أزمة العقل في حياتنا
نقول في أحاديثنا الجارية: إنَّ فلانًا «متزن»، وذلك إذا أردنا مدحه بصفة لعلها أن تكون من أعظم ما يُوصَف به إنسان، وفيمَ يكون هذا «التوازن» المحمود؟ إنَّه يكون بين مقوِّمات متباينة هي قِوام الإنسان، قد تتعاونُ كلُّها على بلوغ هدفٍ معيَّن، لكنها كذلك قد تتنازعُ بحيث تتَّجه كلٌّ منها وجهةً غير الوجهة التي تتَّجه إليها المقوماتُ الأُخرَيات، ولو أخذنا بالتصنيف الأفلاطونيِّ القديم لهذه المقومات، لقُلنا إنَّها صنوفٌ ثلاثة، كلُّ صنف فيها يتعلق بجزءٍ من البدن، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، وتلك هي شهواتُ البطن، وعواطف القلب، وحِكمة الرأس، وليس من الخير لأحدٍ أن تُطمَس منه الشهوة أو العاطفة، أو أن يُقيَّد منه العقل، الذي هو مصدرُ الحكمة، وإنَّما الخير كلُّ الخير في أن تبقى هذه العناصرُ الثلاثة جميعًا؛ على أن يكون بينها اتساقٌ في طرائق السَّير، واتحادٌ في الهدف، ولقد صوَّر أفلاطون هذا الاتحاد، وذلك الاتساق، بصورة مشهورة، وهي أن تُصور الشهوة والعاطفة جوَادَين يجرَّان عرَبة، ويُمسِك باللِّجام سائق، هو العقل، فلو تُرك الجوادان لِدَفعتِهما الفطريةِ لجَمَحا، لكنَّ العقل السائق يعرفُ كيف يضبط منهما خطواتِ السير نحو الهدف المقصود، فإذا توافرَت لشخصٍ مثلُ هذه الحالة التي تنساقُ بها الشهوة والعاطفة مقيَّدة بشكائم العقل، قلنا عنه إنَّه بذلك قد اكتسَب فضيلة «العدالة» — كما يُسميها أفلاطون — وصِفة «الاتزان» كما نُحب نحن أن نُسمِّيها لتُسايِرَ أفهامَ الناس في عصرنا القائم، وهذا الاتزان (أو هذه «العدالة» بالمصطلح الأفلاطوني) إنَّما يصفُ الفردَ كما يصف الدولةَ سواءً بسَواء، ففي كِليهما بطنٌ يشتهي، وفي كليهما قلبٌ ينفعل بالعاطفة، وفي كليهما رأسٌ يَسوس.
«هَبْ أنَّه قد طُلب إلى شخصٍ قصير النظر أن يقرأ حروفًا صغيرة، وهو منها على مَبْعَدة، ثم جاءه مَن أنبأه بأنَّ هذه الحروف نفسَها مكتوبةٌ في مكان آخرَ بحجم أكبر، أفلا تكون هذه فرصةً نادرة له، تُتيح له أن يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة، ثم ينتقلَ منها إلى الصغيرة، ليرى ما بينهما من تماثُل إن وُجد؟ .. إنَّ «العدالة» التي هي موضوعُ بحثنا، إذا كانت تصفُ الفرد باعتبارها فضيلةً له، فهي كذلك تصف الدولة .. والدولة أكبر من الفرد .. وإذن فالأيسرُ هو رؤيةُ العدالة في صورتها الكبيرة؛ ومِن ثَم فإني أقترحُ البحث عن طبيعة العدالة كما تتجلَّى في الدولة أولًا، لننتقلَ من الأكبر إلى الأصغر فتَسهُل المقارنة بين الصورتين .. وإذن فلْنتخيَّل دولةً تنمو وتتكوَّن أمامَ أبصارنا، لنرى العدل والظلم إذ هما ينموان فيها.»
هكذا أراد أفلاطون أن يفهَم حقيقةَ الفرد في اكتسابِه لفضيلة العدل (أو فضيلة «الاتزان»)، وقد يكون هذا هو المنهجَ السديد، عندما تكون المعاني المطروحةُ للبحث منظورًا إليها في صورةِ كمالها النظري، فعندئذٍ يُمكننا أن نرسم صورةً للدولة المُثْلى، فنرى في جنباتها كيف يكون الفردُ الأمثل من أفرادها، أمَّا إذا كانت الصورةُ المطروحة للبحث مأخوذةً من الواقع الفعليِّ المحسوس بكلِّ ما يشوبه من نقصٍ وتشويه، فإنَّ المنهج الأفلاطونيَّ لا يُسعِف، ويكون حتمًا علينا أن نعكسَ طريق السير، فنرى الأفرادَ في نقصهم، لِنَخلص منها إلى تصوُّر الدولة التي تَسودهم في أوجُهِ نقصِها الذي يعكس بالضرورة نقصَ الأفراد؛ إذ الأمر — كما قيل — هو أنَّه كيفَما يكونُ أفراد الناس، تكون الدولةُ التي تُولَّى عليهم.
