التوفيق بين ثقافتين
١
لستُ أتردَّد لحظةً حين أُقرر بأنَّ أمَّ المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة هي محاولة الكشف عن صيغةٍ لحياتنا الفِكرية والعَملية، تجمع لنا في طيِّها طرَفَين؛ إذ تُحافظ لنا على خَصائصنا العربيةِ الأصيلة، وفي الوقت نفسِه تفتح لنا الأبواب على مَصاريعها، لنستقبلَ — في رَحابةِ صدر — أسسَ الحضارة العصرية كما يَحياها اليومَ روَّادُها.
ولن نجنيَ من الحق شيئًا، إذا نحن اكتفَينا في هذا المجال بكلماتٍ نُحرك بها شِفاهَنا، دون أن تكون صادرةً منَّا عن اقتناع وإيمان؛ إذ ما أيسرَ على المتكلم أن يدَّعيَ لنفسه الصفتَين معًا: صفةَ العروبة الأصيلة، وصفة التحضُّر بحضارة العصر، فإذا ما تناولنا حياتَه الفعلية بالتحليل الموضوعيِّ الدقيق، ألفَيْناه واحدًا من ثلاثة: فإمَّا هو قد خلا من الأسُس الأصيلة في الثقافة العربية، مكتفيًا في حياته بعناصرَ متنافرةٍ جمعَها لنفسه من هنا وهناك من ظواهرِ الثقافة العربية، أو هو قد ملَأ نفسه بثقافة عربية صِرْف، حتى انسدَّت دونَه أبوابُ العصر، فلا يدري مِن أمر هذا العصر شيئًا، أو هو قد أخرَج وِفَاضه خاليًا من الثقافتَين جميعًا؛ فلا هو إلى أولئك ولا إلى هؤلاء. تلك صورٌ ثلاثٌ أراها تستنفدُ الكثرةَ الكاثرةَ من أبناء الأمة العربية، وأمَّا الصورة الرابعة التي هي صورة العربيِّ وقد جمَع في كِيانه وَحدةً عُضوية متَّسقة متماسكة، قِوامُها أصولٌ رئيسية من التراث العربي، وأصولٌ رئيسية أخرى من مقومات عصرنا الحاضر، فلن تجدَها متمثلةً إلا في نفر قليل، تكاد تُشير إلى أفراده في أرجاء الوطن العربي؛ لأنَّهم بهذا الجمع الحقيقيِّ بين الثقافتين في حياةٍ واحدة، قد برَزوا عن غِمار الناس بروزًا لا يُخطئه البصر.
٢
إنَّ الموقف الحضاريَّ للأمة العربية اليوم، يتركَّز في سؤالين، لو أحسَنَّا الإجابةَ عنهما، تبدَّتْ لنا حقيقةُ ذلك الموقف جليةً لا يشوبها غُموض؛ السؤال الأول هو: ما هي أهمُّ العناصر التي نَعنيها حين نتحدَّث عن «الشخصية العربية الأصيلة»؟ وأمَّا السؤال الثاني فهو: ما هي أهم العناصر التي تتألَّف منها بِنْيةُ الثقافة العصرية؟ فبعد الإجابة عن هذين السؤالين، تكون أمامنا صورتان، وقد يسهل علينا بعد ذلك أن نلتمسَ السبيل إلى خَلْق المركب الواحد، الذي يضمُّ ما يمكن ضمُّه من أجزاء الصورتَين، دون أن تَضيع من أيِّهما صفةٌ جوهرية فينتفيَ بذلك وجودُها.
ولنبدأ بسؤالنا الأول: مَن نحن على الأصالة؟ ما هي مُقوماتنا التي إذا تحقَّقَت في فردٍ أو في مجموعٍ قُلنا عنه إنَّه عربيٌّ أصيل من الناحية الثقافية؟ لستُ أطمع في أن تجيءَ الإجابةُ شاملةً لكلِّ هذه المقومات، بحيث لا يُفلت منَّا شيءٌ منها، وحَسْبنا أن نقعَ على طائفةٍ من المقومات الأساسية فنهتديَ فيما نحن بسبيله.
