والمال وغوايتِه.