وإني لأزعمُ هنا بأنَّ متوسط الفرد من أبناء الأمة العربية في عصرنا، يُفلت من يدَيه زِمام العقل، فتَجمح عنده الشهوةُ والعاطفة جموحًا يحجبُ عنه رؤيةَ الأهداف واضحة، ومن ثَم فهو يسدُّ أمامه سُبل الوصول.
فلننظر — إذن — إلى أوساط الناس مِن حولنا، فماذا نرى؟ نراهم على عداوةٍ حادَّة مع العقل، وبالتالي فهُم على عداوةٍ لكلِّ ما يترتَّب على العقل من علومٍ ومن منهجيةِ النظر ودقَّة التخطيط والتدبير، فإذا انطلقَت الصواريخُ تغزو الفضاءَ ويَرود أصحابُها أرض القمر، تمنَّوا من أعماق نفوسِهم أن تجيءَ الأنباء بفشل التجرِبة، وإذا سمعوا عن قلوبٍ أو غير قلوب، تؤخَذ من آدميٍّ لتُزرَع في آدميٍّ آخَر، أحزنهم أن يتحقَّق النجاح، وأفرحهم أن تُخفق المحاولة، وهاك هذين المثَلَين من خبرتي الخاصة، لم أقرأ عنهما في صحيفةٍ أو كتاب، بل شهدتُهما بعينيَّ وسمعتُهما بأذنيَّ:
أُقيمت ندوةٌ ثقافية كُنت أحدَ أعضائها، وكان من المُسْهِمين فيها كذلك عميدٌ لإحدى كليات العلوم عنَدئذٍ، وكان السؤال المطروح هو: ماذا نرى في هذه الوثبة العِلمية الجريئة، التي هي صعودُ الإنسان إلى أرض القمر؟ فكان مما قاله عميدُ كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية أنَّه يعوذ بالله من هذا الشطَط، الذي قد يؤدِّي بالكون إلى دمار، ثم تساءل قائلًا: أليس يجوزُ أن يهبط الصاروخ على القمر بدَفعةٍ قوية فإذا القمرُ ينحرف عن مَداره فتكون الطامَّة على البشر؟
أمَّا المثَل الثاني فهو أنَّه سُئل قُطب من أقطاب الطبِّ في الأمة العربية: ما رأيك فيما سمعناه عن زرع القلوبِ في أبدانٍ غير أبدانها؟ فاستعاذ بالله هو الآخَرُ من شرِّ ما يسمع، مؤكدًا أنَّها محاولاتٌ مجنونة، لن تؤدِّيَ إلى شيء، وربما كانا هذان العالِمان لا يعتقدان في صدقِ ما قالاه، وإنما قصَدَا به إلى إرضاء السامعين، فتكون الطامَّة أكبر؛ لأنَّ الدليل عندئذٍ ينهض ليؤيِّد ما نزعمه، وهو أنَّ مِثل هذا القول هو ما يُرضي الناس، ثم نكون قد خَسِرنا بالنفاق نزاهةَ العلم والعلماء!
أولئك هم علماؤنا، فما بالُك بأبناء السبيل؟ ألا إنَّ مَضْجع العلم الجاد خشنٌ تحت جلودنا؛ ولذلك كان شرطًا عليك إذا كتبتَ للصحف والمجلات، أو أذعتَ في الناس حديثًا، أن تكسوَ الحقائقَ العلمية التي تنوي عرْضَها على الناس بحَشايا من ريش النعام؛ لئلا تتأذَّى أبدانهم الليِّنة، فعليك أن توهِمَ الناس بأنَّك لم تقصد إلى العلم الجافِّ الكريه، وإنَّما قصدت إلى تسليتِهم في أوقات الفراغ، وإذا لم تفعل ذلك فلا سبيلَ أمامك إلى صحافة أو إذاعة.