وأول ما يرِدُ إلى خاطري من الخصائص المميزة للوقفةِ العربية، العقيدةُ الراسخة بمستويَين من الوجود، بحيث يستحيلُ علينا استحالةً قاطعة، أن نَخلط بينهما في التصوُّر؛ فهنالك الذات الإلهية الخالقة، ثم هنالك عالمُ الكائنات المخلوقة لتلك الذات، وبين هذه الكائنات المخلوقة، كائنٌ أراد له خالقُه أن يتميزَ ليحمل إلى الدنيا أمانةً اؤتُمِن على حملِها ونشرها، وذلك هو الإنسان. في هذا الإطار العام، تتحدَّد وجهةُ النظر العربية الأصيلة، وعن هذا الأصل الأول تتفرعُ فروع:
منها أنَّ الإنسان كائنٌ خُلُقي، بمعنى أنَّه مكلَّف بأن يُحقِّق في سلوكه قِيَمًا أخلاقيةً محدَّدة معينة، أُملِيَت عليه ولم تكن من اختياره، فليس من حقِّه أن ينسخَ بعضَها، أو أن يُضيف إليها ما يُناقضها، ولَمَّا كان هذا التكليفُ الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا إذا كان الفردُ الإنساني مسئولًا عمَّا يفعل، فإنَّ هذه المسئولية الأخلاقية بالنسبة لكلِّ فرد على حِدَة، تصبح أمرًا لا مفرَّ منه، فلا يجوز أن يحملها فردٌ عن فردٍ آخر، قد تجد في الثقافات الأخرى أنماطًا أخرى، بل إنَّ في عصرنا هذا نمطَين آخَرين لا يلتئمان مع الوقفة العربية التي ذكَرناها؛ أحدهما يقول إنَّ القوانين الأخلاقية كغيرِها من القوانين، هي وليدةُ الحياة الواقعة، فما قد ثبَت على التاريخ أنَّه نافعٌ جعَلناه قانونًا خُلُقيًّا نُنظم به سلوكنا، وما قد تبيَّن على التاريخ أنَّه ضار، حذفناه من قائمة الأفعال المقبولة، ولمَّا كان النفعُ والضرر يتغيَّران بتغيُّر الظروف، وجبَ علينا أن ننظر إلى مبادئ الأخلاق على أنَّها نسبيةٌ لا مُطلقة، بحيث نكون على استعدادٍ لأن نُغير منها ما لا بدَّ من تغييره؛ لئلا يقفَ عقَبةً في سبيل التقدُّم مع ما يقتضيه الزمنُ وحضارتُه.
ذلك أحدُ النمطين الآخرَين، وأمَّا النمط الآخَر فيقول أصحابه إنَّ المسألة هنا ليست مرهونةً بتقدُّم أو تأخرٍ في طريق الحضارة، ولكنها مسألةُ الإنسان وحريته المطلقة في أن يتَّخذ لنفسه ما شاء مِن قرار؛ بشرط أن يكون مسئولًا عن قرارِه ذاك، فليس هنالك أحدٌ فوقه أو إلى جانبه يُملي عليه ما يجبُ وما يجوز، بل هو البادئ بقراره بدءًا غيرَ مسبوق بمبدأٍ صاغَه سواه.
وواضحٌ أنَّ الوقفة العربية الأصيلة مختلفةٌ عن كِلا النمطَين من حيث المبدأُ والأساس، حتى وإنِ اتفقَت معهما في النتيجة؛ فهي مختلفةٌ عن النمط الأول الذي يجعل المُعَوَّل في السلوك الإنساني الصحيح على التجارِب، على حينِ أنَّ الوقفة العربية تفترض أسبقيةَ المبدأ الخُلُقي على التجارِب، فالصواب صواب، والخطأ خطأ، بغضِّ النظر عن النجاح أو الفشل في تجارِب الحياة العمَلية، وليست حدودُ الصواب والخطأ مِن صُنع الإنسان، ولكنها حدودٌ شاءها الله للإنسان.
والوقفة العربية مختلفةٌ عن النمط الثاني كذلك، الذي يجعل القرار الإنسانيَّ غيرَ مسبوق بمعيار؛ وذلك لأنَّ وجهة النظر العربية — كما ذكرنا — تفترضُ أسبقية المعيار الذي يُقاس به القرارُ في صوابه أو خطئه، وسؤالنا — في حدود هذه النقطة الأولى — هو: هل يمكن التوفيق بين أن يكون الإنسان عربيًّا يحمل هذه الوجهة من النظر، وأن يكون في الوقت نفسِه معاصرًا يتطوَّر مع الزمن وتغيُّراته السريعة؟ لستُ أدَّعي ها هنا بأنَّ مشكلة التوفيق — في هذا الجانب — بين الأصالة والمعاصرة هَنَةٌ هيِّنة، ولكنها على كل حال مشكلةٌ تستحقُّ منَّا النظر الطويل والعميق؛ لأنَّنا لو أمسَكْنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا، تعرضنا لخطر الجمود، ولو سبَحْنا أحرارًا مع تيار التغيُّر، تعرَّضنا لزوالِ الشخصية وانحلالها، وغايةُ ما أستطيع قولَه في هذا الصدد، هو أنَّ قِيَمنا الأخلاقية الموروثةَ فيها من السَّعَة ما يُمكِّننا من التصرف في إطارها بدرجةٍ من الحرية تكفي للحركة مع سرعةِ الإيقاع في عصرنا، وليكن الأمرُ في هذا شبيهًا بالأمر في تكوينِ ألفاظ اللغة من حروف الأبجدية؛ فالحروف محددةٌ معلومةُ العدد، ومع ذلك ففي مُستطاعنا أن نبنيَ بها ألفاظًا تُعدُّ بملايين الملايين إذا أرَدْنا، فلماذا لا نقول إنَّ مبادئنا الخُلقية الموروثةَ هي أسُس يمكن أن نبنيَ عليها ما لا حصْرَ له من ضروب العمل؟ إنَّ هذه القيم الموروثةَ ماثلةٌ في أسماء الله الحسنى؛ لأنَّ هذه الأسماء — كما يقول الإمام الغزاليُّ — هي صفاتٌ تكون مطلقةً بالنسبة لله تعالى، وهي نفسُها تكون نسبيةً محدودة بالنسبة للإنسان، فاقرأ هذه الأسماءَ تعلم ماذا يُطلب منك أن تكون؛ يُطلب منك — مثلًا — أن تكون عليمًا، بصيرًا، سميعًا، قادرًا، صبورًا، إلى آخرِ هذه الصفات العُليا، فما الذي يمنع من مُسايرة العصر بهذه الصفات؟ ما الذي يمنع أن أكونَ عليمًا وبصيرًا وسميعًا بحقائقِ عصري وما تتطلَّبُه الحياة فيه؟ وأن أكون قادرًا وحكيمًا وجَسورًا وقويًّا وخبيرًا، وكلها صفاتٌ من تلك الصفات المطلوبة مني بحُكم عقيدتي؟ كل الذي يُطلب مني في هذا المجال، هو أن أفهمَ مِن كل صفة جوانبَها التي تكون أقربَ إلى العصر، فأكونَ عليمًا بعِلم العصر، وقادرًا بقدرة العصر، وقويًّا بقوته، وحكيمًا بحكمته، وهلمَّ جرًّا.
٣
ومن مميزات الثقافة العربية كذلك، تلك الرغبةُ الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دُنيا الحوادث المتغيرة؛ لياذًا بما هو ثابتٌ ودائم، إنَّ كل ما في الأرض والسماء فانٍ وزائل، متغير أبدًا، متحوِّل أبدًا، ففيمَ التمسُّك به وهو عاجزٌ عن التماسكِ بذاته، أليس ثَمة مرفأ بمأمنٍ من أعاصير الفناء والصيرورة والتغيُّر الدائب من حالٍ إلى حال، لنحتميَ بمثلِ هذا المرفأ فنسلم؟ نعم، هنالك مثلُ هذا المرفأ الآمن، فنستطيع أن نلتمسَه، حتى ونحن لم نزل أحياءً في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو الذاتُ الباطنية التي بها تكون هُوِيَّتنا، هو «الأنا» التي تظلُّ قائمةً صامدة مهما حدَث التحوُّل لما حولها، ثم هنالك مثلُ هذا المرفأ الآمن بمعنًى آخر، وهو مرفأ الحياة الآخرة التي هي غايةٌ منشودة خلال كلِّ نشاط ننشطُ به في هذه الحياة الدنيا.
هذا هو العربي في نظرته، يَنشُد الخلودَ عن طريق الظواهر الزائلة، يريد أن يقهرَ الزمن وأن يقهر الموت، أما الزمنُ المتقلب بأحداثه، فهو يقهرُه بالخروج منه إلى ما ليس زمنيًّا بطبيعته، فيلجأ إلى ذاته التي هي كائنٌ لا زمني، كما يأمُل في حياةٍ آخرة لا تخضع هي الأخرى لعوامل الزمن، ولو كانت الحقيقة كلُّ الحقيقة هي هذه المتغيراتِ المتبدلات الفانيات الزائلات، التي نراها في الأشياء المحيطةِ بنا، لكان الكونُ — من وجهة نظر العربي — عبثًا في عبَث.