الرأي السائد فينا هو أنَّ العلم يعوق مَجرى الحياة، فليسَت وسيلتك إلى النجاح في أي ميدان تشاء: ميدان العمل، أو ميدان السياسة، أو غيرهما، هي أن تُدقق، وإلا لما بلَغت من الطريق أدناه، إنَّ الساعات التي يصرفُها الدارس العِلمي في مشكلةٍ واحدة من مشكلاته «النظرية» كفيلةٌ أن يقفز بها «العمَليون» إلى الذُّرى مالًا وجاهًا وقوَّة .. أليس لكلِّ شيء معيارٌ يُقاس به؟ والمعيار السائد بيننا هو: كم يعود هذا العملُ المعيَّن على صاحبه من نفوذٍ وسلطان وثراء؟ ولمَّا كان الأغلبُ ألَّا يعودَ العلم على أصحابه من هذه الأشياء بمحصولٍ وفير، كان لهؤلاء المنزلةُ الثانية في مجتمعنا، وذلك على أحسن الفروض.
الرأي الشائع فينا هو أنَّ العقل بعلومه عدوٌّ للوجدان ومشاعره، ولمَّا كانت الكثرة الكاثرة منَّا نصيرةَ الوجدان، فسُحقًا للعقل ومناهجه ونتائجه، إنَّه إذا كانت المفاضلةُ بين رأسٍ وقلب، فلا تردُّد في اختيار القلب، وهل هي مُصادفة أن تجدَ منَّا ألفَ شاعر كلما وجدتَ عالمًا واحدًا؟ إنَّه لمَّا كثرَت علوم الغرب وامتلأَت الدنيا بأجهزته ومكناته، قلنا عنه إنَّه «مادِّي» لعين، وأمَّا نحن بما نسبحُ فيه من ملَكوت الوجدان، فروحانيُّون أنقياءُ وأصفياء، كأنَّما العلم من وحي الشيطان، وكأنَّما أجهزته ومكناته قد ركَّبها الأبالسة، وحذارِ أن تذكر أمامَهم أنَّ العلم الذي يتجلَّى في هذه الآلات هو «عقل» تجسَّد، أو هو روحٌ ظهرَت فيما أبدعته، ليُصبح مشهودًا، بعد أن كان كامنًا خافيًا، شأن كلِّ خالق وخلقه، حذارِ أن تقول شيئًا كهذا؛ لأنَّ الروحانية في حِسابهم يستحيل أن تتدلَّى إلى دنس الصفائح المعدِنيَّة، تنشرها المصانع، وتطويها طيارةٌ أو سيارة، أو ما شاءت .. إنَّ أغلب الناس حولنا هم أقربُ إلى الظن بأنَّ الحقيقة إنَّما ينطق بها البُلهاء، قبل أن ينطق بها العلماء.
ذكاء العقل إذا توقَّدَ خشي الناسُ لعنته؛ لأنَّه نافذٌ إلى الأعماق، وهم يريدون أخْذَ الأمور ﺑ «البركة» من أسطُحِها، لا من أعماقها، ولأنَّه يتشكَّك قبل أن يستقرَّ على عقيدة، وهم يريدونها عقيدةً خلَصَت من شوائب الشكِّ والبحث، وكثيرًا ما تسمعهم ينعَتون مثلَ هذا الشكِّ المتسائل المتقصِّي «خوضًا» فيما ينبغي ألَّا يُخاض فيه؛ إعمال العقل — عند الناس — مَجلبةٌ للشقاء؛ لأنَّ الحياة — عندهم — تُسْلِم زِمامَها إلى الذين يَقبلونها كما تردُ إليهم عن عمًى وصمَم؛ فذو العقل يشقى في النعيم بعقلِه، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم؛ لأنَّ الشقاوة والنعيم يُقاسان بمعاييرِ البهائم؛ إذ هي تنعم أو تشقى بمقدارِ ما يُصادفها من كلَأ المراعي، إنَّ كثرة الناس يؤذيها أن يكون الكونُ سائرًا على قانونٍ مُحكَم، ويُسعدها أن يكون هذا القانون ألعوبة يلهو بها أربابُ القلوب الطيبة.
تلك وأشباهها هي الخصائص المألوفة في أوساطِ الناس من حولنا، وعلى غرارِ الأفراد تستطيع أن تتصوَّر الدولة.
الفرق بين دفعة الغريزة (ونريد بالغريزة جانبَي الشهوة والعاطفة اللذَين أشرنا إليهما في التقسيم الأفلاطوني)، أقول إنَّ الفرق بين دفعة الغريزة من جهة، وتخطيط العقل وتدبيره من جهةٍ أخرى، هو أساس الاختلاف بين ما يُسمَّى في الثقافة الغربية بالرومانسية من ناحية، والكلاسيكية من ناحيةٍ أخرى، وإني لأرانا — أعني الأمةَ العربية في حاضرها — على أساسِ هذه التفرِقة غارقين إلى آذانِنا في موجةٍ رومانسية بكلِّ ما في ذلك من خير وشر، لكني لا أدعُ هذا القولَ بغير تحفُّظٍ شديد؛ فأولًا: قد شاعت لهاتين اللفظتين ترجمةٌ عربية، فيُقال عنها «الإبداع» (للرومانسية) و«الاتباع» (للكلاسيكية)، لكنني إذ أصِفُنا بالرومانسية فليس الجانبُ الإبداعي من معنى الكلمة هو ما أُريد، وإنَّما أردتُ من معناها جانبًا أساسيًّا آخَر؛ هو الصدور عن العاطفة في الاتجاه وفي السلوك، لا عن العقل، وثانيًا: أنَّ مِن معنى «الاتباع» احتذاءَ الناس للأقدَمين في الفكر وفي العمل، وليس هذا الجزءُ من معنى الكلاسيكية هو ما أردتُ نفْيَه بالنسبة إلينا؛ إذ إنَّنا من ناحية اتباع الأقدمين كلاسيون إلى حدِّ بعيد، ولكني أردتُ من الكلاسية جانبًا أساسيًّا آخَر؛ هو اهتداء الناس بالعقل وما يقتضيه من قواعدَ وقوانين.
نحن في حاضرنا الثقافيِّ والعمَلي رومانسيون بمعنى الدفعة الغريزية والنفور من كلِّ ما يُحيط بالتفكير العقلي من ضوابطَ وحدود؛ فالرومانسية في جوهرها ضِيقٌ بالقواعد والقوانين، حتى لو كانت هذه القواعد والقوانين قد وُضعت لضبطِ معايير الأخلاق ومعايير الفنون، فوسيلةُ الرومانسيِّ في إدراك ما يُدركه هي وِجْدانه لا منطقُ عقلِه، ما ينبض له قلبُه هو الحق، واقذف في جهنم ما قد يُمليه عليك منطقُ العقل إذا جاء مخالفًا لما قد مالت إليه العاطفة، المنظر الريفيُّ متروكًا على طبيعته هو عند الرومانسي خيرٌ من مدينة تَعِجُّ بظواهر الحضارة؛ وذلك لأنَّ الريف هكذا جاء انبثاقةً فطرية، وأمَّا المدينة بحضارتها فمِن نتاج العقل وعلومه، ولَمَّا كان المنظر الريفيُّ أكثرَ مُلاءمةً للشاعر، وكانت المدينة الصاخبة أكثرَ ملاءمةً للباحث العلمي، كان للشاعر عند الرومانسيِّ أسبقيةٌ على رجل العلوم، وحسبُ الشاعر قيمةً عنده أنَّه هو — دون الباحث العلمي — الذي يُعبر عن الذات الإنسانية وما تختلجُ به من عاطفةٍ وانفعال ورغبة؛ فذلك عند الرومانسيِّ أهمُّ من قوانين الفيزياء والكيمياء، ومرةً أخرى أريد أن أتحفَّظ ببعض القيود على ما أوردتُه الآن؛ فما قد أوردتُه إنَّما يصف الرومانسيَّ المخلص، الذي يَصدُر عن عقيدةٍ صادقةٍ لا يشوبها الرياء، الذي كثيرًا ما يُباعد بين القول والعمل، وأمَّا الرومانسي العربي فهو قادرٌ على هضم التناقض بين أن يكون شاعرًا يتغنَّى بالطبيعة وهو على فِطرتها، وبين أن يسكن في قلب الصخَب الحضاري من المدينة.
وليست هذه أولى المفارقات التي يعيشها راضيًا مطمئنًّا ولا هي آخِرُ المفارَقات، إنَّه لمَّا حدَث الانقلاب الصناعيُّ في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامنَ عشر، وأخذ الناسُ رويدًا رويدًا يهجرون الريفَ إلى المدن؛ استدبارًا لعصرٍ سادَتْه زراعة، واستقبالًا لعصر جديد تسودُه صناعة، غضب الشعراءُ لهذه الظاهرة المحزنة في حياة الإنسان، وراحوا يُصورون المصانعَ والآلات والمدينةَ بهوائها الخانق، وكأنَّهم يصفون شيئًا أقامه الشيطانُ لغواية الإنسان، لكن هؤلاء الشعراء — في رومانسيتهم تلك — قد اتسَقوا مع أنفسهم ورفضوا حياة المدن، وتشبَّثوا بالعيش في ريفهم الهادئ الجميل، وجئنا نحن اليوم — أعني المثقفين العرب — وأردنا لأنفسنا حركةً رومانسية من ذلك القَبيل نفسِه؛ لنُعبر بها عن شيءٍ من الرفض الذي نُحسُّه تجاه الحضارة الغربية الجديدة، لكننا لم نستطع التوفيقَ بين القول والعمل — شأننا في سائر جوانب الحياة حتى أصبح ذلك طابعًا يُميزنا تمييزًا واضحًا عن عباد الله الآخَرين — فأشدُّنا سخطًا على «مادية» الحضارة الغربية ربما كان أكثرَنا انتفاعًا بنِتاجها، وأعلانا صوتًا في الدعوة إلى جمال الريف وسكونه؛ قد يكون أعمقَنا انغماسًا في حياة المدينة بكل صخبها ووهجها.