وليست هذه النظرةُ هي ما يأخذ به عصرُنا الحاضر؛ فتكادُ المذاهب الفلسفية المعاصرة كلُّها تُجمِع على تحليل كلِّ شيء إلى ظواهره المتغيرة، دون أن تزعمَ وجودًا لأيِّ كائنٍ ثابتٍ وراءَ تلك الظواهر، فهذه المنضدةُ أمامنا ليست إلا مجموعةَ ظواهرِها البادية لحواسنا من بصرٍ ولمس، وكذلك قُل في كل شيء، بما في ذلك الإنسانُ نفسُه، فالكائن البشريُّ بدَوره ليس إلَّا مجموعةَ ظواهر يراها فيه الآخرون أو يُحسُّها هو في باطنه، دون أن يكون وراء هذه الظواهر المتدفِّقة «ذات» ثابتة تدوم على الزمن، بل قُل هذا نفسَه في الوجود كلِّه جملة واحدة، فما هذا الكون إلا خِضمٌّ من ظواهر، ما تنفكُّ متَّصلةً بعضُها ببعض أو منفصلة، دون أن يكونَ وراءها شيء.
مثلُ هذه النظرة إلى العالم إنَّما تجيء ملحَقةً بالنظرة العِلمية الصارمة التي هي مِن خصائص عصرنا، فسؤالُنا هذه المرةَ هو هذا: كيف ألتزمُ النظرةَ العِلمية الصارمة لأُساير عصري، وأن أظلَّ مع ذلك توَّاقًا إلى غيبٍ وراء الشهادة، يتحقَّق لي فيه الخلودُ والدوام؛ لأظلَّ محتفظًا بهذه السِّمة العربية في نظرتي؟ ومرةً أخرى أقول: إنَّني لا أدَّعي أنَّ مشكلة التوفيق هنا هي من الهَنَات الهيِّنات، بل هي كزميلتها السابقة مشكلةٌ تتطلب منَّا التفكيرَ الطويل والعميق، وإني لَأرجِّح أن يكون الحلُّ في أن نعيش في عالمَين يتكاملان ولا يتعارضان؛ بشرطِ ألَّا نسمح لأحدهما أن يتدخَّل في مجال الآخر، في أحدهما نعيش حياتَنا العِلمية بكل ما تقتضيه، ولكننا بدلَ أن نقول: إنَّ هذه الحياة العِلمية حسْبُنا في دُنيانا، يجب أن نقول: إنَّ إلى جانب هذه الحياة العلمية حياةً أخرى فيها الأماني، وفيها المُثُل العليا، وفيها المرفأ والملاذ، فإذا كنتُ في الساعات العِلمية من حياتي أحصرُ النظرَ في الظواهر وحدَها، لأستخرجَ قوانينها برغم تغيُّرِ تلك الظواهر، ففي الساعات الوجدانيةِ من حياتي أخلع عن نفسي عباءةَ العلم، وأُسلِّم نفسي للتمنِّي والرجاء، وبغير هذا الفصل الحادِّ بين العالمَين، يستحيل علينا التوفيقُ بين علمية العصر وصوفيةِ الأصل الموروث.
ولقد أحسَّ الغربُ نفسُه بمِثل هذه المشكلة، فالتمسَ مخرجًا منها، بأنْ أقام حدًّا فاصلًا بين العلم من جهة، والفنِّ من جهةٍ أخرى، فإذا كان محتومًا على الإنسان في حياته العِلمية أن يتقيَّد بالواقع كما هو واقع، وبالظواهر كما هي ظاهرةٌ لحواسِّه، فله في الفن مُتَّسَعٌ يجولُ فيه ويصول؛ لأنَّه في الفن يستطيع ألَّا يتقيَّدَ بواقع، وأن يخلقَ لنفسه طبيعةً أخرى غيرَ الطبيعة التي تصدمُه بظواهرها، ومن هنا نشأتْ مدارسُ الفن الحديث، التي تتَّفق كلُّها على نقطةٍ مشتركة، هي أنَّ الفنَّان لا يُطلب منه أن يُصوِّر الواقع، ومن حقِّه أن يُبدع لنفسه ما شاء له خيالُه أن يُبدع، فهذا التحرُّر من قيود الواقع الموضوعي، يُعوضه عمَّا في حياته العلمية من قيودٍ لا تُحقق له ما يُشبع الأماني والآمال.