وليس هذا التعارضُ بين العاطفة والعقل مقصورًا على أصحاب الفنِّ والأدب، ولا على عامة الناس في حياتهم اليومية، بل إنَّه لَيظهر كذلك على مستوى الفِكر الفلسفي، فترى كلًّا من الطرَفَين المتنازعَين يَكبح جِماحَ الآخر إذا ما طغى وجاوزَ حدوده؛ فقد يوغل الناس ذاتَ عصر في تحكيم العقل حتى لَيذهبوا إلى حدِّ عبادته وإنكار كلِّ ما عداه، فعندئذٍ يظهر الفلاسفة الداعون إلى أولوية العاطفة، كما حدث حين ظهر جان جاك روسو، إبَّان القرن الثامنَ عشر ليُقاوم عُبَّاد العقل من أعلام حركة التنوير في فرنسا، وكما حدث أيضًا حين ظهر برجسون في عصرنا الحديث هذا، داعيًا إلى أولوية الوجدان، ليصدَّ موجةً عارمة طغَت على أوروبا خلال القرن الماضي، لتحمل الناسَ على الإيمان بالعلم وحدَه، والعقلِ وحدَه. والعكس صحيح كذلك؛ فقد يوغل الناس في التنكُّر للعقل، حتى تراهم لا يحتكمون إلا لما جاء عن غير مصدره من عاطفةٍ أو عُرف وتقليد، فعندئذٍ ينهض الفلاسفة الداعون إلى الحدِّ من هذه الدفعة اللاعقلية بضوابطِ العقل ومناهجه، كما حدث حين ظهر ديكارت في فرنسا، وفرانسيس بيكون في إنجلترا، على مشارف التاريخ الحديث، وكما حدث أيضًا عندما ظهر أوجست كونت في أواسط القرن الماضي ليصدَّ تيار الرومانسية الذي أعقب الثورةَ الفرنسية، وشمل بأمواجه كلَّ ميدانٍ من ميادين الفكر والفن والأدب.
على أنَّ طريقة العاطفة أو الغريزة في إدراك حقائقِ الأشياء، قد تأخذ عند الفلاسفة صورةً يُسمونها بالمصطلح الفلسفي «حَدْسًا» ويقصدون به رؤيةَ الحقيقة رؤيةً مباشرة كأنَّما هي تحدث بنورٍ إلهي، أو بلمعة من الوحي، فإذا «حَدَس» الفيلسوف — أو أيُّ إنسان من عامة الناس — حقيقةً ما على هذا النحو المباشر، لم يكن من حقِّنا مطالبتُه بإقامة برهان على صدقِ ما يزعمه؛ لأنَّ إقامةَ برهان تتضمَّن اعترافًا بوجود فكرةٍ أخرى ذاتِ أسبقية منطقية، هي التي نستند إليها في إقامة البرهان، فإذا كان الزعمُ عن فكرةٍ ما هو أن رائيَها قد رآها بلمحةٍ من وجدانه لمحًا مباشرًا، كما يحسُّ المتألم الألم، أو كما يحسُّ النشوان نشوته، تبع ذلك ألَّا تكونَ الفكرةُ المرئية موضعَ شك عند صاحبها بأي وجه من الوجوه، وألَّا يكون هنالك عنده ما هو أوثقُ منها يقينًا، فيرتد إليه يُقيم به الدليل على صدقها.