فقُل عن ثقافة أوروبا وأمريكا اليومَ إنَّها ثقافة يَسودُها معقولُ العلم؛ تكنْ على صواب، أو قُل عنها إنَّ الذي يسودها هو لا معقولُ الأدب والفن؛ تكن أيضًا على صواب؛ لأنَّ المعقول واللامعقول يتجاوَران ليُعوِّض أحدهُما نقص الآخر، وإذا كان هذا هكذا، فما الذي نتحرَّج له إذا نحن اخترنا أن نُجاور بين معقول العلم والإيمان بالغيب في حياةٍ واحدة؟ إننا إذا فعَلْنا ذلك، عاصَرْنا زماننا بالشقِّ الأول، ووصلنا وشيجةَ القُربى بيننا وبين تُراثنا بالشقِّ الثاني.
٤
على أنَّ العربيَّ الأصيل في رغبته أن يُجاوز الواقع المتغيِّر إلى ما وراءَ الواقع في أبَديَّته وخلوده، يظلُّ مرتبطًا بالمكان الأرضي ارتباطًا عجيبًا، فهو مع المكان المحيطِ به في حوارٍ لا ينقطع، هنالك حركة جدلية موصولة، طرَفاها الإنسان العربي ومكانُه، إلا أنَّها جدلية لا تنتهي بدمج الطرفَين في مُركَّب واحد، بل هي جدلية تحتفظ للذَّات الإنسانية بالسيطرةِ على موضوعها، الطبيعة كلُّها عند العربي مسرحٌ للفعل والحركة، هي عنده حَلْبةٌ للقتال والنِّزال، هي ميدانٌ لفروسيته وبطولته، كانت الصحراء حول العربي مصدرَ رَوْع له وروعةٍ في آنٍ معًا؛ فهو يرتاع لجهامتها ومجهولاتها، ولكنَّه في الوقت نفسِه يكاد يخشع لهيبتها خشوعَ العابدين، ومن ثَم كانت الصحراء له مسرحَ قتالٍ ومغامرة، كما كانت له مصدرَ حبٍّ وشعر وغناء، إنَّه يتفحصُ كلَّ ما حوله من مكان — أرضًا وسماءً — بجميع حواسِّه، يتفحَّصه بالبصر والسمع واللمس والشمِّ والذَّوق، لا يترك منه شيئًا، من جُرذان الأرض إلى أنجُم السماء، لكنَّه يتفحص هذا كلَّه ليستخدمه ويُسيطر عليه، لم يكن العربي مستندًا في علمه بالطبيعة من حوله، إلى كتبٍ تركَها له أسبَقون، بل استنَد إلى كتاب الطبيعة نفسِه؛ ينظر في صفحاته، ويقرأ ثم يعي، ولم يكن علم العربي بالطبيعة للمتعة وإزجاءِ الفراغ، بل كان مسألةَ حياةٍ وبقاء؛ يقول أبو حيَّان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»: «إنَّ العرب ليس لها أولٌ تَؤُمُّه، ولا كتابٌ يدلُّها، أهل بلدٍ قَفْر، ووحشةٍ من الأُنس، احتاج كلُّ واحد منهم في وحدته إلى فِكره ونظرِه وعقله، وعلموا أنَّ معاشهم من نبات الأرض، فوسَموا كلَّ شيءٍ بسَمْتِه، ونسَبوه إلى جنسه، وعرَفوا مصلحةَ ذلك في رطْبِه ويابسه، وأوقاته وأزمنتِه، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه، فجعَلوه ربيعيًّا وصيفيًّا، وقيظيًّا وشتويًّا، ثم علموا أنَّ شُربهم من السماء، فوضَعوا لذلك الأنواءَ، وعرَفوا تغيُّر الزمان، فجعلوا له مَنازله من السنَة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجومَ السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارِها، فسلَكوا بها البلاد، وجعَلوا بينهم شيئًا ينتهون به عن المنكر، ويُرغِّبهم في الجميل .. حتى إنَّ الرجل منهم وهو في فجٍّ من الأرض يصفُ المكارمَ فما يُبْقِي من نعتِها شيئًا، ويُسرف في ذمِّ المساوئ فلا يقصر …»
من ذلك نرى صورةً للعربي، جوَّابًا في أرجاء الأرض، جوَّالًا ببصَرِه في السماء، مُمسكًا خلالَ ذلك بقيمٍ تُوجِّهه نحوَ الفاضل والجميل، فأين تتَّفق هذه الصورةُ العربية، وأين تختلف، إذا ما اصطدمَت بوقفة الحضارة العصرية من الطبيعة ومن القِيَم التي تُوجه الإنسانَ في سيره؟ أمَّا الاتفاقُ فهو الاهتمام بالكون وما فيه اهتمامًا لا يقفُ عند حدود الكشف عن الحقائق لذاتِها، بل هو اهتمامٌ يستهدف النفعَ واجتنابَ الأذى، وأمَّا الاختلاف العميق فهو في أنَّ العربي لم يُرِد من الطبيعة إلا أن تكون مسرحَ فعلٍ وإرادة، على حينِ أنَّ إنسان الحضارة الغربية بصفة عامَّة يُضيف إلى ذلك ما قد يكون أهمَّ منه، وهو أن تكون الطبيعة مجالًا لفاعلية العقل تحليلًا وتركيبًا؛ ولذلك لم يكن مصادفةً أنْ وجَدنا في فلسفات الغرب الحديث نظريات المعرفة (إبستمولوجيا) تُحدد العلاقة النظرية بين الإنسان العارف والموضوعات المعروفة، على حين أنَّنا لا نكاد نعثرُ في التراث العربيِّ الفلسفي كلِّه على نظريةٍ للمعرفة من هذا القبيل. عُنِيَ المفكِّر العربيُّ بالإرادة وتحليلها لأنَّها أداةُ العمل والحركة، أكثر جِدًّا مما عُنِيَ بالعقل وتحليله؛ لأنَّه رآه أداةً لفاعليةٍ ذهنية تتمُّ لصاحبها وهو جالسٌ على مقعده.