على مِثل هذه الرؤية المباشرة المزعومة، يعتمد المتصوفة، حين يزعمون لك أنَّهم قد «شهدوا» الحق شهودًا مباشرًا، فلا أدلةَ يُستدَل بها، ولا وسائطَ بين المرئيِّ والرائي، وعلى مِثل هذا الأساس الصوفي نفسِه — بدرجاتٍ متفاوتة — تقوم الكثرةُ الغالبة من أحكامنا ورُؤانا، لا أقول في حياتنا الخاصةِ وحدَها، بل أُضيف إليها شئون حياتنا العامة كذلك، فكم من قرار نتخذه، وقد يكونُ قرارًا ذا نتائجَ بعيدةِ المدى في حياة الناس! ومع ذلك فإذا سألتَ الرجل المسئول الذي أصدر القرار: أين المبرراتُ «العقلية» التي كانت بين يدَيك بمنزلة المقدمات، حتى لم تجد مفرًّا أمامك من اتخاذ قرارك هذا؟ لما وجدتَ لسؤالك عنده من جواب، إلا أن يكون موهوبًا يرى الحقائقَ بمِثل تلك البصيرة النافذة التي «تُشاهد» الحقَّ بحَدْسٍ مباشر، وفي هذه الحالة لا يكون تحليلٌ ولا تعليل.
وأي تحليل وأيُّ تعليل تُطالب به مَن ينظر أمامه فيقول: إني أرى بُقعة صفراء؟ هكذا تكونُ الرؤية المباشرة، لولا أنَّ رؤية اللون هنا قد جاءت إلى مَن أدرَكه عن طريق حاسةٍ معلومة هي حاسةُ البصر، أمَّا رؤية الحقائق عند أولئك الذين يدَّعون رؤيتها بموهبةٍ حَدْسية خارقة، فكثيرًا ما تكون ميلًا مع دفعة الغريزة أو العاطفة، بل لماذا لا نُسمي الأشياءَ بأسمائها الصحيحة، فنقول إنَّها كثيرًا ما تكون ميلًا مع اندفاعةِ النَّزوة والهوى؟
ودعوى فلاسفة الرؤية الحَدْسية — مثل برجسون — ومن يلفُّون لفَّهم من صغار الناس في صغار الأمور، قائمةٌ على أنَّ الحَدْس فطرةٌ لا تُخطئ؛ لأنَّه كالغريزة أو لأنَّه هو نفسُه الغريزةُ الملهِمة التي تعرف طريقَها المأمون؛ ولذلك فكلما اقترب الإنسانُ من حالة الغريزة الفطرية هذه، عدَدْناه أقربَ إلى رؤية الحق بصفاء روحه، كالأطفال أو كمَن أصابتهم البلاهةُ والعتَه، أمَّا إذا جاء الرأيُ ممَّن اكتملَت له عواملُ النضج، وقال لنا إنَّه رأيٌ جاء بعد تحليلات وإحصاءات وتدقيقٍ وتحقيق، فها هنا يغلب أن ننظر إليه نظرة المرتاب؛ لأنَّ السماء — في ظننا — لا تفتح أبوابها لأمثال هؤلاء الحاسبين.
يقول برجسون: هنالك طريقان مختلفان أعمقَ اختلافٍ أحدُهما عن الآخَر في معرفتنا لحقائق الأشياء: أوَّلهما يكتفي بأن يحوم حول الموضوع ناظرًا إلى ظواهره الخارجية البادية للحواس، والآخر يقع في لُبِّ الموضوع وصَميمه، فلا يقف عند الجانب المنظور من الشيء المرادِ معرفتُه، ولا هو يطمئنُّ — كما يطمئن أصحابُ الطريق الأول — إلى رموز اللغة يسوق فيها الحقيقةَ التي رآها، بل يغوص إلى الأعماق مجتازًا الظواهرَ الخارجية ليُدرك الجوهرَ الباطني إدراكًا يستعصي بعد ذلك على التعبير بأدوات اللغة أو الأرقام؛ ولهذا كانت المعرفة في الحالة الأولى (وهي المعرفة العلمية) معرفةً نسبية لا تبلغ مبلغَ اليقين لأنَّها تتعرض للخطأ، وأمَّا في الحالة الثانية (وهي الإدراك الصوفي)، فهنالك تكون المعرفةُ مطلقةَ اليقين.