فماذا نحن صانعون — نحن العربَ المعاصرين — للتوفيق في هذا المجالِ بين أصيلٍ موروث وجديدٍ معاصر؟ أحسبُ أنَّ الطريق أمامنا واضح، وهو طريقٌ تربويٌّ من الأساس، فما علينا إلَّا أن نُربيَ ناشئتنا على أن يحتفظوا بميراثهم في تدريب الإرادة الماضية، وفي التطلُّع والمغامرة، ثم يُضيفوا إلى ذلك تدريبًا آخرَ على النظر العقلي والبحث النظري.
إنَّ عصرنا هذا إنْ تميَّز بِسَمةٍ تُبرزه عن سائر العصور التي سلَفَت، فهذه السِّمة هي إيغالُه في دُنيا العقل — ودنيا العقل هي نفسُها دنيا العلوم على اختلافها — إيغالًا لم يترك جانبًا واحدًا من جوانب الحياة، ولا ركنًا واحدًا من أركان الأرض — وكِدتُ أقول: وأجواز السماء — إلا وقد تناوله بتأثيره، على أنَّ العقل العلميَّ في زماننا لا يَكفيه ما كان يكفيه بالأمس، وهو أن يقفَ عند الحدود النظرية الرياضية، بل إنَّه لَيُصر على أن يتجسَّد في أجهزة، وعلى أن ينثر هذه الأجهزةَ على بقاع الأرض ليُبدل حياة الناس حالًا بعد حال، فلم يَعُد لنا مَناصٌ من السبح على هذا التيَّار العِلمي التِّقني، فإذا كنَّا أصحابَ فعلٍ وحركة وإرادة من جهة الأصالة، فلا بدَّ من إضافة هذه الصفحة الجديدة إلى كِياننا؛ وذلك — كما قلت — إنَّما يتحقَّق عن طريق التربية ابتداءً، لنخلقَ النظرةَ التي لا تترك الفعلَ والحركة والإرادة سائبةً كما اتفَق، بل تُلجِمُها إلجامًا لتسيرها على الطريق المؤديةِ إلى تكوين علم وعلماء بهذا المعنى العصريِّ الجديد.
٥
وأخيرًا، وكان ينبغي أن يكون أولًا، لكنني أرجأتُ ذِكره لبداهته، وهو أنَّ أصالةَ العربيِّ تبدأ من كونه يتكلَّم لغةً عربية، وإذن فلا بديلَ أمامنا إلا أن نرعى هذه اللغةَ على ألْسِنة أبنائها وأقلامِ كُتَّابها، فهي بطاقةُ الهُوِيَّة التي تجعل من العربي عربيًّا، هذه بديهيَّة لا أظنها مثيرةً لجدال، لكنني أنتقلُ إلى ما يترتَّب عليها؛ لأنَّه لا يبدو للناس بهذه البداهة كلِّها، وهو أنَّنا إذا أردنا الحياةَ في عصرنا، فلا بدَّ من صبِّ هذا العصر بكلِّ ما فيه، من علمٍ وأدب، في وعاء اللغة العربية، أعني أنَّه لا بدَّ من ترجمة العلوم العصرية كلِّها، وكذلك أدب العصر وفلسفته، وبقدرِ ما نستطيع أن نسكُبَ مادة العصر في إنائنا اللُّغوي، يكون نصيبنُا من المعاصَرة.