وهذا الضرب من المعرفة اليقينيَّة عن طريق الوجدان — حتى إنْ أنكرَها العقلُ بمنطقه النظريِّ المجرَّد — هو ما يصفُه المتصوفة من أسلافنا؛ إذ يفرقون بين ما يُسمونه بعلم القلوب، وعلم اللسان، فالمتصوِّف بوجدانه إذا ما كُشف عن بصيرته الحجابُ تبدَّلَت حواسُّه بأخرى تُمكنه من رؤيةِ الغيب، كالذي يحدث للنائم في رؤياه؛ فما إن يَغيبُ في نُعاسه ويتحلَّلُ قليلًا من أثقال الوجود المادي، حتى تنفتحَ له حواسُّ أخرى إلى الغيب، فيرى ويسمع ويأكل ويتكلم ويمشي ويبطش ويصلُ إلى أقصى أرجاء الأرض، لا تحجبه أبعادُ المكان، عندئذٍ يحيا في وجودٍ أكملَ من الوجود الدنيوي، وربما اكتسَب في ذلك الوجود الخفيِّ قوةَ الطيران والمشي على الماء والدخول في النار دون أن يحترق، فإذا كان مثلُ هذا هو ما يجده الإنسان من عامة الناس في نومه، فهو هو بعينه ما يُحققه الصوفي في صحوه؛ لأنَّ الجانب الشريف من وجوده له غلَبةٌ على الجانب الخسيس، فتراه قادرًا في عالم الشهادة على فعل المعجزات (هذا كلام مأخوذ من بعض المتصوفة الأقدَمين).
وخلاصة ما أردتُ قوله، هو أنَّ المتصوفة — حديثهم وقديمهم على السواء مع اختلافاتٍ في العرَض لا في الجوهر والأساس — متَّفقون على أنَّ للإنسان قدرةً على اكتساب ضربٍ من المعرفة لا عن طريق العقل ولا عن طريق الحواس؛ إذ يحدث — كما يقول برجسون — نوعٌ من التعاطف بين الإنسان وما يُدركه، تعاطفًا يضعُ به الإنسانُ نفسَه في صميم الشيء المدرَك؛ ليقع منه على ما هو فريدٌ فيه، لا يُشاركه فيه شيءٌ آخر، وما دام جانبًا فريدًا لا يتكرَّر في شيئين، بل يختصُّ به الموضوع المدرَك دون سواه، كان مستحيلًا على التعبير اللغوي؛ لأنَّ اللغة إنَّما تُعبر عن الجوانب المشتركة العامة التي يتكرَّر وقوعها في مختلِف الأفراد، ويسوق لنا برجسون مثلًا لهذه الحالة الإدراكية التي يُواجه بها الشخصُ المدرِك صميمَ ما يُدركه، معرفة الإنسان لنفسه، فهو إذا ما استبطن ذاتَه أدركَها «بحَدْس» مباشر إدراكًا لا يحتمل الشكَّ ولا الخطأ، وهو في الوقت نفسِه إدراكٌ لا يتطلَّب تحليلًا ولا تعليلًا.
هذا الذي يقوله المتصوفةُ الأقدَمون والمحْدَثون هو ما يؤمن بصدقِه الكثرةُ الغالبة من أبناء الأمة العربية، لا فرقَ في ذلك بين أميٍّ وعالم، ولا عجب أنْ وجد برجسون عند المشتغلين منَّا بالفلسفة رَواجًا وتأييدًا، ويا ويل مَن غَشِيت عيناه عن الحق فاجترَأ معترضًا ليقول: لكن برجسون هذا لم يجد إلا الأداةَ الشائهة الناقصة — وأعني أداةَ اللغة ورموزها — ليبسُطَ بها رؤيتَه الفلسفية التي قال عنها — شأن المتصوفة جميعًا — إنَّها رؤيةٌ ليست مما تستطيع اللغةُ أن تحكيَه، وتلك — عندنا نحن الذين غشيَت أبصارُهم عن الحق — هي العقَبة التي يقع فيها حِمار الشيخ! فالمتصوفة يقولون، وجميع المؤيدين للرؤية الصوفية يقولون معهم: إنَّ ما نراه من الحق لا يأتينا عن طريق الحواسِّ الظاهرة، ولا هو مما يُصاغ في كلمات؛ لأنَّه «حالات» يشعر بها الصوفيُّ من الداخل، كشعوره بحلاوةِ العسل أو بمرارة الحنظل، والحالات لا توصَف بأدوات اللغة، ومع ذلك تراهم يقولون ذلك لنا في «كلمات»!
قُل لمن شئت: إنَّ العقل الذي هو أداة العلوم مأمونُ الجانب، وينبغي الركون إلى تدبيره وحسابه، كلَّما همَمْنا بعملٍ نؤدِّيه؛ ترَه يُشيح بوجهه عنك حتى لو كان من رجال العلوم في أعلى مستوياتهم، طالما هو خارج معمله؛ لأنَّ العقل عنده مكانُه بين جدران المعمل لا يجاوزها، ولكن قُل له: إنَّ الإدراك الصوفيَّ النافذَ خلال الحُجب والأستار قادرٌ على رؤية الغيب رؤيةَ حقٍّ وصدق، فقلَّ أن تجد منه الشكَّ والتكذيب؛ فالسائد فينا جميعًا أنَّ هذا الضرب من كشف المحجوب هو في مُستطاع نفرٍ مُكرمين مقربين، وهؤلاء إذا ما اهتدَوا بوِجدانهم إلى الحق فلن يجدَ الباطلُ إليهم سبيلًا.