إنَّ العصر لا يقتصر على شعبٍ واحد، ولا على قُطر واحد؛ فالعصر هو أمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا واليابان، وغيرها ممَّا يسير معها في شوطها، لكنَّ هذا العصر الواحد يلبس في كلِّ قُطر من هذه الأقطار ثوبًا ينسجه له ذلك القُطر؛ ليجعلَه واحدًا من أهله، دون أن يكون تبدُّل الأثواب سببًا في تغيير شيءٍ من ملامح العصر، وما هذه الأثواب المختلفة باختلافِ البلدان الممسِكة بزِمام الحضارة في عصرنا، إلا اللغات المختلفة؛ فقد صبَّ الفرنسي — مثلًا — نتاجَ العصر في لُغته الفرنسية، فبات الفرنسيُّ بذلك معاصرًا لزمانه، وكذلك فعَل الألمانيُّ والروسي والياباني وغيرُهم.
ومع ذلك فلقد صادفتُ في أمتنا أفرادًا تُعارِضُ ترجمةَ العلوم، على ظنٍّ منهم بأنَّ هذه العلومَ لا يليق لها إلا الثوبُ الإنجليزي أو الفَرنسي أو غيرُهما من لغات الأمم المتقدِّمة، ولا يسَعُني في هذا الصدد سِوى أن أُكرِّر القولَ بأنَّه على قدرِ ما ننقل إلى الثوب العربي من نِتاج العصر، يكون نصيبنا من العصر؛ فالأصالةُ في هذا المجال هي في اللغة العربية التي هي لُغتنا لا لغة أحدٍ سوانا، والتي هي كذلك ميراثٌ تسلَّمْناه من أسلافنا، وأمَّا المعاصرة فهي أن نصبَّ عصرنا في وعائها.
إنَّ التاريخ العربي هو كالنهر، دفَّاق المياه، وتظلُّ للنهر هُوِيَّته منذ ألوف السنين، برغم جريان مائه وتبدُّلِه يومًا بعد يوم، بل لحظةً في إثر لحظة، والذي يحفظ للنهر هُوِيَّته هو التزامُه مَجْرًى واحدًا، وهكذا نُريد لحياتنا أن تكون: نحفظ لها الإطار الأساسيَّ العام، ووجهةَ النظر الرئيسية، ثم نُجدِّد المضمون الذي يملأ ذلك الإطار، أو الذي يَشغَلُ تلك الوجهة من النظر، كلما جاءت العصور المتوالية بحضاراتٍ مُتعاقبة، لكلِّ حضارة منها مضمونُها الجديد.
٦
هذه — إذن — نقاط أربع، أو إن شئتَ فقل إنَّها مجالاتٌ أربعة ذكَرناها، في كلِّ مجالٍ منها موقفٌ لنا أصيل، ضاربٌ بجذوره في أعماق تُراثنا، يقابله موقفٌ مضادٌّ للحضارة التي نُعاصرها، ولقد حاولنا أن نُبين في كل حالةٍ من الحالات الأربع كيف يُمكن أن تحدثَ المصالحة بين الضدَّين؛ فأولًا: كانت لنا وقفةٌ معيَّنة بإزاء الله والكون والإنسان، استتبَعَت وجهةَ نظرٍ معينةً في المبادئ الخلقية، ليس هي وِجهةَ نظر الحضارة القائمة، فبيَّنَّا كيف يمكن أن تُسَدَّ الفجوة بين الوجهتَين، وثانيًا: كانت لنا وقفة بإزاء الواقع المادي، استتبعَت منَّا أن نُجاوزه إلى غيبٍ وراءه، وليس ذلك ممَّا تأخذ به الحضارةُ الحاضرة، فاقترحنا طريقةً نَخلُص بها من هذا التناقض، وثالثًا: كانت لنا سُبل معيَّنة في التعامُل مع الطبيعة المكانية مِن حولنا، ليست هي السُّبلَ المأخوذ بها في حضارة اليوم، فالتمَسْنا لأنفُسِنا وسيلةً للتقريب بين الطريقتَين، ورابعًا وأخيرًا: لنا لغةٌ لا بدَّ من الحفاظ عليها، وهي التي تحمل ميراثنا في أوعيتها، وقلنا إنَّه لا مَناصَ لنا من صبِّ نِتاج عصرنا في تلك الأوعية، ليمتزجَ الجديد بالقديم، في إناءٍ واحد، وهكذا رسَمْنا ما يُشبه الخريطةَ لما يمكن عملُه؛ توفيقًا بين الأصالة والمعاصرة.