فهل أصاب حقًّا هؤلاء جميعًا في ظنِّهم بأنَّ مِثل هذا الإدراك الوجداني المباشر لما هو مُغَيَّب عن البصر وعن العقل صادقٌ دائمًا؟ هل الرؤية المباشرة للمستور، وهي الرؤية التي يدَّعيها المتصوفةُ ويدَّعيها برجسون، كما يدعيها كلُّ من اختار هذه الطريقةَ في النظر إلى الأمور، معصومةٌ من الخطأ كما يظنون؟ لنأخذ المثل نفسَه الذي ضربه برجسون للرؤية التي يستحيلُ عليها الخطأ، وهو مثل الإنسان يستبطنُ ذاتَه من داخل فيراها رؤيةَ اليقين، فهل من الحق أنَّ الإنسان في استبطانه يعرفُ حقيقة نفسِه معرفةً تبلغ حدَّ اليقين؟ أيسهُل عليه عندئذٍ أن يرى كلَّ ما تنطوي عليه تلك النفسُ من حقد وحسد وخسةٍ وغرور؟
لقد تناول برتراند رسل هذا الموضوعَ بالدراسة، في فصلٍ من أهمِّ ما أنتجه في بحوثه الفلسفية، وهو الفصل الذي يُسميه «المنطق والتصوُّف»، ثم حدث أنْ أطلَق هذا العُنوان على كتابٍ له يضمُّ ذلك الفصلَ مع فصولٍ أخرى في موضوعات متفرقة، هناك يقول رسل في سياق حديثه عن الرؤية الحَدْسية التي تشبَّث بها برجسون، ويتشبث بها المتصوفة، ويؤيدها الرأي العام السائد من حولنا، يقول: نعم، إنَّ الإدراك الحَدْسي يفرض نفسَه على صاحبه فرضًا يحول بينه وبين أن يشكَّ لحظةً في صوابه، وكيف له أن يشكَّ فيما يراه ماثلًا أمامه؟ تلك خاصةٌ لا تتوافر للإدراك العقلي؛ لأنَّ إدراك العقل طريقه الاستدلال، والاستدلال مُعرَّض للخطأ، لكن هذا اليقين الجازم الذي يُصاحب الإدراك الصوفيَّ عند أصحابه، هو نفسُه الذي قد يُحوِّل ذلك الإدراكَ إلى كوارث، فلو أنَّ المعرفة الآتية إلينا عن طريق الوجدان معصومةٌ من الخطأ؛ لكان اليقينُ الذي نشعر به إزاءها خيرًا كلَّ الخير، لكن تلك المعرفة معرَّضةٌ للخطأ، كما يتعرض العقلُ للخطأ، وليس الأمر كما يزعمون لها من عصمة.
وها هنا يكون الفرق البعيد بين مَن يَركن إلى عقله، ومن يركن إلى وجدانه، فأولُهما يعلم أنَّ أحكامه معرَّضة للخطأ؛ ولذلك تراه لا يكفُّ عن مراجعتها، ثم هو لا يُغضبه أن يظهر له في الناس مَن يُنبهه إلى مواضع الخطأ في تلك الأحكام، وأمَّا ثانيهما فلأنَّه واهمٌ في ظنه بأنَّ إدراكَه الوجداني منزَّه عن الخطأ، تراه يُقْدِم إقدامَ الواثق، ويصمُّ أذنَيه عن نقد الناقدين، وعندئذٍ قد تدهَمُه الداهية من حيث لا يحسب حسابها.
إنَّنا نعطي الصدارةَ لعواطفنا، في أحكامنا وسلوكنا، ونُفاخرُ الناسَ بأنَّنا كذلك، وإنَّ عواطفنا تلك لَتُخطئ، وكم أضلَّتْنا عن سواء السبيل! فلو كنَّا نتعلم من أخطائنا كما تتعلم من أخطائها فئرانُ التجارِب العمَلية، لجاز أن يكون لنا اليوم موقفٌ آخر، لكنَّنا نُصر على الركون إلى العاطفة إصرارَ الفراشة على النار الحارقة، ونترك عقولنا في أزمتِها تنتظر لنا البعثَ الجديد.