فتعالَوا معي الآن في جولةٍ خاطفة، ننظر خلالها إلى ما قد حدث بالفعل في حياتنا الثقافية؛ لنرى إلى أيِّ حدٍّ أصابنا التوفيقُ في هذا الدمج الحضاريِّ المطلوب: فأمَّا بالنسبة للمجال الأول، الخاصِّ بوجهة نظرنا إلى الله والكون والإنسان، فلا أظنُّنا قد ظفرنا بتوفيقٍ كبير في أن نُوسِع مِن معنى قِيَمنا الأخلاقية بحيث تتطابقُ مع ما هو مستحدَثٌ في عصرنا، فقد نرى أصحابَ القول والكتابة بين قادة الفكرة منَّا منقسِمين قسمَين: أحدهما يضربُ على الوتر القديم وحدَه، والثاني يضرب على الوتر الجديد وحدَه، وفَشِلنا حتى الآن في أن تجيءَ النَّغْمة المعزوفة شاملةً للجديد والقديم معًا، فإذا قلت — مثلًا — كلمة «عِلم» انصرفَت أذهانُ بعضِنا إلى الفيزياء والكيمياء وما إليهما، وانصرفَت أذهانُ الآخرين إلى حفظ المدوَّنات القديمة، وبقينا في معسكرَين، لا يكاد يلتقي أحدُهما بالآخر، اللهم إلَّا في أوجُه النشاط التي لا تتَّصل بالحياة الفِكرية من قريب، وهكذا قُل في كثيرٍ جدًّا من المعاني الرئيسية التي هي مَحاورُ الفكر والثقافة.
وأمَّا بالنسبة إلى المجال الثاني، الخاصِّ بمُجاوزة الواقع إلى ما وراءه، فللأسف الشديد، أرانا نحتفظ بهذه السِّمة، ولكننا ننحرفُ بها عمَّا خُلِقَت من أجله؛ فقد كان الأصلُ فيها هو أن ننجوَ بأنفسنا من دُنيا الأحداث المتقلِّبة المتغيرة الزائلة؛ لنلوذَ بما هو ثابتٌ وخالد، لكننا جعلنا مُجاوزةَ الواقع إلى ما وراءه في عصرِنا هذا؛ فِرارًا من نظرة العلم إلى سمادير الخرافة، فضاع منَّا الواقعُ وما وراءه دفعةً واحدة.
وأمَّا بالنسبة إلى المجال الثالث، الذي هو علاقة العربيِّ بالمكان، وهي علاقةٌ — كما أسلَفْنا — قِوامُها الفعل والحركة والبطولة والسيطرة على البيئة بكلِّ تفصيلاتها؛ فلقد انطَوينا على أنفسِنا إثْرَ ما ابتُلينا به من قهرٍ وهزيمة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وبهذا الانطواءِ الذليل، لا نحن عالَجْنا الطبيعةَ كما كان أسلافُنا يُعالجونها، ولا نحن تناوَلْناها كما يتناولُها أبناءُ الحضارة الغربية الحديثة، وتركنا ما تحتَ أقدامنا من رُقعة الأرض، وما فوق رءوسنا من جوِّ السماء، للأوروبيِّ وحدَه، أو للأمريكيِّ وحدَه، يفعل فيهما ما شاء أن يفعل، لولا أننا — والحمد لله — قد أخذَتْنا آخِرَ الأمر يقظةٌ واعية، نحاول بها النهوضَ من كَبْوتنا التي كانت، والأمل معقود بجيلٍ جديد يتناولُ أرجاء الوطن العربي بنظرةٍ فيها تقليد التراث، وفيها تجديدُ الحضارة معًا.
وأمَّا المجال الرابع والأخير، من المجالات الأربعة التي جعَلْناها مدار الحديث، وهو مجال اللغة، فلا شك أننا قد مضَينا في شوط إحيائها بمضمون الحضارة العصرية مسافةً بعيدة، لكننا مع ذلك ما زلنا بعيدين بُعدًا شديدًا عن الهدف النهائي، الذي هو — كما أراه — أن نسكُبَ كلَّ مقومات العِلم والأدب والفلسفة الشائعة في دُنيا العصر، أن نسكبها كلَّها في لغةٍ عربية، ولن يحقَّ لنا الحديثُ عن وجودنا في عصرنا قبل أن نجدَ هذا العصر قد نطَق بلسانٍ عربي مبين.